فتح المجيد شرح كتاب التوحيد تأليف الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ رحمه الله
فتح المجيد شرح كتاب التوحيد تأليف الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ رحمه الله
فتح المجيد
شرح كتاب التوحيد
تأليف
الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ
رحمه الله
نبذة عن المؤلف
نبذة مختصرة من ترجمة الشيخ عبد الرحمن بن حسن
مؤلف فتح المجيد
قال الشيخ ابن بشر في كتاب " عنوان المجد " في حوادث سنة 1241هـ:
وفيها أقبل من مصر الشيخ العالم النحرير، البحر الزاخر الغزير، مفيد الطالبين، المحفوف بعناية رب العالمين، جامع أنواع العلوم الشرعية، ومحقق العلوم الدينية، والأحاديث النبوية، والآثار السلفية، وارث العلم كابرا عن كابر، الذي صارت الأصاغر بإفادته شيوخا أكابر، قاضي قضاة الإسلام والمسلمين، ومفتي فرق الأنام الموحدين، وناصر سنة سيد المرسلين، الموفق للصواب في الجواب: الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب، قدم على الإمام تركي بن عبد الله -قدس الله روحه-، ففرح وأكرمه غاية الإكرام، واغتبط بطلعته خاص المسلمين والعام، فعظموه وقاموا بما يستحقه من الإعظام. وبذل نفسه للطالبين، وانتفع بعلمه كثير من المستفيدين - ثم ذكر العلماء الأفاضل من آل الشيخ وغيرهم الذين استفادوا من الشيخ وانتفعوا بعلمه وتخرجوا عليه، وهم جملة كثيرة.
ثم قال: فضربت إليه آباط الإبل من أقطار نجد والأحساء، وظهرت آثار البركات من تعليمه وفشا. كيف لا، وهو من شجرة مباركة أضاء نور طالعها للمسلمين وفشا، ولاح وميض برقه حين غشى، فكاد سنا برقه يذهب بالأبصار، يهدي الله لنوره من يشاء. اللهم يا سميع الدعاء، يا إله الأرض والسماء. نسألك بأسمائك الحسنى أن تجزيهم عنا وعن المسلمين أحسن ما جزيت من دعا إلى توحيدك، وأن تجعل العلم النافع فيهم وفي عقبهم باقيا إلى يوم لقائك وشهودك.
وقد صنف الشيخ عبد الرحمن بن حسن مصنفات في الأصول والفروع، أكثرها رد على أهل المقالات، ومن غلط منهم في الصفات، وله مصنف فيما يحل ويحرم من الحرير، فمن طالعه دل على علمه الغزير، ردا على من أباح لبس المحرمة الروغان، التي ابتلي الناس بلبسها في هذا الزمان، واختصر شرح التوحيد للشيخ سليمان بن عبد الله بن شيخ الإسلام الذي سبق ذكره لأنه مات قبل أن يتمه.
وكان كثيرا ما يتعهد أهل بلدان نجد بالمراسلات والنصائح، ويعلمهم ما يجب عليهم من أمر دينهم، ويذكرهم نعمة هذا الدين، واجتماع شمل أهل الإسلام عليهم، وما منّ الله به على أهل نجد في آخر هذا الزمان، والحمد لله أولا وآخرا.
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم.
مقدمة الشارح
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، كالمبتدعة والمشركين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين، وقيوم السماوات والأرضين. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وخيرته من خلقه أجمعين. اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد:
فإن كتاب التوحيد - الذي ألفه الإمام شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب ( ) أجزل الله له الأجر والثواب، وغفر له ولمن أجاب دعوته إلى يوم يقوم الحساب - قد جاء بديعا في معناه من بيان التوحيد ببراهينه، وجمع جملا من أدلته لإيضاحه وتبيينه. فصار علما للموحدين، وحجة على الملحدين. فانتفع به الخلق الكثير، والجم الغفير. فإن هذا الإمام -رحمه الله- في مبدأ منشئه قد شرح الله صدره للحق المبين، الذي بعث الله به المرسلين: من إخلاص العبادة بجميع أنواعها لله رب العالمين، وإنكار ما كان عليه الكثير من شرك المشركين، فأعلى الله همته، وقوى عزيمته، وتصدى لدعوة أهل نجد إلى التوحيد، الذي هو أساس الإسلام والإيمان، ونهاهم عن عبادة الأشجار والأحجار والقبور، والطواغيت والأوثان، وعن الإيمان بالسحرة والمنجمين والكهان.
فأبطل الله بدعوته كل بدعة وضلالة يدعو إليها كل شيطان، وأقام الله به علم الجهاد، وأدحض به شبه المعارضين من أهل الشرك والعناد، ودان بالإسلام أكثر أهل تلك البلاد، الحاضر منهم والباد. وانتشرت دعوته ومؤلفاته في الآفاق، حتى أقر له بالفضل من كان من أهل الشقاق، إلا من استحوذ عليه الشيطان، وكره إليه الإيمان، فأصر على العناد والطغيان.
وقد أصبح أهل جزيرة العرب بدعوته، كما قال قتادة -رحمه الله- عن حال أول هذه الأمة: " إن المسلمين لما قالوا: (لا إله إلا الله) أنكر ذلك المشركون وكبرت عليهم، وضاق بها إبليس وجنوده. فأبى الله إلا أن يمضيها ويظهرها، ويُفْلِجها وينصرها على من ناوأها. إنها كلمة من خاصم بها فلج، ومن قاتل بها نصر، إنما يعرفها أهل هذه الجزيرة التي يقطعها الراكب في ليال قلائل، ويسير من الدهر، في فئام من الناس، لا يعرفونها ولا يقرون بها ".
وقد شرح الله صدور كثير من العلماء لدعوته، وسروا واستبشروا بطلعته، وأثنوا عليه نثرا ونظما.
فمن ذلك ما قاله عالم صنعاء: محمد بن إسماعيل الأمير في هذا الشيخ -رحمه الله تعالى-:
يعيد لنا الشرع الشريف بما يبدي
ومبتدع منه، فوافق ما عندي
مشاهد، ضل الناس فيها عن الرشد
يغوث وود، بئس ذلك من ود
كما يهتف المضطر بالصمد الفرد
أهلت لغير الله جهرا على عمد
ومستلم الأركان منهن بالأيدي
وقد جاءت الأخبار عنه بأنه
وينشر جهرا ما طوى كل جاهل
ويعمر أركان الشريعة هادما
أعادوا بها معنى سواع ومثله
وقد هتفوا عند الشدائد باسمها
وكم عقروا في سوحها من عقيرة
وكم طائف حول القبور مقبل
وقال شيخنا عالم الإحساء أبو بكر حسين بن غنام -رحمه الله تعالى- فيه:
بوقت به يُعلى الضلال ويُرفع
وعام بتيار المعارف يقطع
وأُوهِيَ به من مطلع الشرك مهيع
سواه ولا حاذى فناها سميذع
يشيد ويحيي ما تعفى، ويرفع
أمرنا إليها في التنازع نرجع
وأمسى محياها يضيء ويلمع
وقد كان مسلوكا به الناس ترتع
وحق لها بالألمعي ترفع
وأنواره فيها تضيء وتلمع
لقد رفع المولى به رتبة الهدى
سقاه نمير الفهم مولاه فارتوى
فأحيا به التوحيد بعد اندراسه
سما ذروة المجد التي ما ارتقى لها
وشمر في منهاج سنة أحمد
يناظر بالآيات والسنة التي
فأضحت به السمحاء يبسم ثغرها
وعاد به نهج الغواية طامسا
وجرت به نجد ذيول افتخارها
فآثاره فيها سوام سوافر
وأما كتابه المذكور فموضوعه في بيان ما بعث الله به رسله: من توحيد العبادة، وبيانه بالأدلة من الكتاب والسنة، وذكر ما ينافيه من الشرك الأكبر، أو ينافي كماله الواجب، من الشرك الأصغر ونحوه، وما يقرب من ذلك أو يوصل إليه.
وقد تصدى لشرحه حفيد المصنف، وهو الشيخ سليمان بن عبد الله -رحمه الله تعالى- فوضع عليه شرحا أجاد فيه وأفاد، وأبرز فيه من البيان ما يجب أن يطلب منه ويراد، وسماه " تيسير العزيز الحميد، في شرح كتاب التوحيد ".
وحيث أطلق " شيخ الإسلام " فالمراد به: أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية، و " الحافظ " فالمراد به أحمد بن حجر العسقلاني.
ولما قرأت شرحه رأيته أطنب في مواضع، وفي بعضها تكرار يستغني بالبعض منه عن الكل، ولم يكمله. فأخذت في تهذيبه وتقريبه وتكميله، وربما أدخلت فيه بعض النقول المستحسنة تتميما للفائدة وسميته " فتح المجيد بشرح كتاب التوحيد ".
وأسأل الله أن ينفع به كل طالب للعلم ومستفيد، وأن يجعله خالصا لوجهه الكريم، وموصلا من سعى فيه إلى جنات النعيم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
قال المصنف -رحمه الله تعالى-:
شرح البسملة
(بسم الله الرحمن الرحيم):
ابتدأ كتابه بالبسملة اقتداء بالكتاب العزيز وعملا بحديث { كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم فهو أقطع } أخرجه ابن حبان من طريقين. قال ابن الصلاح: والحديث حسن. ولأبي داود وابن ماجه { كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد لله أو بالحمد فهو أقطع } ( ) ولأحمد { كل أمر ذي بال لا يفتتح بذكر الله فهو أبتر أو أقطع } ( ) وللدارقطني عن أبي هريرة مرفوعا { كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بذكر الله فهو أقطع } ( ).
والمصنف قد اقتصر في بعض نسخه على البسملة، لأنها من أبلغ الثناء والذكر للحديث المتقدم. وكان النبي يقتصر عليها في مراسلاته، كما في كتابه لهرقل عظيم الروم.
ووقع لي نسخة بخطه -رحمه الله تعالى- بدأ فيها بالبسملة، وثنى بالحمد والصلاة على النبي وعلى هذا فالابتداء بالبسملة حقيقي، وبالحمدلة نسبي إضافي، أي بالنسبة إلى ما بعد الحمد يكون مبدوءا به.
والباء في (بسم الله) متعلقة بمحذوف، واختار كثير من المتأخرين كونه فعلا خاصا متأخرا.
أما كونه فعلا، فلأن الأصل في العمل للأفعال.
وأما كونه خاصا، فلأن كل مبتدئ بالبسملة في أمر يضمر ما جعل البسملة مبدأ له.
وأما كونه متأخرا، فلدلالته على الاختصاص، ولأنه أدخل في التعظيم، وأوفق للوجود، ولأن أهم ما يبدأ به ذكر الله تعالى.
وذكر العلامة ابن القيم -رحمه الله تعالى- لحذف العامل فوائد، منها: أنه موطن لا ينبغي أن يتقدم فيه غير ذكر الله. ومنها: أن الفعل إذا حذف صح الابتداء بالبسملة في كل عمل وقول وحركة. فكان الحذف أعم. انتهى ملخصا.
وباء (بسم الله) للمصاحبة. وقيل: للاستعانة. فيكون التقدير: (بسم الله) أؤلف حال كوني مستعينا بذكره، متبركا به. وأما ظهوره في { } ( )... (العلق -1) وفي..... { } ( ).... (هود - 41) فلأن المقام يقتضي ذلك كما لا يخفى.
والاسم مشتق من السمو وهو العلو. وقيل: من الوسم وهو العلامة، لأن كل ما سمي نوه باسمه ووسم.
قوله (الله): قال الكسائي والفراء: أصله الإله، حذفوا الهمزة، وأدغموا اللام في اللام، فصارتا لاما واحدة مشددة مفخمة. قال العلامة ابن القيم -رحمه الله-: الصحيح أنه مشتق، وأن أصله الإله، كما هو قول سيبويه وجمهور أصحابه إلا من شذ. وهو الجامع لمعاني الأسماء الحسنى والصفات العلى. والذين قالوا بالاشتقاق إنما أرادوا أنه دال على صفة له تعالى. وهي الإلهية، كسائر أسمائه الحسنى، كالعليم والقدير، والسميع، والبصير، ونحو ذلك. فإن هذه الأسماء مشتقة من مصادرها بلا ريب، وهي قديمة، ونحن لا نعني بالاشتقاق إلا أنها ملاقية لمصادرها في اللفظ والمعنى، لا أنها متولدة منه تولد الفرع من أصله. وتسمية النحاة للمصدر والمشتق منه: أصلا وفرعا، ليس معناه أن أحدهما متولد من الآخر. وإنما هو باعتبار أن أحدهما يتضمن الآخر وزيادة.
قال أبو جعفر بن جرير " الله " أصله " الإله " أسقطت الهمزة التي هي فاء الاسم. فالتقت اللام التي هي عين الاسم واللام الزائدة وهي ساكنة فأدغمت في الأخرى، فصارتا في اللفظ لاما واحدة مشددة. وأما تأويل " الله " فإنه على معنى ما روي لنا عن عبد الله بن عباس قال: " هو الذي يألهه كل شيء ويعبده كل خلق " وساق بسنده عن الضحاك عن عبد الله بن عباس قال: " الله ذو الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين " فإن قال لنا قائل: وما دل على أن الألوهية هي العبادة؟ وأن الإله هو المعبود، وأن له أصلا في فَعِلَ وَيَفْعَلُ؟... وذكر بيت رؤبة بن العجاج:
سبحن واسترجعن من تألهي
لله در الغانيات المُدَّهِ
يعني من تعبدي وطلبي الله بعملي. ولا شك أن التأله التفعل، من أله يأله وأن معنى " أله " إذا نطق به: عَبَدَ الله. وقد جاء منه مصدر يدل على أن العرب قد نطقت به بفعِل يفعَلُ بغير زيادة. وذلك ما حدثنا به سفيان بن وكيع - وساق السند إلى ابن عباس " أنه قرأ (ويذرك وإلاهتَكَ) قال: عبادتك. ويقول: إنه كان يُعبد ولا يعبُد " وساق بسند آخر عن ابن عباس (ويذرك وإلاهتك). قال: " إنما كان فرعون يُعبد ولا يَعبد وذكر مثله عن مجاهد، ثم قال: فقد بين قول ابن عباس ومجاهد هذا: أن " أله " عبد وأن الإلاهة مصدره وساق حديثا عن أبي سعيد مرفوعا { أن عيسى أسلمته أمه إلى الكتاب ليعلمه، فقال له المعلم: اكتب بسم الله. فقال عيسى: أتدري ما الله؟ الله إله الآلهة }.
قال العلامة ابن القيم -رحمه الله-: لهذا الاسم الشريف عشر خصائص لفظية، وساقها. ثم قال: وأما خصائصه المعنوية فقد قال أعلم الخلق { لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك } ( ) وكيف نحصي خصائص اسم لمسماه كل كمال على الإطلاق، وكل مدح وحمد، وكل ثناء وكل مجد، وكل جلال وكل كمال، وكل عز وكل جمال، وكل خير وإحسان، وجود وفضل وبر فله ومنه، فما ذكر هذا الاسم في قليل إلا كثره، ولا عند خوف إلا أزاله، ولا عند كرب إلا كشفه، ولا عند هم وغم إلا فرجه، ولا عند ضيق إلا وسعه، ولا تعلق به ضعيف إلا أفاده القوة، ولا ذليل إلا أناله العز، ولا فقير إلا أصاره غنيا، ولا مستوحش إلا آنسه، ولا مغلوب إلا أيده ونصره، ولا مضطر إلا كشف ضره، ولا شريد إلا آواه. فهو الاسم الذي تكشف به الكربات، وتستنزل به البركات، وتجاب به الدعوات، وتقال به العثرات، وتستدفع به السيئات، وتستجلب به الحسنات. وهو الاسم الذي قامت به الأرض والسماوات، وبه أنزلت الكتب، وبه أرسلت الرسل، وبه شرعت الشرائع. وبه قامت الحدود، وبه شرع الجهاد، وبه انقسمت الخليقة إلى السعداء والأشقياء، وبه حقت الحاقة، ووقعت الواقعة، وبه وضعت الموازين القسط ونصب الصراط، وقام سوق الجنة والنار، وبه عبد رب العالمين وحمد، وبحقه بعثت الرسل، وعنه السؤال في القبر ويوم البعث والنشور وبه الخصام وإليه المحاكمة، وفيه الموالاة والمعاداة، وبه سعد من عرفه وقام بحقه، وبه شقي من جهله وترك حقه، فهو سر الخلق والأمر، وبه قاما وثبتا، وإليه انتهيا، فالخلق به وإليه ولأجله، فما وجد خلق ولا أمر ولا ثواب ولا عقاب إلا مبتدئا منه منتهيا إليه، وذلك موجبه ومقتضاه:.. { • } ( ) (آل عمران :191) إلى آخر كلامه -رحمه الله تعالى-.
قوله: " الرحمن الرحيم ": قال ابن جرير: حدثني السري بن يحيى حدثنا عثمان بن زفر قال سمعت العزرمي يقول: " الرحمن بجميع الخلق، والرحيم بالمؤمنين ". وساق بسنده عن أبي سعيد - يعني الخدري - " قال: قال رسول الله { إن عيسى ابن مريم قال: الرحمن: رحمن الآخرة والدنيا. والرحيم: رحيم الآخرة }.
قال ابن القيم -رحمه الله تعالى-: فاسمه " الله " دل على كونه مألوها معبودا. يألهه الخلائق: محبة وتعظيما وخضوعا، ومفزعا إليه في الحوائج والنوائب. وذلك مستلزم لكمال ربوبيته ورحمته، المتضمنين لكمال الملك والحمد، وإلهيته وربوبيته ورحمانيته وملكه، مستلزم لجميع صفات كماله، إذ يستحيل ثبوت ذلك لمن ليس بحي، ولا سميع، ولا بصير، ولا قادر، ولا متكلم، ولا فعال لما يريد، ولا حكيم في أقواله وأفعاله. فصفات الجلال والجمال: أخص باسم " الله "، وصفات الفعل والقدرة والتفرد بالضر والنفع والعطاء والمنع ونفوذ المشيئة وكمال القوة وتدبير أمر الخليقة: أخص باسم " الرب "، وصفات الإحسان والجود والبر والحنان والمنة والرأفة واللطف: أخص باسم " الرحمن ".
وقال -رحمه الله- أيضا: " الرحمن " دال على الصفة القائمة به سبحانه " والرحيم " دال على تعلقها بالمرحوم. وإذا أردت فهم هذا فتأمل قوله تعالى:... { } ( ) (الأحـزاب -43)... { } ( ) (التوبة - 117) ولم يجئ قط رحمن بهم.
وقال: إن أسماء الرب تعالى هي أسماء ونعوت، فإنها دالة على صفات كماله، فلا تنافي فيها بين العلمية والوصفية، فالرحمن اسمه تعالى ووصفه، فمن حيث هو صفة جرى تابعا لاسم الله، ومن حيث هو اسم ورد في القرآن غير تابع، بل ورد الاسم العلم، كقوله تعالى { } ( ) (طه - 5) انتهى ملخصا.
معنى الحمد لله
الحمد لله.
قوله: " الحمد لله ": معناه الثناء بالكلام على الجميل الاختياري على وجه التعظيم. فمورده: اللسان والقلب، والشكر يكون باللسان والجنان والأركان، فهو أعم من الحمد متعلقا، وأخص منه سببا، لأنه يكون في مقابلة النعمة، والحمد أعم سببا وأخص متعلقا، لأنه يكون في مقابلة النعمة وغيرها. فبينهما عموم وخصوص وجهي، يجتمعان في مادة وينفرد كل واحد عن الآخر في مادة.
معنى الصلاة على رسول الله
وصلى الله على محمد وعلى آله وسلم
قوله: " وصلى الله على محمد وعلى آله وسلم " أصح ما قيل في معنى صلاة الله على عبده: ما ذكره البخاري -رحمه الله تعالى- عن أبي العالية قال: { صلاة الله على عبده ثناؤه عليه عند الملائكة } وقرره ابن القيم -رحمه الله- ونصره في كتابيه "جلاء الأفهام " و " بدائع الفوائد ".
قلت: وقد يراد بها الدعاء، كما في المسند عن علي مرفوعا { الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه: اللهم اغفر له اللهم ارحمه }.
قوله " وعلى آله ": أي أتباعه على دينه، نص عليه الإمام أحمد هنا. وعليه أكثر الأصحاب. وعلى هذا: فيشمل الصحابة وغيرهم من المؤمنين.
كتاب التوحيد
معنى التوحيد
(كتاب التوحيد):
كتاب: مصدر كتب يكتب كتابا وكتابة وكتبا، ومدار المادة على الجمع. ومنه: تكتب بنو فلان، إذا اجتمعوا. والكتيبة لجماعة الخيل، والكتابة بالقلم لاجتماع الكلمات والحروف. وسمي الكتاب كتابا: لجمعه ما وضع له.
والتوحيد نوعان: توحيد في المعرفة والإثبات. وهو توحيد الربوبية والأسماء والصفات. وتوحيد في الطلب والقصد، وهو توحيد الإلهية والعبادة.
قال العلامة ابن القيم -رحمه الله-: وأما التوحيد الذي دعت إليه الرسل ونزلت به الكتب فهو نوعان: توحيد في المعرفة والإثبات، وتوحيد في الطلب والقصد.
فالأول هو: إثبات حقيقة ذات الرب تعالى وصفاته وأفعاله وأسمائه وتكلمه بكتبه وتكليمه لمن شاء من عباده، وإثبات عموم قضائه وقدره وحكمته، وقد أفصح القرآن عن هذا النوع جد الإفصاح، كما في أول سورة الحديد، وسورة طه، وآخر الحشر، وأول تنزيل السجدة، وأول آل عمران، وسورة الإخلاص بكمالها، وغير ذلك.
النوع الثاني ما تضمنته سورة { } ( ) (الكافرون -1) وقوله تعالى: { } ( ) (آل عمران - 64) وأول سورة تنزيل الكتاب وآخرها. وأول سورة المؤمن، ووسطها، وآخرها. وأول سورة الأعراف، وآخرها. وجملة سورة الأنعام، وغالب سور القرآن. بل كل سورة في القرآن فهي متضمنة لنوعي التوحيد، شاهدة به داعية إليه.
فإن القرآن إما خبر عن الله وأسمائه وصفاته وأفعاله وأقواله، فهو التوحيد العلمي الخبري وإما دعوة إلى عبادته وحده لا شريك له وخلع ما يعبد من دونه، فهو التوحيد الإرادي الطلبي. وإما أمر ونهي، وإلزام بطاعته وأمره ونهيه، فهو حقوق التوحيد ومكملاته وإما خبر عن إكرام أهل التوحيد وما فعل بهم في الدنيا وما يكرمهم به في الآخرة، فهو جزاء توحيده، وإما خبر عن أهل الشرك وما فعل بهم في الدنيا من النكال وما يحل بهم في العقبى من العذاب. فهو جزاء من خرج عن التوحيد. فالقرآن كله في التوحيد، وحقوقه وجزائه، وفي شأن الشرك وأهله وجزائهم. انتهى.
قال شيخ الإسلام: التوحيد الذي جاءت به الرسل إنما يتضمن إثبات الإلهية لله وحده بأن يشهد أن لا إله إلا الله: لا يعبد إلا إياه، ولا يتوكل إلا عليه، ولا يوالي إلا له، ولا يعادي إلا فيه، ولا يعمل إلا لأجله. وذلك يتضمن إثبات ما أثبته لنفسه من الأسماء والصفات.
قال تعالى { } ( ) (البقرة - 163) قال تعالى: { } ( ) (النحل -51) وقال تعالى: { • } ( ) (المؤمنون - 117) وقـال تعالى: { } ( ) (الزخرف - 45) وأخبر عن كل نبي من الأنبياء أنهم دعوا الناس إلى عبادة الله وحده لا شريك له. وقال: { } ( )... (الممتحنة - 4) وقال عن المشركين:، { • • } ( ) (الصافات -35 ، 36) وهذا في القرآن كثير.
وليس المراد بالتوحيد: مجرد توحيد الربوبية، وهو اعتقاد أن الله وحده خلق العالم، كما يظن ذلك من يظنه من أهل الكلام والتصوف. ويظن هؤلاء أنهم إذا أثبتوا ذلك بالدليل فقد أثبتوا غاية التوحيد. وأنهم إذا شهدوا هذا وفنوا فيه فقد فنوا في غاية التوحيد. فإن الرجل لو أقر بما يستحقه الرب تعالى من الصفات، ونزهه عن كل ما ينزه عنه، وأقر بأنه وحده خالق كل شيء، لم يكن موحدا حتى يشهد بأن لا إله إلا الله وحده، فيقر بأن الله وحده هو الإله المستحق للعبادة: ويلتزم بعبادة الله وحده لا شريك له. و " الإله " هو المألوه المعبود الذي يستحق العبادة. وليس هو الإله بمعنى القادر على الاختراع. فإذا فسر المفسر " الإله " بمعنى القادر على الاختراع، واعتقد أن هذا المعنى هو أخص وصف الإله، وجعل إثبات هذا هو الغاية في التوحيد - كما يفعل ذلك من يفعله من متكلمة الصفاتية، وهو الذي يقولونه عن أبي الحسن وأتباعه - لم يعرفوا حقيقة التوحيد الذي بعث الله به رسوله . فإن مشركي العرب كانوا مقرين بأن الله وحده خالق كل شيء. وكانوا مع هذا مشركين قال تعالى { } ( ) (يوسف -106) قـالت طائفة مـن السلف " تسألهم: مـن خلق السماوات والأرض؟ فيقولون: الله. وهـم مـع هذا يعبدون غيـره " قـال تـعالى: { } ( ) (المؤمنون - 84 - 89) فليس كل من أقر بأن الله تعالى رب كل شيء وخالقه يكون عابدا له دون ما سواه، داعيا له دون ما سواه راجيا له خائفا منه دون ما سواه، يوالي فيه ويعادي فيه، ويطيع رسله ويأمر بما أمر به وينهى عما نهى عنه. وعامة المشركين أقروا بأن الله خالق كل شيء. وأثبتوا الشفعاء الذين يشركونهم به وجعلوا له أندادا قال تعالى { } ( )... (الزمر ـ 43 - 44) وقال تعالى: { } ( ) (يـونس ـ 18) وقـال تعـالى: { • • • • • • } ( ) (الأنعام ـ 94) وقال تعالى: { •• } ( )... (البقرة ـ 165) ولهذا كان من أتباع هؤلاء من يسجد للشمس والقمر والكواكب ويدعوها، ويصوم وينسك لها ويتقرب إليها. ثم يقول: إن هذا ليس بشرك. إنما الشرك إذا اعتقدت أنها المدبرة لي. فإذا جعلتها سببا وواسطة لم أكن مشركا. ومن المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام أن هذا شرك. انتهى كلامه.
معنى العبادة
وقوله تعالى: { } ( ).
وقوله { • } ( ).
وقوله: { • • } ( ).
وقوله: { } ( )....
{ • • • • } ( ).
قال ابن مسعود: " من أراد أن ينظر إلى وصية محمد التي عليها خاتمه فليقرأ قوله تعالى: { } ( )... إلى قوله ... { • } ( ).. الآية " ( ).
وعن معاذ بن جبل قال: { كنت رديف النبي على حمار فقال لي: يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد، وما حق العباد على الله؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئا. قلت: يا رسول الله، أفلا أبشر الناس؟ قال: لا تبشرهم فيتكلوا } ( ) أخرجاه في الصحيحين.
قوله: وقول الله تعالى: { } ( ): بالجر عطف على التوحيد. ويجوز الرفع على الابتداء.
قال شيخ الإسلام: العبادة هي طاعة الله بامتثال ما أمر الله به على ألسنة الرسل.
وقال أيضا: العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة.
قال ابن القيم: ومدارها على خمس عشرة قاعدة. من كملها كمل مراتب العبودية.
وبيان ذلك: أن العبادة منقسمة على القلب واللسان والجوارح. والأحكام التي للعبودية خمسة: واجب ومستحب وحرام ومكروه ومباح. وهن لكل واحد من القلب واللسان والجوارح.
وقال القرطبي: أصل العبادة التذلل والخضوع. وسميت وظائف الشرع على المكلفين عبادات؛ لأنهم يلتزمونها ويفعلونها خاضعين متذللين لله تعالى.
ومعنى الآية: أن الله تعالى أخبر أنه ما خلق الجن والإنس إلا لعبادته. فهذه هي الحكمة في خلقهم.
قلت: وهي الحكمة الشرعية الدينية.
قال العماد ابن كثير: وعبادته هي طاعته بفعل المأمور وترك المحظور. وذلك هو حقيقة دين الإسلام؛ لأن معنى الإسلام: الاستسلام لله تعالى، المتضمن غاية الانقياد والذل والخضوع. انتهى.
وقال أيضا في تفسير هذه الآية: ومعنى الآية أن الله خلق الخلق ليعبدوه وحده لا شريك له. فمن أطاعه جازاه أتم الجزاء، ومن عصاه عذبه أشد العذاب، وأخبر أنه غير محتاج إليهم. بل هم الفقراء في جميع أحوالهم وهو خالقهم ورازقهم. وقال علي بن أبي طالب في الآية: " إلا لآمرهم أن يعبدوني وأدعوهم إلى عبادتي وقال مجاهد: " إلا لآمرهم وأنهاهم " اختاره الزجاج وشيخ الإسلام. قال: ويدل على هذا قوله: { } ( ) قال الشافعي: " لا يؤمر ولا ينهى " وقال في القرآن في غير موضع (اعبدوا ربكم) (اتقوا ربكم) فقد أمرهم بما خلقوا له. وأرسل الرسل بذلك. وهذا المعنى هو الذي قصد بالآية قطعا، وهو الذي يفهمه جماهير المسلمين ويحتجون بالآية عليه.
وقـال: وهـذه الآية تشبه قوله تعالى: { } ( )... ثم قد يطاع وقد يعصى. وكذلك ما خلقهم إلا لعبادته. ثم قد يعبدون وقد لا يعبدون. وهو سبحانه لم يقل: إنه فعل الأول. وهو خلقهم ليفعل بهم كلهم. الثاني: وهو عبادته ولكن ذكر أنه فعل الأول ليفعلوا هم الثاني. فيكونوا هم الفاعلين له. فيحصل لهم بفعله سعادتهم ويحصل ما يحبه ويرضاه منه ولهم. انتهى.
ويشهد لهذا المعنى: ما تواترت به الأحاديث.
فمنها ما أخرجه مسلم فـي صحيحه عن أنس بن مالك عـن النبي قال: { يقول الله تعالى لأهون أهل النار عذابا: لو كانت لك الدنيا وما فيها ومثلها معها أكنت مفتديا بها؟ فيقول: نعم. فيقول: قد أردت منك أهون من هذا وأنت في صلب آدم. أن لا تشرك - أحسبه قال: ولا أدخلك النار - فأبيت إلا الشرك } ( ) فهذا المشرك قد خالف ما أراده الله تعالى منه: من توحيده وأن لا يشرك به شيئا. فخالف ما أراده الله منه فأشرك به غيره. وهذه هي الإرادة الشرعية الدينية كما تقدم.
فبين الإرادة الشرعية الدينية والإرادة الكونية القدرية عموم وخصوص مطلق.
يجتمعان في حق المخلص المطيع. وتنفرد الإرادة الكونية القدرية في حق العاصي. فافهم ذلك تنج من جهالات أرباب الكلام وتابعيهم.
قـال: وقـوله: { • } ( )... الطاغوت: مشتق من الطغيان، وهو مجاوزة الحد. قال عمر بن الخطاب " الطاغوت الشيطان ". وقال جابر " الطواغيت كهان كانت تنزل عليهم الشياطين " رواهما ابن أبي حاتم. وقال مالك: الطاغوت كل ما عبد من دون الله.
قلت: وذلك المذكور بعض أفراده، وقد حده العلامة ابن القيم حدا جامعا فقال: الطاغوت كل ما تجاوز به العبد حده: من معبود أو متبوع أو مطاع. فطاغوت كل قوم: من يتحاكمون إليه غير الله ورسوله، أو يعبدونه من دون الله أو يتبعونه على غير بصيرة من الله، أو يطيعونه فيما لا يعلمون أنه طاعة لله. فهذه طواغيت العالم. إذا تأملتها وتأملت أحوال الناس معها. رأيت أكثرهم أعرض عن عبادة الله تعالى إلى عبادة الطاغوت وعن طاعة رسول الله إلى طاعة الطاغوت ومتابعته.
وأما معنى الآية: فأخبر تعالى أنه بعث في كل طائفة من الناس رسولا بهذه الكلمة... { } ( ) أي: اعبدوا الله وحده واتركوا عبادة ما سواه، كما قال تعالى:... { } ( )... وهذا معنى " لا إله إلا الله " فإنها هي العروة الوثقى.
قال العماد ابن كثير في هذه الآية: كلهم - أي الرسل - يدعو إلى عبادة الله، وينهى عن عبادة ما سواه، فلم يزل سبحانه يرسل إلى الناس الرسل بذلك منذ حدث الشرك في بني آدم في قوم نوح الذين أرسل إليهم، وكان أول رسول بعثه الله تعالى إلى أهل الأرض إلى أن ختمهم بمحمد الذي طبقت دعوته الإنس والجن في المشارق والمغارب، وكلهم كما قال الله تعالى: { } ( ) وقال تعالى في هذه الآية الكريمة: { • } ( )... فكيف يسوغ لأحد من المشركين بعد هذا أن يقول:... { } ( )... فمشيئة الله تعالى الشرعية عبادتهم لها منفية، لأنه نهاهم عن ذلك على ألسن رسله، وأما مشيئته الكونية - وهي تمكينهم من ذلك قدرا - فلا حجة لهم فيها، لأنه تعالى خلق النار وأهلها من الشياطين والكفرة، وهو لا يرضى لعباده الكفر، وله في ذلك الحجة البالغة والحكمة القاطعة، ثم إنه تعالى قد أخبر أنه أنكر عليهم بالعقوبة في الدنيا بعد إنذار الرسل، فلهذا قال:... { • • } ( )... انتهى.
قلت: وهذه الآية تفسير الآية التي قبلها. وذلك قوله:...... { • • } ( )... فتدبر.
ودلت هذه الآية على أن الحكمة في إرسال الرسل: دعوتهم أممهم إلى عبادة الله وحده، والنهي عن عبادة ما سواه، وأن هذا هو دين الأنبياء والمرسلين، وإن اختلفت شريعتهم كما قال تعالى... { } ( )... وأنه لا بد في الإيمان من عمل القلب والجوارح.
قال: وقوله: { • } ( )... قال مجاهد: (قضى) " يعني: وصى "، وكذا قرأ أبي بن كعب وابن مسعود وغيرهم ولابن جرير عن ابن عباس (وقضى ربك) " يعني: أمر ".
وقوله تعالى:... { } ( )... المعنى: أن تعبدوه وحده دون ما سواه، وهذا معنى " لا إله إلا الله ".
قال ابن القيم -رحمه الله تعالى-: والنفي المحض ليس توحيدا، وكذلك الإثبات بدون النفي، فلا يكون التوحيد إلا متضمنا للنفي والإثبات، وهذا هو حقيقة التوحيد.
وقوله:... { • } ( )... أي: وقضى أن تحسنوا بالوالدين إحسانا، كما قضـى بعبادته وحده لا شريك له. كما قال تعالى في الآية الأخرى:... { } ( ) .
وقوله:... { • } ( )... أي: لا تسمعهما قولا سيئا، حتى ولا التأفيف الذي هو أدنى مراتب القول السيئ (ولا تنهرهما) أي: لا يصدر منك إليهما فعل قبيح، كما قال عطاء بن أبي رباح: لا تنفض يديك عليهما.
ولما نهاه عن الفعل القبيح والقول القبيح أمره بالفعل الحسن والقول الحسن فقال:... { } ( ) أي: لينا طيبا بأدب وتوقير وقوله: { } ( ) أي: تواضع لهما... { } ( ) ... أي: في كبرهما وعند وفاتهما... { } ( ) وقد ورد في بر الوالدين أحاديث كثيرة، منها: الحديث المروي من طرق عن أنس وغيره " أن رسول الله لما صعد المنبر قال: { آمين، آمين، آمين، فقالوا يا رسول الله، على ما أمنت؟ قال أتاني جبريل فقال: يا محمد رغم أنف امرئ ذكرت عنده فلم يصل عليك قل: آمين، فقلت: آمين ثم قال: رغم أنف امرئ دخل عليه شهر رمضان ثم خرج ولم يغفر له، قل آمين: فقلت آمين، ثم قال: رغم أنف امرئ أدرك أبويه أو أحدهما فلم يدخلاه الجنة قل: آمين، فقلت آمين } ( ) وروى الإمام أحمد مـن حديث أبي هريرة عن النبي { رغم أنف، ثم رغم أنف، ثم رغم أنف رجل أدرك والديه - أحدهما أو كليهما- لم يدخل الجنة } ( ) قال العماد ابن كثير: صحيح من هذا الوجه عن أبي بكرة قال: قال رسول الله { ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا: بلى يا رسول الله، قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وكان متكئا فجلس، فقال ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور، فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت } ( ) رواه البخاري ومسـلم. وعن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله { رضا الرب في رضا الوالدين، وسخطه في سخط الوالدين } رواه الترمذي، وصححه ابن حبان والحاكم، وعن أبي أسيد الساعدي قال: { بينا نحن جلوس عند النبي إذ جاءه رجل من بني سلمة فقال: يا رسول الله، هل بقي من بر أبوي شيء أبرهما به بعد موتهما؟ فقال: نعم، الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما من بعدهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما، وإكرام صديقهما } ( ) رواه أبو داود وابن ماجه. والأحاديث في هذا المعنى كثيرة جدا.
وقوله: { } ( )... قال العماد ابن كثير -رحمه الله- في هذه الآية: يأمر الله تعالى عباده بعبادته وحده لا شريك له، فإنه الخالق الرازق المتفضل على خلقه في جميع الحالات، وهو المستحق منهم أن يوحدوه ولا يشركوا به شيئا من مخلوقاته. انتهى.
وهذه الآية هي التي تسمى آية الحقوق العشرة، وفي بعض النسخ المعتمدة من نسخ هذا الكتاب تقديم هذه الآية على آية الأنعام، ولهذا قدمتها لمناسبة كلام ابن مسعود الآتي لآية الأنعام، ليكون ذكره بعدها أنسب.
وقوله تعالى: { } ( )... .
قال العماد ابن كثير -رحمه الله-: يقول تعالى لنبيه ورسوله محمد (قل) لهؤلاء المشركين الذين عبدوا غير الله، وحرموا ما رزقهم الله (تعالوا) أي: هلموا وأقبلوا (أتل) أقص عليكم { } ( ) حقا، لا تخرصا ولا ظنا، بل وحيا منه وأمرا من عنده { } ( ) وكأن في الكلام محذوفا دل عليه السياق تقديره: وصـاكم ألا تشـركوا به شيئا، ولهذا قال في آخر الآية : { } ( ) اهـ.
قلت: فيكون المعنى: حرم عليكم ما وصاكم بتركه من الإشراك به، وفي المغني لابن هشام في قوله تعالى... { } ( )... سبعة أقوال، أحسنها: هذا الذي ذكره ابن كثير، ويليه: بين لكم ذلك لئلا تشركوا، فحذفت الجملة من أحدهما، وهي (وصاكم) وحرف الجر وما قبله من الأخرى. ولهذا إذا سئلوا عما يقول لهم رسول الله قالوا: يقول اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، واتركوا ما يقول آباؤكم كما قال أبو سفيان لـهرقل وهذا هو الذي فهمه أبو سفيان وغيره من قول رسول الله لهم: { قولوا لا إله إلا الله تفلحوا } ( ).
وقوله تعالى:... { } ( )... قال القرطبي: الإحسان إلى الوالدين برهما وحفظهما وصيانتهما وامتثال أمرهما، وإزالة الرق عنهما، وترك السلطنة عليهما، و (إحسانا) نصب على المصدرية، وناصبه فعل من لفظه تقديره: وأحسنوا بالوالدين إحسانا.
وقوله... { } ( )... ( ) الإملاق: الفقر، أي: لا تئدوا بناتكم خشية العيلة والفقر، فإني رازقهم وإياكم، وكان منهم من يفعل ذلك بالذكور خشية الفقر، ذكره القرطبي. وفي الصحيحين " عن ابن مسعود { قلت: يا رسول الله، أي الذنب أعظم عند الله؟ قال: أن تجعل لله ندا وهو خلقك. قلت: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك. قلت: ثم أي؟ قال: أن تزني بحليلة جارك. ثم تلا رسول الله { • • } ( ) }.
وقوله:... { • } ( )... قال ابن عطية: هذا نهي عام عن جميع أنواع الفواحش، وهي المعاصي. و (ظهر) و (بطن) حالتان تستوفيان أقسام ما جلتا له من الأشياء. انتهى.
وقوله:... { • } ( )... في الصحيحين: " عن ابن عباس مرفوعا: { لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة } ( ).
وقوله:... { } ( ) قال ابن عطية: (ذلكم) إشارة إلى هذه المحرمات والوصية الأمر المؤكد المقرر و{ } ( ) (لعل) للتعليل أي: إن الله تعالى وصانا بهذه الوصايا لنعقلها عنه ونعمل بها، وفي تفسير الطبري الحنفي: ذكر أولا (تعقلون) ثم (تذكرون) ثم (تتقون) لأنهم إذا عقلوا تذكروا وخافوا واتقوا.
وقوله: { } ( )... قال ابن عطية: هذا نهي عام عن القرب الذي يعم وجوه التصرف، وفيه سد الذريعة، ثم استثنى ما يحسن وهو السعي في نمائه، قال مجاهد: " التي هي أحسن، إشارة فيه، وفي قوله:... { } ( )... قال مالك وغيره: هو الرشد وزوال السفه مع البلوغ، روي نحو هذا عن زيد بن أسلم والشعبي وربيعة وغيرهم.
وقوله:... { } ( )... قال ابن كثير: يأمر تعالى بإقامة العدل في الأخذ والإعطاء... { } ( )... أي: من اجتهد بأداء الحق وأخذه، فإن أخطأ بعد استفراغ الوسع وبذل جهده فلا حرج عليه.
وقوله:... { } ( )... هذا أمر بالعدل في القول والفعل على القريب والبعيد. قال الحنفي: العدل في القول في حق الولي والعدو لا يتغير في الرضـى والغضب بل يكون على الحق وإن كان ذا قربى فلا يميل إلى الحبيب والقـريب:...... { • } ( )....
وقوله... { } ( )... قال ابن جرير: وبوصية الله تعالى التي وصاكم بها فأوفوا. وإيفاء ذلك بأن يطيعوه فيما أمرهم به ونهاهم عنه. وأن يعملوا بكتابه وسنة رسوله ذلك هو الوفاء بعهد الله. وكذا قال غيره.
وقوله... { } ( ) تتعظون وتنتهون عما كنتم فيه.
وقوله: { • • } ( )... قال القرطبي: هذه آية عظيمة عطفها على ما تقدم؛ فإنه نهى وأمر وحذر عن اتباع غير سبيله على ما بينته الأحاديث الصحيحة وأقاويل السلف. و (أن) في موضع نصب. أي: أتلو أن هذا صراطي، عن الفراء والكسائي، ويجوز أن يكون خفضا أي: وصاكم به وبأن هذا صراطي. قال: والصراط الطريق الذي هو دين الإسلام.
(مستقيما) نصب على الحال، ومعناه: مستويا قيما لا اعوجاج فيه. فأمر باتباع طريقه الذي طرقه على لسان محمد وشرعه ونهايته الجنة وتشعبت منه طرق، فمن سلك الجادة نجا، ومن خرج إلى تلك الطرق أفضت به إلى النار. قال الله تعالى:... { } ( ) أي: تميل. انتهى.
وروى الإمام أحمد والنسائي والدارمي وابن أبي حاتم والحاكم - وصححه - " عن ابن مسعود قال: { خط رسول الله خطا بيده، ثم قال: هذا سبيل الله مستقيما، ثم خط خطوطا عن يمين ذلك الخط وعن شماله ثم قال: وهذه السبل ليس منها سبيل إلا وعليه شيطان يدعو إليه، ثم قـرأ { • • } ( ) }... . وعن مجاهد:... { } ( )... قال: البدع والشهوات.
قال ابن القيم -رحمه الله-: ولنذكر في الصراط المستقيم قولا وجيزا فإن الناس قد تنوعت عباراتهم عنه بحسب صفاته ومتعلقاته، وحقيقته شيء واحد، وهو طريق الله الذي نصبه لعباده موصلا إليه ولا طريق إليه سواه، بل الطرق كلها مسدودة على الخلق إلا طريقه الذي نصبه على ألسن رسله، وجعله موصلا لعباده إليه، وهو إفراده بالعبادة، وإفراد رسله بالطاعة، فلا يشرك به أحد في عبادته ولا يشرك برسوله أحد في طاعته. فيجرد التوحيد، ويجرد متابعة الرسول وهذا كله مضمون " شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله " فأي شيء فسر به الصراط المستقيم فهو داخل في هذين الأصلين. ونكتة ذلك: أن تحبه بقلبك وترضيه بجهدك كله، فلا يكون في قلبك موضع إلا معمورا بحبه، ولا يكون لك إرادة إلا متعلقة بمرضاته.
فالأول يحصل بتحقيق شهادة أن لا إله إلا الله، والثاني يحصل بتحقيق شهادة أن محمدا رسول الله. وهذا هو الهدى ودين الحق، وهو معرفة الحق والعمل به، وهو معرفة ما بعث الله به رسوله والقيام به، وقل ما شئت من العبارات التي هذا آخيتها وقطب رحاها. قال: وقال سهل بن عبد الله: عليكم بالأثر والسنة، فإني أخاف؛ أنه سيأتي عن قليل زمان إذا ذكر إنسان النبي والاقتداء به في جميع أحواله ذموه ونفروا عنه وتبرءوا منه، وأذلوه وأهانوه. اهـ.
قوله: قال ابن مسعود: من أراد أن ينظر إلى وصية محمد التي عليها خاتمه فليقرأ: { } ( )... إلى قوله { • • } ( )... .
قوله: " ابن مسعود " هو عبد الله بن مسعود بن غافل - بمعجمة وفاء - ابن حبيب الهذلي أبو عبد الرحمن، صحابي جليل من السابقين الأولين، وأهل بدر وأحد والخندق وبيعة الرضوان، ومن كبار علماء الصحابة، أمَّره عمر على الكوفة، ومات سنة اثنتين وثلاثين .
وهذا الأثر رواه الترمذي وحسنه، وابن المنذر، وابن أبي حاتم والطبراني بنحوه. وقال بعضهم: معناه من أراد أن ينظر إلى الوصية التي كأنها كتبت وختم عليها فلم تغير ولم تبدل فليقرأ: (قل تعالوا - إلى آخر الآيات) شبهها بالكتاب الذي كتب ثم ختم فلم يزد فيه ولم ينقص. فإن النبي لم يوص إلا بكتاب الله، كما قال فيما رواه مسلم: { وإني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا: كتاب الله } ( ) وقد روى عبادة بن الصامت قال: " قال رسول الله { أيكم يبايعني على هؤلاء الآيات الثلاث؟ } ثم تلا قوله تعالى: { } ( )... حتى فرغ من الثلاث الآيات. ثم قال: { ومن وفى بهن فأجره على الله، ومن انتقص منهن شيئا فأدركه الله به في الدنيا كانت عقوبته، ومن أخره إلى الآخرة كان أمره إلى الله إن شاء آخذه وإن شاء عفا عنه } رواه ابن أبي حاتم والحاكم وصححه، ومحمد بن نصر في الاعتصام.
قلت: ولأن النبي لم يوص أمته إلا بما وصاهم الله تعالى به على لسانه. وفي كتابه الذي أنزله:... { } ( ) وهذه الآيات وصية الله تعالى ووصية رسوله .
قوله: وعن معاذ بن جبل قال: كنت رديف النبي على حمار فقال لي: { يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد، وما حق العباد على الله؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: حق الله على العباد: أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، وحق العباد على الله: أن لا يعذب من لا يشرك به شيئا، قلت: يا رسول الله أفلا أبشر الناس؟ قال: لا تبشرهم فيتكلوا } ( ). أخرجاه في الصحيحين:
هذا الحديث في الصحيحين من طرق. وفي بعض رواياته نحو مما ذكره المصنف.
و " معاذ بن جبل " هو ابن عمرو بن أوس الأنصاري الخزرجي أبو عبد الرحمن، صحابي مشهور من أعيان الصحابة، شهد بدرا وما بعدها. وكان إليه المنتهى في العلم والأحكام والقرآن . وقال النبي { معاذ يحشر يوم القيامة أمام العلماء برتوة } أي: بخطوة، قال في القاموس: والرتوة: الخطوة وشرف من الأرض، وسويعة من الزمان، والدعوة، والفطرة، ورمية بسهم، أو نحو ميل أو مدى البصر. والراتي: العالم الرباني. انتهى. وقال في النهاية: إنه يتقدم العلماء برتوة أي: برمية سهم. وقيل: بميل، وقيل: مد البصر. وهذه الثلاثة أشبه بمعنى الحديث.
مات معاذ سنة ثماني عشرة بالشام في طاعون عمواس. وقد استخلفه على أهل مكة يوم الفتح يعلمهم دينهم.
قوله: { كنت رديف النبي } ( ) فيه جواز الإرداف على الدابة، وفضيلة معاذ .
قوله: " على حمار " في رواية اسمه " عُفير "، قلت: أهداه إليه المقوقس صاحب مصر.
وفيه: تواضعه لركوب الحمار والإرداف عليه، خلافا لما عليه أهل الكبر.
قوله: { أتدري ما حق الله على العباد } ( )؟ " أخرج السؤال بصيغة الاستفهام؛ ليكون أوقع في النفس وأبلغ في فهم المتعلم { وحق الله على العباد } ( ) وهو ما يستحقه عليهم { وحق العباد على الله } ( ) معناه أنه متحقق لا محالة، لأنه وعدهم ذلك جزاء لهم على توحيده: { } ( )... .
قال شيخ الإسلام: كون المطيع يستحق الجزاء هو استحقاق إنعام وفضل، ليس هو استحقاق مقابلة، كما يستحق المخلوق على المخلوق، فمن الناس من يقول: لا معنى للاستحقاق، إلا أنه أخبر بذلك ووعده صدق، ولكن أكثر الناس يثبتون استحقاقا زائدا على هذا، كما دل عليه الكتاب والسنة قال تعالى:... { } ( ) لكن أهل السنة يقولون: هو الذي كتب على نفسه الرحمة وأوجب على نفسه الحق، لم يوجبه عليه مخلوق، والمعتزلة يدعون أنه واجب عليه بالقياس على المخلوق، وأن العباد هم الذين أطاعوه بدون أن يجعلهم مطيعين له، وأنهم يستحقون الجزاء بدون أن يكون هو الموجب، وغلطوا في ذلك، وهذا الباب غلطت فيه الجبرية والقدرية أتباع جهم والقدرية النافية.
قوله: { قلت: الله ورسوله أعلم } ( ) فيه: حسن الأدب من المتعلم، وأنه ينبغي لمن سئل عما لا يعلم أن يقول ذلك، بخلاف أكثر المتكلفين.
قوله: { أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا } ( ) أي: يوحدوه بالعبادة. ولقد أحسن العلامة ابن القيم -رحمه الله- حيث عرف العبادة بتعريف جامع فقال:
مـع ذل عـابده همـا قـطبان
مـا دار حتى قـامت القـطبان
لا بالهـوى والنـفس والشيـطان
وعبـادة الـرحمـن غـايـة حبه
وعليهمـا فـلك العبـادة دائـر
ومـداره بالأمـر أمـر رسـولـه
قوله: { ولا يشركوا به شيئا } ( ) أي: يوحدوه بالعبادة، فلا بد من التجرد من الشرك في العبادة، ومن لم يتجرد من الشرك لم يكن آتيا بعبادة الله وحده، بل هو مشرك قد جعل لله ندا. وهذا معنى قول المصنف -رحمه الله-.
وفيه: " أن العبادة هي التوحيد؛ لأن الخصومة فيه، وفي بعض الآثار الإلهية: { إني والجن والإنس في نبأ عظيم، أخلق ويعبد غيري، وأرزق ويشكر سواي، خيري إلى العباد نازل، وشرهم إلي صاعد، أتحبب إليهم بالنعم، ويتبغضون إلي بالمعاصي }.
قوله: { وحق العباد على الله: ألا يعذب من لا يشرك به شيئا } ( ) قال الحافظ: اقتصر على نفي الإشراك؛ لأنه يستدعي التوحيد بالاقتضاء، ويستدعي إثبات الرسالة باللزوم، إذ من كذب رسول الله فقد كذب الله، ومن كذب الله فهو مشرك. وهو مثل قول القائل: ومن توضأ صحت صلاته، أي: مع سائر الشروط. اهـ.
قوله: { أفلا أبشر الناس؟ } ( ) فيه: استحباب بشارة المسلم بما يسره، وفيه ما كان عليه الصحابة من الاستبشار بمثل هذا. قاله المصنف -رحمه الله-.
قوله: { لا تبشرهم فيتكلوا } ( ) أي: يعتمدوا على ذلك فيتركوا التنافس في الأعمال.
وفي رواية: { فأخبر بها معاذ عند موته تأثما } ( ) أي: تحرجا من الإثم. قال الوزير أبو المظفر: لم يكن يكتمها إلا عن جاهل يحمله جهله على سوء الأدب بترك الخدمة في الطاعة، فأما الأكياس الذين إذا سمعوا بمثل هذا زادوا في الطاعة، ورأوا أن زيادة النعم تستدعي زيادة الطاعة، فلا وجه لكتمانها عنهم.
وفي الباب من الفوائد غير ما تقدم: الحث على إخلاص العبادة لله وأنها لا تنفع مع الشرك، بل لا تسمى عبادة. والتنبيه على عظمة حق الوالدين، وتحريم عقوقهما، والتنبيه على عظمة الآيات المحكمات في سورة الأنعام، وجواز كتمان العلم للمصلحة.
قوله: " أخرجاه " أي البخاري ومسلم. والبخاري -رحمه الله- هو الإمام محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن بردزبة الجعفي مولاهم، الحافظ الكبير، صاحب الصحيح والتاريخ والأدب المفرد وغير ذلك من مصنفاته. روى عن الإمام أحمد بن حنبل والحميدي وابن المديني وطبقتهم. وروى عنه مسلم والنسائي والترمذي والفربري، روى الصحيح. ولد سنة أربع وتسعين ومائة ومات سنة ست وخمسين ومائتين.
و " مسلم " -رحمه الله-: هو ابن الحجاج بن مسلم أبو الحسين القشيري النيسابوري صاحب الصحيح والعلل والوحدان وغير ذلك. روى عن أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وأبي خيثمة وابن أبي شيبة وطبقتهم. وروى عن البخاري. وروى عنه الترمذي وإبراهيم بن محمد بن سفيان راوي الصحيح وغيرهما. ولد سنة أربع ومائتين. ومات سنة إحدى وستين ومائتين بنيسابور - رحمهما الله-.
المسائل المستنبطة من هذا الباب
فيه مسائل:
الأولى: الحكمة في خلق الجن والإنس.
الثانية: أن العبادة هي التوحيد؛ لأن الخصومة فيه.
الثالثة: أن مـن لم يأت بـه لم يعبد الله، ففيه معنى قوله: { } ( ) .
الرابعة: الحكمة في إرسال الرسل.
الخامسة: أن الرسالة عمت كل أمة.
السادسة: أن دين الأنبياء واحد.
السابعة: المسألة الكبيرة: أن عبادة الله لا تحصل إلا بالكفر بالطاغوت؛ ففيه معنى قوله:... { } ( )....
الثامنة: أن الطاغوت عام في كل ما عبد من دون الله.
التاسعة: عظم شأن ثلاث الآيات المحكمات في سورة الأنعام عند السلف، وفيها عشر مسائل: أولها: النهي عن الشرك.
العاشرة: الآيات في سورة الإسراء، وفيها ثماني عشرة مسألة، بدأها الله بقوله: { • } ( ) وختمها بقولـه:... { • •• } ( ) ونبهنا الله سبحانه على عظم شأن هذه المسائل بقوله: { } ( )... .
الحادية عشرة: آية سورة النساء التي تسمى آية الحقوق العشرة، بدأها الله تعالى بقوله: { } ( )... .
الثانية عشرة: التنبيه على وصية رسول الله عند موته.
الثالثة عشرة: معرفة حق الله علينا.
الرابعة عشرة: معرفة حق العباد عليه إذا أدوا حقه.
الخامسة عشرة: أن هذه المسألة لا يعرفها أكثر الصحابة.
السادسة عشرة: جواز كتمان العلم للمصلحة.
السابعة عشرة: استحباب بشارة المسلم بما يسره.
الثامنة عشرة: الخوف من الاتكال على سعة رحمة الله.
التاسعة عشرة: قول المسئول عما لا يعلم: " الله ورسوله أعلم ".
العشرون: جواز تخصيص بعض الناس بالعلم دون بعض.
الحادية والعشرون: تواضعه لركوب الحمار مع الإرداف عليه.
الثانية والعشرون: جواز الإرداف على الدابة.
الثالثة والعشرون: فضيلة معاذ بن جبل.
الرابعة والعشرون: عظم شأن هذه المسألة.
باب فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب
وقول الله تعالى: { } ( ) .
قوله: " باب فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب " " باب " خبر مبتدأ محذوف تقديره: هذا.
قلت: ويجوز أن يكون مبتدأ خبره محذوف تقديره هذا. و " ما " يجوز أن تكون موصولة والعائد محذوف، أي: وبيان الذي يكفره من الذنوب، ويجوز أن تكون مصدرية، أي: وتكفيره الذنوب، وهذا الثاني أظهر.
قوله: وقول الله تعالى: { } ( ) قال ابن جرير: حدثني المثنى - وساق بسنده - عن الربيع بن أنس قال: " الإيمان الإخلاص لله وحده ".
وقال ابن كثير في الآية: أي: هؤلاء الذين أخلصوا العبادة لله وحده ولم يشركوا به شيئا هم الآمنون يوم القيامة، المهتدون في الدنيا والآخرة. وقال زيد بن أسلم وابن إسحاق: هذا من الله على فصل القضاء بين إبراهيم وقومه.
وعن ابن مسعود: { لما نزلت هذه الآية قالوا: فأينا لم يظلم نفسه؟ فقال رسول الله ليس بذلكم، ألم تسمعوا إلى قول لقمان: إن الشرك لظلم عظيم؟ } ( ) وساقه البخاري بسنده فقال " حدثنا عمر بن حفص بن غياث حدثنا أبي حدثنا الأعمش حدثني إبراهيم عن علقمة عن عبد الله قال: لما نزلت: { } ( )... قلنا: يا رسول الله، أينا لا يظلم نفسه؟ قال: ليس كما تقولون، لم يلبسوا إيمانهم بظلم، بشرك. أولم تسمعوا إلى قول لقمان لابنه: " يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم ".
ولأحمد بنحوه عن عبد الله قـال: " لما نزلت { } ( )... شق ذلك على أصحاب رسول الله { فقالوا يا رسول الله: فأينا لا يظلم نفسه؟ قال: إنه ليس الذي تعنون. ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح: " يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم؟ " إنما هو الشرك } ( ). وعن عمر أنه فسره بالذنب، فيكون المعنى: الأمن من كل عذاب. وقال الحسن والكلبي: " أولئك لهم الأمن، في الآخرة، وهم مهتدون: في الدنيا ".
قال شيخ الإسلام: والذي شق عليهم أنهم ظنوا أن الظلم المشروط عدمه هو ظلم العبد نفسه، وأنه لا أمن ولا اهتداء إلا لمن لم يظلم نفسه، فبين لهم النبي ما دلهم على أن الشرك ظلم في كتاب الله، فلا يحصل الأمن والاهتداء إلا لمن لم يلبس إيمانه بهذا الظلم، فإن من لم يلبس إيمانه بهذا الظلم كان من أهل الأمن والاهتداء، كما كان من أهل الاصطفاء في قوله: { } ( ) وهذا لا ينفي أن يؤاخذ أحدهم بظلمه لنفسه بذنب إذا لم يتب كما قال تعالى: { } ( ) وقد سأل أبو بكر الصديق النبي فقال: يا رسول الله، أينا لم يعمل سوءا؟ فقال: { يا أبا بكر ألست تنصب؟ ألست تحزن؟ أليس يصيبك اللأواء؟ فذلك ما تجزون به } ( ) فبين أن المؤمن الذي إذا مات دخل الجنة قد يجزى بسيئاته في الدنيا بالمصائب. فمن سلم من أجناس الظلم الثلاثة: الشرك، وظلم العباد. وظلمه لنفسه بما دون الشرك. كان له الأمن التام والاهتداء التام. ومن لم يسلم من ظلمه لنفسه كان له الأمن والاهتداء المطلق. بمعنى أنه لا بد أن يدخل الجنة كما وعد بذلك في الآية الأخرى: وقد هداه الله إلى الصراط المستقيم الذي تكون عاقبته فيه إلى الجنة. ويحصل له من نقص الأمن والاهتداء بحسب ما نقص من إيمانه بظلمه لنفسه وليس مراد النبي بقوله إنما هو الشرك أن من لم يشرك الشرك الأكبر يكون له الأمن التام والاهتداء التام. فإن أحاديثه الكثيرة مع نصوص القرآن تبين أن أهل الكبائر معرضون للخوف، لم يحصل لهم الأمن التام والاهتداء التام الذي يكونون بهما مهتدين إلى الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم، من غير عذاب يحصل لهم. بل معهم أصل الاهتداء إلى هذا الصراط، ومعهم أصل نعمة الله عليهم ولا بد لهم من دخول الجنة. وقوله { إنما هو الشرك } ( ) إن أراد الأكبر، فمقصوده أن من لم يكن من أهله فهو آمن مما أوعد به المشركون من عذاب الدنيا والآخرة. وإن كان مراده جنس الشرك. يقال ظلم ـ العبد نفسه ـ كبخله لحب المال ببعض الواجب - هو شرك أصغر. وحبه ما يبغضه الله تعالى حتى يقدم هواه على محبة الله شرك أصغر ونحو ذلك. فهذا فاته من الأمن والاهتداء بحسبه. ولهذا كان السلف يدخلون الذنوب في هذا الشرك بهذا الاعتبار. انتهى ملخصا.
وقال ابن القيم -رحمه الله-: قوله: { } ( ) قال الصحابة: وأينا يا رسول الله لم يلبس إيمانه بظلم؟ قال ذلك الشرك ألم تسمعوا قول العبد الصالح { } ( ) " لما أشكل عليهم المراد بالظلم فظنوا أن ظلم النفس داخل فيه، وأن من ظلم نفسه ـ أي ظلم كان ـ لم يكن آمنا ولا مهتديا: أجابهم صلوات الله وسلامه عليه بأن الظلم الرافع للأمن والهداية على الإطلاق هو الشرك. وهذا والله هو الجواب الذي يشفي العليل ويروي الغليل. فإن الظلم المطلق التام هو الشرك الذي هو وضع العبادة في غير موضعها. والأمن والهدي المطلق: هما الأمن في الدنيا والآخرة والهدي إلى الصراط المستقيم. فالظلم المطلق التام رافع للأمن والاهتداء المطلق التام. ولا يمنع ذلك أن يكون مطلق الظلم مانعا من مطلق الأمن ومطلق الهدي. فتأمله. فالمطلق للمطلق، والحصة للحصة. اهـ ملخصا.
معنى لا إله إلا الله وأقوال العلماء فيها
عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله { من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم، وروح منه، والجنة حق، والنار حق، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل } ( ) أخرجاه.
ولهما في حديث عتبان: { إن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله، يبتغي بذلك وجه الله } ( ).
وعن أبي سعيد الخدري عن رسول الله قال: { قال موسى: يا رب، علمني شيئا أذكرك وأدعوك به. قال: قل يا موسى: لا إله إلا الله. قال: يا رب كل عبادك يقولون هذا. قال: يا موسى، لو أن السماوات السبع وعامرهن غيري، والأرضين السبع في كفة، ولا إله إلا الله في كفة، مالت بهن لا إله إلا الله } رواه ابن حبان، والحاكم وصححه.
وللترمذي وحسنه عن أنس: سمعت رسول الله يقول: { قال الله تعالى: يا ابن آدم لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة} ( ).
قوله: عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله { من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه والجنة حق والنار حق، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل} ( ). أخرجاه.
عبادة بن الصامت بن قيس الأنصاري الخزرجي، أبو الوليد، أحد النقباء، بدري مشهور، مات بالرملة سنة أربع وثلاثين وله اثنتان وسبعون، وقيل: عاش إلى خلافة معاوية .
قوله: { من شهد أن لا إله إلا الله } ( ) أي: من تكلم بها عارفا لمعناها، عاملا بمقتضاها، باطنا وظاهرا، فلا بد في الشهادتين من العلم واليقين والعمل بمدلولهما، كما قال الله تعالى: { } ( )... (محمد ـ 19) وقوله:... { } ( ) (الزخرف ـ 86) أما النطق بها من غير معرفة لمعناها ولا يقين ولا عمل بما تقتضيه: من البراءة من الشرك، وإخلاص القول والعمل: قول القلب واللسان، وعمل القلب والجوارح - فغير نافع بالإجماع.
قال القرطبي في المفهم على صحيح مسلم: " باب لا يكفي مجرد التلفظ بالشهادتين بل، لا بد من استيقان القلب " هذه الترجمة تنبيه على فساد مذهب غلاة المرجئة، القائلين بأن التلفظ بالشهادتين كاف في الإيمان. وأحاديث هذا الباب تدل على فساده. بل هو مذهب معلوم الفساد من الشريعة لمن وقف عليها. ولأنه يلزم منه تسويغ النفاق، والحكم للمنافق بالإيمان الصحيح. وهو باطل قطعا اهـ.
وفي هذا الحديث ما يدل على هذا. وهو قوله: { من شهد } ( ) فإن الشهادة لا تصح إلا إذا كانت عن علم ويقين وإخلاص وصدق.
قال النووي: هذا حديث عظيم جليل الموقع، وهو أجمع - أو من أجمع - الأحاديث المشتملة على العقائد. فإنه جمع فيه ما يخرج من ملل الكفر على اختلاف عقائدهم وتباعدها. فاقتصر في هذه الأحرف على ما يباين جميعهم اهـ.
ومعنى " لا إله إلا الله " لا معبود بحق إلا الله. وهو في غير موضع من القرآن، ويأتيك في قول البقاعي صريحا قوله: (وحده) تأكيد للإثبات "لا شريك له " تأكيد للنفي قاله الحافظ كقول الله { }( ) (البقرة ـ 163) وقال: { } ( ) (الأنبياء ـ 25) وقال: { } ( )... (الأعراف ـ 65) فأجابوه ردا عليه بقولهم: { } ( ) (الأعراف: 70) وقال تعالى: { } ( ) (الحج ـ 62).
فتضمن ذلك نفي الإلهية عما سوى الله، وهي العبادة، وإثباتها لله وحده لا شريك له، والقرآن من أوله إلى آخره يبين هذا ويقرره ويرشد إليه.
فالعبادة بجميع أنواعها إنما تصدر عن تأله القلب بالحب والخضوع والتذلل رغبا ورهبا، وهذا كله لا يستحقه إلا الله تعالى، كما تقدم في أدلة هذا الباب وما قبله، فمن صرف من ذلك شيئا لغير الله فقد جعله لله ندا، فلا ينفعه مع ذلك قول ولا عمل.
ذكر كلام العلماء في معنى " لا إله إلا الله "
قد تقدم كلام ابن عباس، وقال الوزير أبو المظفر في الإفصاح: قوله: شهادة " أن لا إله إلا الله " تقتضي أن يكون الشاهد عالما بأنه لا إله إلا الله، كما قال تعالى: { } ( )... قال: واسم (الله) مرتفع بعد (إلا) من حيث إنه الواجب له الإلهية، فلا يستحقها غيره سبحانه. قال: وجملة الفائدة في ذلك: أن تعلم أن هذه الكلمة مشتملة على الكفر بالطاغوت والإيمان بالله، فإنك لما نفيت الإلهية وأثبت الإيجاب لله سبحانه كنت ممن كفر بالطاغوت وآمن بالله.
وقال ابن القيم في البدائع ردا لقول من قال: إن المستثنى مخرج من المستثنى منه. قال ابن القيم: بل هو مخرج من المستثنى منه وحكمه، فلا يكون داخلا في المستثنى، إذ لو كان كذلك لم يدخل الرجل في الإسلام بقوله: " لا إله إلا الله " لأنه لم يثبت الإلهية لله تعالى. وهذه أعظم كلمة تضمنت بالوضع نفي الإلهية عما سوى الله وإثباتها له بوصف الاختصاص. فدلالتها على إثبات إلهيته أعظم من دلالة قولنا: (الله إله) ولا يستريب أحد في هذا ألبتة. انتهى بمعناه.
وقال أبو عبد الله القرطبي في تفسير (لا إله إلا الله) أي: لا معبود إلا هو.
وقال الزمخشري: " الإله " من أسماء الأجناس كالرجل والفرس، يقع على كل معبود بحق أو باطل، ثم غلب على المعبود بحق.
وقال شيخ الإسلام: " الإله " هو المعبود المطاع، فإن الإله هو المألوه، والمألوه هو الذي يستحق أن يعبد. وكونه يستحق أن يعبد هو بما اتصف به من الصفات التي تستلزم أن يكون هو المحبوب غاية الحب، المخضوع له غاية الخضوع، قال: فإن الإله هو المحبوب المعبود الذي تألهه القلوب بحبها، وتخضع له وتذل له، وتخافه وترجوه، وتنيب إليه في شدائدها، وتدعوه في مهماتها، وتتوكل عليه في مصالحها، وتلجأ إليه وتطمئن بذكره، وتسكن إلى حبه، وليس ذلك إلا لله وحده، ولهذا كانت (لا إله إلا الله) أصدق الكلام، وكان أهلها أهل الله وحزبه، والمنكرون لها أعداءه وأهل غضبه ونقمته، فإذا صحت صح بها كل مسألة وحال وذوق، وإذا لم يصححها العبد فالفساد لازم له في علومه وأعماله.
وقال ابن القيم: " الإله " هو الذي تألهه القلوب محبة وإجلالا وإنابة، وإكراما وتعظيما، وذلا وخضوعا، وخوفا ورجاء وتوكلا.
وقال ابن رجب: (الإله) هو الذي يطاع فلا يعصى، هيبة له وإجلالا، ومحبة وخوفا ورجاء، وتوكلا عليه، وسؤالا منه ودعاء له، ولا يصلح هذا كله إلا لله فمن أشرك مخلوقا في شيء من هذه الأمور التي هي من خصائص الإلهية كان ذلك قدحا في إخلاصه في قول (لا إله إلا الله) وكان فيه من عبودية المخلوق بحسب ما فيه من ذلك.
وقال البقاعي: " لا إله إلا الله "، أي: انتفاء عظيما أن يكون معبود بحق غير الملك الأعظم، فإن هذا العلم هو أعظم الذكرى المنجية من أهوال الساعة، وإنما يكون علما إذا كان نافعا، وإنما يكون نافعا إذا كان مع الإذعان والعمل بما تقتضيه، وإلا فهو جهل صرف.
وقال الطيبي: (الإله) فِعال بمعنى مفعول، كالكتاب بمعنى المكتوب، من أله إلهة أي: عبد عبادة. قال الشارح: وهذا كثير في كلام العلماء وإجماع منهم.
فدلت (لا إله إلا الله) على نفي الإلهية عن كل ما سوى الله تعالى كائنا ما كان، وإثبات الإلهية لله وحده دون كل ما سواه، وهذا هو التوحيد الذي دعت إليه الرسل ودل عليه القرآن مـن أوله إلى آخره، كما قال تعالى عن الجن: { • } ( ) (الجن ـ 1 - 2) فلا إله إلا الله لا تنفع إلا من عرف مدلولها نفيا وإثباتا، واعتقد ذلك وقبله وعمل به. وأما من قالها من غير علم واعتقاد وعمل، فقد تقدم في كلام العلماء أن هذا جهل صرف، فهي حجة عليه بلا ريب.
فقوله في الحديث: " وحده لا شريك له " تأكيد وبيان لمضمون معناها. وقد أوضح الله ذلك وبينه في قصص الأنبياء والمرسلين في كتابه المبين، فما أجهل عباد القبور بحالهم ! وما أعظم ما وقعوا فيه من الشرك المنافي لكلمة الإخلاص " لا إله إلا الله " ! فإن مشركي العرب ونحوهم جحدوا " لا إله إلا الله" لفظا ومعنى. وهؤلاء المشركون أقروا بها لفظا وجحدوها معنى، فتجد أحدهم يقولها وهو يأله غير الله بأنواع العبادة، كالحب والتعظيم، والخوف والرجاء والتوكل والدعاء، وغير ذلك من أنواع العبادة. بل زاد شركهم على شرك العرب بمراتب، فإن أحدهم إذا وقع في شدة أخلص الدعاء لغير الله تعالى، ويعتقدون أنه أسرع فرجا لهم من الله، بخلاف حال المشركين الأولين، فإنهم كانوا يشركون في الرخاء، وأما في الشدائد فإنما يخلصون لله وحده، كما قال تعالى: { } ( ) (العنكبوت ـ 65). فبهذا يتبين أن مشركي أهل هذه الأزمان أجهل بالله وبتوحيده من مشركي العرب ومن قبلهم.
وقوله: { وأن محمدا عبده ورسوله } ( ) " أي: وشهد بذلك، وهو معطوف على ما قبله على نية تكرار العامل، ومعنى " العبد" هنا المملوك العابد "، أي: أنه مملوك لله تعالى والعبودية الخاصة وصفه كما قال تعالى: { } ( )..(الزمر: 36) فأعلى مراتب العبد العبودية الخاصة والرسالة، فالنبي أكمل الخلق في هاتين الصفتين الشريفتين. وأما الربوبية والإلهية فهما حق لله تعالى، لا يشركه في شيء منهما ملك مقرب ولا نبي مرسل.
وقوله: { عبده ورسوله } ( ) أتى بهاتين الصفتين وجمعهما دفعا للإفراط والتفريط، فإن كثيرا ممن يدعي أنه من أمته أفرط بالغلو قولا وفعلا، وفرط بترك متابعته، واعتمد على الآراء المخالفة لما جاء به، وتعسف في تأويل أخباره وأحكامه، بصرفها عن مدلولها، والصدوف عن الانقياد لها مع اطراحها، فإن شهادة أن محمدا رسول الله تقتضي الإيمان به وتصديقه فيما أخبر، وطاعته فيما أمر، والانتهاء عما عنه نهى وزجر، وأن يعظم أمره ونهيه، ولا يقدم عليه قول أحد كائنا من كان. والواقع اليوم وقبله - ممن ينتسب إلى العلم من القضاة والمفتين - خلاف ذلك، والله المستعان.
وروى الدارمي في مسنده عن عبد الله بن سلام أنه كان يقول: " إنا لنجد صفة رسول الله إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وحرزا للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميته المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ، ولا صخاب بالأسواق، ولا يجزي بالسيئة مثلها، ولكن يعفو ويتجاوز، ولن أقبضه حتى يقيم الملة المعوجة بأن يشهد أن لا إله إلا الله، يفتح به أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا " قال عطاء بن يسار: وأخبرني أبو واقد الليثي أنه سمع كعبا يقول مثل ما قال ابن سلام.
قوله: { وأن عيسى عبد الله ورسوله } ( ) أي: خلافا لما يعتقده النصارى أنه الله أو ابن الله، أو ثالث ثلاثة. تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا: { } ( )... (المؤمنون ـ 91) فلا بد أن يشهد أن عيسى عبد الله ورسوله على علم ويقين بأنه مملوك لله خلقه من أنثى بلا ذكر كما قال تعالى: { } ( ) (آل عمران: 59) فليـس ربا ولا إلها سبـحان الله عما يشركون قال تعالى: { • • } ( ) (مريم ـ 29 - 36)، وقال: { } ( ) (النساء ـ 172) ويشهد المؤمن أيضا ببطلان قول أعدائه اليهود: أنه ولد بغي، لعنهم الله تعالى. فلا يصح إسلام أحد علم ما كانوا يقولونه حتى يبرأ من قول الطائفتين جميعا في عيسى عليه السلام، ويعتقد ما قاله الله تعالى فيه: أنه عبد الله ورسوله.
قوله: " وكلمته " إنما سمي عيسى -عليه السلام- كلمته لوجوده بقوله تعالى: " كن " كما قاله السلف من المفسرين. قال الإمام أحمد في الرد على الجهمية " بالكلمة التي ألقاها إلى مريم حين قال له " كن " فكان عيسى بكن وليس عيسى هو " كن " ولكن بكن كان، فكن من الله تعالى قول، وليس " كن " مخلوقا، وكذب النصارى والجهمية على الله في أمر عيسى " انتهى.
قوله: { ألقاها إلى مريم } ( ) قال ابن كثير: خلقه بالكلمة التي أرسل بها جبريل إلى مريم فنفخ فيها من روحه بأمر ربه فكان عيسى بإذن الله فهو ناشئ عن الكلمة التي قال له كن فكان والروح التي أرسل بها: هو جبريل عليه السلام.
وقوله: " وروح منه " قال أبي بن كعب: " عيسى روح من الأرواح التي خلقها الله تعالى واستنطقها بقوله:... { } ( )... (الأعراف ـ 172) بعثه الله إلى مريم فدخل فيها " رواه عبد بن حميد وعبد الله بن أحمد في زوائد المسند، وابن جرير وابن أبي حاتم وغيرهم. قال الحافظ: ووصفه بأنه منه، فالمعنى أنه كائن منه، كما في قوله تعالى: { • } ( )... (الجاثية ـ 13) فالمعنى أنه كائن منه، كما أن معنى الآية الأخرى أنه سخر هذه الأشياء كائنة منه أي: أنه مكون ذلك وموجده بقدرته وحكمته.
قال شيخ الإسلام: المضاف إلى الله تعالى إذا كان معنى لا يقوم بنفسه ولا بغيره من المخلوقات وجب أن يكون صفة لله تعالى قائمة به، وامتنع أن تكون إضافته إضافة مخلوق مربوب. وإذا كان المضاف عينا قائمة بنفسها كعيسى وجبريل -عليهما السلام- وأرواح بني آدم امتنع أن تكون صفة لله تعالى، لأن ما قام بنفسه لا يكون صفة لغيره.
لكن الأعيان المضافة إلى الله تعالى على وجهين:
أحدهما: أن تضاف إليه لكونه خلقها وأبدعها، فهذا شامل لجميع المخلوقات، كقولهم: سماء الله، وأرض الله. فجميع المخلوقين عبيد الله، وجميع المال مال الله.
الوجه الثاني: أن يضاف إليه لما خصه به من معنى يحبه ويأمر به ويرضاه، كما خص البيت العتيق بعبادة فيه لا تكون في غيره. وكما يقال في مال الخمس والفيء: هو مال الله ورسوله. ومن هذا الوجه: فعباد الله هم الذين عبدوه وأطاعوا أمره. فهذه إضافة تتضمن ألوهيته وشرعه ودينه، وتلك إضافة تتضمن ربوبيته وخلقه. اهـ ملخصا.
قوله: { والجنة حق والنار حق } ( ) أي وشهد أن الجنة التي أخبر بها الله تعالى في كتابه أنه أعدها للمتقين حق، أي ثابتة لا شك فيها، وشهد أن النار التي أخبر بها تعالى في كتابه أنه أعدها للكافرين حق كذلك ثابتة، كما قال تعالى: { • } ( ) (الحديد ـ 21) وقال تعالى:... { • • •• } ( ) (البقرة ـ 24) وفي الآيتين ونظائرهما دليل على أن الجنة والنار مخلوقتان الآن، خلافا للمبتدعة. وفيهما الإيمان بالمعاد. وقوله: { أدخله الله الجنة على ما كان من العمل } ( ) هذه الجملة جواب الشرط وفي رواية: { أدخله الله من أي أبواب الجنة الثمانية شاء } ( ).
قال الحافظ: معنى قوله: " على ما كان من العمل " أي: من صلاح أو فساد، لأن أهل التوحيد لا بد لهم من دخول الجنة، ويحتمل أن يكون معنى قوله: على ما كان من العمل أن يدخل أهل الجنة على حسب أعمال كل منهم في الدرجات.
قال القاضي عياض: ما ورد في حديث عبادة يكون مخصوصا لمن قال ما ذكره وقرن بالشهادتين حقيقة الإيمان والتوحيد الذي ورد في حديثه، فيكون له من الأجر ما يرجح على سيئاته، ويوجب له المغفرة والرحمة ودخول الجنة لأول وهلة.
قال: ولهما في حديث عتبان { فإن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله } ( ).
قوله: (ولهما) أي: للبخاري ومسلم في صحيحيهما بكماله. وهذا طرف من حديث طويل أخرجه الشيخان.
و " عتبان " بكسر المهملة بعدها مثناة فوقية ثم موحدة: ابن مالك بن عمرو بن العجلان الأنصاري، من بني سالم بن عوف، صحابي مشهور، مات في خلافة معاوية.
وأخرج البخاري في صحيحه بسنده " عن قتادة قال: حدثنا أنس بن مالك { أن النبي - ومعاذ رديفه على الرحل ـ قال: يا معاذ، قال: لبيك يا رسول الله وسعديك. قال: يا معاذ، قال لبيك يا رسول الله وسعديك. قال: يا معاذ، قال: لبيك يا رسول الله وسعديك - ثلاثا - قال: ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صدقا من قلبه إلا حرمه الله تعالى على النار، قال: يا رسول الله أفلا أخبر به الناس فيستبشروا؟ قال: إذا يتكلوا، فأخبر بها معاذ عند موته تأثما } ( ) وساق بسند آخر: " حدثنا معتمر قال: سمعت أبي، قال: سمعت أنسا قال: ذكر لي أن النبي قال لمعاذ بن جبل: { من لقي الله لا يشرك به شيئا دخل الجنة. قال: ألا أبشر الناس؟ قال: لا، إني أخاف أن يتكلوا } ( ).
قلت: فتبين بهذا السياق معنى شهادة أن لا إله إلا الله، وأنها تتضمن ترك الشرك لمن قالها بصدق ويقين وإخلاص.
قال شيخ الإسلام وغيره: في هذا الحديث ونحوه أنها فيمن قالها ومات عليها، كما جاءت مقيدة بقوله: " خالصا من قلبه غير شاك فيها بصدق ويقين " فإن حقيقة التوحيد انجذاب الروح إلى الله تعالى جملة، فمن شهد أن لا إله إلا الله خالصا من قلبه دخل الجنة، لأن الإخلاص هو انجذاب القلب إلى الله تعالى بأن يتوب من الذنوب توبة نصوحا، فإذا مات على تلك الحال نال ذلك فإنه قد تواترت الأحاديث بأنه " يخرج من النار من قال لا إله إلا الله، وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة، وما يزن خردلة، وما يزن ذرة " وتواترت بأن كثيرا ممن يقول لا إله إلا الله يدخل النار ثم يخرج منها، وتواترت بأن الله حرم على النار أن تأكل أثر السجود من ابن آدم، فهؤلاء كانوا يصلون ويسجدون لله، وتواترت بأنه يحرم على النار من قال: لا إله إلا الله، ومن شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ولكن جاءت مقيدة بالقيود الثقال، وأكثر من يقولها لا يعرف الإخلاص، وأكثر من يقولها إنما يقولها تقليدا أو عادة، ولم تخالط حلاوة الإيمان بشاشة قلبه. وغالب من يفتن عند الموت وفي القبور أمثال هؤلاء، كما في الحديث " سمعت الناس يقولون شيئا فقلته " وغالب أعمال هؤلاء إنما هي تقليد واقتداء بأمثالهم، وهم من أقرب الناس من قوله تعالى { • } ( ) (الزخرف ـ 23).
وحينئذ فلا منافاة بين الأحاديث، فإنه إذا قالها بإخلاص ويقين تام لم يكن في هذه الحال مصرا على ذنب أصلا، فإن كان كمال إخلاصه ويقينه يوجب أن يكون الله أحب إليه من كل شيء، فإذا لا يبقى في قلبه إرادة لما حرم الله، ولا كراهة لما أمر الله. وهذا هو الذي يحرم على النار وإن كانت له ذنوب قبل ذلك، فإن هذا الإيمان وهذا الإخلاص، وهذه التوبة وهذه المحبة وهذا اليقين، لا تترك له ذنبا إلا محي عنه كما يمحو الليل النهار، فإذا قالها على وجه الكمال المانع من الشرك الأكبر والأصغر، فهذا غير مصر على ذنب أصلا، فيغفر له ويحرم على النار، وإن قالها على وجه خلص به من الشرك الأكبر دون الأصغر، ولم يأت بعدها بما يناقض ذلك، فهذه الحسنة لا يقاومها شيء من السيئات فيرجح بها ميزان الحسنات، كما في حديث البطاقة فيحرم على النار، ولكن تنقص درجته في الجنة بقدر ذنوبه، وهذا بخلاف من رجحت سيئاته بحسناته ومات مصرا على ذلك، فإنه يستوجب النار وإن قال لا إله إلا الله وخلص بها من الشرك الأكبر لكنه لم يمت على ذلك، بل أتى بعدها بسيئات رجحت على حسنة توحيده، فإنه في حال قولها كان مخلصا لكنه أتى بذنوب أوهنت ذلك التوحيد والإخلاص فأضعفته، وقويت نار الذنوب حتى أحرقت ذلك بخلاف المخلص المستيقن، فإن حسناته لا تكون إلا راجحة على سيئاته ولا يكون مصرا على سيئات، فإن مات على ذلك دخل الجنة.
وإنما يخاف على المخلص أن يأتي بسيئة راجحة فيضعف إيمانه فلا يقولها بإخلاص ويقين مانع من جميع السيئات، ويخشى عليه من الشرك الأكبر والأصغر، فإن سلم من الأكبر بقي معه من الأصغر، فيضيف إلى ذلك سيئات تنضم إلى هذا الشرك فيرجح جانب السيئات فإن السيئات تضعف الإيمان واليقين، فيضعف قول " لا إله إلا الله "، فيمتنع الإخلاص بالقلب، فيصير المتكلم بها كالهاذي أو النائم، أو من يحسن صوته بآية من القرآن من غير ذوق طعم وحلاوة، فهؤلاء لم يقولوها بكمال الصدق واليقين، بل يأتون بعدها بسيئات تنقض ذلك بل يقولونها من غير يقين وصدق ويموتون على ذلك، ولهم سيئات كثيرة تمنعهم من دخول الجنة.
فإذا كثرت الذنوب ثقل على اللسان قولها وقسا القلب عن قولها، وكره العمل الصالح وثقل عليه سماع القرآن، واستبشر بذكر غير الله، واطمأن إلى الباطل، واستحلى الرفث، ومخالطة أهل الغفلة، وكره مخالطة أهل الحق، فمثل هذا إذا قالها قال بلسانه ما ليس في قلبه، وبفيه ما لا يصدقه عمله.
قال الحسن: " ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكن ما وقر في القلوب وصدقته الأعمال. فمن قال خيرا وعمل خيرا قبل منه، ومن قال خيرا وعمل شرا لم يقبل منه ".
وقال بكر بن عبد الله المزني: " ما سبقهم أبو بكر بكثرة صيام ولا صلاة ولكن بشيء وقر في قلبه ".
فمن قال: لا إله إلا الله ولم يقم بموجبها بل اكتسب مع ذلك ذنوبا، وكان صادقا في قولها موقنا بها، لكن له ذنوب أضعفت صدقه ويقينه، وانضاف إلى ذلك الشرك الأصغر العملي، فرجحت هذه السيئات على هذه الحسنة، ومات مصرا على الذنوب، بخلاف من يقولها بيقين وصدق، فإنه إما أن لا يكون مصرا على سيئة أصلا، ويكون توحيده المتضمن لصدقه ويقينه رجح حسناته. والذين يدخلون النار ممن يقولها: إما أنهم لم يقولوها بالصدق واليقين التام المنافيين للسيئات أو لرجحانها، أو قالوها واكتسبوا بعد ذلك سيئات رجحت على حسناتهم، ثم ضعف لذلك صدقهم ويقينهم، ثم لم يقولوها بعد ذلك بصدق ويقين تام؛ لأن الذنوب قد أضعفت ذلك الصدق واليقين من قلوبهم، فقولها من مثل هؤلاء لا يقوى على محو السيئات فترجح سيئاتهم على حسناتهم. انتهى ملخصا.
وقد ذكر هذا كثير من العلماء كابن القيم وابن رجب وغيرهم.
قلت: وبما قرره شيخ الإسلام تجتمع الأحاديث.
قال: وفي الحديث دليل على أنه لا يكفي في الإيمان النطق من غير اعتقاد وبالعكس.
وفيه تحريم النار على أهل التوحيد الكامل، وفيه: أن العمل لا ينفع إلا إذا كان خالصا لوجه الله تعالى على ما شرعه على لسان رسوله .
(تنبيه) قال القرطبي في تذكرته: قوله في الحديث { من إيمان } أي: من أعمال الإيمان التي هي من أعمال الجوارح، فيكون فيه دلالة على أن الأعمال الصالحة من الإيمان، والدليل على أنه أراد بالإيمان ما قلناه، ولم يرد مجرد الإيمان الذي هو التوحيد ونفي الشركاء والإخلاص بقول لا إله إلا الله: ما في الحديث نفسه من قول " أخرجوا - ثم بعد ذلك يقبض سبحانه قبضة فيخرج قوما لم يعملوا خيرا قط " يريد بذلك: التوحيد المجرد من الأعمال. اهـ ملخصا من شرح سنن ابن ماجه.
قال المصنف -رحمه الله-: " وعن أبي سعيد الخدري عن رسول الله قال: قال موسى عليه السلام: { يا رب علمني شيئا أذكرك وأدعوك به، قال: قل يا موسى لا إله إلا الله. قال: يا رب كل عبادك يقولون هذا، قال: يا موسى لو أن السماوات السبع وعامرهن غيري والأرضين السبع في كفة، ولا إله إلا الله في كفة، مالت بهن لا إله إلا الله } رواه ابن حبان والحاكم وصححه ".
" أبو سعيد ": اسمه سعد بن مالك بن سنان بن عبد الأنصاري الخزرجي، صحابي جليل وأبوه كذلك، استصغر أبو سعيد بأحد وشهد ما بعدها، مات بالمدينة سنة ثلاث أو أربع أو خمس وستين وقيل سنة أربع وسبعين.
قوله: { أذكرك } أي: أثني عليك به و { أدعوك } أي: أسألك به.
قوله: { قل يا موسى لا إله إلا الله } فيه أن الذاكر بها يقولها كلها، ولا يقتصر على لفظ الجلالة، ولا على " هو " كما يفعله غلاة جهال المتصوفة، فإن ذلك بدعة وضلالة.
قوله: { كل عبادك يقولون هذا } ثبت بخط المصنف بالجمع، والذي في الأصول " يقول " بالإفراد مراعاة للفظة " كل " وهو في المسند من حديث عبد الله بن عمرو بلفظ الجمع كما ذكره المصنف على معنى " كل " ومعنى قوله { كل عبادك يقولون هذا } أي: إنما أريد شيئا تخصني به من بين عموم عبادك، وفي رواية بعد قوله { كل عبادك يقولون هذا - قل لا إله إلا الله، قال: لا إله إلا أنت يا رب، إنما أريد شيئا تخصني به }.
ولما كان بالناس - بل بالعالم كله - من الضرورة إلى لا إله إلا الله ما لا نهاية له، كانت من أكثر الأذكار وجودا، وأيسرها حصولا، وأعظمها معنى، والعوام والجهال يعدلون عنها إلى الدعوات المبتدعة التي ليست في الكتاب ولا في السنة.
قوله { وعامرهن غيري } هو بالنصب عطف على السماوات، أي: لو أن السماوات السبع ومن فيهن من العمار غير الله تعالى، والأرضين السبع ومن فيهن، وضعوا في كفة الميزان ولا إله إلا الله في الكفة الأخرى، مالت بهن لا إله إلا الله.
وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو عن النبي أن { نوحا عليه السلام قال لابنه عند موته: آمرك بلا إله إلا الله، فإن السماوات السبع والأرضين السبع لو وضعت في كفة، ولا إله إلا الله في كفة رجحت بهن لا إله إلا الله، ولو أن السماوات السبع والأرضين السبع كن حلقة مبهمة لقصمتهن لا إله إلا الله } ( ).
قوله: { في كفة } هو بكسر الكاف وتشديد الفاء، أي: كفة الميزان.
قوله: { مالت بهن } أي: رجحت. وذلك لما اشتملت عليه من نفي الشرك، وتوحيد الله الذي هو أفضل الأعمال، وأساس الملة والدين، فمن قالها بإخلاص ويقين، وعمل بمقتضاها ولوازمها وحقوقها، واستقام على ذلك، فهذه الحسنة لا يوازنها شيء، كما قال الله تعالى: { • } ( ) (الأحقاف ـ 13).
ودل الحديث على أن " لا إله إلا الله " أفضل الذكر، كحديث عبد الله بن عمرو مرفوعا: { خير الدعاء دعاء يوم عرفة وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير } ( ) رواه أحمد والترمذي، وعنه أيضا مرفوعا: { يصاح برجل من أمتي على رءوس الخلائق يوم القيامة فينشر له تسعة وتسعون سجلا، كل سجل منها مدى البصر ثم يقال: أتنكر من هذا شيئا؟ أظلمك كتبتي الحافظون فيقول: لا يا رب. فيقال: أفلك عذر أو حسنة؟ فيهاب الرجل فيقول: لا، فيقال: بلى إن لك عندنا حسنة وإنه لا ظلم عليك اليوم، فيخرج له بطاقة فيها: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله. فيقول يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فيقال: إنك لا تظلم، فتوضع السجلات في كفة، والبطاقة في كفة، فطاشت السجلات وثقلت البطاقة } ( ) رواه الترمذي ـ وحسنه ـ والنسائي وابن حبان والحاكم. وقال: صحيح على شرط مسلم، وقال الذهبي في تلخيصه: صحيح.
قال ابن القيم -رحمه الله-: فالأعمال لا تتفاضل بصورها وعددها، وإنما تتفاضل بتفاضل ما في القلوب، فتكون صورة العملين واحدة وبينهما من التفاضل كما بين السماء والأرض. قال: وتأمل حديث البطاقة التي توضع في كفة ويقابلها تسعة وتسعون سجلا كل سجل منها مدى البصر، فتثقل البطاقة وتطيش السجلات، فلا يعذب. ومعلوم أن كل موحد له هذه البطاقة وكثير منهم يدخل النار بذنوبه.
قوله: " رواه ابن حبان والحاكم " ابن حبان اسمه محمد بن حبان - بكسر المهملة وتشديد الموحدة - ابن أحمد بن حبان بن معاذ، أبو حاتم التميمي البُسْتي الحافظ صاحب التصانيف: كالصحيح، والتاريخ، والضعفاء، والثقات وغير ذلك. قال الحاكم: كان من أوعية العلم في الفقه واللغة والحديث والوعظ، ومن عقلاء الرجال. مات سنة أربع وخمسين وثلاثمائة بمدينة بست - بضم الموحدة وسكون المهملة.
وأما الحاكم فاسمه محمد بن عبد الله بن محمد النيسابوري أبو عبد الله الحافظ ويعرف بابن البيِّع ولد سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة، وصنف التصانيف، كالمستدرك وتاريخ نيسابور وغيرهما، ومات سنة خمس وأربعمائة.
قال المصنف -رحمه الله-: وللترمذي، وحسنه، عن أنس: سمعت رسول الله يقول: { قال الله تعالى: يا ابن آدم لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة } ( ):
ذكر المصنف -رحمه الله- الجملة الأخيرة من الحديث، وقد رواه الترمذي بتمامه فقال: " عن أنس قال: سمعت رسول الله يقول: { قال الله تبارك وتعالى: يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي، يا ابن آدم، إنك لو أتيتني } ( ) - الحديث ".
الترمذي: اسمه محمد بن عيسى بن سورة - بفتح المهملة - ابن موسى بن الضحاك السلمي أبو عيسى، صاحب الجامع وأحد الحفاظ، كان ضرير البصر، روى عن قتيبة وهناد والبخاري وخلق. مات سنة تسع وسبعين ومائتين.
و " أنس ": هو ابن مالك بن النضر الأنصاري الخزرجي، خادم رسول الله خدمه عشر سنين، وقال له: { اللهم أكثر ماله وولده وأدخله الجنة } ( ) مات سنة اثنتين -وقيل: ثلاث وتسعين- وقد جاوز المائة.
والحديث قد رواه الإمام أحمد من حديث أبي ذر بمعناه، وهذا لفظه { ومن عمل قراب الأرض خطيئة ثم لقيني لا يشرك بي جعلت له مثلها مغفرة } ( ) ورواه مسلم، وأخرجه الطبراني من حديث ابن عباس عن النبي .
قوله: { لو أتيتني بقراب الأرض } ( ) بضم القاف: وقيل بكسرها والضم أشهر وهو ملؤها أو ما يقارب ملأها.
قوله: { ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا } ( ) شرط ثقيل في الوعد بحصول المغفرة، وهو السلامة من الشرك: كثيره وقليله، صغيره وكبيره. ولا يسلم من ذلك إلا من سلم الله تعالى، وذلك هو القلب السليم كما قال تعالى: { } ( ).
قال ابن رجب: من جاء مع التوحيد بقراب الأرض خطايا لقيه الله بقرابها مغفرة - إلى أن قال - فإن كمل توحيد العبد وإخلاصه لله تعالى فيه، وقام بشروطه بقلبه ولسانه وجوارحه، أو بقلبه ولسانه عند الموت، أعقب ذلك مغفرة ما قد سلف من الذنوب كلها ومنعه من دخول النار بالكلية. فمن تحقق بكلمة التوحيد قلبه أخرجت منه كل ما سوى الله: محبة وتعظيما، وإجلالا ومهابة وخشية وتوكلا، وحينئذ تحرق ذنوبه وخطاياه كلها، وإن كانت مثل زبد البحر. اهـ ملخصا.
قال العلامة ابن القيم -رحمه الله تعالى- في معنى الحديث: ويعفى لأهل التوحيد المحض الذي لم يشوبوه بالشرك ما لا يعفى لمن ليس كذلك. فلو لقي الموحد الذي لم يشرك بالله شيئا ألبتة ربه بقراب الأرض خطايا أتاه بقرابها مغفرة، ولا يحصل هذا لمن نقص توحيده. فإن التوحيد الخالص الذي لا يشوبه شرك لا يبقى معه ذنب، لأنه يتضمن من محبة الله وإجلاله وتعظيمه، وخوفه ورجائه وحده ما يوجب غسل الذنوب ولو كانت قراب الأرض، فالنجاسة عارضة والدافع لها قوي. اهـ.
وفي هذا الحديث: كثرة ثواب التوحيد، وسعة كرم الله وجوده ورحمته والرد على الخوارج الذين يكفرون المسلم بالذنوب، وعلى المعتزلة القائلين بالمنزلة بين المنزلتين، وهي الفسوق، ويقولون ليس بمؤمن ولا كافر، ويخلد في النار. والصواب قول أهل السنة: أنه لا يسلب عنه اسم الإيمان، ولا يعطاه على الإطلاق، بل يقال هو مؤمن عاص، أو مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته. وعلى هذا يدل الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة. وعن عبد الله بن مسعود قال: { لما أسري برسول الله انتهي به إلى سدرة المنتهى، فأعطي ثلاثا: أعطي الصلوات الخمس، وخواتيم سورة البقرة، وغفر لمن لا يشرك بالله من أمته شيئا: المقحمات } ( ) رواه مسلم.
قال ابن كثير في تفسيره: وأخرج الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه والنسائي عن أنس بن مالك قال: { قرأ رسول الله هذه الآية:... { } ( ) (المدثر ـ 56) وقال: قال ربكم: أنا أهل أن أتقى فلا يجعل معي إله، فمن اتقى أن يجعل معي إلها كان أهلا أن أغفر له }.
قال المصنف -رحمه الله-: (تأمل الخمس اللواتي في حديث عبادة فإنك إذا جمعت بينه وبين حديث عتبان تبين لك معنى قوله: " لا إله إلا الله " وتبين لك خطأ المغرورين.
وفيه " أن الأنبياء يحتاجون للتنبيه على فضل لا إله إلا الله والتنبيه لرجحانها بجميع المخلوقات، مع أن كثيرا ممن يقولها يخف ميزانه. وفيه إثبات الصفات خلافا للمعطلة. وفيه: أنك إذا عرفت حديث أنس وقوله في حديث عتبان { إن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله } ( ) تبينت لك أن ترك الشرك في قولها باللسان فقط.
المسائل المستنبطة من هذا الباب
فيه مسائل:
الأولى: سعة فضل الله.
الثانية: كثرة ثواب التوحيد عند الله.
الثالثة: تكفيره مع ذلك للذنوب.
الرابعة: تفسير الآية (82) التي في سورة الأنعام.
الخامسة: تأمل الخمس اللواتي في حديث عبادة.
السادسة: أنك إذا جمعت بينه وبين حديث عتبان وما بعده تبين لك معنى قول: " لا إله إلا الله " وتبين لك خطأ المغرورين.
السابعة: التنبيه للشرط الذي في حديث عتبان.
الثامنة: كون الأنبياء يحتاجون للتنبيه على فضل لا إله إلا الله.
التاسعة: التنبيه لرجحانها بجميع المخلوقات، مع أن كثيرا ممن يقولها يخف ميزانه.
العاشرة: النص على أن الأرضين سبع كالسماوات.
الحادية عشرة: أن لهن عمارا.
الثانية عشرة: إثبات الصفات، خلافا للأشعرية.
الثالثة عشرة: أنك إذا عرفت حديث أنس، عرفت أن قوله في حديث عتبان: { فإن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله، يبتغي بذلك وجه الله } ( ) أن ترك الشرك، ليس قولها باللسان.
الرابعة عشرة: تأمل الجمع بين كون عيسى ومحمد عبدي الله ورسوليه.
الخامسة عشرة: معرفة اختصاص عيسى بكونه كلمة الله.
السادسة عشرة: معرفة كونه روحا منه.
السابعة عشرة: معرفة فضل الإيمان بالجنة والنار.
الثامنة عشرة: معرفة قوله: { على ما كان من العمل } ( ).
التاسعة عشرة: معرفة أن الميزان له كفتان.
العشرون: معرفة ذكر الوجه.
باب من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب
وقول الله تعالى : {• • } ( ) (النحل - 120) وقال: { } ( ) (المؤمنون - 95).
عن حصين بن عبد الرحمن قال: { كنت عند سعيد بن جبير فقال: أيكم رأى الكوكب الذي انقض البارحة؟ فقلت: أنا، ثم قلت: أما إني لم أكن في صلاة، ولكني لدغت، قال: فما صنعت؟ قلت: ارتقيت، قال: فما حملك على ذلك؟ قلت: حديث حدثناه الشعبي، قال: وما حدثكم؟ قلت: حدثنا عن بريدة بن الحصيب أنه قال: لا رقية إلا من عين أو حمة. قال: قد أحسن من انتهى إلى ما سمع. ولكن حدثنا ابن عباس عن النبي أنه قال: " عرضت علي الأمم، فرأيت النبي ومعه الرهط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد، إذ رفع لي سواد عظيم، فظننت أنهم أمتي، فقيل لي: هذا موسى وقومه، فنظرت فإذا سواد عظيم، فقيل لي: هذه أمتك ومعهم سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب. ثم نهض فدخل منزله. فخاض الناس في أولئك، فقال بعضهم: فلعلهم الذين صحبوا رسول الله . وقال بعضهم: فلعلهم الذين ولدوا في الإسلام فلم يشركوا بالله شيئا، وذكروا أشياء، فخرج عليهم رسول الله فأخبروه، فقال: هم الذين لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون.
فقام عكاشة بن محصن فقال: ادع الله أن يجعلني منهم. قال: أنت منهم، ثم قام رجل آخر فقال: ادع الله أن يجعلني منهم. فقال: سبقك بها عكاشة } ( ).
قوله: " باب من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب " أي: ولا عذاب.
قلت: تحقيقه تخليصه وتصفيته من شوائب الشرك والبدع والمعاصي.
قال الله تعالى: { • • } ( ) (النحل ـ 120) وصف إبراهيم -عليه السلام- بهذه الصفات التي هي الغاية في تحقيق التوحيد.
الأولى: أنه كان أمة، أي: قدوة وإماما معلما للخير. وما ذاك إلا لتكميله مقام الصبر واليقين اللذين تنال بهما الإمامة في الدين.
الثانية: قوله { } ( ) قال شيخ الإسلام: القنوت دوام الطاعة، والمصلي إذا أطال قيامه أو ركوعه أو سجوده فهو قانت. قال تعالى: { • } ( )... (الزمر ـ 9) اهـ ملخصا.
الثالثة: أنه كان حنيفا. قلت: قال العلامة ابن القيم " الحنيف " المقبل على الله، المعرض عن كل ما سواه. اهـ.
الرابعة: أنه ما كان من المشركين، أي: لصحة إخلاصه وكمال صدقه، وبعده عن الشرك.
قلت: يوضـح هـذا قـوله تعالى: { } ( ) ... (الممتحنة ـ 4) أي: على دينه من إخوانه المرسلين، قاله ابن جرير -رحمه الله تعالى-:... { • } ( )... (الممتحنة ـ 4) وذكر تعالى عن خليله -عليه السلام- أنه قال لأبيه آزر: { } ( ) (مريم ـ 48 - 49) فهذا هو تحقيق التوحيد. وهو البراءة من الشرك وأهله واعتزالهم، والكفر بهم وعداوتهم وبغضهم. فالله المستعان.
قال المصنف -رحمه الله- في هذه الآية: { • • } ( )... (النحل ـ 120) لئلا يستوحش سالك الطريق من قلة السالكين { } ( ) لا للملوك ولا للتجار المترفين { } ( ) لا يميل يمينا ولا شمالا، كفعل العلمـاء المفتـونين { } ( ) خلافا لمن كثر سوادهم وزعم أنه من المسلمين. اهـ.
وقد روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: { • • } ( ) على الإسلام. ولم يك في زمانه أحد على الإسلام غيره.
قلت: ولا منافاة بين هذا وبين ما تقدم: من أنه كان إماما يقتدى به في الخير.
قال: وقوله تعالى: {• } ( ) (المؤمنون 57ـ 59).
وصف المؤمنين السابقين إلى الجنة فأثنى عليهم بالصفات التي أعظمها: أنهم بربهم لا يشركون. ولما كان المرء قد يعرض له ما يقدح في إسلامه: من شرك جلي أو خفي، نفى ذلك عنهم، وهذا هو تحقيق التوحيد، الذي حسنت بهم أعمالهم وكملت ونفعتهم.
قلت: قوله " حسنت وكملت " هذا باعتبار سلامتهم من الشرك الأصغر، وأما الشرك الأكبر فلا يقال في تركه ذلك، فتدبر. ولو قال الشارح: صحت، لكان أقوم.
قال ابن كثير: { } ( ) (المؤمنون ـ 59) أي: لا يعبدون مع الله غيره، بل يوحدونه ويعلمون أنه لا إله إلا الله أحد صمد، لم يتخذ صاحبة ولا ولدا وأنه لا نظير له.
قال المصنف: عن حُصين بن عبد الله بن عبد الرحمن قال: { كنت عند سعيد بن جبير فقال: أيكم رأى الكوكب الذي انقض البارحة؟ فقلت: أنا، ثم قلت: أما إني لم أكن في صلاتي ولكني لدغت، قال: فما صنعت؟ قلت: ارتقيت. قال: فما حملك على ذلك؟ قلت: حديث حدثناه الشعبي، قال: وما حدثكم؟ قلت: حدثنا عن بريدة بن الحُصيب أنه قال: لا رقية إلا من عين أو حُمَة. قال: قد أحسن من انتهى إلى ما سمع، ولكن حدثنا ابن عباس عن النبي أنه قال: " عرضت علي الأمم، فرأيت النبي ومعه الرهط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد. إذ رفع لي سواد عظيم، فظننت أنهم أمتي، فقيل: هذا موسى وقومه، فنظرت فإذا سواد عظيم، فقيل لي: هذه أمتك ومعهم سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب ". ثم نهض فدخل منزله، فخاض الناس في أولئك، فقال بعضهم: فلعلهم الذين صحبوا رسول الله وقال بعضهم: فلعلهم الذين ولدوا في الإسلام، فلم يشركوا بالله شيئا، وذكروا أشياء، فخرج عليهم رسول الله فأخبروه، فقال: " هم الذين لا يسترقون، ولا يكتوون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون ". فقام عُكاشة بن مِحْصَن فقال: يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم. قال: أنت منهم ثم قام رجل آخر فقال: ادع الله أن يجعلني منهم. فقال: " سبقك بها عكاشة } ( ).
هكذا أورده المصنف غير معزو، وقد رواه البخاري مختصرا ومطولا، ومسلم، واللفظ له، والترمذي والنسائي.
قوله: عن " حصين بن عبد الرحمن " هو السلمي، أبو الهذيل الكوفي، ثقة، مات سنة ست وثلاثين ومائة، وله ثلاث وتسعون سنة.
و " سعيد بن جبير ": هو الإمام الفقيه من جلة أصحاب ابن عباس، روايته عن عائشة وأبي موسى مرسلة. وهو كوفي مولى لبني أسد، قتل بين يدي الحجاج سنة خمس وتسعين، ولم يكمل الخمسين.
قوله: { انقض } ( ) هو بالقاف والضاد المعجمة أي سقط. " والبارحة " هي أقرب ليلة مضت. قال أبو العباس ثعلب: يقال قبل الزوال: رأيت الليلة، وبعد الزوال: رأيت البارحة، وكذا قال غيره، وهي مشتقة من برح إذا زال.
قوله: { أما إني لم أكن في صلاة } ( ) قال في مغني اللبيب: أما بالفتح والتخفيف على وجهين: أحدهما: أن تكون حرف استفتاح بمنزلة ألا فإذا وقعت إن بعدها كسرت. الثاني: أن تكون بمعنى حقا أو أحق. وقال آخرون: هي كلمتان الهمزة للاستفهام، و " ما " اسم بمعنى شيء، أي: أذلك الشيء حق، فالمعنى أحق هذا؟ وهو الصواب و " ما " نصب على الظرفية، وهذه تفتح أن بعدها. انتهى.
والأنسب هنا هو الوجه الأول والقائل هو حصين، خاف أن يظن الحاضرون أنه رآه وهو يصلي، فنفى عن نفسه إبهام العبادة، وهذا يدل على فضل السلف وحرصهم على الإخلاص وبعدهم عن الرياء والتزين بما ليس فيهم.
وقوله: { ولكني لدغت } ( ) بضم أوله وكسر ثانيه. قال أهل اللغة: يقال لدغته العقرب وذوات السموم، إذا أصابته بسمها، وذلك بأن تأبره بشوكتها.
قوله: { قلت: ارتقيت }. لفظ مسلم " استرقيت " أي: طلبت من يرقيني.
قوله: { فما حملك على ذلك } ( ) فيه طلب الحجة على صحة المذهب.
وقوله: " حديث حدثناه الشعبي " اسمه: عامر بن شراحيل الهمداني، ولد في خلافة عمر، وهو من ثقات التابعين وفقهائهم مات سنة ثلاث ومائة.
قوله: " عن بريدة " بضم أوله وفتح ثانيه تصغير بردة. ابن الحصيب - بضم الحاء وفتح الصاد المهملتين - ابن الحارث الأسلمي، صحابي شهير. مات سنة ثلاث وستين. قاله ابن سعد.
قوله: { لا رقية إلا من عين أو حمة } ( ) وقد رواه أحمد وابن ماجه عنه مرفوعا. ورواه أحمد وأبو داود والترمذي عن عمران بن حصين به مرفوعا. قال الهيثمي: رجال أحمد ثقات.
والعين هي إصابة العائن غيره بعينه. والحمة - بضم المهملة وتخفيف الميم - سم العقرب وشبهها. قال الخطابي: ومعنى الحديث: لا رقية أشفى وأولى من رقية العين والحمة. وقد رقى النبي ورقي.
قوله: { قد أحسن من انتهى إلى ما سمع } ( ) أي: من أخذ بما بلغه من العلم وعمل به فقد أحسن بخلاف من يعمل بجهل، أو لا يعمل بما يعلم فإنه مسيء آثم. وفيه فضيلة علم السلف وحسن أدبهم.
قوله: " ولكن حدثنا ابن عباس " هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب، ابن عم النبي . دعا له فقال: { اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل } ( ) فكان كذلك. مات بالطائف سنة ثمان وستين.
قال المصنف -رحمه الله-: " وفيه عمق علم السلف لقوله: { قد أحسن من انتهى إلى ما سمع } ( ) ولكن كذا وكذا. فعلم أن الحديث الأول لا يخالف الثاني.
قوله: { عرضت علي الأمم } ( ) وفي الترمذي والنسائي من رواية عبثر بن القاسم عن حصين بن عبد الرحمن " أن ذلك كان ليلة الإسراء " قال الحافظ: فإن كان ذلك محفوظا كان فيه قوة لمن ذهب إلى تعدد الإسراء، وأنه وقع بالمدينة أيضا قلت: وفي هذا نظر.
قوله: { فرأيت النبي ومعه الرهط } ( ) والذي في صحيح مسلم " الرهيط " بالتصغير لا غير، وهم الجماعة دون العشرة، قاله النووي.
قوله: { والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد } ( ) فيه الرد على من احتج بالكثرة.
قوله: { إذ رفع لي سواد عظيم } ( ) المراد هنا الشخص الذي يرى من بعيد.
قوله: { فظننت أنهم أمتي } ( ) لأن الأشخاص التي ترى في الأفق لا يدرك منها إلا الصورة وفي صحيح مسلم { ولكن انظر إلى الأفق } ( ) " ولم يذكره المصنف، فلعله سقط في الأصل الذي نقل الحديث منه. والله أعلم.
قوله: { فقيل لي: هذا موسى وقومه } ( ) أي: موسى بن عمران، كليم الرحمن، وقومه: أتباعه على دينه من بني إسرائيل.
قوله: { فنظرت فإذا سواد عظيم فقيل لي: هذه أمتك ومعهم سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب } ( ) أي: لتحقيقهم التوحيد، وفي رواية ابن فضيل { ويدخل الجنة من هؤلاء من أمتك سبعون ألفا } ( ) وفي حديث أبي هريرة في الصحيحين { أنهم تضيء وجوههم إضاءة القمر ليلة البدر } ( ) وروى الإمام أحمد والبيهقي في حديث أبي هريرة " { فاستزدت ربي فزادني مع كل ألف سبعين ألفا } ( ) قال الحافظ: وسنده جيد.
قوله: { ثم نهض } ( ) أي: قام، قوله: { فخاض الناس في أولئك } ( ) خاض بالخاء والضاد المعجمتين وفي هذا إباحة المناظرة والمباحثة في نصوص الشرع على وجه الاستفادة وبيان الحق، وفيه عمق علم السلف لمعرفتهم أنهم لم ينالوا ذلك إلا بعمل، وفيه حرصهم على الخير، ذكره المصنف.
قوله: { فقال: هم الذين لا يسترقون } ( ) هكذا ثبت في الصحيحين وهو كذلك في حديث ابن مسعود في مسند أحمد. وفي رواية لمسلم { ولا يرقون } ( ) قال شيخ الإسلام ابن تيمية: هذه الزيادة وهم من الراوي، لم يقل النبي { ولا يرقون } ( ) وقد قال النبي وقد سئل عن الرقى { من استطاع منكم أن ينفع أخاه فلينفعه } ( ). وقال ": { لا بأس بالرقى ما لم تكن شركا } ( ) قال: وأيضا فقد " رقى جبريل النبي " و " رقى النبي أصحابه " قال: والفرق بين الراقي والمسترقي: أن المسترقي سائل مستعط ملتفت إلى غير الله بقلب، والراقي محسن. قال: وإنما المراد وصف السبعين ألفا بتمام التوكل، فلا يسألون غيرهم أن يرقيهم ولا يكويهم. وكذا قال ابن القيم.
قوله: { ولا يكتوون } ( ) أي: لا يسألون غيرهم أن يكويهم كما لا يسألون غيرهم أن يرقيهم، استسلاما للقضاء، وتلذذا بالبلاء.
قلت: والظاهر أن قوله { لا يكتوون } ( ) أعم من أن يسألوا ذلك أو يفعلوا ذلك باختيارهم. أما الكي في نفسه فجائز، كما في الصحيح عن جابر بن عبد الله " أن النبي { بعث إلى أبي بن كعب طبيبا، فقطع له عرقا وكواه } ( ).
وفي صحيح البخاري عن أنس { أنه كوى من ذات الجنب والنبي حي } ( ) وروى الترمذي وغيره عن أنس { أن النبي كوى أسعد بن زرارة من الشوكة} ( ).
وفي صحيح البخاري عن ابن عباس مرفوعا { الشفاء في ثلاث: شربة عسل، وشرطة محجم، وكية نار، وأنا أنهى أمتي عن الكي } ( ) وفي لفظ: " { وما أحب أن أكتوي } ( ).
قال ابن القيم -رحمه الله-: قد تضمنت أحاديث الكي أربعة أنواع، أحدها: فعله. والثاني: عدم محبته. والثالث: الثناء على من تركه. والرابع: النهي عنه. ولا تعارض بينها بحمد الله، فإن فعله يدل على جوازه، وعدم محبته له لا يدل على المنع منه. وأما الثناء على تاركه فيدل على أن تركه أولى وأفضل، وأما النهي عنه فعلى سبيل الاختيار والكراهة.
قوله: { ولا يتطيرون } ( ) أي: لا يتشاءمون بالطيور ونحوها. وسيأتي إن شاء الله تعالى بيان الطيرة وما يتعلق بها في بابها.
قوله: { وعلى ربهم يتوكلون } ( ) ذكر الأصل الجامع الذي تنوعت عنه هذه الأفعال والخصال وهو التوكل على الله، وصدق الالتجاء إليه، والاعتماد بالقلب عليه، الذي هو نهاية تحقيق التوحيد الذي يثمر كل مقام شريف: من المحبة والرجاء والخوف، والرضا به ربا وإلها، والرضا بقضائه.
واعلم أن الحديث لا يدل على أنهم لا يباشرون الأسباب أصلا، فإن مباشرة الأسباب في الجملة أمر فطري ضروري، لا انفكاك لأحد عنه، بل نفس التوكل: مباشرة لأعظم الأسباب كما قال تعالى:... { } ( )...(الطلاق: 3) أي: كافيه وإنما المراد أنهم يتركون الأمور المكروهة مع حاجتهم إليها، توكلا على الله تعالى، كالاكتواء والاسترقاء، فتركهم له لكونه سببا مكروها، لا سيما والمريض يتشبث - فيما يظنه سببا لشفائه - بخيط العنكبوت.
وأما مباشرة الأسباب والتداوي على وجه لا كراهة فيه، فغير قادح في التوكل، فلا يكون تركه مشروعا، لما في الصحيحين عن أبي هريرة مرفوعا { ما أنزل الله من داء إلا أنزل له شفاء، علمه من علمه، وجهله من جهله }. وعن أسامة بن شريك قال: { كنت عند النبي وجاءت الأعراب، فقالوا: يا رسول الله أنتداوى؟ قال: نعم. يا عباد الله تداووا، فإن الله لم يضع داء إلا وضع له شفاء، غير داء واحد. قالوا: وما هو؟ قال: الهرم } ( ) رواه أحمد.
وقال ابن القيم -رحمه الله تعالى-: وقد تضمنت هذه الأحاديث إثبات الأسباب والمسببات، وإبطال قول من أنكرها، والأمر بالتداوي، وأنه لا ينافي التوكل، كما لا ينافيه دفع ألم الجوع والعطش، والحر والبرد: بأضدادها، بل لا تتم حقيقة التوحيد إلا بمباشرة الأسباب التي نصبها الله تعالى مقتضية لمسبباتها قدرا وشرعا، وأن تعطيلها يقدح في نفس التوكل، كما يقدح في الأمر والحكمة. ويضعفه من حيث يظن معطلها أن تركها أقوى في التوكل، فإن تركها عجز ينافي التوكل الذي حقيقته اعتماد القلب على الله تعالى في حصول ما ينفع العبد في دينه ودنياه، ودفع ما يضره في دينه ودنياه. ولا بد مع هذا الاعتماد من مباشرة الأسباب، وإلا كان معطلا للحكمة والشرع، فلا يجعل العبد عجزه توكلا ولا توكله عجزا.
وقد اختلف العلماء في التداوي هل هو مباح، وتركه أفضل، أو مستحب أو واجب؟
فالمشهور عن أحمد الأول، لهذا الحديث وما في معناه، والمشهور عند الشافعية الثاني، حتى ذكر النووي في شرح مسلم: أنه مذهبهم ومذهب جمهور السلف وعامة الخلف، واختاره الوزير أبو المظفر. قال: ومذهب أبي حنيفة أنه مؤكد حتى يداني به الواجب. قال: ومذهب مالك أنه يستوي فعله وتركه فإنه قال: لا بأس بالتداوي ولا بأس بتركه.
وقال شيخ الإسلام: ليس بواجب عند جماهير الأئمة وإنما أوجبه طائفة قليلة من أصحاب الشافعي وأحمد.
فقوله: { فقام عكاشة بن محصن } ( ) هو بضم العين وتشديد الكاف، ومحصن بكسر الميم وسكون الحاء وفتح الصاد المهملتين - ابن حُرثان - بضم المهملة وسكون الراء بعدها مثلثة - الأسدي: من بني أسد بن خزيمة. كان من السابقين إلى الإسلام ومن أجمل الرجال، هاجر وشهد بدرا وقاتل فيها، واستشهد في قتال الردة مع خالد بن الوليد بيد طليحة الأسدي سنة اثنتي عشرة، ثم أسلم طليحة بعد ذلك وجاهد الفرس يوم القادسية مع سعد بن أبي وقاص، واستشهد في وقعة نهاوند المشهورة سنة 21هـ.
قوله: { فقال: يا رسول الله، ادع الله أن يجعلني منهم، قال: أنت منهم } ( ) وللبخاري في رواية: { فقال: اللهم اجعله منهم } ( ) وفيه: طلب الدعاء من الفاضل.
قوله: { فقال: سبقك بها عكاشة } ( ) قال القرطبي: لم يكن عند الثاني من الأحوال ما كان عند عكاشة، فلذلك لم يجبه، إذ لو أجابه لجاز أن يطلب ذلك كل من كان حاضرا فيتسلسل الأمر، فسد الباب بقوله ذلك. اهـ.
قال المصنف -رحمه الله تعالى-: وفيه استعمال المعاريض وحسن خلقه .
المسائل المستنبطة من هذا الباب
فيه مسائل:
الأولى: معرفة مراتب الناس في التوحيد.
الثانية: ما معنى تحقيقه.
الثالثة: ثناؤه سبحانه على إبراهيم بكونه لم يك من المشركين.
الرابعة: ثناؤه على سادات الأولياء بسلامتهم من الشرك.
الخامسة: كون ترك الرقية والكي من تحقيق التوحيد.
السادسة: كون الجامع لتلك الخصال هو التوكل.
السابعة: عمق علم الصحابة لمعرفتهم أنهم لم ينالوا ذلك إلا بعمل.
الثامنة: حرصهم على الخير.
التاسعة: فضيلة هذه الأمة بالكمية والكيفية.
العاشرة: فضيلة أصحاب موسى.
الحادية عشرة: عرض الأمم عليه، عليه الصلاة والسلام.
الثانية عشرة: أن كل أمة تحشر وحدها مع نبيها.
الثالثة عشرة: قلة من استجاب للأنبياء.
الرابعة عشرة: أن من لم يجبه أحد يأتي وحده.
الخامسة عشرة: ثمرة هذا العلم، وهو عدم الاغتـرار بالكثـرة، وعـدم الزهد في القلة.
السادسة عشرة: الرخصة في الرقية من العين والحمة.
السابعة عشرة: عمق علم السلف لقوله: { قد أحسن من انتهى إلى ما سمع، ولكن كذا وكذا } ( ) فعلم أن الحديث الأول لا يخالف الثاني.
الثامنة عشرة: بعد السلف عن مدح الإنسان بما ليس فيه.
التاسعة عشرة: { قوله أنت منهم } علم من أعلام النبوة.
العشرون: فضيلة عكاشة.
الحادية والعشرون: استعمال المعاريض.
الثانية والعشرون: حسن خلقه .
باب الخوف من الشرك
قول الله { • } ( ) (النساء - 48، 116).
وقال الخليل عليه السلام{ }( ) (إبراهيم:35).
وفي الحديث: { أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر، فسئل عنه فقال: الرياء } ( ).
وعن ابن مسعود أن رسول الله قال: { من مات وهو يدعو من دون الله ندا دخل النار } ( ) رواه البخاري.
ولمسلم عن جابر أن رسول الله قال: { من لقي الله لا يشرك به شيئا دخل الجنة، ومن لقيه يشرك به شيئا دخل النار } ( ).
قوله: (باب الخوف من الشرك)
وقول الله تعالى{• }( ) (النساء ـ 48، 116).
قال ابن كثير: أخبر تعالى أنه... { } ( )... أي: لا يغفر لعبد لقيه وهو مشرك... { } ( )... أي: من الذنوب لمن يشاء من عباده. انتهى.
فتبين بهذه الآية أن الشرك أعظم الذنوب، لأن الله تعالى أخبر أنه لا يغفره لمن لم يتب منه، وما دونه من الذنوب فهو داخل تحت المشيئة: إن شاء غفره لمن لقيه به، وإن شاء عذبه به، وذلك يوجب للعبد شدة الخوف من الشرك الذي هذا شأنه عند الله، لأنه أقبح القبيح وأظلم الظلم، وتنقص لرب العالمين، وصرف خالص حقه لغيره وعدل غيره به، كما قال تعالى:... { } ( ) (الأنعام ـ 1) ولأنه مناقض للمقصود بالخلق والأمر، مناف له من كل وجه، وذلك غاية المعاندة لرب العالمين، والاستكبار عن طاعته، والذل له، والانقياد لأوامره الذي لا صلاح للعالم إلا بذلك، فمتى خلا منه خرب وقامت القيامة، كما قال { لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض الله الله } ( ) رواه مسلم. ولأن الشرك تشبيه للمخلوق بالخالق تعالى وتقدس في خصائص الإلهية: من ملك الضر والنفع، والعطاء والمنع، الذي يوجب تعلق الدعاء والخوف والرجاء، والتوكل وأنواع العبادة كلها بالله وحده، فمن علق ذلك بمخلوق فقد شبهه بالخالق وجعل من لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا، شبيها بمن له الحمد كله، وله الخلق كله، وله الملك كله، وإليه يرجع الأمر كله، وبيده الخير كله، فأزمة الأمور كلها بيده سبحانه ومرجعها إليه، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن. لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع، الذي إذا فتح للناس رحمة فلا ممسك لها، وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم. فأقبح التشبيه تشبيه العاجز الفقير بالذات: بالقادر الغني بالذات. ومن خصائص الإلهية: الكمال المطلق من جميع الوجوه، الذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه. وذلك يوجب أن تكون العبادة كلها له وحده، والتعظيم والإجلال، والخشية والدعاء، والرجاء والإنابة والتوكل والتوبة والاستعانة، وغاية الحب مع غاية الذل: كل ذلك يجب عقلا وشرعا وفطرة أن يكون لله وحده، ويمتنع عقلا وشرعا وفطرة أن يكون لغيره. فمن فعل شيئا من ذلك لغيره فقد شبه ذلك الغير بمن لا شبيه له ولا مثيل له، ولا ند له، وذلك أقبح التشبيه وأبطله. فلهذه الأمور وغيرها أخبر سبحانه وتعالى أنه لا يغفره، مع أنه كتب على نفسه الرحمة. هذا معنى كلام ابن القيم -رحمه الله-.
وفي الآية رد على الخوارج المكفرين بالذنوب. وعلى المعتزلة القائلين بأن أصحاب الكبائر يخلدون في النار، وليسوا عندهم بمؤمنين ولا كفار.
ولا يجوز أن يحمل قوله:... { } ( )... على التائب، فإن التائب من الشرك مغفور له كما قال تعالى: { • • } ( )... (الزمر ـ 53) فهنا عمم وأطلق؛ لأن المراد به التائب، وهناك خص وعلق؛ لأن المراد به من لم يتب. هذا ملخص قول شيخ الإسلام.
قوله: " وقال الخليل عليه السلام: { } ( ) (إبراهيم ـ 35): الصنم ما كان منحوتا على صورة، والوثن ما كان موضوعا على غير ذلك. ذكره الطبري عن مجاهد.
قلت: وقد يسمى الصنم وثنا كما قال الخليل عليه السلام: { } ( )... (العنكبوت ـ 17) ويقال: إن الوثن أعم، وهو قوي، فالأصنام أوثان، كما أن القبور أوثان.
قوله:... { } ( ) (إبراهيم ـ 35) أي: اجعلني وبني في جانب عن عبادة الأصنام، وباعد بيننا وبينها. وقد استجاب الله تعالى دعاءه، وجعل بنيه أنبياء، وجنبهم عبادة الأصنام. وقد بين ما يوجب الخوف من ذلك بقوله: { • •• } ( )... (إبراهيم ـ 36) فإنه هو الواقع في كل زمان. فإذا عرف الإنسان أن كثيرا وقعوا في الشرك الأكبر وضلوا بعبادة الأصنام: أوجب ذلك خوفه من أن يقع فيما وقع فيه الكثير من الشرك الذي لا يغفره الله.
قال إبراهيم التيمي: من يأمن البلاء بعد إبراهيم؟ رواه ابن جرير وابن أبي حاتم.
فلا يأمن الوقوع في الشرك إلا من هو جاهل به وبما يخلصه منه: من العلم بالله وبما بعث به رسوله من توحيده، والنهي عن الشرك به.
قال المصنف: وفي الحديث: { أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر، فسئل عنه؟ فقال: الرياء } ( ).
أورد المصنف هذا الحديث مختصرا غير معزو. وقد رواه الإمام أحمد والطبراني والبيهقي، وهذا لفظ أحمد: حدثنا يونس حدثنا ليث عن يزيد - يعنى ابن الهاد - عن عمرو عن محمود بن لبيد: أن رسول الله قال: { إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر. قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال: الرياء. يقول الله تعالى يوم القيامة، إذا جازى الناس بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم جزاء } ( ) ؟ ".
قال المنذري: ومحمود بن لبيد رأى النبي ولم يصح له منه سماع فيما أرى. وذكر ابن أبي حاتم أن البخاري قال: له صحبة، ورجحه ابن عبد البر والحافظ. وقد رواه الطبراني بأسانيد جيدة عن محمود بن لبيد عن رافع بن خديج. مات محمود سنة ست وتسعين. وقيل سنة سبع وتسعين وله تسع وتسعون سنة.
قول: { إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر } ( ) هذا من شفقته بأمته ورحمته ورأفته بهم، فلا خير إلا دلهم عليهم وأمرهم به، ولا شر إلا بينه لهم وأخبرهم به ونهاهم عنه، كما قال فيما صح عنه: { ما بعث الله من نبي إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم } ( )... " الحديث، فإذا كان الشرك الأصغر مخوفا على أصحاب رسول الله مع كمال علمهم وقوة إيمانهم، فكيف لا يخافه وما فوقه من هو دونهم في العلم والإيمان بمراتب؟ خصوصا إذا عرف أن أكثر علماء الأمصار اليوم لا يعرفون من التوحيد إلا ما أقر به المشركون، وما عرفوا معنى الإلهية التي نفتها كلمة الإخلاص عن كل ما سوى الله.
وأخرج أبو يعلى وابن المنذر عن حذيفة بن اليمان عن أبي بكر عن النبي قال: { الشرك أخفى من دبيب النمل ". قال أبو بكر: يا رسول الله، وهل الشرك إلا ما عبد من دون الله أو ما دعي مع الله؟ قال: ثكلتك أمك، الشرك فيكم أخفى من دبيب النمل } الحديث. وفيه: { أن تقول: أعطاني الله وفلان، والند أن يقول الإنسان: لولا فلان لقتلني فلان } اهـ. من الدر.
قال المصنف: وعن ابن مسعود أن رسول الله قال: { من مات وهو يدعو لله ندا دخل النار } ( ) رواه البخاري.
قال ابن القيم -رحمه الله-: الند الشبيه، يقال: فلان ند فلان، ونديده، أي مثله وشبيهه اهـ.
قال تعالى:... { } ( ) (البقرة ـ 22).
قوله: { من مات وهو يدعو لله ندا } ( ) أي: يجعل لله ندا في العبادة يدعوه ويسأله ويستغيث به دخل النار. قال العلامة ابن القيم -رحمه الله-: أي: يجعل لله ندا في العبادة يدعوه ويسأله ويستغيث به دخل النار. قال العلامة ابن القيم -رحمه الله-:
ذا الـقسم يقـابـل الغفـران
ـا كـان مـن حجـر ومـن إنسان
ويـحـبـه كمحـبـة الـديـان
والشرك فاحذره، فشرك ظاهر
وهو اتخاذ الند للرحمن أيـ
يدعوه أو يرجوه ثم يخافه
واعلم أن اتخاذ الند على قسمين:
الأول: أن يجعله لله شريكا في أنواع العبادة أو بعضها كما تقدم، وهو شرك أكبر.
والثاني: ما كان من نوع الشرك الأصغر كقول الرجل: ما شاء الله وشئت، ولولا الله وأنت. وكيسير الرياء، فقد ثبت أن النبي لما قال له رجل: { ما شاء الله وشئت، قال: " أجعلتني لله ندا؟ " بل ما شاء الله وحده } ( ) رواه أحمد وابن أبي شيبة والبخاري في الأدب المفرد والنسائي وابن ماجه. وقد تقدم حكمه في باب فضل التوحيد.
وفيه: بيان أن دعوة غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله شرك جلي، كطلب الشفاعة من الأموات، فإنها ملك لله تعالى وبيده، ليس بيد غيره منها شيء، وهو الذي يأذن للشفيع أن يشفع فيمن لاقى الله بالإخلاص والتوحيد من أهل الكبائر. كما يأتي تقريره في باب الشفاعة إن شاء الله تعالى.
قال المصنف -رحمه الله تعالى-: ولمسلم عن جابر أن رسول الله قال: { من لقي الله لا يشرك به شيئا دخل الجنة. ومن لقيه يشرك به شيئا دخل النار } ( ) .
" جابر ": هو ابن عبد الله بن عمرو بن حرام - بمهملتين - الأنصاري ثم السلمي - بفتحتين - صحابي جليل هو وأبوه، ولأبيه مناقب مشهورة -رضي الله عنهما- مات بالمدينة بعد السبعين، وقد كف بصره، وله أربع وتسعون سنة.
قوله: { من لقي الله لا يشرك به شيئا } ( ) قال القرطبي: أي: لم يتخذ معه شريكا في الإلهية، ولا في الخلق، ولا في العبادة، ومن المعلوم من الشرع المجمع عليه عند أهل السنة: أن من مات على ذلك فلا بد له من دخول الجنة، وإن جرت عليه قبل ذلك أنواع من العذاب والمحنة. وأن من مات على الشرك لا يدخل الجنة ولا يناله من الله رحمة، ويخلد في النار أبد الآباد، من غير انقطاع عذاب ولا تصرم آماد.
وقال النووي: أما دخول المشرك النار فهو على عمومه، فيدخلها ويخلد فيها، ولا فرق فيه بين الكتابي اليهودي والنصراني، وبين عبدة الأوثان وسائر الكفرة، ولا فرق عند أهل الحق بين الكافر عنادا وغيره، ولا بين من خالف ملة الإسلام وبين من انتسب إليها ثم حكم بكفره بجحده وغير ذلك. وأما دخول من مات غير مشرك الجنة فهو مقطوع له به. لكن إن لم يكن صاحب كبيرة مات مصرا عليها دخل الجنة أولا، وإن كان صاحب كبيرة مات مصرا عليها فهو تحت المشيئة. فإن عفا الله عنه دخل الجنة أولا، وإلا عذب في النار ثم أخرج من النار وأدخل الجنة.
وقال غيره: اقتصر على نفي الشرك لاستدعائه التوحيد بالاقتضاء واستدعائه إثبات الرسالة باللزوم. إذ من كذب رسل الله فقد كذب الله، ومن كذب الله فهو مشرك، وهو كقولك: من توضأ صحت صلاته. أي: مع سائر الشروط، فالمراد: من مات حال كونه مؤمنا بجميع ما يجب الإيمان به: إجمالا في الإجمالي، وتفصيلا في التفصيلي. انتهى.
المسائل المستنبطة من هذا الباب
فيه مسائل:
الأولى: الخوف من الشرك.
الثانية: أن الرياء من الشرك.
الثالثة: أنه من الشرك الأصغر.
الرابعة: أنه أخوف ما يخاف منه على الصالحين.
الخامسة: قرب الجنة والنار.
السادسة: الجمع بين قربهما في حديث واحد.
السابعة: أنه من لقيه لا يشرك به شيئا دخل الجنة. ومن لقيه يشرك به شيئا دخل النار ولو كان من أعبد الناس.
الثامنة: المسألة العظيمة: سؤال الخليل له ولبنيه وقاية عبادة الأصنام.
التاسعة: اعتباره بحال الأكثر لقوله { • ••} ( ) ... (إبراهيم - 36).
العاشرة: فيه تفسير " لا إله إلا الله " كما ذكره البخاري.
الحادية عشرة: فضيلة من سلم من الشرك.
باب الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله
وقول الله تعالى: { • } ( ) (يوسف - 108).
عن ابن عباس رضي الله عنهما { أن رسول الله لما بعث معاذا إلى اليمن قال له: إنك تأتي قوما من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله ـ وفي رواية: إلى أن يوحدوا الله ـ فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوك لذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب } ( ) أخرجاه.
ولهما عن سهل بن سعد { أن رسول الله قال يوم خيبر: " لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، يفتح الله على يديه، فبات الناس يدوكون ليلتهم: أيهم يعطاها؟ فلما أصبحوا غدوا على رسول الله كلهم يرجو أن يعطاها. فقال: أين علي بن أبي طالب؟ فقيل: هو يشتكي عينيه، فأرسلوا إليه، فأتي به فبصق في عينيه، ودعا له فبرأ كأن لم يكن به وجع، فأعطاه الراية فقال: انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه، فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا، خير لك من حمر النعم } ( ) " يدوكون " أي يخوضون.
قوله: " باب الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله "
لما ذكر المصنف -رحمه الله- التوحيد وفضله، وما يوجب الخوف من ضده، نبه بهذه الترجمة على أنه لا ينبغي لمن عرف ذلك أن يقتصر على نفسه، بل يجب عليه أن يدعو إلى الله تعالى بالحكمة والموعظة الحسنة. كما هو سبيل المرسلين وأتباعهم كما قال الحسن البصري لما تلا قوله تعالى: { } ( ) (فصلت ـ 33) فقال: " هذا حبيب الله، هذا ولي الله، هذا صفوة الله، هذا خيرة الله، هذا أحب أهل الأرض إلى الله، أجاب الله في دعوته. ودعا الناس إلى ما أجاب الله فيه من دعوته، وعمل صالحا في إجابته، وقال: إنني من المسلمين. هذا خليفة الله ".
قال -رحمه الله-: وقوله: { • } ( ) (يوسف ـ 108).
قال أبو جعفر بن جرير: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد (قل) يا محمد (هذه) الدعوة التي أدعو إليها، والطريقة التي أنا عليها، من الدعاء إلى توحيد الله، وإخلاص العبادة له دون الآلهة والأوثان. والانتهاء إلى طاعته وترك معصيته (سبيلي) طريقتي، ودعوتي (أدعو إلى الله) تعالى وحده لا شريك له (على بصيرة) بذلك، ويقين علم مني به (أنا و) ويدعو إليه على بصيرة أيضا من اتبعني وصدقني وآمن بي (وسبحان الله) يقول له تعالى ذكره: وقل تنزيها لله تعالى وتعظيما له من أن يكون له شريك في ملكه أو معبود سواه في سلطانه (وما أنا من المشركين) يقول: وأنا بريء من أهل الشرك به. لست منهم ولا هم مني. انتهى.
قال في شرح المنازل: يريد أن تصل باستدلالك إلى أعلى درجات العلم وهي البصيرة التي تكون نسبة المعلوم فيها إلى القلب كنسبة المرئي إلى البصر، وهذه هي الخصيصة التي اختص بها الصحابة عن سائر الأمة وهي أعلى درجات العلماء. قال تعالى: { • } ( )... أي: أنا وأتباعي على بصيرة. وقيل (من اتبعني) عطف على المرفوع في (أدعو) أي أنا أدعو إلى الله تعالى على بصيرة، ومن اتبعني كذلك يدعو إلى الله تعالى على بصيرة، وعلى القولين: فالآية تدل على أن أتباعه هم أهل البصائر الداعون إلى الله تعالى، ومن ليس منهم فليس من أتباعه على الحقيقة والموافقة، وإن كان من أتباعه على الانتساب والدعوى.
قال المصنف -رحمه الله-: (فيه مسائل: منها التنبيه على الإخلاص لأن الكثير ولو دعا إلى الحق فهو يدعو إلى نفسه، ومنها: أن البصيرة من الفرائض. ومنها: أن من دلائل حسن التوحيد أنه تنزيه لله تعالى عن المسبة. ومنها أن من قبح الشرك كونه مسبة لله تعالى. ومنها إبعاد المسلم عن المشركين لا يصير منهم ولو لم يشرك).
وقال العلامة ابن القيم -رحمه الله تعالى- في معنى قوله تعالى: { } ( )... (النحل ـ 125). ذكر سبحانه مراتب الدعوة وجعلها ثلاثة أقسام بحسب حال المدعو: فإنه إما أن يكون طالبا للحق محبا له. مؤثرا له على غيره إذا عرفه. فهذا يدعى بالحكمة. ولا يحتاج إلى موعظة وجدال. وإما أن يكون مشتغلا بضد الحق، لكن لو عرفه آثره واتبعه، فهذا يحتاج إلى الموعظة بالترغيب والترهيب. وإما أن يكون معاندا معارضا، فهذا يجادل بالتي هي أحسن. فإن رجع وإلا انتقل معه إلى الجدال إن أمكن. انتهى.
قال: وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- { أن رسول الله لما بعث معاذا إلى اليمن قال: " إنك تأتي قوما من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله - وفي رواية: إلى أن يوحدوا الله - فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة. فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم. فإن هم أطاعوك لذلك فإياك وكرائم أموالهم. واتق دعوة المظلوم. فإنه ليس بينها وبين الله حجاب } ( ) أخرجاه.
قال الحافظ: كان بعث معاذ إلى اليمن سنة عشر، قبل حج النبي كما ذكره المصنف - يعني البخاري في أواخر المغازي - وقيل: كان ذلك في آخر سنة تسع عند منصرفه من تبوك. رواه الواقدي بإسناد إلى كعب بن مالك. وأخرجه ابن سعد في الطبقات عنه، واتفقوا على أنه لم يزل على اليمن إلى أن قدم في خلافة أبي بكر ثم توجه إلى الشام فمات بها.
قال شيخ الإسلام: ومن فضائل معاذ أنه بعثه إلى اليمن مبلغا عنه. ومفقها ومعلما وحاكما.
قوله { إنك تأتي قوما من أهل الكتاب } ( ) قال القرطبي: يعني اليهود والنصارى؛ لأنهم كانوا في اليمن أكثر من مشركي العرب أو أغلب، وإنما نبه على ذلك ليتهيأ لمناظرتهم.
وقال الحافظ: هو كالتوطئة للوصية لجمع همته عليها.
قوله { فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله } ( ) " شهادة " رفع على أنه اسم " يكن " مؤخر. وأول خبرها مقدم. ويجوز العكس.
قوله: { وفي رواية: إلى أن يوحدوا الله } ( ) هذه الرواية ثابتة في كتاب التوحيد من صحيح البخاري. وأشار المصنف بذكر هذه الرواية إلى التنبيه على معنى شهادة أن لا إله إلا الله فإن معناها توحيد الله بالعبادة ونفي عبادة ما سواه. وفي رواية { فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله } ( ) وذلك هو الكفر بالطاغوت والإيمان بالله، كما قال تعالى:... { } ( )... (البقرة ـ 256) والعروة الوثقى هي (لا إله إلا الله) وفي رواية للبخاري { فقال: ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله } ( ).
قلت: لا بد في شهادة أن لا إله إلا الله من سبعة شروط، لا تنفع قائلها إلا باجتماعها، أحدها: العلم المنافي للجهل. الثاني: اليقين المنافي للشك. الثالث: القبول المنافي للرد. الرابع: الانقياد المنافي للترك. الخامس: الإخلاص المنافي للشرك. السادس: الصدق المنافي للكذب. السابع: المحبة المنافية لضدها.
وفيه دليل على أن التوحيد - الذي هو إخلاص العبادة لله وحده لا شريك له وترك عبادة ما سواه - هو أول واجب. ولهذا كان أول ما دعت إليه الرسل -عليهم السلام-:... { } ( )... وقال نوح:... { } ( )... وفيه معنى " لا إله إلا الله " مطابقة.
قال شيخ الإسلام: وقد علم بالاضطرار من دين الرسول واتفقت عليه الأمة أن أصل الإسلام وأول ما يؤمر به الخلق: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، فبذلك يصير الكافر مسلما، والعدو وليا، والمباح دمه وماله معصوم الدم والمال. ثم إن كان ذلك من قلبه فقد دخل في الإيمان وإن قاله بلسانه دون قلبه فهو في ظاهر الإسلام دون باطن الإيمان. قال: وأما إذا لم يتكلم بها مع القدرة فهو كافر باتفاق المسلمين باطنا وظاهرا، عند سلف الأمة وأئمتها وجماهير العلماء. اهـ.
قال المصنف -رحمه الله تعالـى-: وفيه أن الإنسان قد يكون عالما وهو لا يعرف معنى " لا إله إلا الله " أو يعرفه ولا يعمل به.
قلت: فما أكثر هؤلاء - لا كثرهم الله تعالى.
قوله: { فإن هم أطاعوك لذلك } ( ) أي: شهدوا وانقادوا لذلك (فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات) فيه: أن الصلاة أعظم واجب بعد الشهادتين. قال النووي ما معناه: أنه يدل على أن المطالبة بالفرائض في الدنيا لا تكون إلا بعد الإسلام. ولا يلزم من ذلك أن لا يكونوا مخاطبين بها، ويزاد في عذابهم بسببها في الآخرة. والصحيح: أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة المأمور به والمنهي عنه. وهذا قول الأكثرين. اهـ.
قوله {فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم} ( ) .
فيه دليل على أن الزكاة أوجب الأركان بعد الصلوات، وأنها تؤخذ من الأغنياء وتصرف إلى الفقراء، وإنما خص النبي الفقراء لأن حقهم في الزكاة آكد من حق بقية الأصناف الثمانية.
وفيه: أن الإمام هو الذي يتولى قبض الزكاة وصرفها: إما بنفسه أو نائبه، فمن امتنع عن أدائها إليه أخذت منه قهرا.
وفي الحديث: دليل على أنه يكفي إخراج الزكاة في صنف واحد، كما هو مذهب مالك وأحمد.
وفيه: أنه لا يجوز دفعها إلى غني، ولا إلى كافر غير المؤلف، وأن الزكاة واجبة في مال الصبي والمجنون، كما هو قول الجمهور، لعموم الحديث.
قلت: والفقير إذا أُفرد في اللفظ تناول المسكين وبالعكس، كنظائره. كما قرره شيخ الإسلام.
قوله { فإياك وكرائم أموالهم } ( ) بنصب " كرائم " على التحذير، جمع كريمة. قال صاحب المطالع: هي الجامعة للكمال الممكن في حقها: من غزارة لبن، وجمال صورة، وكثرة لحم وصوف. ذكره النووي. قلت: وهي خيار المال وأنفسه وأكثره ثمنا.
وفيه: أنه يحرم على العامل في الزكاة أخذ كرائم المال، ويحرم على صاحب المال إخراج شرار المال. بل يخرج الوسط، فإن طابت نفسه بالكريمة جاز.
قوله: { واتق دعوة المظلوم } ( ) أي: اجعل بينك وبينها وقاية بالعدل وترك الظلم، وهذان الأمران يقيان من رزقهما من جميع الشرور دنيا وأخرى.
وفيه: تنبيه على التحذير من جميع أنواع الظلم.
قوله: " فإنه " أي: الشأن { ليس بينها وبين الله حجاب } ( ) هذه الجملة مفسرة لضمير الشأن، أي: لا تحجب عن الله فيقبلها.
وفي الحديث أيضا قبول خبر الواحد العدل، ووجوب العمل به. وبعث الإمام العمال لجباية الزكاة. وأنه يعظ عماله وولاته، ويأمرهم بتقوى الله تعالى، ويعلمهم، وينهاهم عن الظلم ويعرفهم سوء عاقبته. والتنبيه على التعليم بالتدريج. قاله المصنف.
قلت: ويبدأ بالأهم فالأهم.
واعلم أنه لم يذكر في الحديث الصوم والحج، فأشكل ذلك على كثير من العلماء.
قال شيخ الإسلام: أجاب بعض الناس: أن بعض الرواة اختصر الحديث وليس كذلك. فإن هذا طعن في الرواة؛ لأن ذلك إنما يقع في الحديث الواحد، مثل حديث وفد عبد القيس حيث ذكر بعضهم الصيام وبعضهم لم يذكره، فأما الحديثان المنفصلان فليس الأمر فيها كذلك، ولكن عن هذا جوابان:
أحدهما: أن ذلك بحسب نزول الفرائض، وأول ما فرض الله الشهادتين ثم الصلاة. فإنه أمر بالصلاة في أول أوقات الوحي، ولهذا لم يذكر وجوب الحج، كعامة الأحاديث، إنما جاء في الأحاديث المتأخرة.
الجواب الثاني: أنه كان يذكر في كل مقام ما يناسبه. فيذكر تارة الفرائض التي يقاتل عليها: كالصلاة والزكاة. ويذكر تارة الصلاة والصيام لمن لم يكن عليه زكاة، ويذكر تارة الصلاة والزكاة والصوم. فإما أن يكون قبل فرض الحج، وإما أن يكون المخاطب بذلك لا حج عليه، وأما الصلاة والزكاة فلهما شأن ليس لسائر الفرائض؛ ولهذا ذكر الله تعالى في كتابه القتال عليهما، لأنهما عبادتان ظاهرتان، بخلاف الصوم بأنه أمر باطن من جنس الوضوء والاغتسال من الجنابة، ونحو ذلك مما يؤتمن عليه العبد، فإن الإنسان يمكنه أن لا ينوي الصوم وأن يأكل سرا، كما يمكنه أن يكتم حدثه وجنابته، وهو يذاكر في الأعمال الظاهرة التي يقاتل الناس عليها ويصيرون مسلمين بفعلها. فلهذا علق ذلك بالصلاة والزكاة دون الصوم، وإن كان واجبا كما في آيتي براءة التي نزلت بعد فرض الصيام باتفاق الناس. وكذلك لما بعث معاذا إلى اليمن لم يذكر في حديثه الصوم، لأنه تبع وهو باطن، ولا ذكر الحج لأن وجوبه خاص ليس بعام، ولا يجب في العمر إلا مرة. انتهى بمعناه.
قوله " أخرجاه " أي: البخاري ومسلم، وأخرجه أيضا أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه.
قال: ولهما عن سهل بن سعد { أن رسول الله قال يوم خيبر: " لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، يفتح الله على يديه " فبات الناس يدوكون ليلتهم: أيهم يعطاها. فلما أصبحوا غدوا على رسول الله كلهم يرجو أن يعطاها، فقال: أين علي بن أبي طالب؟ فقيل: هو يشتكي عينيه قال: فأرسلوا إليه، فأتي به، فبصق في عينيه ودعا له، فبرأ كأن لم يكن به وجع، فأعطاه الراية، قال: " انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه، فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم } ( ). و " يدوكون " أي: يخوضون.
قوله: " عن سهل بن سعد " أي: ابن مالك بن خالد الأنصاري الخزرجي الساعدي، أبي العباس صحابي شهير، وأبوه صحابي أيضا، مات سنة ثمان وثمانين وقد جاوز المائة.
قوله: { قال يوم خيبر } ( ) وفي الصحيحين عن سلمة بن الأكوع قال: " كان علي قد تخلف عن النبي في خيبر، وكان أرمد، فقال: أنا أتخلف عن رسول الله فخرج علي فلحق بالنبي فلما كان مساء الليلة التي فتحها الله في صباحها قال { لأعطين الراية - أو ليأخذن الراية - غدا رجل يحبه الله ورسوله، أو قال: يحب الله ورسوله، يفتح الله على يديه } ( ) فإذا نحن بعلي وما نرجوه، فقالوا: هذا علي، فأعطاه رسول الله الراية ففتح الله عليه. قوله: { لأعطين الراية } ( ) قال الحافظ: في رواية بريدة " إني دافع اللواء إلى رجل يحبه الله ورسوله " وقد صرح جماعة من أهل اللغة بترادفهما، ولكن روى أحمد والترمذي من حديث ابن عباس " كانت راية رسول الله سوداء، ولواؤه أبيض " ومثله عند الطبراني عن بريدة. وعن ابن عدي عن أبي هريرة وزاد { مكتوب فيه: لا إله إلا الله محمد رسول الله }.
قوله: { يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله } ( ) فيه فضيلة عظيمة لعلي .
قال شيخ الإسلام: ليس هذا الوصف مختصا بعلي ولا بالأئمة، فإن الله ورسوله يحب كل مؤمن تقي يحب الله ورسوله، لكن هذا الحديث من أحسن ما يحتج به على النواصب الذين لا يتولونه، أو يكفرونه أو يفسقونه كالخوارج. لكن هذا الاحتجاج لا يتم على قول الرافضة الذين يجعلون النصوص الدالة على فضائل الصحابة كانت قبل ردتهم، فإن الخوارج تقول في علي مثل ذلك، لكن هذا باطل، فإن الله تعالى ورسوله لا يطلق مثل هذا المدح على من يعلم الله أنه يموت كافرا.
وفيه إثبات صفة المحبة خلافا للجهمية ومن أخذ عنهم.
قوله: { يفتح الله على يديه } ( ) صريح في البشارة بحصول الفتح، فهو علم من أعلام النبوة.
قوله: { فبات الناس يدوكون ليلتهم } ( ) بنصب (ليلتهم) و " يدوكون " قال المصنف: يخوضون. أي: فيمن يدفعها إليه. وفيه: حرص الصحابة على الخير واهتمامهم به، وعلو مرتبتهم في العلم والإيمان. قوله: " أيهم " هو برفع " أي ".
قوله: { فلما أصبحوا غدوا على رسول الله كلهم يرجو أن يعطاها } ( ) وفي رواية أبي هريرة عند مسلم أن عمر قال: " ما أحببت الإمارة إلا يومئذ ".
قال شيخ الإسلام: إن في ذلك شهادة النبي لعلي بإيمانه باطنا وظاهرا وإثباتا لموالاته لله تعالى ورسوله ووجوب موالاة المؤمنين له، وإذا شهد النبي لمعين بشهادة، أو دعا له أحب كثير من الناس أن يكون له مثل تلك الشهادة ومثل ذلك الدعاء، وإن كان النبي يشهد بذلك لخلق كثير ويدعو لخلق كثير، وهذا كالشهادة بالجنة لثابت بن قيس وعبد الله بن سلام وإن كان شهد بالجنة لآخرين، والشهادة بمحبة الله ورسوله للذي ضرب في الخمر.
قوله: { فقال: أين علي بن أبي طالب } ( ) " فيه سؤال الإمام عن رعيته، وتفقد أحوالهم.
قوله: { فقيل: هو يشتكي عينيه } ( ) أي: من الرمد، كما في صحيح مسلم عن سعد بن أبي وقاص فقال: { ادعوا لي عليا فأتي به أرمد } ( ) الحديث، وفي نسخة صحيحة بخط المصنف: " فقيل: هو يشتكي عينيه، فأرسل إليه " مبني للفاعل، وهو ضمير مستتر في الفعل راجع إلى النبي ويحتمل أن يكون مبنيا لما لم يسم فاعله. ولمسلم من طريق إياس بن سلمة بن الأكوع عن أبيه قال: فأرسلني إلى علي فجئت به أقوده أرمد.
قوله: { فبصق } ( ) بفتح الصاد، أي: تفل.
وقوله: { ودعا له فبرأ } ( ) هو بفتح الراء والهمزة، أي: عوفي في الحال، عافية كاملة كأن لم يكن به وجع من رمد ولا ضعف بصر.
وعند الطبراني من حديث علي: { فما رمدت ولا صدعت منذ دفع النبي إلي الراية }.
وفيه دليل على الشهادتين.
قوله: { فأعطاه الراية } ( ) قال المصنف: فيه الإيمان بالقدر لحصولها لمن لم يسع ومنعها عمن سعى.
وفيه: إن فعل الأسباب المباحة أو الواجبة أو المستحبة لا ينافي التوكل.
قوله: { وقال: انفذ على رسلك } ( ) بضم الفاء، أي: امض، " ورسلك " بكسر الراء وسكون السين، أي: على رفقك من غير عجلة. و " ساحتهم " فناء أرضهم وهو ما حولها.
وفيه: الأدب عند القتال وترك العجلة والطيش والأصوات التي لا حاجة إليها.
وفيه: أمر الإمام عماله بالرفق من غير ضعف ولا انتقاض عزيمة، كما يشير إليه قوله: { ثم ادعهم إلى الإسلام } ( ) أي: الذي هو معنى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإن شئت قلت: الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، وما اقتضته الشهادتان من إخلاص العبادة لله وحده، وإخلاص الطاعة لرسوله . ومن هنا طابق الحديث الترجمة كما قال تعالى لنبيه ورسوله: { } ( ) (آل عمران ـ 64).
قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: الإسلام هو الاستسلام لله، وهو الخضوع له والعبودية له. كذا قال أهل اللغة.
وقال -رحمه الله تعالى-: ودين الإسلام الذي ارتضاه الله وبعث به رسله: هو الاستسلام له وحده، فأصله في القلب، والخضوع له وحده بعبادته وحده دون ما سواه. فمن عبده وعبد معه إلها آخر لم يكن مسلما. ومن استكبر عن عبادته لم يكن مسلما، وفي الأصل هو من باب العمل، عمل القلب والجوارح. وأما الإيمان فأصله تصديق القلب، وإقراره ومعرفته، فهو من باب قول القلب المتضمن عمل القلب. انتهى.
فتبين أن أصل الإسلام هو التوحيد ونفي الشرك في العبادة وهو دعوة جميع المرسلين، وهو الاستسلام لله تعالى بالتوحيد، والانقياد له بالطاعة فيما أمرهم به على ألسن رسله، كما قال تعالى عن نوح أول رسول أرسله { • } ( ) (نوح ـ 3).
وفيه: مشروعية الدعوة قبل القتال، لكن إن كانوا قد بلغتهم الدعوة جاز قتالهم ابتداء؛ لأن النبي أغار على بني المصطلق وهم غارُّون، وإن كانوا لم تبلغهم الدعوة وجبت دعوتهم.
قوله: { وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه } ( ) أي: في الإسلام إذا أجابوك إليه فأخبرهم بما يجب من حقوقه التي لا بد لهم من فعلها: كالصلاة والزكاة، كما في حديث أبي هريرة: { فإذا فعلوا ذلك فقد منعوا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها } ( ) ولما قال عمر لأبي بكر في قتاله مانعي الزكاة: كيف نقاتل الناس وقد قال رسول الله { أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله. فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها } ( ) قال أبو بكر: فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله لقاتلتهم على منعها ".
وفيه: بعث الإمام الدعاة إلى الله تعالى، كما كان النبي وخلفاؤه الراشدون يفعلون، كما في المسند عن عمر بن الخطاب أنه قال في خطبته: " ألا إني والله ما أرسل عمالي إليكم ليضربوا أبشاركم ولا ليأخذوا أموالكم. ولكن أرسلهم إليكم ليعلموكم دينكم وسنتكم ".
قوله: { فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم} ( ) " أن " مصدرية واللام قبلها مفتوحة لأنها لام القسم. و " أن " والفعل بعدها في تأويل مصدر، رفع على الابتداء، والخبر " خير " و " حمر " بضم المهملة وسكون الميم، جمع أحمر. و " النعم " بفتح النون والعين المهملة، أي: خير لك من الإبل الحمر. وهي أنفس أموال العرب.
قال النووي: وتشبيه أمور الآخرة بأمور الدنيا إنما هو للتقريب إلى الأفهام، وإلا فذرة من الآخرة خير من الأرض بأسرها وأمثالها معها.
وفيه: فضيلة من اهتدى على يديه رجل واحد، وجواز الحلف على الخبر والفتيا ولو لم يستحلف.
المسائل المستنبطة من هذا الباب
فيه مسائل:
الأولى: أن الدعوة إلى الله طريق من اتبع رسول الله .
الثانية: التنبيه على الإخلاص، لأن كثيرا لو دعا إلى الحق فهو يدعو إلى نفسه.
الثالثة: أن البصيرة من الفرائض.
الرابعة: من دلائل حسن التوحيد: أنه تنزيه الله تعالى عن المسبة.
الخامسة: أن من قبح الشرك كونه مسبة لله.
السادسة: وهي من أهمها - إبعاد المسلم عن المشركين لئلا يصير منهم ولو لم يشرك.
السابعة: كون التوحيد أول واجب.
الثامنة: أن يبدأ به قبل كل شيء، حتى الصلاة.
التاسعة: أن معنى: " أن يوحدوا الله "، معنى شهادة: أن لا إله إلا الله.
العاشرة: أن الإنسان قد يكون من أهل الكتاب، وهو لا يعرفه، أو يعرفه ولا يعمل به.
الحادية عشرة: التنبيه على التعليم بالتدريج.
الثانية عشرة: البداءة بالأهم فالأهم.
الثالثة عشرة: مصرف الزكاة.
الرابعة عشرة: كشف العالم الشبهة عن المتعلم.
الخامسة عشرة: النهي عن كرائم الأموال.
السادسة عشرة: اتقاء دعوة المظلوم.
السابعة عشرة: الإخبار بأنها لا تحجب.
الثامنة عشرة: من أدلة التوحيد ما جرى على سيد المرسلين وسادات الأولياء من المشقة والجوع والوباء.
التاسعة عشرة: قوله: { لأعطين الراية إلخ } ( ) علم من أعلام النبوة.
العشرون: تفله في عينيه علم من أعلامها أيضا.
الحادية والعشرون: فضيلة علي رضي الله عنه.
الثانية والعشرون: فضل الصحابة في دوكهم تلك الليلة وشغلهم عن بشارة الفتح.
الثالثة والعشرون: الإيمان بالقدر، لحصولهما لمن لم يسع لهما ومنعهما عمن سعى.
الرابعة والعشرون: الأدب في قوله: { على رسلك } ( ).
الخامسة والعشرون: الدعوة إلى الإسلام قبل القتال.
السادسة والعشرون: أنه مشروع لمن دعوا قبل ذلك وقوتلوا.
السابعة والعشرون: الدعوة بالحكمة، لقوله: { أخبرهم بما يجب }.
الثامنة والعشرون: المعرفة بحق الله في الإسلام.
التاسعة والعشرون: ثواب من اهتدى على يديه رجل واحد.
الثلاثون: الحلف على الفتيا.
باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله
وقول الله تعالى: { • } ( ) (الإسراء - 57).
وقوله: { } ( ) (الزخرف - 26 - 28).
وقوله: { } ( )... (التوبة - 31).
وقوله: { •• } ( )... (البقرة -165).
وفي الصحيح عن النبي أنه قال: { من قال: لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله، حرم ماله ودمه، وحسابه على الله } ( ).
وشرح هذا الترجمة: ما بعدها من الأبواب.
قوله: (باب: تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله)
قلت: هذا من عطف الدال على المدلول.
فإن قيل: قد تقدم في أول الكتاب من الآيات ما يبين معنى " لا إله إلا الله " وما تضمنته من التوحيد كقوله تعالى: { } ( )... (الإسراء ـ 23) وسابقها ولاحقها، وكذلك ما ذكره في الأبواب بعدها، فما فائدة هذه الترجمة؟
قيل: هذه الآيات المذكورات في هذا الباب فيها مزيد بيان بخصوصها لمعنى كلمة الإخلاص وما دلت عليه: من توحيد العبادة. وفيها: الحجة على من تعلق من الأنبياء والصالحين يدعوهم ويسألهم؛ لأن ذلك هو سبب نزول بعض هذه الآيات، كالآية الأولى: { } ( )... (الإسراء ـ 56) أكثر المفسرين على أنها نزلت فيمن يعبد المسيح وأمه، والعزير والملائكة، وقد نهى الله عن ذلك أشد النهي، كما في هذه الآية من التهديد والوعيد على ذلك. وهذا يدل على أن دعاءهم من دون الله شرك بالله، ينافي التوحيد وينافي شهادة أن لا إله إلا الله؛ فإن التوحيد أن لا يدعى إلا الله وحده.
وكلمة الإخلاص نفت هذا الشرك، لأن دعوة غير الله تأليه وعبادة له. و { الدعاء مخ العبادة } ( ).
وفي هذه الآية: أن المدعو لا يملك لداعيه كشف ضرر ولا تحويله من مكان إلى مكان، ولا من صفة إلى صفة. ولو كان المدعو نبيا أو ملكا. وهذا يقرر بطلان دعوة كل مدعو من دون الله كائنا من كان، لأن دعوته تخون داعيه أحوج ما كان إليها، لأنه أشرك مع الله من لا ينفعه ولا يضره. وهذه الآية تقرر التوحيد، ومعنى لا إله إلا الله.
وقوله تعالى:{ } ( )..(الإسراء: 57) يبين أن هذا سبيل الأنبياء والمرسلين ومن تبعهم من المؤمنين. قال قتادة: تقربوا إليه بطاعته والعمل فيما يرضيه وقرأ ابن زيد: " أولئك الذين تدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ". قال العماد ابن كثير: وهذا لا خلاف فيه بين المفسرين. وذكره عن عدة من أئمة التفسير.
قال العلامة ابن القيم -رحمه الله تعالى-: في هذه الآية ذكر المقامات الثلاث: الحب، وهو ابتغاء القرب إليه. والتوسل إليه بالأعمال الصالحة. والرجاء والخوف. وهذا هو حقيقة التوحيد وحقيقة دين الإسلام كما في المسند { عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أنه قال للنبي " والله يا رسول الله ما أتيتك إلا بعدما حلفت عدد أصابعي هذه: أن لا آتيك. فبالذي بعثك بالحق، ما بعثك به؟ قال: الإسلام. قال: وما الإسلام؟ قال: أن تسلم قلبك وأن توجه وجهك إلى الله، وأن تصلي الصلوات المكتوبة، وتؤدي الزكاة المفروضة } ( ) وأخرج محمد بن نصر المروزي من حديث خالد بن معدان عن أبي هريرة قال: قال رسول الله { إن للإسلام صُوًى ومنارا كمنار الطريق. من ذلك: أن تعبد الله ولا تشرك به شيئا وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر } وهذا معنى قوله تعالى: { } ( ) (لقمان ـ 22).
وقوله تعالى: { } ( ) (الزخرف 26 - 28) أي: " لا إله إلا الله ".
فتدبر كيف عبر الخليل -عليه السلام- عن هذه الكلمة العظيمة بمعناها الذي دلت عليه. ووضعت له من البراءة من كل ما يعبد من دون الله من المعبودات الموجودة في الخارج: كالكواكب والهياكل والأصنام التي صورها قوم نوح على صور الصالحين: ود وسواع ويغوث ويعوق ونسرا، وغيرها من الأوثان والأنداد التي كان يعبدها المشركون بأعيانها. ولم يستثن من جميع المعبودات إلا الذي فطره، وهو الله وحده لا شريك له، فهذا هو الذي دلت عليه كلمة الإخلاص. كما قال تعالى: { } ( )... (الحج ـ 62) فكل عبادة يقصد بها غير الله: من دعاء وغيره فهي باطلة، وهي الشرك الذي لا يغفره الله، قال تعالى: { • } ( ) (غافر ـ 73، 74).
وقوله تعالى: { } ( )... (التوبة ـ 31).
وفي الحديث الصحيح { أن النبي تلا هذه الآية على عدي بن حاتم الطائي فقال: " يا رسول الله، لسنا نعبدهم. قال: أليس يحلون لكم ما حرم الله فتحلونه، ويحرمون ما أحل الله فتحرمونه؟ قال: بلى. قال النبي فتلك عبادتهم }.
فصارت طاعتهم في المعصية عبادة لغير الله وبها اتخذوهم أربابا، كما هو الواقع في هذه الأمة، وهذا من الشرك الأكبر المنافي للتوحيد الذي هو مدلول شهادة لا إله إلا الله.
فتبين بهذه الآية أن كلمة الإخلاص نفت هذا كله لمنافاته لمدلول هذه الكلمة. فأثبتوا ما نفته من الشرك وتركوا ما أثبتته من التوحيد.
وقوله تعالى { •• } ( ) ... (البقرة ـ 165) فكل من اتخذ ندا لله يدعوه من دون الله ويرغب إليه ويرجوه لما يؤمله منه من قضاء حاجاته وتفريج كرباته - كحال عباد القبور والطواغيت والأصنام - فلا بد أن يعظموهم ويحبوهم لذلك، فإنهم أحبوهم مع الله وإن كانوا يحبون الله تعالى ويقولون " لا إله إلا الله " ويصلون ويصومون، فقد أشركوا بالله في المحبة بمحبة غيره وعبادة غيره فاتخاذهم الأنداد يحبونهم كحب الله يبطل كل قول يقولونه وكل عمل يعملونه؛ لأن المشرك لا يقبل منه عمل، ولا يصح منه. وهؤلاء وإن قالوا لا إله إلا الله فقد تركوا كل قيد قيدت به هذه الكلمة العظيمة: من العلم بمدلولها؛ لأن المشرك جاهل بمعناها، ومن جهله بمعناها جعل الله شريكا في المحبة وغيرها، وهذا هو الجهل المنافي للعلم بما دلت عليه من الإخلاص: ولم يكن صادقا في قولها: لأنه لم ينف ما نفته من الشرك، ولم يثبت ما أثبتته من الإخلاص وترك اليقين أيضا، لأنه لو عرف معناها وما دلت عليه لأنكره أو شك فيه، ولم يقبله وهو الحق، ولم يكفر بما يعبد من دون الله، كما في الحديث: " بل آمن بما يعبد من دون الله باتخاذه الند " ومحبته له وعبادته إياه من دون الله، كما قال تعالى... { } ( )... لأنهم أخلصوا له الحب فلم يحبوا إلا إياه، ويحبون من أحب ويخلصون أعمالهم جميعا لله، ويكفرون بما عبد من دون الله. فبهذا يتبين لمن وفقه الله تعالى لمعرفة الحق وقبوله دلالة هذه الآيات العظيمة على معنى شهادة أن لا إله إلا الله، وعلى التوحيد الذي هو معناها الذي دعا إليه جميع المرسلين، فتدبر.
قال: وقوله تعالى: { } ( ) ... (الإسراء ـ 57)، يتبين معنى هذه الآية بذكر ما قبلها، وهو قوله تعالى { } ( ) (الإسراء:56).
قال ابن كثير -رحمه الله-: يقول تعالى (قل) يا محمد للمشركين الذين عبدوا غير الله " ادعوا الذين زعمتم من دونه " من الأصنام والأنداد وارغبوا إليهم، فإنهم لا يملكون كشف الضر عنكم أي: بالكلية (ولا تحويلا) أي: ولا يحولوه إلى غيركم.
والمعنى: أن الذي يقدر على ذلك هو الله وحده لا شريك له، الذي له الخلق والأمر. قال العوفي عن ابن عباس في الآية: " كان أهل الشرك يقولون: نعبد الملائكة والمسيح وعزيرا، وهم الذين يدعون، يعني الملائكة والمسيح وعزيرا ".
روى البخاري في الآية عن ابن مسعود قال: " ناس من الجن كانوا يعبدون فأسلموا " وفي رواية: " كان ناس من الإنس يعبدون ناسا من الجن فأسلم الجن وتمسك هؤلاء بدينهم ".
وقول ابن مسعود هذا يدل على أن الوسيلة هي الإسلام، وهو كذلك على كلا القولين.
وقال السدي عن أبي صالح عن ابن عباس في الآية قال: " عيسى وأمه وعزيرا " وقال مغيرة عن إبراهيم: كان ابن عباس يقول في هذه الآية: " هم عيسى وعزير والشمس والقمر " وقال مجاهد: " عيسى وعزير والملائكة ".
وقوله: (يرجون رحمته ويخافون عذابه) لا تتم العبادة إلا بالخوف والرجاء، فكل داع دعا دعاء عبادة أو استغاثة لا بد له من ذلك، فإما أن يكون خائفا وإما أن يكون راجيا، وإما أن يجتمع فيه الوصفان.
قال شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- في هذه الآية الكريمة، لما ذكر أقوال المفسرين: وهذه الأقوال كلها حق، فإن الآية تعم من كان معبوده عابدا لله، سواء كان من الملائكة أو من الجن أو من البشر، والسلف في تفسيرهم يذكرون جنس المراد بالآية على نوع التمثيل، كما يقول الترجمان لمن سأله: ما معنى الخبز؟ فيريه رغيفا، فيقول هذا. فالإشارة إلى نوعه لا إلى عينه، وليس مرادهم من هذا تخصيص نوع دون نوع مع شمول الآية، فالآية خطاب لكل من دعا من دون الله مدعوا، وذلك المدعو يبتغي إلى الله الوسيلة ويرجو رحمته ويخاف عذابه، فكل من دعا ميتا أو غائبا من الأولياء والصالحين سواء كان بلفظ الاستغاثة أو غيرها فقد تناولته هذه الآية، كما تتناول من دعا الملائكة والجن، فقد نهى الله تعالى من دعائهم، وبين أنهم لا يملكون كشف الضر عن الداعين ولا تحويله، ولا يرفعونه بالكلية ولا يحولونه من موضع إلى موضع، كتغيير صفته أو قدره، ولهذا قال: (ولا تحويلا) فذكر نكرة تعم أنواع التحويل، فكل من دعا ميتا أو غائبا من الأنبياء والصالحين أو دعا الملائكة فقد دعا من لا يغيثه ولا يملك كشف الضر عنه ولا تحويله. اهـ.
وفي هذه الآية رد على من يدعو صالحا ويقول: أنا لا أشرك بالله شيئا، الشرك عبادة الأصنام.
قال: وقوله: { } ( )... (الزخرف ـ 26 - 27).
قال ابن كثير: يقول تعالى مخبرا عن عبده ورسوله وخليله إمام الحنفاء، ووالد من بعث بعده من الأنبياء، الذي تنتسب إليه قريش في نسبها ومذهبها: أنه تبرأ من أبيه وقومه في عبادتهم الأوثان فقال:... { } ( ) (الزخرف ـ 26 -28) أي: أن هذه الكلمة وهي عبادة الله وحده لا شريك له. وخلع ما سواه من الأوثان، وهي " لا إله إلا الله " جعلها في ذريته يقتدي بـه فيها من هداه الله من ذرية إبراهيم -عليه السلام- { } ( ) أي: إليها.
قال عكرمة ومجاهد والضحاك وقتادة والسدي وغيرهم في قوله: { } ( ) يعني " لا إله إلا لله " لا يزال في ذريته من يقولها.
وروى ابن جرير عن قتادة { } ( ) قال: كانوا يقولون: الله ربنا: { • } ( )... (الزخرف ـ 87) فلم يبرأ من ربه. رواه عبد بن حميد ، وروى ابن جريـر وابن المنـذر عن قتادة { } ( ) قال: " الإخلاص والتوحيد لا يزال في ذريته من يعبد الله ويوحده ".
قلت: فتبين أن معنى " لا إله إلا الله " توحيد الله بإخلاص العبادة له والبراءة من كل ما سواه.
قال المصنف -رحمه الله-: وذكر سبحانه أن هذه البراءة وهذه الموالاة، هي شهادة أن لا إله إلا الله.
وفي هذا المعنى يقول العلامة الحافظ ابن القيم -رحمه الله- في الكافية الشافية:
طـرا تـولاه الـعـظيم الشـان
وإذا تـولاه امـرؤ دون الـورى
قال: وقوله تعالى: { } ( ) ... (التوبة ـ 31).
الأحبار: هم العلماء، والرهبان: هم العباد. وهذه الآية قد { فسرها رسول الله لعدي بن حاتم، وذلك " أنه لما جاء مسلما دخل على رسول الله فقرأ عليه هذه الآية. قال: فقلت: إنهم لم يعبدوهم. فقال: بلى: إنهم حرموا عليهم الحلال وحللوا لهم الحرام فاتبعوهم، فذلك عبادتهم إياهم } ( ) رواه أحمد والترمذي وحسنه، وعبد بن حميد وابن أبي حاتم والطبراني من طرق.
قال السدي: استنصحوا الرجال ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم. ولهذا قال تعالى:... { } ( ) فإن الحلال ما أحله الله، والحرام ما حرمه الله، والدين ما شرعه الله.
فظهر بهذا أن الآية دلت على أن من أطاع غير الله ورسوله، وأعرض عن الأخذ بالكتاب والسنة في تحليل ما حرم الله، أو تحريم ما أحله الله، وأطاعه في معصية الله، واتبعه فيما لم يأذن به الله، فقد اتخذه ربا ومعبودا وجعله لله شريكا، وذلك ينافي التوحيد الذي هو دين الله الذي دلت عليه كلمة الإخلاص " لا إله إلا الله " فإن الإله هو المعبود، وقد سمى الله تعالى طاعتهم عبادة لهم، وسماهم أربابا كما قال تعالى: { • } ( )... (آل عمران ـ 80) أي: شركاء لله تعالى في العبادة... { } ( )... (آل عمران ـ 80) وهذا هو الشرك. فكل معبود رب، وكل مطاع ومتبع على غير ما شرعه الله ورسوله فقد اتخذا المطيع المتبع ربا ومعبودا، كما قال تعالى في آية الأنعام:... { } ( )... (الأنعام ـ 121) وهذا هو وجه مطابقة الآية للترجمة، ويشبه هذه الآية في المعنى قوله تعالى: { } ( )... (الشورى ـ 21) والله أعلم.
قـال شيخ الإسلام في معنى قـوله { } ( ) وهؤلاء الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا حيث أطاعوهم في تحليل ما حرم الله وتحريم ما أحل الله يكونون على وجهين:
أحدهما: أن يعلموا أنهم بدلوا دين الله فيتبعونهم على هذا التبديل، فيعتقدون تحليل ما حرم الله أو تحريم ما أحل الله، اتباعا لرؤسائهم، مع علمهم أنهم خالفوا دين الرسل، فهذا كفر، وقد جعله الله ورسوله شركا، وإن لم يكونوا يصلون لهم ويسجدون لهم. فكان من اتبع غيره في خلاف الدين مع علمه أنه خلاف للدين، واعتقد ما قاله ذلك دون ما قاله الله ورسوله، مشركا مثل هؤلاء.
الثاني: أن يكون اعتقادهم وإيمانهم بتحريم الحرام وتحليل الحلال ثابتا، لكنهم أطاعوهم في معصية الله، كما يفعل المسلم ما يفعله من المعاصي التي يعتقد أنها معاص، فهؤلاء لهم حكم أمثالهم من أهل الذنوب، كما قد ثبت " عن النبي أنه قال: { إنما الطاعة في المعروف } ( ).
ثم ذلك المحرم للحلال والمحلل للحرام إن كان مجتهدا قصده اتباع الرسل لكن خفي عليه الحق في نفس الأمر وقد اتقى الله ما استطاع، فهذا لا يؤاخذه الله بخطئه بل يثيبه على اجتهاده الذي أطاع به ربه. ولكن من علم أن هذا أخطأ فيما جاء به الرسول ثم اتبعه على خطئه وعدل عن قول الرسول. فهذا له نصيب من هذا الشرك الذي ذمه الله، لا سيما إن اتبع ذلك هواه ونصره باليد واللسان مع علمه أنه مخالف للرسول. فهذا شرك يستحق صاحبه العقوبة عليه، ولهذا اتفق العلماء على أنه إذا عرف الحق لا يجوز له تقليد أحد في خلافه، وإنما تنازعوا في جواز التقليد للقادر على الاستدلال. وإن كان عاجزا عن إظهار الحق الذي يعلمه. فهذا يكون كمن عرف أن دين الإسلام حق وهو بين النصارى، فإذا فعل ما يقدر عليه من الحق لا يؤاخذ بما عجز عنه، وهؤلاء كالنجاشي وغيره. وقد أنزل الله في هؤلاء آيات من كتابه كقوله تعالى: { • } ( )... (آل عمران ـ 199) وقوله: { } ( ) (المائدة 83) وقوله: { • } ( ) (الأعراف ـ 159). وأما إن كان المتبع للمجتهد عاجزا عن معرفة الحق على التفضيل وقد فعل ما يقدر عليه مثله: من الاجتهاد في التقليد فهذا لا يؤاخذ إن أخطأ كما في القبلة. وأما من قلد شخصا دون نظيره بمجرد هواه، ونصره بيده ولسانه من غير علم أن معه الحق، فهذا من أهل الجاهلية، وإن كان متبوعه مصيبا لم يكن عمله صالحا، وإن كان متبوعه مخطئا كان آثما. كمن قال في القرآن برأيه، فإن أصاب فقد أخطأ، وإن أخطأ فليتبوأ مقعده من النار، وهؤلاء من جنس مانع الزكاة الذي تقدم فيه الوعيد، ومن جنس عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخميصة، فإن ذلك لما أحب المال منعه من عبادة الله وطاعته وصار عبدا له، وكذلك هؤلاء فيكون فيهم شرك أصغر، ولهم من الوعيد بحسب ذلك. وفي الحديث: { إن يسير الرياء شرك } ( ) وهذا مبسوط عند النصوص التي فيها إطلاق الكفر والشرك على كثير من الذنوب. انتهى.
وقال أبو جعفر بن جرير في معنى قول الله تعالى... { } ( ) ... (فصلت ـ 9) أي: وتجعلون لمن خلق ذلك أندادا وهم الأكفاء من الرجال تطيعونهم في معاصي الله. انتهى.
قلت: كما هو الواقع من كثير من عباد القبور.
قال: وقوله { •• } ( ) ... (البقرة ـ 165).
قال العماد ابن كثير -رحمه الله-: يذكر الله حال المشركين به في الدنيا ومآلهم في الدار الآخرة، حيث جعلوا لله أندادا، أي: أمثالا ونظراء يعبدونهم معه ويحبونهم كحبه، وهو الله لا إله إلا هو، ولا ضد له ولا ند له، ولا شريك معه. وفي الصحيحين { عن " عبد الله بن مسعود قال: قلت: يا رسول الله؟ أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله ندا وهو خلقك } ( ).
وقوله:... { } ( )... ولحبهم لله تعالى وتمام معرفتهم به وتوقيرهم وتوحيدهم لا يشركون به شيئا، بل يعبدونه وحده ويتوكلون عليه، ويلجئون في جميع أمورهم إليه. ثم توعد تعالى المشركين به، الظالمين لأنفسهم بذلك. فقال تعالى:... { • } ( )... قال بعضهم: تقدير الكلام، لو عاينوا العذاب لعلموا حينئذ أن القوة لله جميعا، أي: أن الحكم له وحده لا شريك له، فإن جميع الأشياء تحت قهـره وغلبته وسلطانه... { • } ( ) كما قال تعالى: { } ( ) (الفجر ـ 25 - 26) يقول: لو علموا ما يعاينون هناك وما يحل بهم من الأمر الفظيع المنكر الهائل على شركهم وكفرهم لانتهوا عما هم فيه من الضلال. ثم أخبر عن كفرهم بأعوانهم وتبرؤ المتبوعين من التابعين. فقال تعالى: { • } ( )... تبرأت منهم الملائكة الذين كانوا يزعمون أنهم يعبـدونهم في الدار الدنيا، فتقـول الملائكة:... { } ( ) (القصص ـ 63) ويقولون:... { } ( ) (سبأ ـ 41) الجن أيضا يتبرءون منهم ويتنصلون من عبادتهم لهم، كما قال تعالى: { •• } ( ) (الأحقاف ـ 5 - 6). انتهى كلامه.
روى ابن جرير عن مجاهد في قوله تعالى:... { } ( )... مباهاة ومضاهاة للحق سبحانه بالأنداد... { } ( )... (البقرة ـ 165) من الكفار لأوثانهم.
قال المصنف -رحمه الله تعالى- (ومن الأمور المبينة لتفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله: آية البقرة في الكفـار الذين قـال الله تعالى فيهم... { • } ( ) (البقرة ـ 167) ذكر أنهم يحبون أندادهم كحب الله، فدل على أنهم يحبون الله حبا عظيما، فلم يدخلوا في الإسلام، فكيف بمن أحب الند أكبر من حب الله؟ فكيف بمن لم يحب إلا الند وحده؟). اهـ.
ففي الآية بيان أن من أشرك مع الله تعالى غيره في المحبة فقد جعله شريكا لله في العبادة واتخذه ندا من دون الله، وأن ذلك هو الشرك الذي لا يغفره الله، كما قال تعالى في أولئك... { • } ( ) وقوله: { } ( )... المراد بالظلم هنـا الشرك. كقوله:... { } ( )... (الأنعام ـ 82) كما تقدم. فمن أحب الله وحده، وأحب فيه وله فهو مخلص، ومن أحبه وأحب معه غيره، فهو مشرك، كما قال تعالى: { •• • } ( ) (البقرة ـ 21 - 22).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- ما معناه: فمن رغب إلى غير الله في قضاء حاجة أو تفريج كربة: لزم أن يكون محبا له، ومحبته هي الأصل في ذلك. انتهى.
فكلمة الإخلاص " لا إله إلا الله " تنفي كل شرك في أي نوع كان من أنواع العبادة، وتثبت العبادة بجميع أفرادها لله تعالى، وقد تقدم بيان أن " الإله " هو المألوه الذي تألهه القلوب بالمحبة وغيرها من أنواع العبادة فلا إله إلا الله، نفت ذلك كله عن غير الله، وأثبتته لله وحده. فهذا هو ما دلت عليه كلمة الإخلاص مطابقة، فلا بد من معرفة معناها واعتقاده، وقبوله، والعمل به باطنا وظاهرا. والله أعلم.
قال العلامة ابن القيم -رحمه الله تعالى-: فتوحيد المحبوب أن لا يتعدد محبوبه، أي مع الله تعالى بعبادته له، وتوحيد الحب: أن لا يبقى في قلبه بقية حب حتى يبذلها له، فهذا الحب - وإن سمي عشقا - فهو غاية صلاح العبد ونعيمه وقرة عينه، وليس لقلبه صلاح ولا نعيم إلا بأن يكون الله ورسوله أحب إليه من كل ما سواهما، وأن تكون محبته لغير الله تابعة لمحبة الله تعالى، فلا يحب إلا الله، ولا يحب إلا لله، كما في الحديث الصحيح " ثلاث من كن فيه..... " الحديث، ومحبة رسول الله هي من محبة الله، ومحبة المرء إن كانت لله فهي من محبته، وإن كانت لغير الله فهي منقصة لمحبة الله مضعفة لها، ويُصَدِّق هذه المحبة بأن تكون كراهيته لأبغض الأشياء إلى محبوبه وهو- الكفر - بمنزلة كراهيته لإلقائه في النار أو أشد، ولا ريب أن هذا من أعظم المحبة، فإن الإنسان لا يقدم على محبة نفسه وحياته شيئا، فإذا قدم محبة الإيمان بالله على نفسه بحيث لو خير بين الكفر وبين إلقائه في النار لاختار أن يلقى في النار ولا يكفر، كان أحب إليه من نفسه، وهذه المحبة هي فوق ما يجده العشاق المحبون من محبة محبوبيهم، بل لا نظير لهذه المحبة. كما لا مثل لمن تعلقت به، وهي محبة تقتضي تقديم المحبوب فيها على النفس والمال والولد. وتقتضي كمال الذل والخضوع والتعظيم والإجلال والطاعة والانقياد ظاهرا وباطنا. وهذا لا نظير له في محبة المخلوق، ولو كان المخلوق من كان. ولهذا من أشرك بين الله وبين غيره في هذه المحبة الخاصة كان مشركا شركا لا يغفره الله. كما قال تعالى: { •• } ( )... (البقرة ـ 165) والصحيح: أن معنى الآية: أن الذين آمنوا أشد حبا لله من أهل الأنداد لأندادهم. كما تقدم أن محبة المؤمنين لربهم لا يماثلها محبة مخلوق أصلا، كما لا يماثل محبوبهم غيره، وكل أذى في محبة غيره فهو نعيم في محبته. وكل مكروه في محبة غيره فهو قرة عين محبته. ومن ضرب لمحبته الأمثال التي في محبة المخلوق للمخلوق: كالوصل، والهجر والتجني بلا سبب من المحب، وأمثال ذلك مما يتعالى الله عنه علوا كبيرا. فهو مخطئ أقبح الخطأ وأفحشه، وهو حقيق بالإبعاد والمقت. اهـ.
وفي " الصحيح عن النبي أنه قال: { من قال لا إله إلا الله، وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله } ( ) قوله: في الصحيح: أي صحيح مسلم عن أبي مالك الأشجعي عن أبيه عن النبي فذكره.
وأبو مالك اسمه سعد بن طارق، كوفي ثقة، مات في حدود الأربعين ومائة. وأبوه طارق بن أشيم - بالمعجمة والمثناة التحتية وزن أحمر - ابن مسعود الأشجعي، صحابي له أحاديث. قال مسلم: لم يرو عنه غير ابنه. وفي مسند الإمام أحمد عن أبي مالك قال: وسمعته يقول للقوم: " من وحد الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله " ورواه الإمام أحمد من طريق يزيد بن هارون قال أخبرنا أبو مالك الأشجعي عن أبيه. ورواه أحمد عن عبد الله بن إدريس قال: سمعت أبا مالك قال: قلت لأبي - الحديث. ورواية الحديث بهذا اللفظ تفسر: " لا إله إلا الله ".
قوله: (من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله) اعلم أن النبي علق عصمة المال والدم في هذا الحديث بأمرين:
الأول: قول " لا إله إلا الله " عن علم ويقين، كما هو قيد في قولها في غير ما حديث كما تقدم.
والثاني: الكفر بما يعبد من دون الله، فلم يكتف باللفظ المجرد عن المعنى، بل لا بد من قولها والعمل بها.
قلت: وفيه معنى:... { } ( )... (البقرة ـ 256).
قال المصنف -رحمه الله تعالى-: وهذا من أعظم ما يبين معنى " لا إله إلا الله "، فإنه لم يجعل اللفظ بها عاصما للدم والمال، بل ولا معرفة معناها مع لفظها، بل ولا الإقرار بذلك، بل ولا كونه لا يدعو إلا الله وحده لا شريك له، بل لا يحرم ماله ودمه حتى يضيف إلى ذلك الكفر بما يعبد من دون الله، فإن شك أو تردد لم يحرم ماله ودمه. فيا لها من مسألة ما أجلها ويا له من بيان ما أوضحه، وحجة ما أقطعها للمنازع) انتهى.
قلت: وهذا هو الشرط المصحح لقوله: " لا إله إلا الله " فلا يصح قولها بدون هذه الخمس التي ذكرها المصنف -رحمه الله- أصلا. قال تعالى: { } ( )... (الأنفال ـ 39) وقال:... { • • } ( )... (التوبة ـ 5) أمر بقتالهم حتى يتوبوا من الشرك ويخلصوا أعمالهم لله تعالى، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإن أبوا ذلك أو بعضه قوتلوا إجماعا.
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة مرفوعا { أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، ويؤمنوا بي وبما جئت به، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله } ( ) وفي الصحيحين عن ابن عمر قال: قال رسول الله { أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة. فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله } ( ) وهذان الحديثان تفسير الآيتين: آية الأنفال، وآية براءة. وقد أجمع العلماء على أن من قال: " لا إله إلا الله " ولم يعتقد معناها ولم يعمل بمقتضاها. أنه يقاتل حتى يعمل بما دلت عليه من النفي والإثبات.
قال أبو سليمان الخطابي -رحمه الله- في قوله: { أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله } ( ) معلوم أن المراد بهذا أهل عبادة الأوثان، دون أهل الكتاب، لأنهم يقولون: " لا إله إلا الله " ثم يقاتلون ولا يرفع عنهم السيف.
وقال القاضي عياض: اختصاص عصمة المال والنفس بمن قال لا إله إلا الله تعبير عن الإجابة إلى الإيمان، وأن المراد بذلك مشركو العرب وأهل الأوثان، فأما غيرهم ممن يقر بالتوحيد، فلا يكتفى في عصمته بقول " لا إله إلا الله " إذ كان يقولها في كفره. انتهى ملخصا.
وقال النووي: لا بد مع هذا من الإيمان بجميع ما جاء به الرسول كما جاء في الرواية ويؤمنوا بي وبما جئت به.
وقال شيخ الإسلام: لما سئل عن قتال التتار فقال: كل طائفة ممتنعة عن التزام شرائع الإسلام الظاهرة من هؤلاء القوم أو غيرهم، فإنه يجب قتالهم حتى يلتزموا شرائعه، وإن كانوا مع ذلك ناطقين بالشهادتين وملتزمين بعض شرائعه. كما قاتل أبو بكر والصحابة -رضي الله عنهم- مانعي الزكاة. وعلى هذا اتفق الفقهاء بعدهم. قال: فأيما طائفة امتنعت عن بعض الصلوات المفروضات، أو الصيام، أو الحج، أو عن التزام تحريم الدماء، أو الأموال، أو الخمر، أو الميسر، أو نكاح ذوات المحارم، أو عن التزام جهاد الكفار، أو غير ذلك من التزام واجبات الدين ومحرماته التي لا عذر لأحد في جحودها أو تركها، والتي يكفر الواحد بجحودها، فإن الطائفة الممتنعة تقاتل عليها وإن كانت مقرة بها، وهذا مما لا أعلم فيه خلافا بين العلماء. قال: وهؤلاء عند المحققين ليسوا بمنزلة البغاة، بل هم خارجون عن الإسلام. انتهى.
قوله: " وحسابه على الله " أي: الله تبارك وتعالى هو الذي يتولى حساب الذي يشهد بلسانه بهذه الشهادة، فإن كان صادقا جازاه بجنات النعيم، وإن كان منافقا عذبه العذاب الأليم. وأما في الدنيا فالحكم على الظاهر، فمن أتى بالتوحيد ولم يأت بما ينافيه ظاهرا والتزم شرائع الإسلام وجب الكف عنه.
قلت: وأفاد الحديث أن الإنسان قد يقول " لا إله إلا الله " ولا يكفر بما يعبد من دون الله فلم يأت بما يعصم دمه وماله كما دل على ذلك الآيات المحكمات والأحاديث.
قوله: " وشرح هذه الترجمة ما بعدها من الأبواب " قلت: وأن ما بعدها من الأبواب فيه ما يبين التوحيد ويوضح معنى " لا إله إلا الله " وفيه أيضا: بيان أشياء كثيرة من الشرك الأصغر والأكبر وما يوصل إلى ذلك من الغلو والبدع، مما تركه من مضمون " لا إله إلا الله " فمن عرف ذلك وتحققه تبين له معنى " لا إله إلا الله " وما دلت عليه من الإخلاص ونفي الشرك، وبضدها تتبين الأشياء، فبمعرفة الأصغر من الشرك يعرف ما هو أعظم منه من الشرك الأكبر المنافي للتوحيد، وأما الأصغر فإنما ينافي كماله، فمن اجتنبه فهو الموحد حقا، وبمعرفة وسائل الشرك والنهي عنها لتجتنب تعرف الغايات التي نهي عن الوسائل لأجلها، فإن اجتناب ذلك كله يستلزم التوحيد والإخلاص بل يقتضيه. وفيه أيضا من أدلة التوحيد إثبات الصفات وتنزيه الرب تعالى عما لا يليق بجلاله وكل ما يعرف بالله من صفات كماله وأدلة ربوبيته يدل على أنه هو المعبود وحده، وأن العبادة لا تصلح إلا له، وهذا هو التوحيد، ومعنى شهادة أن لا إله إلا الله.
المسائل المستنبطة من هذا الباب
فيه أكبر المسائل وأهمها:
وهي تفسير التوحيد، وتفسير الشهادة، وبينها بأمور واضحة.
منها: آية الإسراء، بين فيها الرد على المشركين الذين يدعون الصالحين، ففيها بيان أن هذا هو الشرك الأكبر.
ومنها: آية براءة، بين فيها أن أهل الكتاب اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله، وبين أنهم لم يؤمروا إلا بأن يعبدوا إلها واحدا، مع أن تفسيرها الذي لا إشكال فيه: طاعة العلماء والعباد في المعصية، لا دعاؤهم إياهم.
ومنهـا قول الخليل عليه السلام للكفار: { } ( ) ... فاستثنى من المعبودين ربه، وذكر سبحانه أن هذه البراءة وهذه الموالاة: هي تفسـير شهادة أن لا إله إلا الله. فقال: { } ( ).
ومنهـا: آيـة البقرة: في الكفار الذين قال فيهـم:... { • } ( ) ذكر أنهم يحبون أندادهم كحب الله، فدل على أنهم يحبون الله حبا عظيما، ولم يدخلهم في الإسلام، فكيف بمن أحب الند أكثر من حب الله؟ فكيف بمن لم يحب إلا الند وحده؟ ولم يحب الله؟.
ومنها قوله { من قال: لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه، وحسابه على الله } ( ) وهذا من أعظم ما يبين معنى " لا إله إلا الله " فإنه لم يجعل التلفظ بها عاصما للدم والمال، بل ولا معرفة معناها مع لفظها، بل ولا الإقرار بذلك، بل ولا كونه لا يدعو إلا الله وحده لا شريك له، بل لا يحرم ماله ودمه حتى يضيف إلى ذلك الكفر بما يعبد من دون الله، فإن شك أو توقف لم يحرم ماله ودمه.
فيالها من مسألة ما أعظمها وأجلها، وياله من بيان ما أوضحه، وحجة ما أقطعها للمنازع.
باب من الشرك لبس الحلقة والخيط ونحوهما لرفع البلاء أو دفعه
وقول الله تعالى:... { • } ( ) (الزمر - 38).
عن عمران بن حصين { أن النبي رأى رجلا في يده حلقة من صفر، فقال: ما هذه؟ قال: من الواهنة. فقال: انزعها فإنها لا تزيدك إلا وهنا، فإنك لو مت وهي عليك، ما أفلحت أبدا } ( ).
رواه أحمد بسند لا بأس به.
وله عن عقبة بن عامر مرفوعا.
{ من تعلق تميمة فلا أتم الله له، ومن تعلق ودعة فلا ودع الله له } ( ) وفي رواية: { من تعلق تميمة فقد أشرك } ( ).
ولابن أبي حاتم عن حذيفة أنه رأى رجلا في يده خيط من الحمى فقطعه، وتلا قوله: { } ( ) (يوسف - 106).
قوله: باب " من الشرك لبس الحلقة والخيط ونحوهما، لرفع البلاء أو دفعه ".
رفعه: إزالته بعد نزوله. ودفعه: منعه قبل نزوله.
قال: " وقول الله تعالى: { • } ( )... (الزمر: 38).
قال ابن كثير: أي: لا تستطيع شيئا من الأمر... { } ( )... أي: الله كافي من توكل عليه... { } ( )... كما قال هود –عليـه السلام- حين قـال قومـه: - { • • } ( ) (هود ـ 54 - 56) قال مقاتل في معنى الآية: فسألهم النبي فسكتوا. أي: لأنهم لا يعتقدون ذلك فيها.
وإنما كانوا يدعونها على معنى أنها وسائط وشفعاء عند الله، لا على أنهم يكشفون الضر، ويجيبون دعاء المضطـر، فهـم يعلمون أن ذلك لله وحده. كما قال تعالى:... { } ( ) (النحل ـ 53 - 54).
قلت: فهذه الآية وأمثالها تبطل تعلق القلب بغير الله في جلب نفع أو دفع ضر، وأن ذلك شرك بالله. وفي الآية بيان أن الله تعالى وسم أهل الشرك بدعوة غير الله والرغبة إليه من دون الله. والتوحيد ضد ذلك. وهو أن لا يدعو إلا الله، ولا يرغب إلا إليه، ولا يتوكل إلا عليه، وكذا جميع أنواع العبادة لا يصلح منها شيء لغير الله. كما دل على ذلك الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة وأئمتها كما تقدم.
قال: " عن عمران بن حصين { أن النبي رأى رجلا في يده حلقة من صفر فقال: ما هذه؟ قال: من الواهنة. قال: انزعها، فإنها لا تزيدك إلا وهنا، فإنك لو مت وهي عليك ما أفلحت أبدا } ( ) رواه أحمد بسند لا بأس به.
قال الإمام أحمد: حدثنا خلف بن الوليد حدثنا المبارك عن الحسن قال: أخبرني عمران بن حصين { أن النبي أبصر على عضد رجل حلقة - قال أراها من صفر - فقال: ويحك ما هذه؟ قال: من الواهنة. قال: أما إنها لا تزيدك إلا وهنا. انبذها عنك فإنك لو مت وهي عليك ما أفلحت أبدا } ( ) رواه ابن حبان في صحيحه فقال: { فإنك لو مت وكلت إليها } والحاكم وقال: صحيح الإسناد، وأقره الذهبي، وقال الحاكم: أكثر مشايخنا على أن الحسن سمع من عمران، وقوله في الإسناد: أخبرني عمران يدل على ذلك.
وقوله: " عن عمران بن حصين " أي: ابن عبيد بن خلف الخزاعي، أبو نجيد - بنون وجيم - مصغر، صحابي ابن صحابي، أسلم عام خيبر، ومات سنة اثنتين وخمسين بالبصرة.
قوله: " رأى رجلا " في رواية الحاكم " دخلت على رسول الله وفي عضدي حلقة صفر، فقال: ما هذه؟ " الحديث فالمهم في رواية أحمد هو عمران راوي الحديث.
قوله: " ما هذه؟ يحتمل أن الاستفهام للاستفسار عن سبب لبسها، ويحتمل أن يكون للإنكار، وهو أظهر.
قوله: " من الواهنة " قال أبو السعادات: الواهنة: عرق يأخذ في المنكب واليد كلها، فيرقى منها، وقيل هو مرض يأخذ في العضد، وهي تأخذ الرجال دون النساء، نهى عنها لأنه إنما اتخذها على أنها تعصمه من الألم، وفيه اعتبار للقاصد.
قوله: { انزعها، فإنها لا تزيدك إلا وهنا } ( ) النزع: هو الجذب بقوة، أخبر أنها لا تنفعه بل تضره وتزيده ضعفا، وكذلك كل أمر نهي عنه فإنه لا ينفع غالبا وإن نفع بعضه فضره أكبر من نفعه.
قوله: { فإنك لو مت وهي عليك ما أفلحت أبدا } ( ) لأنه شرك، والفلاح هو الفوز والظفر والسعادة.
قال المصنف -رحمه الله تعالى-: فيه شاهد لكلام الصحابة: أن الشرك الأصغر أكبر الكبائر، وأنه لم يعذر بالجهالة، وفيه الإنكار بالتغليظ على من فعل مثل ذلك.
قوله: (رواه أحمد بسند لا بأس به) هو الإمام أحمد بن حنبل بن هلال بن أسد بن إدريس بن عبد الله بن حسان بن عبد الله بن أنس بن عوف بن قاسط بن مازن بن شيبان بن ذهل بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل بن قاسط بن هُنْب بن أفصى بن دُعمى بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان الإمام العالم أبو عبد الله الذهلي ثم الشيباني المروزي ثم البغدادي، إمام أهل عصره وأعلمهم بالفقه والحديث، وأشدهم ورعا ومتابعة للسنة، وهو الذي يقول فيه بعض أهل السنة: عن الدنيا ما كان أصبره، وبالماضين ما كان أشبهه، أتته الدنيا فأباها، والشبه فنفاها، خرج به من مرو وهو حمل فولد ببغداد سنة أربع وستين ومائة في شهر ربيع الأول.
وطلب أحمد العلم سنة وفاة مالك، وهي سنة تسع وسبعين فسمع من هشيم وجرير بن عبد الحميد وسفيان بن عيينة ومعتمر بن سليمان ويحيى بن سعيد القطان ومحمد بن إدريس الشافعي ويزيد بن هارون وعبد الرزاق وعبد الرحمن بن مهدي وخلق لا يحصون بمكة والبصرة والكوفة وبغداد واليمن وغيرها من البلاد. روى عنه ابناه صالح وعبد الله، والبخاري ومسلم وأبو داود وإبراهيم الحربي وأبو زرعة الرازي وأبو زرعة الدمشقي وعبد الله بن أبي الدنيا وأبو بكر الأثرم وعثمان بن سعيد الدارمي وأبو القاسم البغوي، وهو آخر من حدث عنه، وروى عنه من شيوخه عبد الرحمن بن مهدي والأسود بن عامر، ومن أقرانه علي بن المديني ويحيى بن معين. قال البخاري: مرض أحمد ليلتين خلتا من ربيع الأول ومات يوم الجمعة لاثنتي عشرة خلت منه، وقال حنبل: مات يوم الجمعة في ربيع الأول سنة إحدى وأربعين ومائتين وله سبع وسبعون سنة. وقال ابنه عبد الله والفضل بن زياد: مات في ثاني عشر ربيع الآخر -رحمه الله تعالى-.
قوله: وله عن عقبة بن عامر مرفوعا { من تعلق تميمة فلا أتم الله له، ومن تعلق ودعة فلا ودع الله له } ( ) وفي رواية: { من تعلق تميمة فقد أشرك } ( ) الحديث الأول رواه الإمام أحمد كما قال المصنف، ورواه أيضا أبو يعلى والحاكم وقال: صحيح الإسناد وأقره الذهبي.
قوله: (وفي رواية) أي: من حديث آخر رواه أحمد فقال: حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث حدثنا عبد العزيز بن مسلم حدثنا يزيد بن أبي منصور عن دجين الحجري { عن عقبة بن عامر الجهني " أن رسول الله أقبل إليه رهط فبايع تسعة وأمسك عن واحد، فقالوا: يا رسول الله، بايعت تسعة وأمسكت عن هذا؟ فقال: إن عليه تميمة فأدخل يده فقطعها، فبايعه وقال: من تعلق تميمة فقد أشرك } ( ) ورواه الحاكم ونحوه، ورواته ثقات.
قوله: " عن عقبة بن عامر " صحابي مشهور فقيه فاضل، ولي إمارة مصر لمعاوية ثلاث سنين ومات قريبا من الستين.
قوله: " من تعلق تميمة " أي: علقها متعلقا بها قلبه في طلب خير أو دفع شر.
قال المنذري: خرزة كانوا يعلقونها يرون أنها تدفع عنهم الآفات، وهذا جهل وضلالة، إذ لا مانع ولا دافع غير الله تعالى.
وقال أبو السعادات: التمائم جمع تميمة، وهي خرزات كانت العرب تعلقها على أولادهم، يتقون بها العين في زعمهم، فأبطلها الإسلام.
قوله: " فلا أتم الله له " دعاء عليه.
قوله: " ومن تعلق ودعة " بفتح الواو وسكون المهملة. قال في مسند الفردوس: شيء يخرج من البحر يشبه الصدف يتقون به العين.
قوله: " فلا ودع الله له " بتخفيف الدال، أي: لا جعله في دعة وسكون، قال أبو السعادات: وهذا دعاء عليه.
قوله: " وفي رواية: من { تعلق تميمة فقد أشرك } ( ) قال أبو السعادات: إنما جعلها شركا لأنهم أرادوا دفع المقادير المكتوبة عليهم، وطلبوا دفع الأذى من غير الله الذي هو دافعه.
قال المصنف -رحمه الله- ولابن أبي حاتم عن حذيفة: " أنه رأى رجلا في يده خيط مـن الحمى، فقطعـه، وتلا قـوله تعـالى: { } ( ) (يوسف ـ 106).
قال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن الحسين بن إبراهيم بن أشكاب حدثنا يونس بن محمد حدثنا حماد بن سلمة عن عاصم الأحول عن عروة قال: دخل حذيفة على مريض، فرأى في عضده سيرا فقطعه أو ـ انتزعه ـ. ثم قال: { } ( ) وابن أبي حاتم: هو الإمام أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم محمد بن إدريس الرازي التميمي الحنظلي الحافظ، صاحب الجرح والتعديل والتفسير وغيرهما. مات سنة سبع وعشرين وثلاثمائة.
وحذيفة: هو ابن اليمان. واسم اليمان: حُسيل بمهملتين مصغرا، ويقال: حِسْل - بكسر ثم سكون - العبسي بالموحدة، حليف الأنصار، صحابي جليل من السابقين ويقال له صاحب السر وأبوه أيضا صحابي. مات حذيفة في أول خلافة علي سنة ست وثلاثين.
قوله: " رأى رجلا في يده خيط من الحمى " أي: عن الحمى. وكان الجهال يعلقون التمائم والخيوط ونحوها لدفع الحمى وروى وكيع عن حذيفة: أنه دخل على مريض يعوده فلمس عضده، فإذا فيه خيط، فقال: ما هذا؟ قال: شيء رقي لي فيه، فقطعه وقال: " لو مت وهو عليك ما صليت عليك ".
وفيه إنكار مثل هذا، وإن كان يعتقد أنه سبب، فالأسباب لا يجوز منها إلا ما أباحه الله تعالى ورسوله مع عدم الاعتماد عليها. وأما التمائم والخيوط والحروز والطلاسم ونحو ذلك مما يعلقه الجهال فهو شرك يجب إنكاره وإزالته بالقول والفعل، وإن لم يأذن فيه صاحبه.
قوله: " وتلا قوله: { } ( ) (يوسف ـ 106) استدل حذيفة بالآية على أن هذا شرك. ففيه صحة الاستدلال على الشرك الأصغر بما أنزله الله في الشرك الأكبر، لشمول الآية ودخوله في مسمى الشرك، وتقدم معنى هذه الآية عن ابن عباس وغيره في كلام شيخ الإسلام وغيره. والله أعلم.
وفي هذه الآثار عن الصحابة: ما يبين كمال علمهم بالتوحيد وما ينافيه أو ينافي كماله.
المسائل المستنبطة من هذا الباب
فيه مسائل:
الأولى: التغليظ في لبس الحلقة والخيط ونحوهما لمثل ذلك.
الثانية: أن الصحابي لو مات وهي عليه ما أفلح، فيه شاهد لكلام الصحابة: أن الشرك الأصغر من أكبر الكبائر.
الثالثة: أنه لم يعذر بالجهالة.
الرابعة: أنها لا تنفع في العاجلة بل تضر، لقوله: " لا تزيدك إلا وهنا ".
الخامسة: الإنكار بالتغليظ على من فعل مثل ذلك.
السادسة: التصريح بأن من تعلق شيئا وكل إليه.
السابعة: التصريح بأن من تعلق تميمة فقد أشرك.
الثامنة: أن تعليق الخيط من الحمى من ذلك.
التاسعة: تلاوة حذيفة الآية دليل على أن الصحابة يستدلون بالآيات التي في الشرك الأكبر على الأصغر، كما ذكر ابن عباس في آية البقرة.
العاشرة: أن تعليق الودع عن العين من ذلك.
الحادية عشرة: الدعاء على من تعلق تميمة، أن الله لا يتم له، ومن تعلق ودعة، فلا ودع الله له، أي لا ترك الله له.
باب ما جاء في الرقى والتمائم
في الصحيح عن أبي بشير الأنصاري أنه كان مع رسول الله في بعض أسفاره، فأرسل رسولا: { أن لا يبقين في رقبة بعير قلادة من وتر أو قلادة إلا قطعت } ( ).
وعن ابن مسعود قال: سمعت رسول الله يقول: " { إن الرقى والتمائم والتولة شرك } ( ) رواه أحمد وأبو داود.
" التمائم ": شيء يعلق على الأولاد من العين، ولكن إذا كان المعلق من القرآن فرخص فيه بعض السلف، وبعضهم لم يرخص فيه، ويجعله من المنهي عنه، منهم ابن مسعود رضي الله عنه.
و " الرقى ": هي التي تسمى العزائم، وخص منها الدليل ما خلا من الشرك رخص فيه رسول الله من العين والحمة.
و " التولة ": شيء يصنعونه يزعمون أنه يحبب المرأة إلى زوجها، والرجل إلى امرأته.
وعن عبد الله بن عكيم مرفوعا: { من تعلق شيئا وكل إليه } ( ) " رواه أحمد والترمذي.
وروى أحمد عن رويفع قال: قال لي رسول الله " { يا رويفع، لعل الحياة ستطول بك، فأخبر الناس: أن من عقد لحيته، أو تقلد وترا، أو استنجى برجيع دابة أو عظم، فإن محمدا بريء منه } ( ).
وعن سعيد بن جبير قال: { من قطع تميمة من إنسان كان كعدل رقبة } رواه وكيع.
وله عن إبراهيم قال: " كانوا يكرهون التمائم كلها، من القرآن وغير القرآن ".
قوله: (باب ما جاء في الرقى والتمائم)
أي من النهي وما ورد عن السلف في ذلك.
قوله: في الصحيح عن أبي بشير الأنصاري أنه كان مع النبي في بعض أسفاره فأرسل رسولا: { أن لا يبقين في رقبة بعير قلادة من وتر أو قلادة إلا قطعت } ( ) هذا الحديث في الصحيحين.
قوله: " عن أبي بشير " بفتح أوله وكسر المعجمة، قيل: اسمه قيس بن عبيد، قاله ابن سعد. وقال ابن عبد البر: لا يوقف له على اسم صحيح، هو صحابي شهد الخندق ومات بعد الستين. ويقال: إنه جاوز المائة.
قوله: " في بعض أسفاره " قال الحافظ: لم أقف على تعيينه.
قوله: " فأرسل رسولا " هو زيد بن حارثة. روى ذلك الحارث بن أبي أسامة في مسنده قاله الحافظ.
قوله: " أن لا يبقين " بالمثناة التحتية والقاف المفتوحتين، " قلادة " مرفوع على أنه فاعل. و " الوتر " بفتحتين: واحد أوتار القوس، وكان أهل الجاهلية إذا اخلولق الوتر أبدلوه بغيره، وقلدوا به الدواب اعتقادا منهم أنه يدفع عن الدابة العين.
قوله: " أو قلادة إلا قطعت " معناه: أن الراوي شك هل قال شيخه: قلادة من وتر أو قال: قلادة وأطلق ولم يقيده؟ ويؤيد الأول ما روي عن مالك " أنه سئل عن القلادة؟ فقال: ما سمعت بكراهتها إلا في الوتر ". ولأبي داود " ولا قلادة " بغير شك.
قال البغوي في شرح السنة: تأول مالك أمره -عليه الصلاة والسلام- بقطع القلائد على أنه من أجل العين وذلك أنهم كانوا يشدون الأوتار والتمائم ويعلقون عليها العوذ، يظنون أنها تعصمها من الآفات. فنهاهم النبي عنها وأعلمهم أنها لا ترد من أمر الله شيئا.
قال أبو عبيد: كانوا يقلدون الإبل الأوتار؛ لئلا تصيبها العين، فأمرهم النبي بإزالتها إعلاما لهم بأن الأوتار لا ترد شيئا. وكذا قال ابن الجوزي وغيره.
قال الحافظ: ويؤيده حديث عقبة بن عامر رفعه{ من تعلق تميمة فلا أتم الله له } ( ) رواه أبو داود. وهي ما علق من القلائد خشية العين ونحو ذلك. انتهى.
قال المصنف: وعن ابن مسعود قال: سمعت رسول الله يقول: { إن الرقى والتمائم والتولة شرك } ( ) رواه أحمد وأبو داود. وفيه قصة.
ولفظ أبي داود: عن زينب امرأة عبد الله بن مسعود قالت: " { إن عبد الله رأى في عنقي خيطا فقال: ما هذا؟ قلت: خيط رقي لي فيه. قالت: فأخذه ثم قطعه، ثم قال: أنتم آل عبد الله لأغنياء عن الشرك. سمعت رسول الله يقول: " إن الرقى والتمائم والتولة شرك ". فقلت: لقد كانت عيني تقذف، وكنت أختلف إلى فلان اليهودي، فإذا رقى سكنت. فقال عبد الله: إنما ذاك عمل الشيطان، كان ينخسها بيده، فإذا رقى كف عنها. إنما كان يكفيك أن تقولي كما كان رسول الله يقول: " أذهب الباس، رب الناس، واشف أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقما } ( ) ورواه ابن ماجه وابن حبان والحاكم وقال: صحيح، وأقره الذهبي.
قوله: " إن الرقى " قال المصنف: " هي التي تسمى العزائم، وخص منه الدليل ما خلا من الشرك، فقد رخص فيه رسول الله من العين والحمة " يشير إلى أن الرقى الموصوفة بكونها شركا هي التي يستعان فيها بغير الله، وأما إذا لم يذكر فيها إلا أسماء الله وصفاته وآياته، والمأثور عن النبي فهذا حسن جائز أو مستحب.
قوله " فقد رخص فيه رسول الله من العين والحمة " كما تقدم ذلك في باب من حقق التوحيد. وكذا رخص في الرقى من غيرها، كما في صحيح مسلم عن عوف بن مالك: { كنا نرقي في الجاهلية، فقلنا: يا رسول الله كيف ترى في ذلك؟ فقال: اعرضوا علي رقاكم، لا بأس بالرقى ما لم تكن شركا } ( ) وفي الباب أحاديث كثيرة.
قال الخطابي: وكان -عليه السلام- قد رقى ورقي، وأمر بها وأجازها، فإذا كانت بالقرآن وبأسماء الله فهي مباحة أو مأمور بها، وإنما جاءت الكراهة والمنع فيما كان منها بغير لسان العرب، فإنه ربما كان كفرا أو قولا يدخله شرك.
قلت: من ذلك ما كان على مذاهب الجاهلية التي يتعاطونها، وأنها تدفع عنهم الآفات ويعتقدون أن ذلك من قبل الجن ومعونتهم. وبنحو هذا ذكر الخطابي.
وقال شيخ الإسلام: كل اسم مجهول فليس لأحد أن يرقي به فضلا أن يدعو به، ولو عرف معناه؛ لأنه يكره الدعاء بغير العربية، وإنما يرخص لمن لا يحسن العربية، فأما جعل الألفاظ الأعجمية شعارا فليس من دين الإسلام.
وقال السيوطي: وقد أجمع العلماء على جواز الرقى عند اجتماع ثلاثة شروط: أن تكون بكلام الله أو بأسمائه وصفاته، وباللسان العربي وما يعرف معناه، وأن يعتقد أن الرقية لا تؤثر بذاتها بل بتقدير الله تعالى.
قوله: " التمائم " قال المصنف: " شيء يعلق على الأولاد من العين " وقال الخلخالي: التمائم جمع تميمة وهي ما يعلق بأعناق الصبيان من خرزات وعظام لدفع العين، وهذا منهي عنه. لأنه لا دافع إلا الله، ولا يطلب دفع المؤذيات إلا بالله وبأسمائه وصفاته.
قال المصنف: " لكن إذا كان المعلق من القرآن فرخص فيه بعض السلف، وبعضهم لم يرخص فيه ويجعله من المنهى عنه، منهم ابن مسعود.
اعلم أن العلماء من الصحابة والتابعين فمن بعدهم اختلفوا في جواز تعليق التمائم التي من القرآن وأسماء الله وصفاته، فقالت طائفة: يجوز ذلك، وهو قول عبد الملك بن عمرو بن العاص وهو ظاهر ما روي عن عائشة، وبه قال أبو جعفر الباقر وأحمد في رواية. وحملوا الحديث على التمائم التي فيها شرك.
وقالت طائفة: لا يجوز ذلك. وبه قال ابن مسعود وابن عباس. وهو ظاهر قول حذيفة وعقبة بن عامر وابن عكيم، وبه قال جماعة من التابعين، منهم أصحاب ابن مسعود وأحمد في رواية اختارها كثير من أصحابه، وجزم بها المتأخرون، واحتجوا بهذا الحديث وما في معناه.
قلت: هذا هو الصحيح لوجوه ثلاثة تظهر للمتأمل: الأول: عموم النهي ولا مخصص للعموم، الثانى: سد الذريعة، فإنه يفضي إلى تعليق ما ليس كذلك، الثالث: أنه إذا علق فلا بد أن يمتهنه المعلق بحمله معه في حال قضاء الحاجة والاستنجاء ونحو ذلك. وتأمل هذه الأحاديث وما كان عليه السلف رضي الله تعالى عنهم يتبين لك بذلك غربة الإسلام، خصوصا إن عرفت عظيم ما وقع فيه الكثير بعد القرون المفضلة من تعظيم القبور واتخاذ المساجد عليها والإقبال إليها بالقلب والوجه، وصرف جل الدعوات والرغبات والرهبة وأنواع العبادات التي هي حق الله تعالى إليها من دونه، كما قال تعالى: { • } ( ) (يونس - 106، 107) ونظائرها في القرآن أكثر من أن تحصر.
قوله: " التولة " قال المصنف: " هي شيء يصنعونه يزعمون أنه يحبب المرأة إلى زوجها والرجل إلى امرأته " وبهذا فسرها ابن مسعود راوي الحديث، كما في صحيح ابن حبان والحاكم " قالوا: يا أبا عبد الرحمن، هذه الرقى والتمائم قد عرفناها فما التولة؟ قال: شيء تصنعه النساء يتحببن به إلى أزواجهن ".
قال الحافظ: التولة - بكسر المثناة وفتح الواو واللام مخففا - شيء كانت المرأة تجلب به محبة زوجها، وهو ضرب من السحر، والله أعلم.
وكان من الشرك لما يراد به من دفع المضار وجلب المنافع من غير الله تعالى.
قال المصنف: " وعن عبد الله بن عكيم مرفوعا: { من تعلق شيئا وكل إليه } ( ) رواه أحمد والترمذي " ورواه أبو داود والحاكم، وعبد الله بن عُكيم هو بضم المهملة مصغرا، ويكنى أبا معبد، الجهني الكوفي. قال البخاري: أدرك زمن النبي ولا يعرف له سماع صحيح. وكذا قال أبو حاتم. قال الخطيب: سكن الكوفة وقدم المدائن في حياة حذيفة وكان ثقة، وذكر ابن سعد عن غيره أنه مات في ولاية الحجاج.
قوله: { ومن تعلق شيئا وكل إليه } ( ) التعلق يكون بالقلب، ويكون بالفعل، ويكون بهما " وكل إليه " أي وكله الله إلى ذلك الشيء الذي تعلقه، فمن تعلق بالله وأنزل حوائجه به والتجأ إليه، وفوض أمره إليه، كفاه وقرب إليه كل بعيد ويسر له كل عسير، ومن تعلق بغيره أو سكن إلى رأيه وعقله ودوائه وتمائمه ونحو ذلك، وكله الله إلى ذلك وخذله، وهذا معروف بالنصوص والتجارب، قال تعالى:... { } ( )... (الطلاق - 3).
وقال الإمام أحمد: حدثنا هشام بن القاسم حدثنا أبو سعيد المؤدب حدثنا من سمع عطاء الخراساني قال: { لقيت وهب بن منبه وهو يطوف بالبيت فقلت: حدثني حديثا أحفظه عنك في مقامي هذا وأوجز. قال: نعم، أوحى الله تبارك وتعالى إلى داود: يا داود، أما وعزتي وعظمتي لا يعتصم بي عبد من عبادي دون خلقي أعرف ذلك من نيته، فتكيده السماوات السبع ومن فيهن والأرضون السبع ومن فيهن - إلا جعلت له من بينهن مخرجا. أما وعزتي وعظمتي لا يعتصم عبد من عبادي بمخلوق دوني أعرف ذلك من نيته، إلا قطعت أسباب السماء من يده وأسخت الأرض من تحت قدميه ثم لا أبالي بأي أوديتها هلك }.
قال المصنف: وروى الإمام أحمد عن رويفع قال: قال لي رسول الله { يا رويفع، لعل الحياة ستطول بك، فأخبر الناس أن من عقد لحيته أو تقلد وترا أو استنجى برجيع دابة أو عظم، فإن محمدا بريء منه } ( ).
الحديث رواه الإمام أحمد عن يحيى بن إسحاق والحسن بن موسى الأشيب كلاهما عن ابن لهيعة. وفيه قصة اختصرها المصنف. وهذا لفظ الحسن: حدثنا ابن لهيعة حدثنا عياش بن عباس عن شُييم بن بيتان قال: حدثنا رويفع بن ثابت قال: { كان أحدنا في زمن رسول الله يأخذ جمل أخيه على أن يعطيه النصف مما يغنم وله النصف، حتى إن أحدنا ليصير له النصل والريش، وللآخر القِدْح. ثم قال لي رسول الله } ( ) - الحديث " ثم رواه أحمد عن يحيى بن غيلان حدثني الفضل حدثنا عياش بن عباس: أن شييم بن بيتان أخبره أنه سمع شيبان القتباني - الحديث. ابن لهيعة فيه مقال.
وفي الإسناد الثاني شيبان القتباني، قيل فيه: مجهول. وبقية رجالهما ثقات.
قوله: " لعل الحياة ستطول بك " فيه علم من أعلام النبوة، فإن رويفعا طالت حياته إلى سنة ست وخمسين فمات ببرقة من أعمال مصر أميرا عليها، وهو من الأنصار. وقيل: مات ثلاث وخمسين. قوله: " فأخبر الناس " دليل على وجوب إخبار الناس، وليس هذا مختصا برويفع، بل كل من كان عنده علم ليس عند غيره مما يحتاج إليه الناس وجب إعلامهم به، فإن اشترك هو وغيره في علم ذلك فالتبليغ فرض كفاية. قاله أبو زرعة في شرح سنن أبي داود.
قوله: " أن من عقد لحيته " بكسر اللام لا غير، والجمع لحى بالكسر والضم قاله الجوهري.
قال الخطابي: أما نهيه عن عقد اللحية فيفسر على وجهين. أحدهما: ما كانوا يفعلونه في الحرب، كانوا يعقدون لحاهم، وذلك من زِيِّ بعض الأعاجم يفتلونها ويعقدونها. قال أبو السعادات: تكبرا وعجبا. ثانيهما: أن معناه معالجة الشعر ليتعقد ويتجعد، وذلك من فعل أهل التأنيث. وقال أبو زرعة ابن العراقى: والأولى حمله على عقد اللحية في الصلاة، كما دلت عليه رواية محمد بن الربيع. وفيه " أن من عقد لحيته في الصلاة ".
قوله: " أو تقلد وترا " أي جعله قلادة في عنقه أو عنق دابته. وفي رواية محمد بن الربيع " أو تقلد وترا - يريد: تميمة ".
فإذا كان هذا فيمن تقلد وترا فكيف بمن تعلق بالأموات وسألهم قضاء الحاجات، وتفريج الكربات، الذي جاء النهي عنه وتغليظه في الآيات المحكمات؟.
قوله: " أو استنجى برجيع دابة أو عظم فإن محمدا بريء منه " قال النووي: أي بريء من فعله، وهذا خلاف الظاهر. والنووي كثيرا ما يتأول الأحاديث بصرفها عن ظاهرها فيغفر الله تعالى له.
وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود مرفوعا: { لا تستنجوا بالروث ولا العظام فإنه زاد إخوانكم من الجن } ( ) وعليه لا يجزئ الاستنجاء بهما كما هو ظاهر مذهب أحمد، لما روى ابن خزيمة والدارقطني عن أبي هريرة: " أن النبي { نهى أن يستنجى بعظم أو روث، وقال: إنهما لا يطهران }.
قوله: " وعن سعيد بن جبير قال: { من قطع تميمة من إنسان كان كعدل رقبة }. رواه وكيع " هذا عند أهل العلم له حكم الرفع؛ لأن مثل ذلك لا يقال بالرأي، ويكون هذا مرسلا؛ لأن سعيدا تابعي. وفيه: فضل قطع التمائم لأنها شرك. ووكيع: هو ابن الجراح بن وكيع الكوفي، ثقة إمام، صاحب تصانيف، منها الجامع وغيره. روى عنه الإمام أحمد وطبقته. مات سنة سبع وتسعين ومائة.
قوله: وله عن إبراهيم قال: " كانوا يكرهون التمائم كلها من القرآن وغير القرآن " وإبراهيم هو الإمام إبراهيم بن يزيد النخعى الكوفي، يكنى أبا عمران، ثقة من كبار الفقهاء. قال المزي: دخل على عائشة، ولم يثبت له سماع منها. مات سنة ست وتسعين، وله خمسون سنة أو نحوها.
قوله: " كانوا يكرهون التمائم " إلى آخره، مراده بذلك: أصحاب عبد الله بن مسعود، كعلقمة والأسود وأبي وائل والحارث بن سويد، وعبيدة السلماني ومسروق والربيع بن خُثيم وسويد بن غفلة وغيرهم، وهو من سادات التابعين وهذه الصيغة يستعملها إبراهيم في حكاية أقوالهم كما بين ذلك الحفاظ كالعراقى وغيره.
المسائل المستنبطة من هذا الباب
فيه مسائل:
الأولى: تفسير الرقى والتمائم.
الثانية: تفسير التولة.
الثالثة: أن هذه الثلاث كلها من الشرك من غير استثناء.
الرابعة: أن الرقية بالكلام الحق من العين والحمة ليس من ذلك.
الخامسة: أن التميمة إذا كانت من القرآن فقد اختلف العلماء: هل هي من ذلك أم لا؟.
السادسة: أن تعليق الأوتار على الدواب عن العين من ذلك.
السابعة: الوعيد الشديد على من تعلق وترا.
الثامنة: فضل ثواب من قطع تميمة من إنسان.
التاسعة: أن كلام إبراهيم لا يخالف ما تقدم من الاختلاف، لأن مراده أصحاب عبد الله.
باب من تبرك بشجرة أو حجر ونحوهما
وقول الله تعالى: { • • } ( ) (النجم - 19، 20).
عن أبي واقد الليثي، قال: { خرجنا مع رسول الله إلى حنين ونحن حدثاء عهد بالكفر، وللمشركين سدرة يعكفون عندها وينوطون بها أسلحتهم، يقال لها: ذات أنواط، فمررنا بسدرة فقلنا: يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط فقال رسول الله " الله أكبر، إنها السنن. قلتم ـ والذي نفسي بيده ـ كما قالت بنو إسرائيل لموسى:... { } ( ) (الأعراف - 138) لتركبن سنن من كان قبلكم }. رواه الترمذي وصححه.
قوله: باب " من تبرك بشجر أو حجر ونحوهما " كبقعة وقبر ونحو ذلك، أي فهو مشرك.
قوله: وقوله الله تعالى: { • • } ( ) الآيات (النجم - 19 - 20) " وكانت اللات لثقيف، والعزى لقريش وبني كنانة، ومناة لبني هلال. وقال ابن هشام: كانت لهذيل وخزاعة.
فأما " اللات " فقرأ الجمهور بتخفيف التاء، وقرأ ابن عباس وابن الزبير ومجاهد وحميد وأبو صالح ورويس عن يعقوب بتشديد التاء.
فعلى الأولى: قال الأعمش: سموا اللات من الإله، والعزى من العزيز، قال ابن جرير: وكانوا قد اشتقوا اسمها من اسم الله تعالى، قالوا: اللات مؤنثة منه، تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا. قال: وكذا العزى من العزيز.
وقال ابن كثير: اللات كانت صخرة بيضاء منقوشة عليها بيت بالطائف له أستار وسدنة وحوله فناء معظم عند أهل الطائف، وهم ثقيف ومن تبعها يفتخرون به على من عداهم من أحياء العرب بعد قريش، قال ابن هشام: فبعث رسول الله المغيرة بن شعبة فهدمها وحرقها بالنار.
وعلى الثانية: قال ابن عباس: " كان رجلا يلت السويق للحاج، فلما مات عكفوا على قبره " ذكره البخاري. قال ابن عباس: " كان يبيع السويق والسمن عند صخرة ويسلؤه عليها، فلما مات ذلك الرجل عبدت ثقيف تلك الصخرة إعظاما لصاحب السويق ". وعن مجاهد نحوه وقال: " فلما مات عبدوه " رواه سعيد بن منصور. وكذا روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس " أنهم عبدوه " وبنحو هذا قال جماعة من أهل العلم.
قلت: لا منافاة بين القولين؛ فإنهم عبدوا الصخرة والقبر تأليها وتعظيما.
ولمثل هذا بنيت المشاهد والقباب على القبور واتخذت أوثانا. وفيه: بيان أن أهل الجاهلية كانوا يعبدون الصالحين والأصنام. وأما " العزى " فقال ابن جرير: كانت شجرة عليها بناء وأستار بنخلة - بين مكة والطائف - كانت قريش يعظمونها... كما قال أبو سفيان يوم أحد: { لنا العزى ولا عزى لكم. فقال رسول الله " قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم } ( ) وروى النسائي وابن مردويه عن أبي الطفيل قال: { لما فتح رسول الله مكة بعث خالد بن الوليد إلى نخلة وكانت بها العزى، وكانت على ثلاث سمرات فقطع السمرات، وهدم البيت الذي كان عليها. ثم أتى النبي فأخبره. فقال: ارجع، فإنك لم تصنع شيئا، فرجع خالد، فلما أبصرته السدنة أمعنوا في الجبل وهم يقولون: يا عزى يا عزى، فأتاها خالد، فإذا امرأة عريانة ناشرة شعرها تحفن التراب على رأسها فعمها بالسيف فقتلها. ثم رجع إلى رسول الله فأخبره. فقال: تلك العزى } قلت: وكل هذا وما هو أعظم منه يقع في هذه الأزمنة عند ضرائح الأموات وفي المشاهد.
وأما " مناة " فكانت بالمشلل عند قديد، بين مكة والمدينة وكانت خزاعة والأوس والخزرج يعظمونها ويهلون منها للحج وأصل اشتقاقها: من اسم الله المنان، وقيل: لكثرة ما يُمنى - أي يراق - عندها من الدماء للتبرك بها.
قال البخاري رحمه الله، في حديث عروة عن عائشة رضي الله عنها: " إنها صنم بين مكة والمدينة " قال ابن هشام: " فبعث رسول الله عليا فهدمها عام الفتح " فمعنى الآية كما قال القرطبي: إن فيها حذفا تقديره: أفرأيتم هذه الآلهة، أنفعت أو ضرت، حتى تكون شركاء لله تعالى؟
وقوله: { } ( ) قال ابن كثير: تجعلون له ولدا وتجعلون ولده أنثى وتختارون لكم الذكور؟ وقوله: { } ( ) أي جور وباطلة. فكيف تقاسمون ربكم هذه القسمة التي لو كانت بين مخلوقين كانت جورا وسفها، فتنزهون أنفسكم عن الإناث وتجعلونهن لله تعالى. وقوله: { } ( )... أي مـن تلقاء أنفسكم... { • } ( )... أي من حجة... { } ( )... أي ليس لهم مستند إلا حسن ظنهم بآبائهم الذين سلكوا هذا المسلك الباطل قبلهم.... { } ( ).... وإلا حظ أنفسهم في رياستهم وتعظيم آبائهم الأقدمين. قوله:.... { } ( ) قال ابن كثير: ولقد أرسل الله تعالى إليهم الرسل بالحق المنير والحجة القاطعة، ومع هذا ما اتبعوا ما جاءوهم به ولا انقادوا له ا هـ. ومطابقة الآيات للترجمة من جهة أن عباد هذه الأوثان إنما كانوا يعتقدون حصول البركة منها بتعظيمها ودعائها والاستعانة بها والاعتماد عليها في حصول ما يرجونه منها ويؤملونه ببركتها وشفاعتها وغير ذلك، فالتبرك بقبور الصالحين كاللات، وبالأشجار والأحجار كالعزى ومناة من ضمن فعل أولئك المشركين مع تلك الأوثان، فمن فعل مثل ذلك واعتقد في قبر أو حجر أو شجر فقد ضاهى عبَّاد هذه الأوثان فيما كانوا يفعلونه معها من هذا الشرك، على أن الواقع من هؤلاء المشركين مع معبوديهم أعظم مما وقع من أولئك. فالله المستعان.
قوله: " عن أبي واقد الليثي قال: { خرجنا مع رسول الله إلى حنين، ونحن حدثاء عهد بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون عندها وينوطون بها أسلحتهم، يقال لها: ذات أنواط، فمررنا بسدرة، فقلنا: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال رسول الله الله أكبر! إنها السنن، قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى... { } ( ) لتركبن سنن من كان قبلكم }. رواه الترمذي وصححه.
أبو واقد: اسمه الحارث بن عوف، وفي الباب عن أبي سعيد وأبي هريرة. قاله الترمذي وقد رواه أحمد وأبو يعلى وابن أبي شيبة والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني بنحوه.
قوله: " عن أبي واقد " قد تقدم ذكر اسمه في قول الترمذي. وهو صحابي مشهور. مات سنة ثمان وستين وله خمس وثمانون سنة.
قوله: " خرجنا مع رسول الله إلى حنين " وفي حديث عمرو بن عوف وهو عند ابن أبي حاتم وابن مردويه والطبراني قال: " غزونا مع رسول الله يوم الفتح، ونحن ألف ونيف حتى إذا كنا بين حنين والطائف الحديث ".
قوله: " ونحن حدثاء عهد بكفر " أي قريبٌ عهدنا بالكفر، ففيه: دليل على أن غيرهم ممن تقدم إسلامه من الصحابة لا يجهل هذا، وأن المنتقل من الباطل الذي اعتاده قلبه لا يأمن أن يكون في قلبه بقية من تلك العادة. ذكره المصنف رحمه الله.
قوله: " وللمشركين سدرة يعكفون عندها " العكوف: هو الإقامة على الشيء في المكان، ومـنه قـول الخليل عليـه السـلام: { } ( ) وكان عكوف المشركين عند تلك السدرة تبركا بها وتعظيما لها، وفي حديث عمرو " كان يناط بها السلاح فسميت ذات أنواط، وكانت تعبد من دون الله ".
قوله: " وينوطون بها أسلحتهم " أي: يعلقونها عليها للبركة.
قلت: ففي هذا بيان أن عبادتهم لها بالتعظيم والعكوف والتبرك، وبهذه الأمور الثلاثة عبدت الأشجار ونحوها.
قوله: " فقلنا: يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط " قال أبو السعادات: سألوه أن يجعل لهم مثلها فنهاهم عن ذلك، وأنواط جمع نوط وهو مصدر سمي به المنوط. ظنوا أن هذا أمر محبوب عند الله وقصدوا التقرب به، وإلا فهم أجل قدرا من أن يقصدوا مخالفة النبي .
قوله: " فقال رسول الله الله أكبر! " وفي رواية " سبحان الله! " والمراد تعظيم الله تعالى وتنزيهه عن الشرك بأي نوع كان، مما لا يجوز أن يطلب أو يقصد به غير الله. وكان النبي يستعمل التكبير والتسبيح في حال التعجب، تعظيما لله وتنزيها له إذا سمع من أحد ما لا يليق بالله مما فيه هضم للربوبية أو الإلهية.
قوله: " إنها السنن " بضم السين أي: الطرق.
قوله: " قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى: { } ( )... شبه مقالتهم هذه بقول بني إسرائيل، بجامع أن كلا طلب أن يجعل له ما يألهه ويعبده من دون الله، وإن اختلف اللفظان. فالمعنى واحد، فتغيير الاسم لا يغير الحقيقة.
ففيه: الخوف من الشرك، وأن الإنسان قد يستحسن شيئا يظن أنه يقربه إلى الله، وهو أشد ما يبعده من رحمته ويقربه من سخطه، ولا يعرف هذا على الحقيقة إلا من عرف ما وقع في هذه الأزمان من كثير من العلماء والعباد مع أرباب القبور، من الغلو فيها وصرف جل العبادة لها، ويحسبون أنهم على شيء وهو الذنب الذي لا يغفره الله.
قال الحافظ أبو محمد عبد الرحمن بن إسماعيل الشافعي المعروف بابن أبي شامة في كتاب البدع والحوادث: ومن هذا القسم أيضا ما قد عم الابتلاء به من تزيين الشيطان للعامة: تخليق الحيطان والعمد، وإسراج مواضع مخصوصة في كل بلد، يحكي لهم حاك أنه رأى في منامه بها أحدا ممن شهر بالصلاح والولاية، فيفعلون ذلك ويحافظون عليه مع تضييعهم لفرائض الله تعالى وسننه، ويظنون أنهم متقربون بذلك، ثم يتجاوزون هذا إلى أن يعظم وقع تلك الأماكن في قلوبهم فيعظمونها، ويرجون الشفاء لمرضاهم وقضاء حوائجهم بالنذر لها، وهي من عيون وشجر وحائط وحجر. وفي مدينة دمشق من ذلك مواضع متعددة كعوينة الحمى خارج باب توما، والعمود المخلق داخل باب الصغير، والشجرة الملعونة خارج باب النصر في نفس قارعة الطريق، سهل الله قطعها واجتثاثها من أصلها، فما أشبهها بذات أنواط الواردة في الحديث. انتهى.
وذكر ابن القيم رحمه الله نحو ما ذكره أبو شامة، ثم قال: فما أسرع أهل الشرك إلى اتخاذ الأوثان من دون الله ولو كانت ما كانت، ويقولون: إن هذا الحجر وهذه الشجرة وهذه العين تقبل النذر، أي تقبل العبادة من دون الله، فإن النذر عبادة وقربة يتقرب بها الناذر إلى المنذور له، وسيأتي ما يتعلق بهذا الباب عند قوله { اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد } ( ).
وفي هذه الجملة من الفوائد: أن ما يفعله من يعتقد في الأشجار والقبور والأحجار من التبرك بها والعكوف عندها والذبح لها هو الشرك، ولا يغتر بالعوام والطغام، ولا يستبعد كون الشرك بالله تعالى يقع في هذه الأمة، فإذا كان بعض الصحابة ظنوا ذلك حسنا وطلبوه من النبي حتى بين لهم أن ذلك كقول بني إسرائيل: { } ( )... (الأعراف - 138) فكيف لا يخفى على من هو دونهم في العلم والفضل بأضعاف مضاعفة مع غلبة الجهل وبعد العهد بآثار النبوة؟! بل خفي عليهم عظائم الشرك في الإلهية والربوبية، فأكثروا فعله واتخذوه قربة.
وفيها: أن الاعتبار في الأحكام بالمعاني لا بالأسماء، ولهذا جعل النبي طلبتهم كطلبة بني إسرائيل، ولم يلتفت إلى كونهم سموها ذات أنواط. فالمشرك مشرك وإن سمى شركه ما سماه. كمن يسمي دعاء الأموات والذبح والنذر لهم ونحو ذلك تعظيما ومحبة، فإن ذلك هو الشرك، وإن سماه ما سماه. وقس على ذلك. قوله: " لتركبُن سُنن من كان قبلكم " بضم الموحدة وضم السين أي طرقهم ومناهجهم، وقد يجوز فتح السين على الإفراد أي طريقهم. وهذا خبر صحيح. والواقع من كثير من هذه الأمة يشهد له.
وفيه: علم من أعلام النبوة من حيث إنه وقع كما أخبر به .
وفي الحديث: النهي عن التشبه بأهل الجاهلية وأهل الكتاب فيما كانوا يفعلونه، إلا ما دل الدليل على أنه من شريعة محمد .
قال المصنف رحمه الله: " وفيه: التنبيه على مسائل القبر، أما: من ربك؟ فواضح. وأما: " من نبيك؟ " فمن إخباره بأنباء الغيب. وأما: " ما دينك؟ " فمن قولهم { } ( )... إلخ. وفيه: أن الشرك لا بد أن يقع في هذه الأمة خلافا لمن ادعى خلاف ذلك، وفيه: الغضب عند التعليم، وأن ما ذم الله به اليهود والنصارى فإنه ما قاله لنا إلا لنحذره. قاله المصنف رحمه الله.
وأما ما ادعاه بعض المتأخرين من أنه يجوز التبرك بآثار الصالحين فممنوع من وجوه:
منها: أن السابقين الأولين من الصحابة ومن بعدهم لم يكونوا يفعلون ذلك مع غير النبي لا في حياته ولا بعد موته. ولو كان خيرا لسبقونا إليه، وأفضل الصحابة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم. وقد شهد لهم رسول الله فيمن شهد له بالجنة، وما فعله أحد من الصحابة والتابعين مع أحد من هؤلاء السادة، ولا فعله التابعون مع ساداتهم في العلم والدين وهم الأسوة، فلا يجوز أن يقاس على رسول الله أحد من الأمة، وللنبي في حال الحياة خصائص كثيرة لا يصلح أن يشاركه فيها غيره.
ومنها: أن في المنع عن ذلك سدا لذريعة الشرك كما لا يخفى.
المسائل المستنبطة من هذا الباب
فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية النجم.
الثانية: معرفة صورة الأمر الذي طلبوا.
الثالثة: كونهم لم يفعلوا.
الرابعة: كونهم قصدوا التقرب إلى الله بذلك، لظنهم أنه يحبه.
الخامسة: أنهم إذا جهلوا هذا فغيرهم أولى بالجهل.
السادسة: أن لهم من الحسنات والوعد بالمغفرة ما ليس لغيرهم.
السابعة: أن النبي لم يعذرهم في الأمر بل رد عليهم بقوله: { الله أكبر إنها السنن، لتتبعن سنن من كان قبلكم } ( ) فغلظ الأمر بهذه الثلاث.
الثامنة: الأمر الكبير، وهو المقصود: أنه أخبر أن طلبتهـم كطلبـة بني إسرائيل لما قالوا لموسى: { } ( ).
التاسعة: أن نفي هذا من معنى " لا إله إلا الله " مع دقته وخفائه على أولئك.
العاشرة: أنه حلف على الفتيا، وهو لا يحلف إلا لمصلحة.
الحادية عشرة: أن الشرك فيه أكبر وأصغر، لأنهم لم يرتدوا بهذا.
الثانية عشرة: قولهم: " ونحن حدثاء عهد بكفر " فيه أن غيرهم لا يجهل ذلك.
الثالثة عشرة: التكبير عند التعجب، خلافا لمن كرهه.
الرابعة عشرة: سد الذرائع.
الخامسة عشرة: النهي عن التشبه بأهل الجاهلية.
السادسة عشرة: الغضب عند التعليم.
السابعة عشرة: القاعدة الكلية، لقوله " إنها السنن ".
الثامنة عشرة: أن هذا علم من أعلام النبوة، لكونه وقع كما أخبر.
التاسعة عشرة: أن ما ذم الله به اليهود والنصارى في القرآن تحذير لنا.
العشرون: أنه متقرر عندهم أن العبادات مبناها على الأمـر، فصـار فيه التنبيه على مسائل القبر. أما " من ربك؟ " فواضح، وأما " من نبيك؟ " فمن إخباره بأنباء الغيب، وأما " ما دينك؟ " فمن قولهم: " اجعل لنا " إلى آخره.
الحادية والعشرون: أن سنة أهل الكتاب مذمومة كسنة المشركين.
الثانية والعشرون: أن المنتقل من الباطل الذي اعتاده قلبه لا يؤمن أن يكون في قلبه بقية من تلك العادة، لقولهم: " ونحن حدثاء عهد بكفر ".
باب ما جاء في الذبح لغير الله
وقول الله تعالى: { • • } ( ) (الأنعام - 162، 163).
وقوله: { } ( ).
عن علي قال: " حدثني رسول الله بأربع كلمات: { لعن الله من ذبح لغير الله، لعن الله من لعن والديه، لعن الله من آوى محدثا، لعن الله من غير منار الأرض } ( ) رواه مسلم.
وعن طارق بن شهاب: أن رسول الله قال: { دخل الجنة رجل في ذباب، ودخل النار رجل في ذباب، قالوا: وكيف ذلك يا رسول الله؟ قال: مر رجلان على قوم لهم صنم لا يجوزه أحد حتى يقرب له شيئا، فقالوا لأحدهما: قرب، قال: ليس عندي شيء أقرب، قالوا له: قرب ولو ذبابا، فقرب ذبابا، فخلوا سبيله، فدخل النار، وقالوا للآخر: قرب، فقال: ما كنت لأقرب لأحد شيئا دون الله فضربوا عنقه فدخل الجنة } رواه أحمد.
قوله: " ما جاء في الذبح لغير الله " أي: من الوعيد وأنه شرك بالله.
قوله: وقول الله تعالى: { • } ( )... الآية. (الأنعام - 162، 163).
قال ابن كثير: يأمره تعالى أن يخبر المشركين الذين يعبدون غير الله ويذبحون له: بأنه أخلص لله صلاته وذبيحته؛ لأن المشركين يعبدون الأصنام ويذبحون لها، فأمره الله تعالى بمخالفتهم والانحراف عما هم فيه والإقبال بالقصد والنية والعزم على الإخلاص لله تعالى.
قال مجاهد: النسك الذبح في الحج والعمرة. وقال الثوري عن السدي عن سعيد بن جبير: { } ( ) : ذبحي ، وكذا قال الضحاك ، وقـال غيره { } ( ) أي وما آتيه في حياتي وما أموت عليه من الإيمان والعمل الصالح { } ( ) خالصا لوجهـه { } ( ) الإخـلاص { • } ( ) أي من هذه الأمة لأن إسلام كل نبي متقدم.
قال ابن كثير: وهو كما قال، فإن جميع الأنبياء قبله كانت دعوتهم إلى الإسلام، وهو عبادة الله وحده لا شريك له. كما قال تعالى: { } ( ) (الأنبياء - 25) وذكر آيات في هذا المعنى.
ووجه مطابقة الآية للترجمة: أن الله تعالى تعبد عباده بأن يتقربوا إليه بالنسك، كما تعبدهم بالصلاة وغيرها من أنواع العبادات، فإن الله تعالى أمرهم أن يخلصوا جميع أنواع العبادة له دون كل ما سواه، فإذا تقربوا إلى غير الله بالذبح أو غيره من أنواع العبادة فقد جعلوا لله شريكا في عبادته، وهو ظاهر في قوله: { } ( ) نفى أن يكون لله تعالى شريك في هذه العبادات، وهو بحمد الله واضح.
قوله: { } ( ) : قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: أمره الله أن يجمع بين هاتين العبادتين، وهما الصلاة والنسك، الدالتان على القرب والتواضع والافتقار وحسن الظن، وقوة اليقين، وطمأنينة القلب إلى الله وإلى عِدَتِهِ، عكس حال أهل الكبر والنفرة، وأهل الغنى عن الله الذين لا حاجة لهم في صلاتهم إلى ربهم، والذين لا ينحرون له خوفا من الفقر، ولهذا جمع بينهما في قوله: { • } ( ) والنسك: الذبيحة لله تعالى ابتغاء وجهه. فإنهما أجل ما يتقرب به إلى الله، فإنه أتى فيهما بالفاء الدالة على السبب؛ لأن فعل ذلك سبب للقيام بشكر ما أعطاه الله تعالى من الكوثر. وأجل العبادات البدنية: الصلاة، وأجل العبادات المالية: النحر. وما يجتمع للعبد في الصلاة لا يجتمع له في غيرها، كما عرفه أرباب القلوب الحية، وما يجتمع له في النحر إذا قارنه الإيمان والإخلاص، من قوة اليقين وحسن الظن: أمر عجيب، وكان النبي كثير الصلاة، كثير النحر. ا هـ.
قلت: وقد تضمنت الصلاة من أنواع العبادات كثيرا، فمن ذلك: الدعاء والتكبير، والتسبيح والقراءة، والتسميع والثناء، والقيام والركوع، والسجود والاعتدال، وإقامة الوجه لله تعالى، والإقبال عليه بالقلب، وغير ذلك مما هو مشروع في الصلاة، وكل هذه الأمور من أنواع العبادات التي لا يجوز أن يصرف منها شيء لغير الله، كذلك النسك يتضمن أمورا من العبادة كما تقدم في كلام شيخ الإسلام رحمه الله تعالى.
قوله: عن علي بن أبي طالب قال: " حدثني رسول الله بأربع كلمات: { لعن الله من ذبح لغير الله، ولعن الله من لعن والديه، ولعن الله من آوى محدثا، ولعن الله من غير منار الأرض } ( ) رواه مسلم من طرق، وفيه قصة. ورواه الإمام أحمد كذلك عن أبي الطفيل قال: { قلنا لعلي: أخبرنا بشيء أسره إليك رسول الله . فقال: ما أسر إلى شيئا كتمه الناس، ولكن سمعته يقول: " لعن الله من ذبح لغير الله، ولعن الله من آوى محدثا، ولعن الله من لعن والديه، ولعن الله من غير تخوم الأرض - يعني: المنار } ( ). وعلي بن أبي طالب: هو الإمام أمير المؤمنين أبو الحسن الهاشمي ابن عم النبي وزوج ابنته فاطمة الزهراء، وكان من أسبق السابقين الأولين ومن أهل بدر وبيعة الرضوان، وأحد العشرة المشهود لهم بالجنة، ورابع الخلفاء الراشدين، ومناقبه مشهورة رضي الله عنه. قتله ابن ملجم الخارجي في رمضان سنة أربعين.
قوله: " لعن الله " اللعن: البعد عن مظان الرحمة وموطنها. قيل: واللعين الملعون: من حقت عليه اللعنة، أو دعي عليه بها.
قال أبو السعادات: أصل اللعن: الطرد والإبعاد من الله، ومن الخلق: السب والدعاء.
قال شيخ الإسلام رحمه الله ما معناه: إن الله تعالى يلعن من استحق اللعنة بالقول كما يصلي سبحانه على من استحق الصلاة من عباده. قال تعالى: { • } ( )... (الأحزاب - 43، 44) وقال: { • • } ( ) (الأحزاب - 64) وقال: { • } ( ) (الأحزاب - 61) والقرآن كلامه تعالى أوحاه إلى جبريل عليه السلام وبلغه رسوله محمدا وجبريل سمعه منه كما سيأتي في الصلاة إن شاء الله تعالى، فالصلاة ثناء الله تعالى كما تقدم فالله تعالى هو المصلي وهو المثيب، كما دل على ذلك الكتاب والسنة، وعليه سلف الأمة. قال الإمام أحمد رحمه الله: " لم يزل الله متكلما إذا شاء ".
قوله: " من ذبح لغير الله " قال شيخ الإسلام رحمه الله في قوله تعالى:... { • } ( )... ظاهره: أنه ما ذبح لغير الله، مثل أن يقول: هذا ذبيحة لكذا. وإذا كان هذا هو المقصود فسواء لفظ به أو لم يلفظ، وتحريم هذا أظهر من تحريم ما ذبحه للحم، وقال فيه: باسم المسيح أو نحوه. كما أن ما ذبحناه متقربين به إلى الله كان أزكى وأعظم مما ذبحناه للحم، وقلنا عليه: بسم الله. فإذا حرم ما قيل فيه باسم المسيح أو الزهرة، فلأن يحرم ما قيل فيه لأجل المسيح أو الزهرة أو قصد به ذلك أولى؛ فإن العبادة لغير الله أعظم كفرا من الاستعانة بغير الله. وعلى هذا: فلو ذبح لغير الله متقربا إليه يحرم. وإن قال فيه: باسم الله. كما قد يفعله طائفة من منافقي هذه الأمة الذين يتقربون إلى الكواكب بالذبح والبخور ونحو ذلك وإن كان هؤلاء مرتدين لا تباح ذبيحتهم بحال لكن يجتمع في الذبيحة مانعان، الأول: أنه مما أهل به لغير الله. والثاني: أنها ذبيحة مرتد. ومن هذا الباب: ما يفعله الجاهلون بمكة من الذبح للجن، ولهذا روي عن النبي { أنه نهى عن ذبائح الجن }. اهـ.
قال الزمخشري: كانوا إذا اشتروا دارا أو بنوها أو استخرجوا عينا ذبحوا ذبيحة خوفا أن تصيبهم الجن، فأضيفت إليهم الذبائح لذلك.
وذكر إبراهيم المروزي: أن ما ذبح عند استقبال السلطان تقربا إليه، أفتى أهل بخارى بتحريمه، لأنه مما أهل به لغير الله.
قوله: " لعن الله من لعن والديه ": يعني أباه وأمه وإن عليا. وفي الصحيح: أن رسول الله قال: { من الكبائر شتم الرجل والديه، قالوا: يا رسول الله، وهل يشتم الرجل والديه؟ قال: نعم يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه } ( ).
قوله: " لعن الله من آوى محدثا " أي: منعه من أن يؤخذ منه الحق الذي وجب عليه و " آوى " بفتح الهمزة ممدودة أي ضمه إليه وحماه.
قال أبو السعادات: أويت إلى المنزل، وأويت غيري، وآويته. وأنكر بعضهم المقصور المتعدي.
وأما " محدثا " فقال أبو السعادات: يروى بكسر الدال وفتحها على الفاعل والمفعول، فمعنى الكسر: من نصر جانيا وآواه وأجاره من خصمه، وحال بينه وبين أن يقتص منه، وبالفتح: هو الأمر المبتدع نفسه، ويكون معنى الإيواء فيه الرضى به والصبر عليه، فإنه إذا رضي بالبدعة وأقر فاعلها ولم ينكر عليه فقد آواه.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: هذه الكبيرة تختلف مراتبها باختلاف مراتب الحدث في نفسه، فكلما كان الحدث في نفسه أكبر كانت الكبيرة أعظم.
قوله: " لعن الله من غير منار الأرض " بفتح الميم: علامات حدودها. قال أبو السعادات في النهاية - في مادة " تخم " - ملعون من غير تخوم الأرض: أي معالمها وحدودها، واحدها، تخم. قيل: أراد حدود الحرم خاصة، وقيل: هو عام في جميع الأرض، وأراد، المعالم التي يهتدي بها في الطريق. وقيل: هو أن يدخل الرجل في ملك غيره فيقتطعه ظلما. قال ويروى: " تخوم " بفتح التاء على الإفراد، وجمعه تخم بضم التاء والخاء. ا هـ.
وتغييرها: أن يقدمها أو يؤخرها، فيكون هذا من ظلم الأرض الذي قال فيه النبي { من ظلم شبرا من الأرض طوقه يوم القيامة من سبع أرضين } ( ) ففيه: جواز لعن أهل الظلم من غير تعيين. وأما لعن الفاسق المعين: ففيه قولان، أحدهما: أنه جائز. اختاره ابن الجوزي وغيره، والثاني: لا يجوز، اختاره أبو بكر عبد العزيز وشيخ الإسلام.
قوله: " وعن طارق بن شهاب أن رسول الله قال: { دخل الجنة رجل في ذباب، ودخل النار رجل في ذباب. قالوا: وكيف ذلك يا رسول الله؟ قال: مر رجلان على قوم لهم صنم لا يجوزه أحد حتى يقرب له شيئا. قالوا لأحدهما: قرِّب. قال: ليس عندي شيء أقرب. قالوا له: قرب ولو ذبابا، فقرب ذبابا، فخلوا سبيله، فدخل النار، وقالوا للآخر: قرب، قال: ما كنت لأقرب لأحد شيئا دون الله فضربوا عنقه، فدخل الجنة } رواه أحمد.
قال ابن القيم رحمه الله: قال الإمام أحمد رحمه الله: حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن سليمان بن ميسرة عن طارق بن شهاب يرفعه قال: " دخل رجل الجنة في ذباب - الحديث.
وطارق بن شهاب: هو البجلي الأحمسي، أبو عبد الله، رأى النبي وهو رجل. قال البغوي: نزل الكوفة. وقال أبو داود: رأى النبي ولم يسمع منه شيئا. قال الحافظ: إذا ثبت أنه لقي النبي فهو صحابي. وإذا ثبت أنه لم يسمع منه فروايته عنه مرسل صحابي وهو مقبول على الراجح. وكانت وفاته - على ما جزم به ابن حبان - سنة ثلاث وثمانين.
قوله: " دخل الجنة رجل في ذباب " أي من أجله.
قوله: " قالوا: وكيف ذلك يا رسول الله؟! " كأنهم تقالوا ذلك، وتعجبوا منه. فبين لهم النبي ما صير هذا الأمر الحقير عندهم عظيما يستحق هذا عليه الجنة، ويستوجب الآخر عليه النار.
قوله: " فقال: مر رجلان على قوم لهم صنم " الصنم: ما كان منحوتا على صورة، ويطلق عليه الوثن كما مر.
قوله: " لا يجاوزه " أي: لا يمر به ولا يتعداه أحد حتى يقرب إليه شيئا وإن قل.
قوله: " قالوا له: قرب ولو ذبابا. فقرب ذبابا فخلوا سبيله، فدخل النار " في هذا بيان عِظَم الشرك، ولو في شيء قليل، وأنه يوجب النار. كما قال تعالى:... { • • } ( ) (المائدة - 72). وفي هذا الحديث: التحذير من الوقوع في الشرك، وأن الإنسان قد يقع فيه وهو لا يدري أنه من الشرك الذي يوجب النار.
وفيه: أنه دخل النار بسبب لم يقصده ابتداء، وإنما فعله تخلصا من شر أهل الصنم.
وفيه: أن ذلك الرجل كان مسلما قبل ذلك، وإلا فلو لم يكن مسلما لم يقل: دخل النار في ذباب.
وفيه: أن عمل القلب هو المقصود الأعظم حتى عند عبدة الأوثان، ذكره المصنف بمعناه.
قوله: " وقالوا للآخر: قرب. قال: ما كنت لأقرب لأحد شيئا دون الله " ففيه: بيان فضيلة التوحيد والإخلاص.
قال المصنف رحمه الله: " وفيه معرفة قدر الشرك في قلوب المؤمنين كيف صبر على القتل ولم يوافقهم على طِلْبتهم مع كونهم لم يطلبوا منه إلا العمل الظاهر ".
المسائل المستنبطة من هذا الباب
فيه مسائل:
الأولى: تفسير... { • } ( )...
الثانية: تفسير { } ( ).
الثالثة: البداءة بلعنة من ذبح لغير الله.
الرابعة: لعن من لعن والديه، ومنه أن تلعن والدي الرجل فيلعن والديك.
الخامسة: لعن من آوى محدثا وهـو الرجـل يحـدث شيئا يجـب فيه حق الله فيلتجئ إلى من يجيره من ذلك.
السادسة: لعن من غير منار الأرض، وهي المراسيم التي تفرق بين حقك وحق جارك، فتغيرها بتقديم أو تأخير.
السابعة: الفرق بين لعن المعين، ولعن أهل المعاصي على سبيل العموم.
الثامنة: هذه القصة العظيمة، وهي قصة الذباب.
التاسعة: كونه دخل النار بسبب ذلك الذباب الذي لم يقصده، بل فعله تخلصا من شرهم.
العاشرة: معرفة قدر الشرك في قلوب المؤمنين، كيف صبر ذلك على القتل، ولم يوافقهم على طلبتهم، مع كونهم لم يطلبوا إلا العمل الظاهر.
الحادية عشرة: أن الذي دخل النار مسلم، لأنه لو كان كافرا لم يقل: " دخل النار في ذباب ".
الثانية عشرة: فيه شاهد للحديث الصحيح { الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله، والنار مثل ذلك } ( ).
الثالثة عشرة: معرفة أن عمل القلب هو المقصود الأعظم حتى عند عبدة الأوثان.
باب لا يذبح لله بمكان يذبح فيه لغير الله
وقول الله تعالى: { • } ( ) (التوبة - 108).
عن ثابت بن الضحاك قال: { نذر رجل أن ينحر إبلا ببوانة، فسأله النبي فقال: هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟ قالوا: لا. قال: فهل كان فيها عيد من أعيادهم؟ قالوا: لا. فقال رسول الله أوف بنذرك، فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك ابن آدم } ( ) رواه أبو داود، وإسناده على شرطهما.
قوله: باب " لا يذبح لله بمكان يذبح فيه لغير الله تعالى "
" لا " نافية، ويحتمل أنها للنهي وهو أظهر.
قوله: " وقول الله تعالى: { } ( )..." قال المفسرون: إن الله تعالى نهى رسوله عن الصلاة في مسجد الضرار، والأمة تبع له في ذلك، ثم إنه تعالى حثه على الصلاة في مسجد قباء الذي أسس من أول يوم بني على التقوى - وهي طاعة الله ورسوله - وجمعا لكلمة المؤمنين ومعقلا ومنزلا للإسلام وأهله، ولهذا جاء في الحديث الصحيح أن رسول الله قال: { صلاة في مسجد قباء كعمرة } ( ) وفي الصحيح { أن رسول الله كان يزور قباء راكبا وماشيا } ( ) وقد صرح أن المسجد المذكور في الآية هو مسجد قباء جماعة من السلف، منهم ابن عباس، وعروة، وعطية، والشعبي، والحسن وغيرهم.
قلت: ويؤيده قوله في الآية... { } ( )....
وقيل: هو مسجد رسول الله لحديث أبي سعيد قال: { تمارى رجلان في المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم. فقال رجل: هو مسجد قباء، وقال آخر: هو مسجد رسول الله فقال رسول الله " هو مسجدي هذا } ( ) رواه مسلم، وهو قول عمر، وابنه، وزيد بن ثابت، وغيرهم.
قال ابن كثير: وهذا صحيح، ولا منافاة بين الآية والحديث؛ لأنه إذا كان مسجد قباء قد أسس على التقوى من أول يوم، فمسجد رسول الله بطريق الأولى، وهذا بخلاف مسجد الضرار الذي أسس على معصية الله كما قال تعالى: { • } ( ) (التوبة - 107) فلهذه الأمور نهى الله نبيه عن القيام فيه للصلاة. وكان الذي بنوه جاءوا إلى النبي قبل خروجه إلى غزوة تبوك فسألوه أن يصلي فيه، وأنهم إنما بنوه للضعفاء وأهل العلة في الليلة الشاتية. فقال: " إنا على سفر، ولكن إذا رجعنا إن شاء الله " فلما قفل عليه السلام راجعا إلى المدينة، ولم يبق بينه وبينها إلا يوم أو بعضه نزل الوحي بخبر المسجد، فبعث إليه فهدمه قبل قدومه إلى المدينة. وجه مناسبة الآية للترجمة: أن المواضع المعدة للذبح لغير الله يجب اجتناب الذبح فيها لله، كما أن هذا المسجد لما أعد لمعصية الله صار محل غضب لأجل ذلك، فلا تجوز الصلاة فيه لله وهذا قياس صحيح، يؤيده حديث ثابت بن الضحاك الآتي.
قوله:... { } ( )...: روى الإمام أحمد وابن خزيمة وغيرهما عن عويم بن ساعدة الأنصاري { أن النبي أتاهم في مسجد قباء. فقال: إن الله قد أحسن عليكم الثناء بالطهور في قصة مسجدكم، فما هذا الطهور الذي تطهرون به؟ فقالوا: والله يا رسول الله ما نعلم شيئا إلا أنه كان لنا جيران من اليهود فكانوا يغسلون أدبارهم من الغائط، فغسلنا كما غسلوا } ( ) وفي رواية عن جابر وأنس: " هو ذاك فعليكموه " رواه ابن ماجه وابن أبي حاتم، والدارقطني والحاكم.
قوله:... { } ( ) قال أبو العالية: إن الطهور بالماء لحسن ولكنهم المتطهرون من الذنوب. وفيه: إثبات صفة المحبة، خلافا للأشاعرة ونحوهم.
قوله: " عن ثابت بن الضحاك قال: { نذر رجل أن ينحر إبلا ببوانة، فسأل النبي فقال: هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟ قالوا: لا. قال: فهل كان فيها عيد من أعيادهم؟ قالوا: لا. فقال رسول الله أوف بنذرك، فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله ولا فيما لا يملك ابن آدم } ( ) رواه أبو داود، وإسناده على شرطهما.
قوله: " عن ثابت بن الضحاك " أي: ابن خليفة الأشهلي، صحابي مشهور. روى عنه أبو قلابة وغيره. مات سنة أربع وستين.
قوله: " ببوانة " بضم الباء وقيل: بفتحها. قال البغوي: موضع في أسفل مكة دون يلملم. قال أبو السعادات: هضبة من وراء ينبع.
قوله: " فهل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد " فيه: المنع من الوفاء بالنذر إذا كان في المكان وثن، ولو بعد زواله. قاله المصنف رحمه الله.
قوله: " فهل كان فيها عيد من أعيادهم؟ " قال شيخ الإسلام رحمه الله: العيد اسم لما يعود من الاجتماع العام على وجه معتاد عائد: إما بعود السنة أو بعود الأسبوع أو الشهر أو نحو ذلك والمراد به هنا الاجتماع المعتاد من اجتماع أهل الجاهلية. فالعيد يجمع أمورا منها: يوم عائد، كيوم الفطر ويوم الجمعة، ومنها اجتماع فيه، ومنها أعمال تتبع ذلك من العبادات والعادات. وقد يختص العيد بمكان بعينه، وقد يكون مطلقا. وكل من هذه الأمور قد يسمى عيدا. فالزمان كقول النبي في يوم الجمعة: { إن هذا يوم قد جعله الله للمسلمين عيدا } والاجتماع والأعمال كقول ابن عباس: " { شهدت العيد مع رسول الله } ( ) أو المكان كقول النبي { لا تتخذوا قبري عيدا } ( ) وقد يكون لفظ العيد اسما لمجموع اليوم والعمل فيه وهو الغالب، كقول النبي { دعهما يا أبا بكر؛ فإن لكل قوم عيدا } ( ) انتهى.
قال المصنف: " وفيه استفصال المفتي، والمنع من الوفاء بالنذر بمكان عيد الجاهلية، ولو بعد زواله ".
قلت: وفيه سد الذريعة، وترك مشابهة المشركين، والمنع مما هو وسيلة إلى ذلك.
قوله: " أوف بنذرك " هذا يدل على أن الذبح لله في المكان الذي يذبح فيه المشركون لغير الله أي في محل أعيادهم - معصية؛ لأن قوله: " أوف بنذرك " تعقيب للوصف بالحكم بالفاء، وذلك يدل على أن الوصف سبب الحكم، فيكون سبب الأمر بالوفاء خلوه عن هذين الوصفين. فلما قالوا: " لا " قال: " أوف بنذرك " وهذا يقتضي أن كون البقعة مكانا لعيدهم، أو بها وثن من أوثانهم: مانع من الذبح بها ولو نذره. قاله شيخ الإسلام.
وقوله: " فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله " دليل على أن هذا نذر معصية لو قد وجد في المكان بعض الموانع. وما كان من نذر المعصية فلا يجوز الوفاء به بإجماع العلماء. واختلفوا: هل تجب فيه كفارة يمين؟ على قولين: روايتان عن أحمد أحدهما: تجب وهو المذهب. وروي عن ابن مسعود وابن عباس. وبه قال أبو حنيفة وأصحابه؛ لحديث عائشة رضي الله عنها مرفوعا: " لا نذر في معصية، وكفارته كفارة يمين " رواه أحمد وأهل السنن واحتج به أحمد واسحاق، والثاني: لا كفارة عليه. وروي ذلك عن مسروق والشعبي والشافعي؛ لحديث الباب، ولم يذكر فيه كفارة. وجوابه: أنه ذكر الكفارة في الحديث المتقدم والمطلق يحمل على المقيد.
قوله: " ولا فيما لا يملك ابن آدم " قال في شرح المصابيح: يعنى إذا أضاف النذر إلى معين لا يملكه بأن قال: إن شفى الله مريضي فلله علي أن أعتق عبد فلان ونحو ذلك. فأما إذا التزم في الذمة شيئا، بأن قال: إن شفي مريضي فلله علي أن أعتق رقبة، وهو في تلك الحال لا يملكها ولا قيمتها، فإذا شفي مريضه ثبت ذلك في ذمته.
قوله: " رواه أبو داود وإسناده على شرطهما " أي: البخاري ومسلم.
وأبو داود: اسمه سليمان بن الأشعث بن إسحاق بن بشير بن شداد الأزدي السجستاني صاحب الإمام أحمد، ومصنف السنن والمراسيل وغيرهما، ثقة إمام حافظ من كبار العلماء مات سنة خمس وسبعين ومائتين. رحمه الله تعالى.
المسائل المستنبطة من هذا الباب
فيه مسائل:
الأولى: تفسير قوله: { } ( ).
الثانية: أن المعصية قد تؤثر في الأرض، وكذلك الطاعة.
الثالثة: رد المسألة المشكلة إلى المسألة البينة ليزول الإشكال.
الرابعة: استفصال المفتي إذا احتاج إلى ذلك.
الخامسة: أن تخصيص البقعة بالنذر لا بأس به إذا خلا من الموانع.
السادسة: المنع منه إذا كان فيه وثن من أوثان الجاهلية ولو بعد زواله.
السابعة: المنع منه إذا كان فيه عيد من أعيادهم ولو بعد زواله.
الثامنة: أنه لا يجوز الوفاء بما نذر في تلك البقعة، لأنه نذر معصية.
التاسعة: الحذر من مشابهة المشركين في أعيادهم ولو لم يقصده.
العاشرة: لا نذر في معصية.
الحادية عشرة: لا نذر لابن آدم فيما لا يملك.
باب من الشرك النذر لغير الله
وقول الله تعالى: { • } ( ) (الإنسان - 7)
وقوله: { } ( ) ... (البقرة -270).
وفي الصحيح عن عائشة رضي الله عنها، أن رسول الله قال: " { من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه } ( ).
قوله: باب " من الشرك النذر لغير الله تعالى "
أي لكونه عبادة يجب الوفاء به إذا نذره لله، فيكون النذر لغير الله تعالى شركا في العبادة.
وقوله تعالى: { • } ( ) (الإنسان - 7) فالآية دلت على وجوب الوفاء بالنذر، ومدح من فعل ذلك طاعة لله ووفاء بما تقرب به إليه.
وقوله تعالى: { } ( ) ... (البقرة - 270).
قال ابن كثير: يخبر تعالى أنه عالم بجميع ما يعمله العاملون من الخيرات: من النفقات والمنذورات، وتضمن ذلك مجازاته على ذلك أوفر الجزاء للعاملين به ابتغاء وجهه. ا هـ.
إذا علمت ذلك: فهذه النذور الواقعة من عباد القبور، تقربا بها إليهم ليقضوا لهم حوائجهم وليشفعوا لهم، كل ذلك شرك في العبادة بلا ريب. كما قال تعالى: { } ( ) (الأنعام - 136).
قال شيخ الإسلام رحمه الله: وأما ما نذر لغير الله كالنذر للأصنام والشمس والقمر والقبور ونحو ذلك، فهو بمنزلة أن يحلف بغير الله من المخلوقات، والحالف بالمخلوقات لا وفاء عليه ولا كفارة، وكذلك الناذر للمخلوقات، فإن كليهما شرك. والشرك ليس له حرمة، بل عليه أن يستغفر الله من هذا ويقول ما قال النبي { من حلف وقال: واللات والعزى. فليقل: لا إله إلا الله } ( ).
وقال فيمن نذر للقبور أو نحوها دهنا لتنور به ويقول: إنها تقبل النذر كما يقوله بعض الضالين، وهذا النذر معصية باتفاق المسلمين، لا يجوز الوفاء به، وكذلك إذا نذر مالا للسدنة أو المجاورين العاكفين بتلك البقعة، فإن فيهم شبها من السدنة التي كانت عند اللات والعزى ومناة، يأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله. والمجاورون هناك فيهم شبه من الذين قال فيهم الخليل عليه السلام:... { } ( ) والذين اجتاز بهم موسى عليـه السلام وقومـه، قـال تعالى: { } ( ) ... (الأعراف - 138) فالنذر لأولئك السدنة والمجاورين في هذه البقاع نذر معصية. وفيه شبه من النذر لسدنة الصلبان والمجاورين عندها، أو لسدنة الأبداد في الهند والمجاورين عندها.
وقال الرافعي في شرح المنهاج: " وأما النذر للمشاهد التي على قبر ولي أو شيخ أو على اسم مَنْ حَلَّهَا من الأولياء، أو تردد في تلك البقعة من الأولياء والصالحين فإن قصد الناذر بذلك - وهو الغالب أو الواقع من قصود العامة - تعظيم البقعة والمشهد، أو الزاوية، أو تعظيم من دفن بها أو نسبت إليه، أو بنيت على اسمه، فهذا النذر باطل غير منعقد، فإن معتقدهم أن لهذه الأماكن خصوصيات، ويرون أنها مما يدفع بها البلاء ويستجلب بها النعماء، ويستشفى بالنذر لها من الأدواء حتى إنهم ينذرون لبعض الأحجار لما قيل لهم: إنه استند إليها عبد صالح، وينذرون لبعض القبور السرج والشموع والزيت، ويقولون: القبر الفلاني، أو المكان الفلاني يقبل النذر، يعنون بذلك: أنه يحصل به الغرض المأمول من شفاء مريض، أو قدوم غائب أو سلامة مال، وغير ذلك من أنواع نذر المجازاة، فهذا النذر على هذا الوجه باطل لا شك فيه، بل نذر الزيت والشمع ونحوهما للقبور باطل مطلقا. ومن ذلك: نذر الشموع الكثيرة العظيمة وغيرها لقبر الخليل عليه السلام ولقبر غيره من الأنبياء والأولياء، فإن الناذر لا يقصد بذلك الإيقاد على القبر إلا تبركا وتعظيما، ظانا أن ذلك قربة، فهذا مما لا ريب في بطلانه، والإيقاد المذكور محرم، سواء انتفع به هناك منتفع أم لا ".
قال الشيخ قاسم الحفني في شرح درر البحار: " النذر الذي ينذره أكثر العوام على ما هو مشاهد، كأن يكون للإنسان غائب أو مريض أو له حاجة، فيأتي إلى بعض الصلحاء ويجعل على رأسه سترة، ويقول: يا سيدي فلان إن رد الله غائبي أو عوفي مريضي، أو قضيت حاجتي فلك من الذهب كذا، أو من الفضة كذا، أو من الطعام كذا، أو من الماء كذا، أو من الشمع والزيت كذا، فهذا النذر باطل بالإجماع لوجوه، منها: أنه نذر لمخلوق، والنذر للمخلوق لا يجوز، لأنه عبادة، والعبادة لا تكون لمخلوق، ومنها أن المنذور له ميت، والميت لا يملك، ومنها أنه ظن أن الميت يتصرف في الأمور دون الله، واعتقاد ذلك كفر - إلى أن قال: إذا علمت هذا فما يؤخذ من الدراهم والشمع والزيت وغيرها وينقل إلى ضرائح الأولياء تقربا إليها فحرام بإجماع المسلمين ".
نقله عنه ابن نجيم في البحر الرائق: ونقله المرشدي في تذكرته وغيرهما عنه، وزاد: قد ابتلي الناس بهذا لا سيما في مولد البدوي.
وقال الشيخ صنع الله الحلبي الحنفي في الرد على من أجاز الذبح والنذر للأولياء: فهذا الذبح والنذر إن كان على اسم فلان فهو لغير الله، فيكون باطلا. وفي التنزيل: { } ( )... (الأنعام - 121)، { • } ( )... (الأنعام - 162، 163) والنذر لغير الله إشراك مع الله، كالذبح لغيره.
قوله: " وفي الصحيح عن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله قال: { من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه } ( ) ".
قوله: " في الصحيح " أي: صحيح البخاري.
قوله: " عن عائشة ": هي أم المؤمنين، زوج النبي وابنة الصديق رضي الله عنهما. تزوجها النبي وهي ابنة سبع سنين، ودخل بها وهي ابنة تسع وهي أفقه النساء مطلقا، وهي أفضل أزواج النبي إلا خديجة، ففيها خلاف. ماتت سنة سبع وخمسين على الصحيح. رضي الله عنها.
قوله: { من نذر أن يطيع الله فليطعه } ( ) أي: فليفعل ما نذره من طاعة الله، وقد أجمع العلماء على أن من نذر طاعة لشرط يرجوه، كإن شفى الله مريضي فعلي أن أتصدق بكذا، ونحو ذلك وجب عليه، إن حصل له ما علق نذره على حصوله. وحكي عن أبي حنيفة: أنه لا يلزم الوفاء إلا بما جنسه واجب بأصل الشرع، كالصوم، وأما ما ليس كذلك، كالاعتكاف فلا يجب عليه الوفاء به.
قوله: { ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه } ( ) زاد الطحاوي: { وليكفر عن يمينه } ( ) وقد أجمع العلماء على أنه لا يجوز الوفاء بنذر المعصية. قال الحافظ: اتفقوا على تحريم النذر في المعصية، وتنازعوا: هل ينعقد موجبا للكفارة أم لا؟ وتقدم. وقد يستدل بالحديث على صحة النذر في المباح، كما هو مذهب أحمد وغيره، يؤيده ما رواه أبو داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وأحمد والترمذي: عن بريدة: { أن امرأة قالت: يا رسول الله إني نذرت أن أضرب على رأسك بالدف. فقال: أوفي بنذرك } ( ) وأما نذر اللجاج والغضب فهو يمين عند أحمد. فيخير بين فعله وكفارة يمين لحديث عمران بن حصين مرفوعا: { لا نذر في غضب، وكفارته كفارة يمين } ( ) رواه سعيد بن منصور وأحمد والنسائي، فإن نذر مكروها كالطلاق استحب أن يكفر ولا يفعله.
المسائل المستنبطة من هذا الباب
فيه مسائل:
الأولى: وجوب الوفاء بالنذر.
الثانية: وإذ ثبت كونه عبادة لله فصرفه إلى غيره شرك.
الثالثة: أن نذر المعصية لا يجوز الوفاء به.
باب من الشرك الاستعاذة بغير الله
وقـول الله تعالى: { } ( ) (الجن - 6).
وعن خولة بنت حكيم قالت: سمعت رسول الله يقول: { من نزل منزلا، فقال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، لم يضره شيء حتى يرحل من منزله ذلك } ( ) رواه مسلم.
قوله: باب " من الشرك الاستعاذة بغير الله تعالى "
" الاستعاذة " الالتجاء والاعتصام، ولهذا يسمى المستعاذ به: معاذا وملجأ، فالعائذ بالله قد هرب مما يؤذيه أو يهلكه إلى ربه ومالكه، واعتصم واستجار به، والتجأ إليه وهذا تمثيل. وإلا فما يقوم بالقلب من الالتجاء إلى الله، والاعتصام به، والانطراح بين يدي الرب، والافتقار إليه، والتذلل له، أمر لا تحيط به العبارة. قاله ابن القيم رحمه الله.
وقال ابن كثير: الاستعاذة: هي الالتجاء إلى الله والالتصاق بجنابه من شر كل ذي شر. والعياذ يكون لدفع الشر. واللياذ لطلب الخير. انتهى.
قلت: وهي من العبادات التي أمر الله تعالى بها عباده، كما قال تعالى: { • • } ( ) (فصلت - 36) وأمثال ذلك في القرآن كثير كقوله: { } ( ) (الفلق - 1) و { •• } ( ) (الناس - 1) فما كان عبادة لله فصرفُه لغير الله شرك في العبادة، فمن صرف شيئا من هذه العبادات لغير الله فقد جعله شريكا لله في عبادته، ونازع الرب في إلهيته، كما أن من صلى لله وصلى لغيره يكون عابدا لغير الله، ولا فرق. كما سيأتي تقريره قريبا إن شاء الله تعالى.
قوله: " وقول الله تعالى: { } ( ). (الجن - 6)
قال ابن كثير: أي كنا نرى أن لنا فضلا على الإنس، لأنهم كانوا يعوذون بنا: أي إذا نزلوا واديا أو مكانا موحشا من البراري وغيرها، كما كانت عادة العرب في جاهليتها يعوذون بعظيم ذلك المكان من الجان أن يصيبهم بشيء يسوؤهم، كما كان أحدهم يدخل بلاد أعدائه في جوار رجل كبير وذمامه وخفارته، فلما رأت الجن أن الإنس يعوذون بهم من خوفهم منهم زادوهم رهقا: أي خوفا وإرهابا وذعرا، حتى يبقوا أشد منهم مخافة وأكثر تعوذا بهم - إلى أن قال: - قال أبو العالية والربيع وزيد بن أسلم: " رهقا " أي خوفا وقال العوفي: عن ابن عباس " فزادوهم رهقا " أي إثما، وكذا قال قتادة. ا هـ. وذلك أن الرجل من العرب كان إذا أمسى بواد قفر وخاف على نفسه قال: أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه، يريد: كبير الجن. وقد أجمع العلماء على أنه لا يجوز الاستعاذة بغير الله.
وقال ملا علي قاري الحنفي: لا يجوز الاستعاذة بالجن، فقد ذم الله الكافرين على ذلك وذكر الآية وقال: قال تعالى: { • • } ( ) (الأنعام - 128) فاستمتاع الإنسي بالجني في قضاء حوائجه وامتثال أوامره وإخباره بشيء من المغيبات، واستمتاع الجني بالإنسي تعظيمه إياه، واستعاذته به وخضوعه له. انتهى ملخصا.
قال المصنف: " وفيه: أن كون الشيء يحصل به منفعة دنيوية لا يدل على أنه ليس من الشرك ".
قوله: عن خولة بنت حكيم قالت: سمعت رسول الله يقول: " { من نزل منزلا فقال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم يضره شيء حتى يرتحل من منزله ذلك } ( ) رواه مسلم.
هي خولة بنت حكيم بن أمية السلمية، يقال لها أم شريك، ويقال إنها هي الواهبة وكانت قَبْلُ تحت عثمان بن مظعون.
قال ابن عبد البر: وكانت صالحة فاضلة.
قوله: " أعوذ بكلمات الله التامات " شرع الله لأهل الإسلام أن يستعيذوا به بدلا مما يفعله أهل الجاهلية من الاستعاذة بالجن، فشرع الله للمسلمين أن يستعيذوا بأسمائه وصفاته.
قال القرطبي: قيل: معناه الكاملات التي لا يلحقها نقص ولا عيب، كما يلحق كلام البشر. وقيل: معناه الشافية الكافية. وقيل: الكلمات هنا هي القرآن، فإن الله أخبر عنه بأنه: ... { } ( )... (فصلت - 44) وهذا الأمر على جهة الإرشاد إلى ما يدفع به الأذى. ولما كان ذلك استعاذة بصفات الله تعالى كان من باب المندوب إليه المرغب فيه، وعلى هذا فحق المستعيذ بالله أو بأسمائه وصفاته أن يصدق الله في التجائه إليه، ويتوكل في ذلك عليه، ويحضر ذلك في قلبه، فمتى فعل ذلك وصل إلى منتهى طلبه ومغفرة ذنبه.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: وقد نص الأئمة كأحمد وغيره على أنه لا يجوز الاستعاذة بمخلوق. وهذا مما استدلوا به على أن كلام الله غير مخلوق. قالوا: لأنه ثبت عن النبي أنه استعاذ بكلمات الله وأمر بذلك، ولهذا نهى العلماء عن التعاويذ التي لا يعرف معناها خشية أن يكون فيها شرك.
وقال ابن القيم: ومن ذبح للشيطان ودعاه، واستعاذ به وتقرب إليه بما يجب فقد عبده، وإن لم يسم ذلك عبادة ويسميه استخداما. وصدق، هو استخدام من الشيطان له، فيصير من خدم الشيطان وعابديه، وبذلك يخدمه الشيطان، لكن خدمة الشيطان له ليست خدمة عبادة، فإن الشيطان لا يخضع له ولا يعبده كما يفعل هو به. ا هـ.
قوله: " من شر ما خلق " قال ابن القيم رحمه الله: أي من كل شر في أي مخلوق قام به الشر من حيوان أو غيره، إنسيا كان أو جنيا، أو هامة أو دابة، أو ريحا أو صاعقة أو أي نوع كان من أنواع البلاء في الدنيا والآخرة.
و " ما " ههنا موصولة، وليس المراد بها العموم الإطلاقي، بل المراد التقييدي الوصفي، والمعنى: من شر كل مخلوق فيه شر، لا من شر كل ما خلقه الله، فإن الجنة والملائكة والأنبياء ليس فيهم شر، والشر يقال على شيئين: على الألم، وعلى ما يفضي إليه.
قوله: " لم يضره شيء حتى يرتحل من منزله ذلك " قال القرطبي: هذا خبر صحيح وقول صادق، علمنا صدقه دليلا وتجربة، فإني منذ سمعت هذا الخبر عملت عليه فلم يضرني شيء إلى أن تركته، فلدغتني عقرب بالمهدية ليلا، فتفكرت في نفسي، فإذا بي قد نسيت أن أتعوذ بتلك الكلمات.
المسائل المستنبطة من هذا الباب
فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية الجن.
الثانية: كونه من الشرك.
الثالثة: الاستدلال على ذلك بالحديث، لأن العلماء يستدلون به على أن كلمات الله غير مخلوقة، قالوا: لأن الاستعاذة بالمخلوق شرك.
الرابعة: فضيلة هذا الدعاء مع اختصاره.
الخامسة: أن كون الشيء يحصل به منفعة دنيوية من كف شر أو جلب نفع - لا يدل على أنه ليس من الشرك.
باب من الشرك أن يستغيث بغير الله أو يدعو غيره
وقول الله تعالى: { • } ( ) (يونس: 106، 107).
وقوله: { } ( ) (العنكبوت - 17).
وقوله: { •• } ( ) (الأحقاف - 5، 6).
وقوله: { • • } ( )... (النمل - 62).
وروى الطبراني بإسناده { أنه كان في زمن النبي منافق يؤذي المؤمنين، فقال بعضهم: قوموا بنا نستغيث برسول الله من هذا المنافق، فقال النبي إنه لا يستغاث بي، وإنما يستغاث بالله }.
قوله: باب " من الشرك أن يستغيث بغير الله أو يدعو غيره "
قال شيخ الإسلام رحمه الله: الاستغاثة: هي طلب الغوث، وهو إزالة الشدة، كالاستنصار: طلب النصر. والاستعانة: طلب العون.
وقال غيره: الفرق بين الاستغاثة والدعاء: أن الاستغاثة لا تكون إلا من المكروب، والدعاء أعم من الاستغاثة؛ لأنه يكون من المكروب وغيره. فعطف الدعاء على الاستغاثة من عطف العام على الخاص، فبينهما عموم وخصوص مطلق، يجتمعان في مادة وينفرد الدعاء عنها في مادة، فكل استغاثة دعاء، وليس كل دعاء استغاثة.
وقوله: " أو يدعو غيره " اعلم أن الدعاء نوعان: دعاء عبادة، ودعاء مسألة، ويراد به في القرآن هذا تارة، وهذا تارة، ويراد به مجموعهما. فدعاء المسألة: هو طلب ما ينفع الداعي من جلب نفع أو كشف ضر، ولهذا أنكر الله على من يدعو أحدا من دونه ممن لا يملك ضرا ولا نفعا، كقوله تعالى: { } ( ) (المائدة - 76) وقوله: { } ( ) (الأنعام - 71) وقال: { } ( ) (يونس - 106).
قال شيخ الإسلام رحمه الله: فكل دعاء عبادة مستلزم لدعاء المسألة، وكل دعاء مسألة متضمن لدعاء العبادة، قال الله تعالى: { } ( ) (الأعراف - 55) وقال تعالى: { } ( ) (الأنعام - 40، 41) وقال تعالـى: { • } ( ) (الجن - 18) وقال تعالـى { } ( ) (الرعد - 14) وأمثال هذا في القرآن في دعاء المسألة أكثر من أن يحصر، وهو يتضمن دعاء العبادة، لأن السائل أخلص سؤاله لله، وذلك من أفضل العبادات، وكذلك الذاكر لله، والتالي لكتابه ونحوه طالب من الله في المعنى، فيكون داعيا عابدا. فتبين من قول شيخ الإسلام: أن دعاء العبادة مستلزم لدعاء المسألة كما أن دعاء المسألة متضمن لـدعاء العبادة، وقـد قال تعالى عن خليله: { } ( ) (مريم - 48، 49) فصار الدعاء مـن أنـواع العبادة، فإن قولـه:... { } ( ) (مريم - 48) كقـول زكـريا:... { • } ( ) (مريم - 4). وقد أمر الله تعالى به في مواضع من كتابه كقوله: { • • } ( ) (الأعراف:55، 56) وهذا دعاء المسألة المتضمن للعبادة، فإن الداعي يرغب إلى المدعو، ويخضع له ويتذلل.
وضابط هذا: أن كل أمر شرعه الله لعباده وأمرهم به ففعله لله عبادة، فإذا صرف من تلك العبادة شيئا لغير الله فهو مشرك مصادم لما بعث به رسوله من قوله: { } ( ) (الزمر - 14) وسيأتي لهذا مزيد بيان إن شاء الله تعالى.
قال شيخ الإسلام رحمه الله في الرسالة السنية: فإذا كان على عهد النبي ممن انتسب إلى الإسلام من مرق منه مع عبادته العظيمة، فليعلم أن المنتسب إلى الإسلام والسنة في هذه الأزمان قد يمرق أيضا من الإسلام لأسباب، منها: الغلو في بعض المشايخ، بل الغلو في علي بن أبي طالب، بل الغلو في المسيح، فكل من غلا في نبي أو رجل صالح، وجعل فيه نوعا من الإلهية، مثل أن يقول: يا سيدي فلان انصرني، أو أغثني، أو ارزقني، أو أنا في حسبك، ونحو هذه الأقوال. فكل هذا شرك وضلال يستتاب صاحبه. فإن تاب وإلا قتل، فإن الله سبحانه وتعالى إنما أرسل الرسل، وأنزل الكتب، ليعبد وحده لا شريك له، ولا يدعى معه إله آخر. والذين يدعون مع الله آلهة أخرى، مثل المسيح والملائكة والأصنام، لم يكونوا يعتقدون أنها تخلق الخلائق أو تنزل المطر أو تنبت النبات، وإنما كانوا يعبدونهم، أو يعبدون قبورهم، أو يعبدون صورهم، يقولون:... { } ( ) (الزمر - 3) { } ( ) (يونس - 18) فبعث الله سبحانه رسله تنهى عن أن يدعى أحد من دونه، لا دعاء عبادة ولا دعاء استغاثة. ا هـ. وقال أيضا: من جعل بينه وبين الله وسائط يتوكل عليهم ويدعوهم ويسألهم كفر إجماعا.
نقله عنه صاحب الفروع وصاحب الإنصاف وصاحب الإقناع وغيرهم. وذكره شيخ الإسلام، ونقلته عنه في الرد على ابن جِرْجيس في مسألة الوسائط.
وقال ابن القيم رحمه الله: ومن أنواعه - يعني الشرك - طلب الحوائج من الموتى، والاستغاثة بهم والتوجه إليهم، وهذا أصل شرك العالم، فإن الميت قد انقطع عمله، وهو لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا، فضلا عمن استغاث به أو سأله أن يشفع له إلى الله، وهذا من جهله بالشافع والمشفوع عنده، وسيأتي تتمة كلامه في باب الشفاعة إن شاء الله تعالى.
وقال الحافظ محمد بن عبد الهادي رحمه الله في رده على السبكي في قوله: " إن المبالغة في تعظيمه - أي: الرسول - واجبة ":
إن أريد به المبالغة بحسب ما يراه كل أحد تعظميا، حتى الحج إلى قبره والسجود له، والطواف به، واعتقاد أنه يعلم الغيب، وأنه يعطي ويمنع، ويملك لمن استغاث به من دون الله الضر والنفع، وأنه يقضي حوائج السائلين ويفرج كربات المكروبين، وأنه يشفع فيمن يشاء، ويدخل الجنة من يشاء -: فدعوى المبالغة في هذا التعظيم مبالغة في الشرك، وانسلاخ من جملة الدين.
وفي الفتاوى البزَّازية من كتب الحنفية: قال علماؤنا: من قال: أرواح المشائخ حاضرة تعلم - يكفر.
وقال الشيخ صنع الله الحنفي - رحمه الله - في كتابه الرد على من ادعى أن للأولياء تصرفات في الحياة وبعد الممات على سبيل الكرامة: هذا وأنه قد ظهر الآن فيما بين المسلمين جماعات يدَّعون أن للأولياء تصرفات بحياتهم وبعد مماتهم، ويستغاث بهم في الشدائد والبليات وبهممهم تكشف المهمات، فيأتون قبورهم وينادونهم في قضاء الحاجات، مستدلين أن ذلك منهم كرامات، وقالوا: منهم أبدال ونقباء، وأوتاد ونجباء، وسبعون وسبعة وأربعون وأربعة، والقطب: هو الغوث للناس، وعليه المدار بلا التباس، وجوزوا لهم الذبائح والنذور، وأثبتوا لهم فيهما الأجور، قال: وهذا كلام فيه تفريط وإفراط، بل فيه الهلاك الأبدي والعذاب السرمدي، لما فيه من روائح الشرك المحقق، ومصادمة الكتاب العزيز المصدق، ومخالفة لعقائد الأئمة وما اجتمعت عليه الأمة، وفي التنزيل: { • • • } ( ) (النساء - 115).
ثم قال: فأما قولهم: إن للأولياء تصرفات في حياتهم وبعد الممات، فيرده قوله تعالى:... { • } ( )... (النمل - 60 - 64)... { } ( ) ... (الأعراف - 54)، { } ( )... (آل عمران - 189، والمائدة - 17، 18، النور - 42، الجاثية - 27، الفتح - 14) ونحوها من الآيات الدالة على أنه المتفرد بالخلق والتدبير، والتصرف والتقدير، ولا شيء لغيره في شيء ما بوجه من الوجوه فالكل تحت ملكه وقهره تصرفا وملكا، وإحياء وإماتة وخلقا. وتمدح الـرب تبارك وتعالى بانفراده بملكه في آيات من كتابه كقوله:.. { } ( )... (فاطر - 3)، { } ( ) (فاطر - 13، 14) وذكر آيات في هذا المعنى.
ثم قال: فقوله في الآيات كلها " من دونه " أي من غيره، فإنه عام يدخل فيه من اعتقدته، من ولي وشيطان تستمده، فإن من لم يقدر على نصر نفسه كيف يمد غيره؟ إلى أن قال: إن هذا لقول وخيم، وشرك عظيم، إلى أن قال: وأما القول بالتصرف بعد الممات فهو أشنع وأبدع من القول بالتصرف في الحياة. قال جل ذكره: { • • • } ( ) (الزمر - 30)، { } ( )... (الزمر - 42) { } ( ) (آل عمران - 185، الأنبياء - 35، العنكبوت - 57)، { } ( ) (المدثر - 38) وفي الحديث: { إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث } ( ) - الحديث " فجميع ذلك وما هو نحوه دال على انقطاع الحس والحركة من الميت، وأن أرواحهم ممسكة، وأن أعمالهم منقطعة عن زيادة ونقصان، فدل ذلك على أنه ليس للميت تصرف في ذاته فضلا عن غيره، فإذا عجز عن حركة نفسه، فكيف يتصرف في غيره؟ فالله سبحانه يخبر أن الأرواح عنده، وهؤلاء الملحدون يقولون: إن الأرواح مطلقة متصرفة... { } ( ).... (البقرة - 140).
قال: وأما اعتقادهم أن هذه التصرفات لهم من الكرامات، فهو من المغالطة، لأن الكرامة شيء من عند الله يكرم به أولياءه، لا قصد لهم فيه ولا تحد، ولا قدرة ولا علم، كما في قصة مريم بنت عمران، وأسيد بن حضير، وأبي مسلم الخولاني.
قال: وأما قولهم فيستغاث بهم في الشدائد، فهذا أقبح مما قبله وأبدع لمصادمته قوله جل ذكره: { • • } ( )... (النمل - 62)، { • } ( ) (الأنعام - 63، 64) وذكر آيات في هذا المعنى، ثم قال: فإنه جل ذكره قرر أنه الكاشف للضر لا غيره، وأنه المنفرد بإجابة المضطرين، وأنه المستغاث لذلك كله، وأنه القادر على دفع الضر، القادر على إيصال الخير، فهو المتفرد بذلك. فإذا تعين هو جل ذكره خرج غيره من ملك ونبي وولي.
قال: والاستغاثة تجوز في الأسباب الظاهرة العادية من الأمور الحسية في قتال، أو إدراك عدو أو سبع أو نحوه، كقولهم: يا لزيد، يا للمسلمين، بحسب الأفعال الظاهرة.
وأما الاستغاثة بالقوة والتأثير أو في الأمور المعنوية من الشدائد، كالمرض وخوف الغرق والضيق والفقر وطلب الرزق ونحوه فمن خصائص الله، لا يطلب فيها غيره.
قال: وأما كونهم معتقدين التأثير منهم في قضاء حاجاتهم كما تفعله جاهلية العرب والصوفية الجهال، وينادونهم ويستنجدون بهم، فهذا من المنكرات. فمن اعتقد أن لغير الله من نبي أو ولي أو روح أو غير ذلك في كشف كربة أو قضاء حاجة تأثيرا فقد وقع في وادي جهل خطير، فهو على شفا حفرة من السعير. وأما كونهم مستدلين على أن ذلك منهم كرامات، فحاشى لله أن يكون أولياء الله بهذه المثابة؛ فهذا ظن أهل الأوثان، كذا أخبر الرحمن... { } ( )... (يونس - 18)،... { } ( )... (الزمر - 3)، { } ( ) (يس - 23) فإن ذكر ما ليس من شأنه النفع ولا دفع الضر من نبي وولي وغيره على وجه الإمداد منه إشرك مع الله، إذ لا قادر على الدفع غيره، ولا خير إلا خيره.
قال: وأما ما قالوا إن منهم أبدالا ونقباء، وأوتادا ونجباء، وسبعين وسبعة، وأربعين وأربعة، والقطب: هو الغوث للناس - فهذا من موضوعات إفكهم. كما ذكره القاضي المحدث في سراج المريدين، وابن الجوزي، وابن تيمية. انتهى باختصار.
والمقصود أن أهل العلم ما زالوا ينكرون هذه الأمور الشركية التي عمت بها البلوى واعتقدها أهل الأهواء، فلو تتبعنا كلام العلماء المنكرين لهذه الأمور الشركية لطال الكتاب. والبصير النبيل يدرك الحق من أول دليل، ومن قال قولا بلا برهان فقوله ظاهر البطلان؛ مخالف ما عليه أهل الحق والإيمان، المتمسكون بمحكم القرآن، المستجيبون لداعي الحق والإيمان. والله المستعان وعليه التكلان.
قال: " وقوله تعالى: { } ( ) (يونس - 106) ".
قال ابن عطية: معناه: قيل لي: " ولا تدع " فهو عطف على " أقم " وهذا الأمر والمخاطبة للنبي إذا كانت هكذا فأحرى أن يحذر من ذلك غيره. والخطاب خرج مخرج الخصوص. وهو عام للأمة.
قال أبو جعفر بن جرير في هذه الآية: يقول تعالى ذكره: ولا تدع يا محمد من دون معبودك وخالقك شيئا لا ينفعك في الدنيا ولا في الآخرة، ولا يضرك في دين ولا دنيا، يعني بذلك: الآلهة والأصنام، يقول: لا تعبدها راجيا نفعها أو خائفا ضرها؛ فإنها لا تنفع ولا تضر. فإن فعلت ذلك فدعوتها من دون الله { } ( ) يقول: من المشركين بالله أي الظالم لنفسه.
قلت: وهذه الآية لها نظائر كقوله: { • } ( ) (الشعراء - 213) وقوله: { • } ( )... (القصص - 88) ففي هذه الآيات بيان أن كل مدعو يكون إلها، والإلهية حق لله لا يصلح منها شيء لغيره. ولهذا قال: { } ( ) كما قال تعالى: { } ( ) (الحج - 62) وهذا هو التوحيد الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه، كما قال تعالى { } ( ) (البينة - 5) والدين: كل ما يدان الله به من العبادات الظاهرة والباطنة، وفسره ابن جرير في تفسيره بالدعاء. وهو فرد من أفراد العبادة، على عادة السلف في التفسير: يفسرون الآية ببعض أفراد معناها، فمن صرف منها شيئا لقبر أو صنم أو وثن أو غير ذلك فقد اتخذه معبودا وجعله شـريكا لله في الإلهية التي لا يستحقها إلا هو، كما قال تعالى: { • } ( ) (المؤمنون - 117) فتبين بهذه الآية ونحوها أن دعوة غير الله كفر وشرك وضلال. وقوله: { • } ( )... (يونس - 107) فإنه المتفرد بالملك والقهر، والعطاء والمنع، والضر والنفع، دون كل ما سواه. فيلزم من ذلك أن يكون هو المدعو وحده، المعبود وحده؛ فإن العبادة لا تصلح إلا لمالك الضر والنفع. ولا يملك ذلك ولا شيئا منه غيره تعالى؛ فهو المستحق للعبادة وحده، دون من لا يضر ولا ينفع.
وقوله تعالى:... { • } ( ) (الزمر - 38)، وقال: { • •• } ( ) (فاطر - 2) فهذا ما أخبر به الله تعالى في كتابه من تفرده بالإلهية والربوبية، ونصب الأدلة على ذلك، فاعتقد عباد القبور والمشاهد نقيض ما أخبر به الله تعالى، واتخذوهم شركاء لله في استجلاب المنافع ودفع المكاره، بسؤالهم والالتجاء إليهم بالرغبة والرهبة والتضرع، وغير ذلك من العبادات التي لا يستحقها إلا الله تعالى، واتخذوهم شركاء لله في ربوبيته وإلهيته. وهذا فوق شرك كفار العرب القائلين: { } ( ) (الزمر - 3) { } ( )... (يونس - 18) فإن أولئك يدعونهم ليشفعوا لهم ويقربوهم إلى الله. وكانوا يقولون في تلبيتهم: " لبيك لا شريك لك، إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك ".
وأما هؤلاء المشركون فاعتقدوا في أهل القبور والمشاهد ما هو أعظم من ذلك، فجعلوا لهم نصيبا من التصرف والتدبير، وجعلوهم معاذا لهم وملاذا في الرغبات والرهبة... { } ( ) (الطور - 43).
وقوله:... { } ( ) (يونس - 107) أي: لمن تاب إليه.
قال: " وقوله تعالى:... { } ( ) (العنكبوت - 17) يأمر تعالى عباده بابتغاء الرزق عنده وحده دون ما سواه ممن لا يملك لهم رزقا من السماوات والأرض شيئا. فتقديم الظرف يفيد الاختصاص. وقوله: { } ( ) من عطف العام على الخاص؛ فإن ابتغاء الرزق عنده من العبادة التي أمر الله بها.
قال العماد بن كثير رحمه الله تعالى: { } ( ) أي فاطلبوا { } ( ) أي لا عنـد غيره، لأنه المالك لـه، وغيره لا يـملك شيئا مـن ذلك { } ( ) أي أخلصوا له العبادة وحده لا شريك له { } ( ) أي على ما أنعم عليكم { } ( ) أي يوم القيامة فيجازي كل عامل بعمله.
قال: " وقوله { •• } ( ) (الأحقاف - 5، 6).
نفى سبحانه أن يكون أحد أضل ممن يدعو غيره وأخبر أنه لا يستجيب له ما طلب منه إلى يوم القيامة والآية تعم كل من يدعى من دون الله، كما قال تعالى: { } ( ) (الإسراء - 56) وفي هذه الآية أخبر أنه لا يستجيب وأنه غافل عن داعيه { •• } ( ) (الأحقاف - 6) فتناولت الآية كل داع وكل مدعو من دون الله.
قال أبو جعفر بن جرير في قوله: { •• } ( ) يقول تعالى ذكره: وإذا جمع الناس ليوم القيامة في موقف الحساب كانت هذه الآلهة التي يدعونها في الدنيا لهم أعداء، لأنهم يتبرأون منهم { } ( ) يقول تعالى ذكره: وكانت آلهتهم التي يعبدونها في الدنيا بعبادتهم جاحدين، لأنهم يقولون يوم القيامة: ما أمرنا بعبادتنا ولا شعرنا بعبادتهم إيانا... تبرأنا إليك منهم يا ربنا. كما قال تعالـى: { • } ( ) (الفرقان - 17، 18).
قال ابن جرير: { } ( ) من الملائكة والإنس والجن وساق بسنده عن مجاهد قال: عيسى وعزير والملائكة. ثم قال: يقول تعالى ذكره قالت الملائكة الذين كان هؤلاء المشركون يعبدونهم من دون الله وعيسى تنزيها لك يا ربنا وتبرئةً مما أضاف إليك هؤلاء المشركون:... { } ( )... (الفرقان - 18) نواليهم، أنت ولينا من دونهم. انتهى.
قلت: وأكثر ما يستعمل الدعاء في الكتاب والسنة واللغة ولسان الصحابة ومن بعدهم من العلماء: في السؤال والطلب، كما قال العلماء من أهل اللغة وغيرهم: الصلاة لغة: الـدعاء، وقـد قـال تعـالى:... { } ( )... الآيتان (فاطر - 13 - 14) وقال:... { } ( )... (الأنعام - 63) وقال: { } ( )... (يونس - 12) وقال: { } ( ) (فصلت - 51) وقال: { } ( )... (فصـلت - 49) وقـال: ({ } ( ) (الأنفال - 9).
وفي حديث أنس مرفوعا: { الدعاء مخ العبادة } ( ) وفي الحديث الصحيح: { ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة } ( ) وفي آخر: " { من لم يسأل الله يغضب عليه } ( ) وحديث: { ليس شيء أكرم على الله من الدعاء } ( ) رواه أحمد والترمذي وابن ماجه وابن حبان والحاكم وصححه. وقوله: { الدعاء سلاح المؤمن وعماد الدين ونور السماوات والأرض } رواه الحاكم وصححه. وقوله: { سلوا الله كل شيء حتى الشسع إذا انقطع } - الحديث ". وقال ابن عباس رضي الله عنهما: " أفضل العبادة الدعاء، وقرأ: { } ( ) ... (غافر - 60) ". رواه ابن المنذر والحاكم وصححه. وحديث: { اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنان } ( ) - الحديث " وحديث: " { اللهم إني أسألك بأنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد } ( ) وأمثال هذا في الكتاب والسنة أكثر من أن يحصر في الدعاء الذي هو السؤال والطلب، فمن جحد كون السؤال والطلب عبادة فقد صادم النصوص وخالف اللغة واستعمال الأمة سلفا وخلفا.
وأما ما تقدم من كلام شيخ الإسلام، وتبعه العلامة ابن القيم رحمهما الله تعالى من أن الدعاء نوعان: دعاء مسألة، ودعاء عبادة، وما ذكر بينهما من التلازم وتضمن أحدهما للآخر، فذلك باعتبار كون الذاكر والتالي والمصلي والمتقرب بالنسك وغيره طالبا في المعنى، فيدخل في مسمى الدعاء بهذا الاعتبار. وقد شرع الله تعالى في الصلاة الشرعية من دعاء المسألة ما لا تصلح الصلاة إلا به، كما في الفاتحة وبين السجدتين وفي التشهد، وذلك عبادة كالركوع والسجود. فتدبر هذا المقام يتبين لك جهل الجاهلين بالتوحيد.
ومما يبين هذا المقام ويزيده إيضاحا قول العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى في قوله تعالى: { • } ( ) ... (الإسراء - 110): وهذا الدعاء المشهور أنه دعاء المسألة. قالوا: كان النبي يدعو ربه ويقول مرة: " يا الله " ومرة: " يا رحمن " فظن المشركون أنه يدعو إلهين، فأنزل الله هذه الآية. ذكر هذا عن ابن عباس رضي الله عنهما. وقيل: إن الدعاء هنا بمعنى التسمية، والمعنى: أي اسم سميتموه به من أسماء الله تعالى إما " الله " وإما " الرحمن " فله الأسماء الحسنى، وهذا من لوازم المعنى في الآية. وليس هو عين المراد بل المراد بالدعاء معناه المعهود المطرد في القرآن. وهو دعاء السؤال ودعاء الثناء.
ثم قال: إذا عرف هذا فقوله: { } ( ) (الأعراف: 55) يتناول نوعي الدعاء، لكنه ظاهر في دعاء المسألة متضمن لدعاء العبادة، ولهذا أمر بإخفائه. قال الحسن: " بين دعاء السر ودعاء العلانية سبعون ضعفا. ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء ولم يسمع لهم صـوت، إن كـان إلا همسا بينهم وبين ربهم " وقوله تعالى: { } ( )... (البقرة - 186) يتناول نوعي الدعاء، وبكل منهما فسرت الآية. قيل: أعطيه إذا سألني، وقيل أثيبه إذا عبدني. وليس هذا من استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه. بل هذا استعماله في حقيقته الواحدة المتضمنة للأمرين جمعيا. وهذا يأتي في مسألة الصلاة، وأنها نقلت عن مسماها في اللغة وصارت حقيقة شرعية، واستعملت في هذه العبادة مجازا للعلاقة بينها وبين المسمى اللغوي، وهي باقية على الوضع اللغوي، وضم إليها أركان وشرائط. فعلى ما قررناه: لا حاجة إلى شيء من ذلك، فإن المصلي من أول صلاته إلى آخرها لا ينفك عن دعاء: إما دعاء عبادة وثناء، أو دعاء طلب ومسألة، وهو في الحالين داع. ا هـ. ملخصا من البدائع.
قال: وقوله: { • • • } ( ) (النمل - 62) بين تعالى أن المشركين من العرب ونحوهم قد علموا أنه لا يجيب المضطر ويكشف السوء إلا الله وحده فذكر ذلك سبحانه محتجا عليهم في اتخاذهم الشفعاء من دونه، ولهذا قال: { • } ( ) يعني يفعل ذلك. فإذا كانت آلهتهم لا تجيبهم في حال الاضطرار، فلا يصلح أن يجعلوها شركاء لله الذي يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء وحده. وهذا أصح ما فسرت به الآية كسابقتها من قوله: { أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنْـزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ • • } ( ) (النمل - 60، 61) ولاحقتهـا إلى قوله: { • • • • } ( ) (النمل - 63، 64).
فتأمل هذه الآيات يتبين لك أن الله تعالى احتج على المشركين بما أقروا به على ما جحدوه: من قصر العبادة جميعها عليه، كما في فاتحة الكتاب: { } ( ) (الفاتحة - 5).
قال أبو جعفر بن جرير قوله: { • } ( ) إلى قوله... { • } ( ) (النمل - 62) يقول تعالى ذكره: أم ما تشركون بالله خير أم الذي يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء النازل به عنه؟ وقوله { } ( ) يقول: يستخلف بعد أمواتكم في الأرض منكم خلفاء أحياء يخلفونهم، وقوله: { • } ( ) أإله سواه يفعل هذه الأشياء بكم وينعم عليكم هذه النعم؟ وقوله: { • } ( ) يقول: تذكرا قليلا من عظمة الله وأياديه عندكم تذكرون، وتعتبرون حجج الله عليكم يسيرا. فلذلك أشركتم بالله غيره في عبادته. ا هـ.
قوله: وروى الطبراني بإسناده: { أنه كان في زمن النبي منافق يؤذي المؤمنين فقال بعضهم: قوموا بنا نستغيث برسول الله من هذا المنافق، فقال النبي " إنه لا يستغاث بي، وإنما يستغاث بالله }.
" الطبراني " هو الإمام الحافظ سليمان بن أحمد بن أيوب اللخمي الطبراني، صاحب المعاجم الثلاثة وغيرها. روى عن النسائي وإسحاق بن إبراهيم الدبري وخلق كثير. مات سنة ستين وثلاثمائة. روى هذا الحديث عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه.
قوله: " أنه كان في زمن النبي منافق يؤذي المؤمنين " لم أقف على اسم هذا المنافق.
قلت: هو عبد الله بن أبي كما صرح به ابن أبي حاتم في روايته. قوله: " فقال بعضهم " أي الصحابة رضي الله عنهم، هو أبو بكر رضي الله عنه.
قوله: " قوموا بنا نستغيث برسول الله من هذا المنافق " لأنه يقدر على كف أذاه.
قوله: " إنه لا يستغاث بي، وإنما يستغاث بالله " فيه: النص على أنه لا يستغاث بالنبي ولا بمن دونه. كره أن يستعمل هذا اللفظ في حقه، وإن كان مما يقدر عليه في حياته؛ حماية لجناب التوحيد، وسدا لذرائع الشرك وأدبا وتواضعا لربه، وتحذيرا للأمة من وسائل الشرك في الأقوال والأفعال. فإذا كان هذا فيما يقدر عليه النبي في حياته، فكيف يجوز أن يستغاث به بعد وفاته، ويطلب منه أمور لا يقدر عليها إلا الله ؟ كما جرى على ألسنة كثير من الشعراء كالبوصيري والبرعي وغيرهم، من الاستغاثة بمن لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا، ولا موتا ولا حياة ولا نشورا، ويعرضون عن الاستغاثة بالرب العظيم القادر على كل شيء، الذي له الخلق والأمر وحده، وله الملك وحده، لا إله غيره، ولا رب سواه. قال تعالى: { } ( ) .. (الأعراف - 188) في مـواضع مـن القـرآن { } ( ) (الجن - 21) فأعرض هؤلاء عن القرآن واعتقدوا نقيض ما دلت عليه هذه الآيات المحكمات، وتبعهم على ذلك الضلال الخلق الكثير والجم الغفير. فاعتقدوا الشرك بالله دينا، والهدى ضلالا، فإنا لله وإنا إليه راجعون. فما أعظمها من مصيبة عمت بها البلوى، فعاندوا أهل التوحيد، وبدعوا أهل التجريد؛ فالله المستعان.
المسائل المستنبطة من هذا الباب
فيه مسائل:
الأولى: أن عطف الدعاء على الاستغاثة من عطف العام على الخاص.
الثانية: تفسير قوله: { } ( ) ... (يونس - 106).
الثالثة: أن هذا هو الشرك الأكبر.
الرابعة: أن أصلح الناس لو يفعله إرضاء لغيره صار من الظالمين.
الخامسة: تفسير الآية التي بعدها.
السادسة: كون ذلك لا ينفع في الدنيا، مع كونه كفرا.
السابعة: تفسير الآية الثالثة.
الثامنة: أن طلب الرزق لا ينبغي إلا من الله، كما أن الجنة لا تطلب إلا منه.
التاسعة: تفسير الآية الرابعة.
العاشرة: أنه لا أضل ممن دعا غير الله.
الحادية عشرة: أنه غافل عن دعاء الداعي لا يدري عنه.
الثانية عشرة: أن تلك الدعوة سبب لبغض المدعو للداعي وعداوته له.
الثالثة عشرة: تسمية تلك الدعوة عبادة للمدعو.
الرابعة عشرة: كفر المدعو بتلك العبادة.
الخامسة عشرة: هي سبب كونه أضل الناس.
السادسة عشرة: تفسير الآية الخامسة.
السابعة عشرة: الأمر العجيب وهو إقرار عبدة الأوثان أنه لا يجيب المضطر إلا الله، ولأجل هذا يدعونه في الشدائد مخلصين له الدين.
الثامنة عشرة: حماية المصطفى حمى التوحيد والتأدب مع الله.
باب قول الله تعالى أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون...
قول الله تعالى:{ } ( ) (الأعراف - 191، 192).
وقوله:... { } ( ) (فاطر - 13، 14).
وفي الصحيح عن أنس قال: { شج النبي يوم أحد وكسرت رباعيته، فقال: كيف يفلح قوم شجوا نبيهم؟ فنزلت: { } ( ) }... (آل عمران - 128) .
وفيه عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه سمع رسول الله يقول { إذا رفع رأسه من الركوع في الركعة الأخيرة من الفجر -: " اللهم العن فلانا وفلانا، بعدما يقول: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد، فأنزل الله: { } ( )... الآية }.
وفي رواية: { يدعو على صفوان بن أمية، وسهيل بن عمرو، والحارث بن هشام فنزلت { } ( )... }.
وفيه عن أبي هريرة قال: { قام رسول الله حين أنزل عليه: { } ( ) (الشعراء - 214) قال: يا معشر قريش ـ أو كلمة نحوها ـ اشتروا أنفسكم، لا أغني عنكم من الله شيئا، يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئا، يا صفية عمة رسول الله لا أغني عنك من الله شيئا، ويا فاطمة بنت محمد سليني من مالي ما شئت لا أغني عنك من الله شيئا }.
قوله: باب " قول الله تعالى "
{ } ( ) (الأعراف - 191، 192).
قوله (أيشركون) أي في العبادة. قال المفسرون: في هذه الآية توبيخ وتعنيف للمشركين في عبادتهم مع الله تعالى ما لا يخلق شيئا وهو مخلوق، والمخلوق لا يكون شريكا للخالق في العبادة التي خلقهم لها، وبين أنهم لا يستطيعون لهم نصرا ولا أنفسهم ينصرون، فكيف يشركون به من لا يستطيع نصر عابديه ولا نصر نفسه؟ وهذا برهان ظاهر على بطلان ما كانوا يعبدونه من دون الله، وهذا وصف كل مخلوق، حتى الملائكة والأنبياء والصالحين. وأشرف الخلق محمد قد كان يستنصر ربه على المشركين ويقول: { اللهم أنت عضدي ونصيري، بك أحول، وبك أصول، وبك أقاتل } ( ) وهذا كقوله: { } ( ) (الفرقان - 3) وقوله: { } ( ) (الأعراف - 188) وقوله: { } ( ) (الجن - 21 - 23).
فكفى بهذه الآيات برهانا على بطلان دعوة غير الله كائنا من كان. فإن كان نبيا أو صالحا فقد شرفه الله تعالى بإخلاص العبادة له، والرضا به ربا ومعبودا، فكيف يجوز أن يجعل العابد معبـودا مع توجيـه الخطاب بالنهي عـن هذا الشرك؟ كما قـال تعالى: { • } ( ) (القصص - 88) وقـال: { } ( ) (يوسف - 40) فقد أمر عباده من الأنبياء والصالحين وغيرهم بإخلاص العبادة له وحده، ونهاهم أن يعبدوا معه غيره، وهذا هو دينه الذي بعث به رسله، وأنزل به كتبه، ورضيه لعباده، وهو دين الإسلام، كما روى البخاري عن أبي هريرة في سؤال جبريل عليه السلام، قال { يا رسول الله، ما الإسلام؟ قال: الإسلام أن تعبد الله ولا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان } ( ) - الحديث ". وقوله:... { } ( ) يخبر تعالى عن حال المدعوين من دونه من الملائكة والأنبياء والأصنام وغيرها بما يدل على عجزهم وضعفهم، وأنهم قد انتفت عنهم الأسباب التي تكون في المدعو، وهي الملك، وسماع الدعاء. والقدرة على استجابته، فمتى لم توجد هذه الشروط تامة بطلت دعوته، فكيف إذا عدمت بالكلية؟ فنفى عنهم الملك بقوله: { } ( ) قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة، وعطاء والحسن وقتادة: " القطمير: اللفافة التي تكون على نواة التمر " كما قال تعالى: { } ( ) (النحل - 73) وقال: { } ( )... (سبأ – 22، 23) ونفى عنهم سماع الدعاء بقوله: { } ( ) لأنهم ما بين ميت وغائب عنهم، مشتغل بما خلق له، مسخر بما أمر به كالملائكة، ثم قال: { } ( ) لأن ذلك ليس لهم؛ فإن الله تعالى لم يأذن لأحد من عباده في دعاء أحد منهم، لا استقلالا ولا واسطة، كما تقدم بعض أدلة ذلك. وقوله: { } ( ) فتبين بهذا أن دعوة غير الله شرك. وقال تعالى: { } ( ) (مريم - 81، 82) وقوله تعالـى: { } ( ) قال ابن كثير: يتبرأون منكم، كما قال تعالى: ({ •• } ( ) (الأحقاف - 5، 6).
قال: وقوله { } ( ) أي ولا يخبرك بعواقب الأمور ومآلها وما تصير إليه مثل خبير بها. قال قتادة: يعني نفسه تبارك وتعالى؛ فإنه أخبر بالواقع لا محالة. قلت: والمشركون لم يسلموا للعليم الخبير ما أخبر به عن معبوداتهم، فقالوا: تملك وتسمع وتستجيب وتشفع لمن دعاها، ولم يلتفتوا إلى ما أخبر به الخبير من أن كل معبود يعادي عابده يوم القيامة ويتبرأ منه، كما قال تعالى: { • • • • • } ( ) (يونس - 28 - 30).
أخرج ابن جريـر عن ابن جريج قـال: قال مجاهد: { • } ( ) قال: يقول ذلك كل شيء كان يعبد من دون الله.
فالكيس يستقبل هذه الآيات التي هي الحجة والنور والبرهان بالإيمان والقبول والعمل فيجرد أعماله لله وحده دون كل ما سواه ممن لا يملك لنفسه نفعا ولا دفعا، فضلا عن غيره.
قوله: وفي الصحيح عن أنس قال: { شج النبي يوم أحد وكسرت رباعيته. فقال: كيف يفلح قوم شجوا نبيهم؟ فنزلت: { } ( ) }....
قوله: " في الصحيح " أي الصحيحين. علقه البخاري، قال: وقال حميد وثابت: عن أنس. ووصله أحمد والترمذي والنسائي عن حميد عن أنس. ووصله مسلم عن ثابت عن أنس.
وقال ابن إسحاق في المغازي: حدثنا حميد الطويل عن أنس قال: { كسرت رباعية النبي يوم أحد، وشج وجهه، فجعل الدم يسيل على وجهه، وجعل يمسح الدم وهو يقول: كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم وهو يدعوهم إلى ربهم، فأنزل الله الآية } ( ).
قوله: " شج النبي " قال أبو السعادات: الشج في الرأس خاصة في الأصل، وهو أن يضربه بشيء فيجرحه فيه ويشقه، ثم استعمل في غيره من الأعضاء، وذكر ابن هشام من حديث أبي سعيد الخدري أن عتبة بن أبي وقاص هو الذي كسر رباعية النبي السفلى وجرح شفته العليا وأن عبد الله بن شهاب الزهري هو الذي شجه في وجهه، وأن عبد الله بن قمئة جرحه في وجنته، فدخلت حلقتان من حلق المغفر في وجنته وأن مالك بن سنان مص الدم من وجه رسول الله وازدرده. فقال له: { لن تمسك النار }.
قال القرطبي: والرباعية - بفتح الراء وتخفيف الياء - وهي كل سن بعد ثنية.
قال النووي رحمه الله: وللإنسان أربع رباعيات.
قال الحافظ: والمراد أنها كسرت، فذهب منها فلقة ولم تقلع من أصلها.
قال النووي: وفي هذا: وقوع الأسقام والابتلاء بالأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم؛ لينالوا بذلك جزيل الأجر والثواب، ولتعرف الأمم ما أصابهم ويأتسوا بهم.
قال القاضي: وليعلم أنهم من البشر تصيبهم محن الدنيا، ويطرأ على أجسامهم ما يطرأ على أجسام البشر، ليتيقن أنهم مخلوقون مربوبون، ولا يفتتن بما ظهر على أيديهم من المعجزات، ويلبس الشيطان من أمرهم ما لبسه على النصارى وغيرهم. انتهى.
قلت: يعني: من الغلو والعبادة.
قوله: " يوم أحد " هو شرقي المدينة، قال { أحد جبل يحبنا ونحبه } ( ) وهو جبل معروف كانت عنده الواقعة المشهورة، فأضيفت إليه.
قوله: { كيف يفلح قوم شجوا نبيهم } ( ) زاد مسلم: { كسروا رباعيته وأدموا وجهه } ( ).
قوله: " فأنزل الله: { } ( ) " قال ابن عطية: كأن النبي لحقه في تلك الحال يأس من فلاح كفار قريش؛ فقيل له بسبب ذلك: { } ( ) أي: عواقب الأمور بيد الله، فامض أنت لشأنك، ودم على الدعاء لربك.
وقال ابن إسحاق: { } ( ) في عبادي إلا ما أمرتك به فيهم.
قوله: " وفيه عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه سمع رسول الله يقول - إذا رفع رأسه من الركوع في الركعة الأخيرة من الفجر -: { اللهم العن فلانا وفلانا، بعد ما يقـول: سمع الله لمن حـمده، ربنا ولك الحمـد، فأنزل الله { } ( ) }.
وفي رواية: { يدعو على صفوان بن أمية، وسهيل بن عمرو، والحارث بن هشام فنزلت: { } ( ) }. قوله: " وفيه " أي: في صحيح البخاري، ورواه النسائي.
قوله: " عن ابن عمر " هو عبد الله بن عمر بن الخطاب، صحابي جليل. شهد له رسول الله بالصلاح. مات سنة ثلاث وسبعين في آخرها، أو في أول التي تليها.
قوله: " أنه سمع رسول الله " يقول هذا القنوت على هؤلاء بعد ما شج وكسرت رباعيته يوم أحد.
قوله: " اللهم العن فلانا وفلانا " قال أبو السعادات: أصل اللعن: الطرد والإبعاد من الله، ومن الخلق: السب والدعاء، وتقدم كلام شيخ الإسلام رحمه الله.
قوله: " فلانا وفلانا " يعني صفوان بن أمية وسهيل بن عمرو والحارث بن هشام، كما بينه في الرواية الآتية. وفيه جواز الدعاء على المشركين بأعيانهم في الصلاة، وأن ذلك لا يضر في الصلاة.
قوله: " بعد ما يقول: سمع الله لمن حمده " قال أبو السعادات: أي أجاب الله حمده وتقبله. وقال السهيلي: مفعول " سمع " محذوف؛ لأن السمع متعلق بالأقوال والأصوات دون غيرها، فاللام تؤذن بمعنى زائد وهو الاستجابة للسمع، فاجتمع في الكلمة الإيجاز والدلالة على الزائد، وهو الاستجابة لمن حمده.
وقال ابن القيم رحمه الله ما معناه: عدّى " سمع الله لمن حمده " باللام المتضمنة معنى: استجاب له، ولا حذف هناك وإنما هو مضمن.
قوله: " ربنا ولك الحمد " في بعض روايات البخاري بإسقاط الواو. قال ابن دقيق العيد: كأن إثباتها دال على معنى زائد، لأنه يكون التقدير: ربنا استجب ولك الحمد، فيشتمل على معنى الدعاء ومعنى الخبر.
قال شيخ الإسلام: والحمد ضد الذم، والحمد يكون على محاسن المحمود مع المحبة له، كما أن الذم يكون على مساويه مع البغض له.
وكذا قال ابن القيم، وفرق بينه وبين المدح بأن الإخبار عن محاسن الغير: إما أن يكون إخبارا مجردا عن حب وإرادة، أو يكون مقرونا بحبه وإرادته. فإن كان الأول فهو المدح، وإن كان الثاني فهو الحمد. فالحمد: إخبار عن محاسن المحمود مع حبه وإجلاله وتعظيمه ولهذا كان خبرا يتضمن الإنشاء بخلاف المدح؛ فإنه خبر مجرد. فالقائل إذا قال: " الحمد لله " أو قال: " ربنا ولك الحمد " تضمن كلامه الخبر عن كل ما يحمد عليه تعالى باسم جامع محيط متضمن لكل فرد من أفراد الجملة المحققة والمقدرة، وذلك يستلزم كل كمال يحمد عليه الرب تعالى، ولهذا لا تصلح هذه اللفظة على هذا الوجه ولا تنبغي إلا لمن هذا شأنه، وهو الحميد المجيد.
وفيه: التصريح بأن الإمام يجمع بين التسميع والتحميد، وهو قول الشافعي وأحمد وخالف في ذلك مالك وأبو حنيفة، وقالا: يقتصر على " سمع الله لمن حمده ".
قوله: " وفي رواية يدعو على صفوان بن أمية وسهيل بن عمرو والحارث بن هشام " وذلك لأنهم رؤوس المشركين يوم أحد، هم وأبو سفيان بن حرب، فما استجيب للنبي فيهم بل أنزل الله { } ( ) (آل عمران - 128). فتاب عليهم فأسلموا وحسن إسلامهم. وفي هذا كله: معنى شهادة أن لا إله إلا الله الذي له الأمر كله، يهدي من يشاء بفضله ورحمته، ويضل من يشاء بعدله وحكمته.
وفي هذا من الحجج والبراهين ما يبين بطلان ما يعتقده عباد القبور في الأولياء والصالحين، بل في الطواغيت من أنهم ينفعون من دعاهم، ويمنعون من لاذ بحماهم. فسبحان من حال بينهم وبين فهم الكتاب، وذلك عدله سبحانه، وهو الذي يحول بين المرء وقلبه، وبه الحول والقوة.
قوله: وفيه عن أبـي هريرة قـال: { قام رسول الله حين أنزل الله عليه: { } ( ) (الشعراء - 214) فقال: يا معشر قريش - أو كلمة نحوها - اشتروا أنفسكم؛ لا أغني عنكم من الله شيئا، يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئا، يا صفية عمة رسول الله لا أغني عنك من الله شيئا. يا فاطمة بنت محمد، سليني من مالي ما شئت، لا أغني عنك من الله شيئا }. قوله: " وفيه " أي وفي صحيح البخاري.
قوله: " عن أبي هريرة " اختلف في اسمه. وصحح النووي أن اسمه عبد الرحمن بن صخر، كما رواه الحاكم في المستدرك عن أبي هريرة قال: " كان اسمي في الجاهلية عبد شمس بن صخر، فسميت في الإسلام عبد الرحمن " وروى الدولابي بإسناده عن أبي هريرة " أن النبي سماه عبد الله " وهو دوسي من فضلاء الصحابة وحفاظهم، حفظ عن النبي أكثر مما حفظه غيره. مات سنة سبع أو ثمان، أو تسع وخمسين، وهو ابن ثمان وسبعين سنة.
قوله: " قام رسول الله " وفي الصحيح من رواية ابن عباس " { صعد رسول الله على الصفا } ( ).
قوله: " حين أنزل عليه: { } ( ) عشيرة الرجل: هم بنو أبيه الأدنون أو قبيلته؛ لأنهم أحق الناس بِبِرِّك وإحسانك الديني والدنيوي، كما قال تعالى: { •• } ( ) ... (التحريم - 6) وقد أمره الله تعالى أيضا بالنذارة العامة، كما قال تعالى: { • } ( ) (يس - 6) { •• } ( ) (إبراهيم - 44).
قوله: { يا معشر قريش } ( ) المعشر: الجماعة.
قوله: { أو كلمة نحوها } ( ) هو بنصب " كلمة " عطف على ما قبله.
قوله: { اشتروا أنفسكم } ( ) أي بتوحيد الله وإخلاص العبادة له وحده لا شريك له وطاعته فيما أمر به والانتهاء عما نهى عنه. فإن ذلك هو الذي ينجي من عذاب الله لا الاعتماد على الأنساب والأحساب، فإن ذلك غير نافع عند رب الأرباب.
قوله: { لا أغني عنكم من الله شيئا } ( ) فيه حجة على من تعلق على الأنبياء والصالحين، ورغب إليهم ليشفعوا له وينفعوه، أو يدفعوا عنه، فإن ذلك هو الشرك الذي حرمه الله تعالى، وأقام نبيه بالإنذار عنه، كما أخبر تعالى عن المشركين في قوله:... { } ( ) ... (الزمر - 3)، (... هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ...) (يونس - 18) فأبطل الله ذلك ونزه نفسه عن هذا الشرك، وسيأتي تقرير هذا المقام إن شاء الله تعالى. وفي صحيح البخاري: { يا بني عبد مناف لا أغني عنكم من الله شيئا } ( ). قوله: { يا عباس بن عبد المطلب } ( ) بنصب " ابن " ويجوز في " عباس " الرفع والنصب وكذا في قوله " { يا صفية عمة رسول الله، ويا فاطمة بنت محمد } ( ) ".
قوله: { سليني من مالي ما شئت } ( ). بيَّن رسول الله أنه لا ينجي من عذاب الله إلا الإيمان والعمل الصالح.
وفيه: أنه لا يجوز أن يسأل العبد إلا ما يقدر عليه من أمور الدنيا. وأما الرحمة والمغفرة والجنة والنجاة من النار ونحو ذلك من كل ما لا يقدر عليه إلا الله تعالى، فلا يجوز أن يطلب إلا منه تعالى؛ فإن ما عند الله لا ينال إلا بتجريد التوحيد، والإخلاص له بما شرعه لعباده أن يتقربوا إليه به، فإذا كان لا ينفع بنته ولا عمه ولا عمته ولا قرابته إلا ذلك، فغيرهم أولى وأحرى. وفي قصة عمه أبي طالب معتبر.
فانظر إلى الواقع الآن من كثير من الناس من الالتجاء إلى الأموات والتوجه إليهم بالرغبات والرهبة، وهم عاجزون لا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا، فضلا عن غيرهم - يتبين لك أنهم ليسو على شيء:... { • } ( ) (الأعراف - 30) أظهر لهم الشيطان الشرك في قالب محبة الصالحين، وكل صالح يبرأ إلى الله من هذا الشرك في الدنيا ويوم يقوم الأشهاد. ولا ريب أن محبة الصالحين إنما تحصل بموافقتهم في الدين، ومتابعتهم في طاعة رب العالمين، لا باتخاذهم أندادا من دون الله يحبونهم كحب الله إشراكا بالله، وعبادة لغير الله، وعداوة لله ورسوله والصالحين من عباده كما قال تعالى: { •• • • } ( ) (المائدة - 116 - 117).
قال العلامة ابن القيم رحمه الله في هذه الآية بعد كلام سبق: ثم نفى أن يكون قال لهم غير ما أمر به وهو محض التوحيد فقال: { } ( ) ثم أخبر أن شهادته عليهم مدة مقامه فيهم، وأنه بعد تَوفي الله له لا اطلاع له عليهم، وأن الله عز وجل المتفرد بعد توفيه له بالاطلاع عليهم فقال: { • } ( ) وصف الله سبحانه بأن شهادته فوق كل شهادة وأعم. ا هـ.
قلت: ففي هذا بيان أن المشركين خالفوا ما أمر الله به رسله: من توحيده الذي هو دينهم الذي اتفقوا عليه ودعوا الناس إليه، وفارقوهم فيه إلا من آمن، فكيف يقال لمن دان بدينهم، وأطاعهم فيما أمروا به من إخلاص العبادة لله وحده: إنه قد تنقصهم بهذا التوحيد الذي أطاع به ربه، واتبع فيه رسله عليهم السلام ونزه به ربه عن الشرك الذي هو هضم للربوبية وتنقص للإلهية وسوء ظن برب العالمين؟.
والمشركون هم أعداء الرسل وخصماؤهم في الدنيا والآخرة، وقد شرعوا لأتباعهم أن يتبرأوا من كل مشرك ويكفروا به، ويبغضوه ويعادوه في ربهم ومعبودهم: { } ( ) (الأنعام - 149).
المسائل المستنبطة من هذا الباب
فيه مسائل:
الأولى: تفسير الآيتين.
الثانية: قصة أحد.
الثالثة: قنوت سيد المرسلين، وخلفه سادات الأولياء يؤمنون في الصلاة.
الرابعة: أن المدعو عليهم كفار.
الخامسة: أنهم فعلوا أشياء ما فعلها غالب الكفار، منها: شجهم نبيهم وحرصهم على قتله، ومنها: التمثيل بالقتلى مع أنهم بنو عمهم.
السادسة: أنزل الله عليه في ذلك { } ( )....
السابعة: قوله:... { } ( )... فتاب عليهم فآمنوا.
الثامنة: القنوت في النوازل.
التاسعة: تسمية المدعو عليهم في الصلاة بأسمائهم وأسماء آبائهم.
العاشرة: لعنه المعين في القنوت.
الحادية عشرة: قصته لما أنزل عليه: { } ( ).
الثانية عشرة: جده في هذا الأمر، بحيث فعل ما نسب بسببه إلى الجنون، وكذلك لو يفعله مسلم الآن.
الثالثة عشرة: قوله للأبعد والأقرب: { لا أغني عنك من الله شيئا } ( ) حتى قال: { يا فاطمة بنت محمد لا أغني عنك من الله شيئا } ( ) فإذا صرح وهو سيد المرسلين بأنه لا يغني شيئا عن سيدة نساء العالمين، وآمن الإنسان أنه لا يقول إلا الحق، ثم نظر فيما وقع في قلوب خواص الناس اليوم تبين له التوحيد وغربة الدين.
باب قول الله تعالى حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق...
قول الله تعالى:... { • • } ( ) (سبأ - 23).
وفي الصحيح عن أبي هريرة عن النبي قال: { إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله، كأنه سلسلة على صفوان ينفذهم ذلك، حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا: الحق، وهو العلي الكبير، فيسمعها مسترق السمع ـ ومسترق السمع هكذا بعضه فوق بعض ـ وصفه سفيان بكفه فحرفها وبدد بين أصابعه ـ فيسمع الكلمة فيلقيها إلى من تحته، ثم يلقيها الآخر إلى من تحته، حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها، وربما ألقاها قبل أن يدركه، فيكذب معها مائة كذبة فيقال: أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا: كذا وكذا؟ فيصدق بتلك الكلمة التي سمعت من السماء } ( ).
وعن النواس بن سمعان قال: قال رسول الله " { إذا أراد الله تعالى أن يوحي بالأمـر تكلـم بالوحي أخذت السمـاوات منه رجفة ـ أو قال: رعدة ـ شديدة خوفا من الله فإذا سمع ذلك أهل السماوات صعقوا وخروا لله سجدا. فيكون أول من يرفع رأسه جبريل، فيكلمه الله من وحيه بما أراد، ثم يمر جبريل على الملائكة، كلما مر بسماء سأله ملائكتها: ماذا قال ربنا يا جبريل؟ فيقول جبريل: قال الحق وهو العلي الكبير، فيقولون كلهم مثل ما قال جبريل، فينتهي جبريل بالوحي إلى حيث أمره الله }.
قوله: باب " قول الله تعالى: "
... { • } ( )... أي زال الفزع عنها. قاله ابن عباس وابن عمر وأبو عبد الرحمن السلمي والشعبي والحسن وغيرهم.
وقال ابن جرير: قال بعضهم: الذين فزع عن قلوبهم: الملائكة. قالوا: وإنما فزع عن قلوبهم من غشية تصيبهم عند سماعهم كلام الله بالوحي.
وقال ابن عطية: في الكلام حذف يدل عليه الظاهر. كأنه قال: ولا هم شفعاء كما تزعمون أنتم، بل هم عبدة مسلمون لله أبدا، يعني: ينقادون، حتى إذا فزع عن قلوبهم. والمراد: الملائكة، على ما اختاره ابن جرير وغيره.
قال ابن كثير: وهو الحق الذي لا مرية فيه، لصحة الأحاديث فيه والآثار.
وقال أبو حيان: تظاهرت الأحاديث عن رسول الله أن قوله: ({ • } ( ) إنما هو في الملائكة إذا سمعت الوحي إلى جبريل يأمره الله به، سمعت كجر سلسلة الحديد على الصفوان، فتفزع عند ذلك تعظيما وهيبة. قال: وبهذا المعنى - مِنْ ذكر الملائكة في صدر الآية - تتسق هذه الآية على الأولى، ومن لم يشعر أن الملائكة مشار إليهم من أول قوله: { } ( ) لم تتصل له هذه الآية بما قبلها.
قوله:... { } ( )... ولم يقولوا: ماذا خلق ربنا؟ ولو كان كلام الله مخلوقا لقالوا: ماذا خلق؟ انتهى من شرح سنن ابن ماجه.
ومثله الحديث { ماذا قال ربنا يا جبريل؟ } وأمثال هذا في الكتاب والسنة كثير.
قوله:... { • } ( )... أي " قال الله الحق " وذلك لأنهم إذا سمعوا كلام الله صعقوا، ثم إذا أفاقوا أخذوا يسألون، فيقولون: ماذا قال ربكم؟ فيقولون: قال الحق.
قوله:... { } ( ) علو القدر وعلو القهر وعلو الذات، فله العلو الكامل من جميع الوجوه، كما قال عبد الله بن المبارك - لما قيل له: بماذا نعرف ربنا؟ قال: " بأنه على عرشه بائن من خلقه " تمسكا منه بالقرآن لقوله تعالى: { } ( ) (طه - 5)،... { } ( ) (الفرقان - 59) في سبعة مواضع من القرآن (7: 54 و10: 3 و 13: 2 و 32: 4 و 57: 4).
قوله:... { } ( )... أي الذي لا أكبر منه ولا أعظم منه تبارك وتعالى. قوله: " في الصحيح عن أبي هريرة عن النبي قال: { إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله، كأنه سلسلة على صفوان، ينفذهم ذلك، حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا: الحق وهو العلي الكبير، فيسمعها مسترق السمع، ومسترق السمع هكذا بعضه فوق بعض - وصفه سفيان بكفه فحرفها وبدد بين أصابعه - فيسمع الكلمة فيلقيها إلى من تحته، ثم يلقيها الآخر إلى من تحته، حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن، فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها، وربما ألقاها قبل أن يدركه، فيكذب معها مائة كذبة، فقال: أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا: كذا وكذا؟ فيُصَدَّق بتلك الكلمة التي سمعت من السماء } ( ).
قوله: " في الصحيح " أي صحيح البخاري.
قوله: { إذا قضى الله الأمر في السماء } ( ) أي إذا تكلم الله بالأمر الذي يوحيه إلى جبريل بما أراده، كما صرح به في الحديث الآتي، وكما روى سعيد بن منصور وأبو داود وابن جرير عن ابن مسعود: " إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماوات صلصة كجر السلسلة على الصفوان ".
وروى ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال: " لما أوحى الجبار إلى محمد دعا الرسول من الملائكة ليبعثه بالوحي، فسمعت الملائكة صوت الجبار يتكلم بالوحي: فلما كشف عن قلوبهم سألوا عما قال الله؟ فقالوا: الحق. وعلموا أن الله لا يقول إلا حقا".
قوله: { ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله } ( ) أي لقول الله تعالى، قال الحافظ: خضعانا بفتحتين من الخضوع. وفي رواية بضم أوله وسكون ثانيه. وهو مصدر بمعنى خاضعين.
قوله: { كأنه سلسلة على صفوان } ( ) أي كأن الصوت المسموع سلسلة على صفوان، وهو الحجر الأملس.
قوله: { ينفذهم ذلك } ( ) هو بفتح التحتية وسكون النون وضم الفاء والذال المعجمة " ذلك " أي القول، والضمير في " ينفذهم " للملائكة، أي ينفذ ذلك القول الملائكة: أي يخلص ذلك القول ويمضي فيهم حتى يفزعوا منه، وعند ابن مردويه من حديث ابن عباس: " فلا ينزل على أهل سماء إلا صعقوا " وعند أبي داود وغيره مرفوعا: { إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماء الدنيا صلصلة كجر السلسلة على الصفوان فيصعقون، فلا يزالون كذلك حتى يأتيهم جبريل } ( ) الحديث.
قوله: { • } ( ) تقدم معناه. قوله: " قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا: الحق " أي قالوا: قال الله الحق، علموا أن الله لا يقول إلا الحق.
قوله: { فيسمعها مسترق السمع } ( ) أي يسمع الكلمة التي قضاها الله، وهم الشياطين يركب بعضهم بعضا، وفي صحيح البخاري عن عائشة مرفوعا { إن الملائكة تنزل في العنان - وهو السحاب - فتذكر الأمر قُضِي في السماء، فتسترق الشياطين السمع، فتوجه إلى الكهان } ( ).
قوله: " ومسترق السمع هكذا - وصفه سفيان بكفه - " أي وصف ركوب بعضهم فوق بعض.
و " سفيان " هو ابن عيينة أبو محمد الهلالي الكوفي، ثم المكي، ثقة حافظ، فقيه إمام حجة. مات سنة ثمان وتسعين ومائة، وله إحدى وتسعون سنة.
قوله: " فحرفها " بحاء مهملة وراء مشددة وفاء.
قوله: " وبدد " أي فرق بين أصابعه.
قوله: { فيسمع الكلمة فيلقيها إلى من تحته } ( ) أي يسمع الفوقاني الكلمة، فيلقيها إلى آخر تحته، ثم يلقيها إلى من تحته، حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن.
قوله: { فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها } ( ) الشهاب: هو النجم الذي يرمى به، أي ربما أدرك الشهاب المسترق، وهذا يدل على أن الرمي بالشهب قبل المبعث. لما روى أحمد وغيره - والسياق له في المسند من طريق معمر -: أنبأنا الزهري عن علي بن الحسين عن ابن عباس قال: { كان رسول الله جالسا في نفر من أصحابه - قال عبد الرزاق: من الأنصار - قال: فرمي بنجم عظيم، فاستنار، قال: ما كنتم تقولون إذا كان مثل هذا في الجاهلية؟ قال: كنا نقول: لعله يولد عظيم أو يموت عظيم - قلت للزهري: أكان يرمى بها في الجاهلية؟ قال نعم، ولكن غلظت حين بعث النبي - قال: " فإنها لا يرمى بها لموت أحد ولا لحياته، ولكن ربنا تبارك اسمه إذا قضى أمرا سبح حملة العرش، ثم سبح أهل السماء الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، حتى يبلغ التسبيح هذه السماء الدنيا. ثم يستخبر أهل السماء الذين يلون حملة العرش، فيقول الذين يلون حملة العرش لحملة العرش: ماذا قال ربكم؟ فيخبرونهم، ويخبر أهل كل سماء سماء، حتى ينتهي الخبر إلى هذه السماء، وتخطف الجن السمع فيرمون، فما جاءوا به على وجهه فهو حق، ولكنهم يقرفون فيه ويزيدون } ( ) قال عبد الله: قال أبي قال عبد الرزاق: { ويخطف الجن ويرمون } ( ) وفي رواية له: { لكنهم يزيدون فيه ويقرفون وينقصون } ( ).
قوله: { فيكذب معها مائة كذبة } ( ) أي الكاهن أو الساحر.
" وكذبة " بفتح الكاف وسكون الذال المعجمة.
قوله: " فيقال: أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا: كذا وكذا؟ " هكذا في نسخة بخط المصنف، كالذي في صحيح البخاري سواء.
قال المصنف: " وفيه: قبول النفوس للباطل، كيف يتعلقون بواحدة ولا يعتبرون بمائة كذبة؟ ".
وفيه: أن الشيء إذا كان فيه شيء من الحق فلا يدل على أنه حق كله، فكثيرا ما يلبس أهل الضلال الحق بالباطل ليكون أقبل لباطلهم، قال تعالى: { • } ( ) (البقرة - 42).
وفي هذه الأحاديث وما بعدها وما في معناها: إثبات علو الله تعالى على خلقه على ما يليق بجلاله وعظمته، وأنه تعالى لم يزل متكلما إذا شاء بكلام يسمعه الملائكة، وهذا قول أهل السنة قاطبة سلفا وخلفا. خلافا للأشاعرة والجهمية، ونفاة المعتزلة. فإياك أن تلتفت إلى ما زخرفه أهل التعطيل، وحسبنا الله ونعم الوكيل. قوله: (وعن النواس بن سمعان قال: قال رسول الله { إذا أراد الله تعالى أن يوحي بالأمر تكلم بالوحي أخذت السماوات منه رجفة - أو قال: رعدة - شديدة خوفا من الله عز وجل. فإذا سمع ذلك أهل السماوات صعقوا وخروا لله سجدا فيكون أول من يرفع رأسه جبريل، فيكلمه الله من وحيه بما أراد، ثم يمر جبريل على الملائكة، كلما مر بسماء سأله ملائكتها: ماذا قال ربنا يا جبريل؟ فيقول: قال الحق، وهو العلي الكبير. فيقولون كلهم مثل ما قال جبريل، فينتهي جبريل بالوحي إلى حيث أمره الله }.
هذا الحديث رواه ابن أبي حاتم بسنده كما ذكره العماد ابن كثير في تفسيره.
النواس بن سمعان - بكسر السين - بن خالد الكلابي، ويقال: الأنصاري، صحابي. ويقال: إن أباه صحابي أيضا.
قوله: " إذا أراد الله أن يوحي بالأمر - إلى آخره ". فيه النص على أن الله تعالى يتكلم بالوحي. وهذا من حجة أهل السنة على النفاة لقول أهل السنة: لم يزل الله متكلما إذا شاء.
قوله: { أخذت السماوات منه رجفة } السماوات مفعول مقدم، والفاعل " رجفة " أي: أصاب السماوات من كلامه تعالى رجفة، أي ارتجفت. وهو صريح في أنها تسمع كلامه تعالى، كما روى ابن أبي حاتم عن عكرمة. قال: { إذا قضى الله أمرا تكلم تبارك وتعالى رجفت السماوات والأرض والجبال، وخرت الملائكة كلهم سجدا }.
وقوله: " أو قال: رعدة شديدة " شك من الراوي. هل قال النبي رجفة، أو قال رعدة. والراء مفتوحة فيهما.
قوله: { خوفا من الله } وهذا ظاهر في أن السماوات تخاف الله، بما يجعل تعالى فيها من الإحساس ومعرفة من خلقها. وقد أخبر تعالى: أن هذه المخلوقات العظيمة تسبحـه كما قال تعالى: { } ( ) (الإسراء - 44) وقـال تعـالى: { } ( ) (مريم - 90) وقال تعالى: { • } ( ) ... (البقرة - 74) وقد قرر العلامة ابن القيم رحمه الله أن هذه المخلوقات تسبح الله وتخشاه حقيقة، مستدلا بهذه الآيات وما في معناها.
وفي البخاري عن ابن مسعود قال: " كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل " وفي حديث أبي ذر { أن النبي أخذ في يده حصيات، فسُمع لهن تسبيح } - الحديث " وفي الصحيح قصة حنين الجذع الذي كان يخطب عليه النبي قبل اتخاذ المنبر. ومثل هذا كثير.
قوله: { صعقوا وخروا لله سجدا } الصعق: هو الغشي، ومعه السجود.
قوله: { فيكون أول من يرفع رأسه جبريل } بنصب " أول " خبر يكون مقدم على اسمها. ويجوز العكس. ومعنى جبريل: عبد الله، كما روى ابن جرير وغيره عن على بن الحسين قال: كان اسم جبريل: عبد الله، واسم ميكائيل: عبيد الله، وإسرافيل: عبد الرحمن. وكل شيء رجع إلى " إيل " فهو معبد لله عز وجل.
وفيه فضيلة جبريل عليه السلام، كما قال تعالى: { } } ( ) (التكوير - 19 - 21).
قال ابن كثير رحمه الله تعالى: إن هذا القرآن لتبليغ رسول كريم.
وقال أبو صالح في الآية: " جبريل يدخل في سبعين حجابا من نور بغير إذن ".
ولأحمد بإسناد صحيح عن ابن مسعود قال: { رأى رسول الله جبريل في صورته وله ستمائة جناح، كل جناح منها قد سد الأفق، يسقط من جناحه من التهاويل والدر والياقوت ما الله به عليم } ( ) فإذا كان هذا عظم هذه المخلوقات فخالفها أعظم وأجل وأكبر.
فكيف يسوى به غيره في العبادة: دعاء وخوفا ورجاء وتوكلا وغير ذلك من العبادات التي لا يستحقها غيره؟ فانـظر إلى حـال الملائكة وشـدة خوفهم من الله تعالى، وقـد قـال تعالى:... { • } ( ) (الأنبياء - 26 - 29). قوله: { فينتهي جبريل بالوحي إلى حيث أمره الله من السماء والأرض } وهذا تمام الحديث.
والآيات المذكورة في هذا الباب والأحاديث تقرر التوحيد الذي هو مدلول شهادة أن لا إله إلا الله، فإن الملك العظيم الذي تصعق الأملاك من كلامه خوفا منه ومهابة وترجف منه المخلوقات، الكامل في ذاته وصفاته، وعلمه وقدرته وملكه وعزه، وغناه عن جميع خلقه، وافتقارهم جميعا إليه، ونفوذ تصرفه وقدره فيهم لعلمه وحكمته - لا يجوز شرعا ولا عقلا أن يجعل له شريك من خلقه في عبادته التي هي حقه عليهم، فكيف يجعل المربوب ربا، والعبد معبودا؟ أين ذهبت عقول المشركين؟ سبحان الله عما يشركون.
وقال تعالى: { • } ( ) (مريم - 93 - 95) فإذا كان الجميع عبيدا فلم يعبد بعضهم بعضا بلا دليل ولا برهان، بل بمجرد الرأي والاختراع والابتداع؟ ثم قد أرسل رسله من أولهم إلى آخرهم تزجرهم عن ذلك الشرك، وتنهاهم عن عبادة ما سوى الله. انتهى من شرح سنن ابن ماجه.
المسائل المستنبطة من هذا الباب
فيه مسائل:
الأولى: تفسير الآية.
الثانية: ما فيها من الحجة على إبطال الشرك، خصوصا ما تعلق على الصالحين، وهي الآية التي قيل فيها: إنها تقطع عروق شجرة الشرك من القلب.
الثالثة: تفسير قوله:... { • } ( ).
الرابعة: سبب سؤالهم عن ذلك.
الخامسة: أن جبرائيل يجيبهم بعد ذلك بقوله: " قال كذا وكذا ".
السادسة: ذكر أن أول من يرفع رأسه جبرائيل.
السابعة: أنه يقول لأهل السماوات كلهم، لأنهم يسألونه.
الثامنة: أن الغشي يعم أهل السماوات كلهم لأنهم يسألونه.
التاسعة: ارتجاف السماوات بكلام الله.
العاشرة: أن جبرائيل هو الذي ينتهي بالوحي إلى حيث أمره الله.
الحادية عشرة: ذكر استراق الشياطين.
الثانية عشرة: صفة ركوب بعضهم بعضا.
الثالثة عشرة: إرسال الشهاب.
الرابعة عشرة: أنه تارة يدركه الشهاب قبل أن يلقيها، وتارة يلقيها في أذن وليه من الإنس قبل أن يدركه.
الخامسة عشرة: كون الكاهن يصدق بعض الأحيان.
السادسة عشرة: كونه يكذب معها مائة كذبة.
السابعة عشرة: أنه لم يصدق كذبه إلا بتلك الكلمة التي سمعت من السماء.
الثامنة عشرة: قبول النفوس للباطل، كيف يتعلقون بواحدة ولا يعتبرون بمائة؟ !.
التاسعة عشرة: كونهم يلقي بعضهم من بعض تلك الكلمة ويحفظونها ويستدلون بها.
العشرون: إثبات الصفات خلافا للأشعرية المعطلة.
الحادية والعشرون: أن تلك الرجفة والغشي خوفا من الله عز وجل.
الثانية والعشرون: أنهم يخرون لله سجدا.
باب الشفاعـة
وقول الله { } ( ) (الأنعام - 51).
وقوله: { } ( )... (الزمر -44).
وقوله:... { } ( )... (البقرة -255).
وقوله: { • } ( ) (النجم - 26).
وقوله تعالى: { } ( )... (سبأ -22، 23).
قال أبو العباس: نفى الله عما سواه كل ما يتعلق به المشركون، فنفى أن يكون لغيره ملك أو قسط منه، أو يكون عونا لله، ولم يبق إلا الشفاعة، فبين أنها لا تنفع إلا لمن أذن له الرب، كما قال:... { } ( )...) فهذه الشفاعة التي يظنها المشركون، هي منتفية يوم القيامة كما نفاها القرآن، وأخبر النبي { أنه يأتي فيسجد لربه ويحمده، لا يبدأ بالشفاعة أولا، ثم يقال له: ارفع رأسك، وقل يسمع، وسل تعط، واشفع تشفع } ( ).
وقال أبو هريرة: { من أسعد الناس بشفاعتك؟ قال: من قال: لا إله إلا الله خالصا من قلبه } ( ) فتلك الشفاعة لأهل الإخلاص بإذن الله، ولا تكون لمن أشرك بالله.
وحقيقته: أن الله سبحانه هو الذي يتفضل على أهل الإخلاص فيغفر لهم بواسطة دعاء من أذن له أن يشفع، ليكرمه وينال المقام المحمود.
فالشفاعة التي نفاها القرآن ما كان فيها شرك، ولهذا أثبت الشفاعة بإذنه في مواضع، وقد بين النبي أنها لا تكون إلا لأهل التوحيد والإخلاص. انتهى كلامه.
قوله: باب " الشفاعة "
أي بيان ما أثبته القرآن منها وما نفاه. وحقيقة ما دل القرآن على إثباته.
قوله: " وقول الله { } ( ) الإنذار هو الإعلام بأسباب المخافة، والتحذير منها.
قوله: " به " قال ابن عباس: " بالقرآن { } ( ) وهم المؤمنون " وعن الفضيل بن عياض: " ليس كل خلقه عاتب، إنما عاتب الذين يعقلون، فقال: { } ( ) وهم المؤمنون أصحاب العقول الواعية ".
قوله: { } ( )
قال الزجاج: موضع " ليس " نصب على الحال، كأنه قال: متخلين من كل ولي وشفيع. والعامل فيه { } ( ).
قوله: { } ( ) أي: فيعملون في هذه الدار عملا ينجيهم الله به من عذاب يوم القيامة.
وقوله: { } ( ) وقبلها { } ( ) (الزمر - 43) وهذه كقوله تعالى: { } ( ) (يونس - 18) فبين تعالى في هذه الآيات وأمثالها: أن وقوع الشفاعة على هذا الوجه منتف وممتنع، وأن اتخاذهم شفعاء شرك، يتنزه الرب تعالى عنه. وقد قال تعالى: { } ( ) (الأحقاف - 28) فبين تعالى أن دعواهم أنهم يشفعون لهم بتألههم. أن ذلك منهم إفك وافتراء.
وقوله تعالى: { } ( ) (الزمر - 44) أي: هو مالكها، فليس لمن تطلب منه شيء منها، وإنما تطلب ممن يملكها دون كل من سواه، لأن ذلك عبادة وتأليه لا يصلح إلا لله.
قال البيضاوي: لعله رد لما عسى أن يجيبوا به، وهو أن الشفعاء أشخاص مقربون. وقوله تعالى:... { } ( )... (الزمر - 44) تقرير لبطلان اتخاذ الشفعاء من دونه؛ لأنه مالك الملك، فاندرج في ذلك ملك الشفاعة، فإذا كان هو مالكها بطل أن تطلب ممن لا يملكها... { } ( ) .. (البقرة - 255)،... { } ( )... (الأنبياء - 28).
قال ابن جرير: نزلت لما قال الكفار: ما نعبد أوثاننا هذه إلى ليقربونا إلى الله زلفى، قال الله تعالى:... { } ( ) ... (الزمر - 44).
قال: " وقوله: { } ( ) : قد تبين مما تقدم من الآيات أن الشفاعة التي نفاها القرآن هي التي تطلب من غير الله، وفي هذه الآية بيان أن الشفاعة إنما تقع في الدار الآخرة بإذنه، كما قال تعالى: { } ( ) (طه - 109) فبين أنها لا تقع لأحد إلا بشرطين: إذن الرب تعالى للشافع أن يشفع، ورضاه عن المأذون بالشفاعة فيه، وهو تعالى لا يرضى من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة إلا ما أريد به وجهه، ولقى العبد به ربه مخلصا غير شاك في ذلك، كما دل على ذلك الحديث الصحيح. وسيأتي ذلك مقررا أيضا في كلام شيخ الإسلام رحمه الله.
وقوله: { • } ( ) قال ابن كثير رحمه الله: { • } ( ) كقوله: { } ( ) ، وقوله: { } ( )... (سبأ - 23) فإذا كان هذا في حق الملائكة المقربين، فكيف ترجون أيها الجاهلون شفاعة هذه الأنداد عند الله، وهو لم يشرع عبادتها ولا أذن فيها، بل قد نهى عنها على ألسنة جميع رسله، وأنزل بالنهي عن ذلك جميع كتبه؟ قال: " وقوله تعالى: { } ( )... (سبأ - 22 - 23) ".
قال ابن القيم رحمه الله تعالى في الكلام على هذه الآيات: وقد قطع الله الأسباب التي يتعلق بها المشركون جميعها. فالمشرك إنما يتخذ معبوده لما يحصل له من النفع، والنفع لا يكون إلا ممن فيه خصلة من هذه الأربع: إما مالك لما يريد عابده منه، فإن لم يكن مالكا كان شريكا للمالك، فإن لم يكن شريكا له كان معينا له وظهيرا، فإن لم يكن معنيا ولا ظهيرا كان شفيعا عنده. فنفى الله سبحانه المراتب الأربع نفيا مرتبا، متنقلا من الأعلى إلى الأدنى، فنفى الملك والشركة والمظاهرة والشفاعة التي يطلبها المشرك، وأثبت شفاعة لا نصيب فيها لمشرك، وهي الشفاعة بإذنه. فكفى بهذه الآية نورا وبرهانا وتجريدا للتوحيد، وقطعا لأصول الشرك ومواده لمن عقلها. والقرآن مملوء من أمثالها ونظائرها، ولكن أكثر الناس لا يشعرون بدخول الواقع تحته وتضمنه له، ويظنونها في نوع وقوم قد خلوا من قبل ولم يعقبوا وارثا، فهذا هو الذي يحول بين القلب وبين فهم القرآن. ولعمر الله، إن كان أولئك قد خلوا فقد ورثهم من هو مثلهم أو شر منهم أو دونهم، وتناول القرآن لهم كتناوله لأولئك.
ثم قال: ومن أنواعه - أي الشرك - طلب الحوائج من الموتى والاستغاثة بهم، وهذا أصل شرك العالم؛ فإن الميت قد انقطع عمله وهو لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا، فضلا عمن استغاث به وسأله أن يشفع له إلى الله. وهذا من جهله بالشافع والمشفوع عنده. فإنه لا يقدر أن يشفع له عند الله إلا بإذنه، والله لم يجعل استغاثته وسؤاله سببا لإذنه، وإنما السبب كمال التوحيد، فجاء هذا الشرك بسبب يمنع الإذن، وهو بمنزلة من استعان في حاجته بما يمنع حصولها.
وهذه حالة كل مشرك، فجمعوا بين الشرك بالمعبود وتغيير دينه، ومعاداة أهل التوحيد، ونسبة أهله إلى تنقص الأموات، وهم قد تنقصوا الخالق بالشرك، وأولياءه الموحدين بذمهم وعيبهم ومعاداتهم، وتنقصوا من أشركوا به غاية التنقص؛ إذا ظنوا أنهم راضون منهم بهذا، وأنهم أمروهم به، وأنهم يوالونهم عليه، وهؤلاء هم أعداء الرسل في كل زمان ومكان، وما أكثر المستجيبين لهم، وما نجى من شَرَك هذا الشرك الأكبر إلا من جرد توحيده لله، وعادى المشركين في الله، وتقرب بمقتهم إلى الله، واتخذ الله وحده وليه وإلهه ومعبوده. فجرد حبه لله وخوفه لله، ورجاءه لله، وذله لله، وتوكله على الله، واستعانته بالله، والتجاءه إلى الله، واستغاثته بالله، وقصده لله، متبعا لأمره متطلبا لمرضاته، إذا سأل سأل الله، وإذا استعان استعان بالله، وإذا عمل عمل لله. فهو لله وبالله ومع الله. انتهى كلامه رحمه الله تعالى.
وهذا الذي ذكره هذا الإمام في معنى هذه الآية هو حقيقة دين الإسلام، كما قال تعالى: { • } ( ) (النساء - 125).
قوله: " قال أبو العباس " هذه كنية شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية الحراني إمام المسلمين رحمه الله.
قوله: " نفى الله عما سواه كل ما يتعلق به المشركون، فنفى أن يكون لغيره ملك أو قسط منه، أو يكون عونا لله. فلم يبق إلا الشفاعة. فبين أنها لا تنفع إلا لمن أذن له الرب، كما قال تعالى: ({ } ( ) فهذه الشفاعة التي يظنها المشركون منتفية يوم القيامة كما نفاها القرآن، وأخبر النبي { أنه يأتي فيسجد لربه ويحمده، لا يبدأ بالشفاعة أولا. ثم يقال له: ارفع رأسك وقل يسمع، وسل تعط، واشفع تشفع } ( ) وقال له أبو هريرة: { من أسعد الناس بشفاعتك؟ قال: " من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه } ( ) فتلك الشفاعة لأهل الإخلاص بإذن الله، ولا تكون لمن أشرك بالله، وحقيقتها: أن الله سبحانه وتعالى هو الذي يتفضل على أهل الإخلاص، فيغفر لهم بواسطة دعاء من أذن له أن يشفع ليكرمه وينال المقام المحمود. فالشفاعة التي نفاها القرآن ما كان فيها شرك، ولهذا أثبت الشفاعة بإذنه في مواضع، وقد بين النبي أنها لا تكون إلا لأهل التوحيد والإخلاص " انتهى كلامه. قوله: " وقال أبو هريرة " إلى آخره. هذا الحديث رواه البخاري والنسائي عن أبي هريرة، ورواه أحمد وصححه ابن حبان وفيه: { وشفاعتي لمن قال: لا إله إلى الله مخلصا، يصدق قلبه لسانه، ولسانه قلبه } ( ) وشاهده في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله { لكل نبي دعوة مستجابة، فتَعَجَّل كل نبي دعوته، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة. فهي نائلة إن شاء الله من مات لا يشرك بالله شيئا } ( ).
وقد ساق المصنف رحمه الله كلام شيخ الإسلام هنا، فقام مقام الشرح والتفسير لما في هذا الباب من الآيات، وهو كاف واف بتحقيق مع الإيجاز. والله أعلم.
وقد عـرف الإخلاص بتعريف حسن فقال: الإخلاص: محبة الله وحده وإرادة وجهه. ا هـ.
وقال ابن القيم رحمه الله في معنى حديث أبي هريرة: تأمل هذا الحديث كيف جعل أعظم الأسباب التي تنال بها شفاعته تجريد التوحيد، عكس ما عند المشركين أن الشفاعة تنال باتخاذهم شفعاء وعبادتهم وموالاتهم، فقلب النبي ما في زعمهم الكاذب، وأخبر أن سبب الشفاعة تجريد التوحيد، فحينئذ يأذن الله للشافع أن يشفع، ومن جهل المشرك اعتقاده أن من اتخذه وليا أو شفيعا أنه يشفع له وينفعه عند الله، كما يكون خواص الولاة والملوك تنفع من والاهم ولم يعلموا أنه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه في الشفاعة، ولا يأذن في الشفاعة إلا لمن رضي قوله وعمله، كما قال في الفصل الأول: { } ( ) وفي الفصل الثاني: { } ( ) وبقي فصل ثالث، وهو أنه لا يرضى من القول والعمل إلا توحيده واتباع رسوله . فهذه ثلاثة فصول تقطع شجرة الشرك من قلب من عقلها ووعاها. ا هـ. وذكر أيضا رحمه الله تعالى أن الشفاعة ستة أنواع:
(الأول): الشفاعة الكبرى التي يتأخر عنها أولو العزم عليهم الصلاة والسلام حتى تنتهي إليه فيقول: " أنا لها " وذلك حين يرغب الخلائق إلى الأنبياء ليشفعوا لهم إلى ربهم حتى يريحهم من مقامهم في الموقف. وهذه شفاعة يختص بها لا يشركه فيها أحد.
(الثاني): شفاعته لأهل الجنة في دخولها. وقد ذكرها أبو هريرة في حديثه الطويل المتفق عليه.
(الثالث): شفاعته لقوم من العصاة من أمته قد استوجبوا النار بذنوبهم، فيشفع لهم أن لا يدخلوها.
(الرابع): شفاعته في العصاة من أهل التوحيد الذي يدخلون النار بذنوبهم. والأحاديث بها متواترة عن النبي . وقد أجمع عليها الصحابة وأهل السنة قاطبة وبدعوا من أنكرها، وصاحوا به من كل جانب ونادوا عليه بالضلال.
(الخامس): شفاعته لقوم من أهل الجنة في زيادة ثوابهم ورفعة درجاتهم، وهذه مما لم ينازع فيها أحد. وكلها مختصة بأهل الإخلاص الذين لم يتخذوا من دون الله وليا ولا شفيعا، كما قال تعالى: { } ( )... (الأنعام - 51).
(السادس): شفاعته في بعض أهله الكفار من أهل النار حتى يخفف عذابه، وهذه خاصة بأبي طالب وحده.
المسائل المستنبطة من هذا الباب
فيه مسائل:
الأولى: تفسير الآيات.
الثانية: صفة الشفاعة المنفية.
الثالثة: صفة الشفاعة المثبتة.
الرابعة: ذكر الشفاعة الكبرى، وهي المقام المحمود.
الخامسة: صفة ما يفعله أنه لا يبدأ بالشفاعة، بل يسجد، فإذا أذن له شفع.
السادسة: من أسعد الناس بها؟.
السابعة: أنها لا تكون لمن أشرك بالله.
الثامنة: بيان حقيقتها.
باب قول الله تعالى إنك لا تهدي من أحببت وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ...
قول الله تعالى: { • } ( ) (القصص - 56).
وفي الصحيح عن ابن المسيب عن أبيه قال: " لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله وعنده عبد الله بن أبي أمية وأبو جهل، فقال له: { يا عم، قل: لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله } ( )، فقالا له: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فأعاد عليه النبي فأعادا فكان آخر ما قال: هو على ملة عبد المطلب وأبى أن يقول: لا إله إلا الله. فقال النبي { لأستغفرن لك ما لم أنه عنك } ( )، فأنزل الله { • } ( )... (التوبة - 113) الآية. وأنزل الله في أبي طالب: { • } ( ) (القصص - 56) ".
قوله: باب " قول الله تعالى: "
{ • } ( ) (القصص - 56) ".
سبب نزول هذه الآية: موت أبي طالب على ملة عبد المطلب، كما سيأتي بيان ذلك في حديث الباب.
قال ابن كثير رحمه الله تعالى: يقول تعالى لرسوله: إنك يا محمد لا تهدي من أحببت، أي: ليس إليك ذلك، إنما عليك البلاغ والله يهدي من يشاء. وله الحكمة البالغة، والحجة الدامغة، كما قال تعالى{ } ( ) .. (البقرة - 272) وقال تعالى: { •• } ( ) (يوسف - 103).
قلت: والمنفي هنا هداية التوفيق والقبول؛ فإن أمر ذلك إلى الله، وهو القادر عليه. وأما الهداية المذكورة في قول الله تعالى:... { } ( ) (الشورى - 52) فإنها هداية الدلالة والبيان، فهو المبين عن الله، والدال على دينه وشرعه.
وقوله: " في الصحيح عن ابن المسيب عن أبيه قال: " لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله وعنده عبد الله بن أبي أمية وأبو جهل، فقال له: { يا عم قل لا إله إلى الله، كلمة أحاج لك بها عند الله } ( ). فقالا له: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فأعاد عليه النبي فأعادا. فكان آخر ما قال: هو على ملة عبد المطلب. وأبى أن يقول لا إله إلى الله. فقال النبي { لأستغفرن لك ما لم أُنْهَ عنك } ( ). فأنزل الله { • • • } ( ) (التوبة - 113)، وأنزل الله في أبي طالب: { • } ( ).
قوله: " في الصحيح " أي في الصحيحين.
و " ابن المسيب " هو سعيد بن المسيب بن حزن بن أبي وهب بن عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم القرشي المخزومي، أحد العلماء والفقهاء الكبار السبعة من التابعين. اتفق أهل الحديث على أن مراسيله أصح المراسيل. وقال ابن المديني: لا أعلم في التابعين أوسع علما منه. مات بعد التسعين وقد ناهز الثمانين.
وأبوه المسيب صحابي، بقي إلى خلافة عثمان وكذلك جده حزْن، صحابي استشهد باليمامة.
قوله: " لما حضرت أبا طالب الوفاة " أي علاماتها ومقدماتها.
قوله: " جاءه رسول الله " يحتمل أن يكون المسيب حضر مع الاثنين فإنهما من بني مخزوم، وهو أيضا مخزومي، وكان الثلاثة إذ ذاك كفارا، فقتل أبو جهل على كفره وأسلم الآخران.
قوله: " يا عمِّ " منادى مضاف يجوز فيه إثبات الياء وحذفها، حذفت الياء هنا، وبقيت الكسرة دليلا عليها.
قوله: " قل: لا إله إلا الله " أمره أن يقولها لعلم أبي طالب بما دلت عليه من نفي الشرك بالله وإخلاص العبادة له وحده، فإن قالها عن علم ويقين فقد برئ من الشرك والمشركين ودخل في الإسلام؛ لأنهم يعلمون ما دلت عليه، وفي ذلك الوقت لم يكن بمكة إلا مسلم أو كافر. فلا يقولها إلا من ترك الشرك وبرئ منه، ولما هاجر النبي وأصحابه إلى المدينة كان فيها المسلمون الموحدون، والمنافقون الذين يقولونها بألسنتهم وهم يعرفون معناها، لكن لا يعتقدونها، لما في قلوبهم من العداوة والشك والريب، فهم مع المسلمين بظاهر الأعمال دون الباطن، وفيها اليهود، وقد أقرهم رسول الله لما هاجر، ووادعهم على أن لا يخونوه ولا يظاهروا عليه عدوا كما هو مذكور في كتب الحديث والسير.
قوله: " كلمة " قال القرطبي: بالنصب على أنه بدل من " لا إله إلى الله " ويجوز الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف.
قوله: " أحاج لك بها عند الله " هو بتشديد الجيم من المحاجة، والمراد بها بيان الحجة بها لو قالها في تلك الحال. وفيه دليل على أن الأعمال بالخواتيم، لأنه لو قالها في تلك الحال معتقدا ما دلت عليه مطابقة من النفي والإثبات لنفعته.
قوله: " فقالا له: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ " ذكَّراه الحجة الملعونة التي يحتج بها المشركون على المرسلين، كقول فرعون لموسى:... { } ( ) (طه - 51) وكقوله تعالى: { • } ( ) (الزخرف - 23). قوله: " فأعاد النبي فأعادا ".
فيه: معرفتهما لمعنى " لا إله إلا الله " لأنهما عرفا أن أبا طالب لو قالها لبرىء من ملة عبد المطلب. فإن ملة عبد المطلب هي الشرك بالله في إلهيته. وأما الربوبية فقد أقروا بها كما تقدم. وقد قال عبد المطلب لأبرهة: " أنا رب الإبل، والبيت له رب يمنعه منك " وهذه المقالة منهما عند قول النبي لعمه: " قل لا إله إلى الله " استكبارا عن العمل بمـدلولها، كما قـال الله تعالى عنـهما وعـن أمثالهما مـن أولئك المشركين: { • • } ( ) (الصافات - 35، 36) فرد عليهم بقوله: { } ( ) (الصافات - 37) فبين تعالى استكبـارهم عن قول { } ( ) لدلالتها على نفي عبادتهم الآلهة التي كانوا يعبدونها من دون الله. فإن دلالة هذه الكلمة على نفي ذلك دلالة تضمن، ودلالتها عليه وعلى الإخلاص دلالة مطابقة.
ومن حكمة الرب تعالى في عدم هداية أبي طالب إلى الإسلام ليبين لعباده أن ذلك إليه، وهو القادر عليه دون من سواه، فلو كان عند النبي - الذي هو أفضل خلقه - من هداية القلوب وتفريج الكروب، ومغفرة الذنوب، والنجاة من العذاب، ونحو ذلك شيء - لكان أحق الناس بذلك وأولاهم به عمه الذي كان يحوطه ويحميه وينصره ويؤويه، فسبحان من بهرت حكمته العقول، وأرشد العباد إلى ما يدلهم على معرفته وتوحيده، وإخلاص العمل له وتجريده.
قوله: " فكان آخر ما قال " الأحسن فيه الرفع على أنه اسم " كان " وجملة " هو " وما بعدها الخبر.
قوله: " على ملة عبد المطلب " الظاهر أن أبا طالب قال: " أنا " فغيره الراوى استقباحا للفظ المذكور، وهو من التصرفات الحسنة، قاله الحافظ.
قوله: " وأبى أن يقول لا إله إلا الله " قال الحافظ: هذا تأكيد من الراوى في نفي وقوع ذلك من أبي طالب.
قال المصنف رحمه الله: " وفيه الرد على من زعم إسلام عبد المطلب وأسلافه ومضرة أصحاب السوء على الإنسان، ومضرة تعظيم الأسلاف ".
أي: إذا زاد على المشروع، بحيث تجعل أقوالهم حجة يرجع إليها عند التنازع. قوله: " فقال النبي لأستغفرن لك ما لم أُنْهَ عنك " قال النووي: وفيه جواز الحلف من غير استحلاف. وكأن الحلف هنا لتأكيد العزم على الاستغفار تطييبا لنفس أبي طالب.
وكانت وفاة أبي طالب بمكة قبل الهجرة بقليل.
قال ابن فارس: مات أبو طالب ولرسول الله تسع وأربعون سنة وثمانية أشهر وأحد عشر يوما.
وتوفيت خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها بعد موت أبي طالب بثمانية أيام.
قوله: { • } ( )... أي ما ينبغي لهم ذلك. وهو خبر بمعنى النهي، والظاهر أن هذه الآية نزلت في أبي طالب. فإن الإتيان بالفاء المفيدة للترتيب في قوله: " فأنزل الله " بعد قوله: " لأستغفرن لك ما لم أنه عنك " يفيد ذلك.
وقد ذكر العلماء لنزول هذه الآية أسبابا أخر، فلا منافاة لأن أسباب النزول قد تتعدد.
قال الحافظ: أما نزول الآية الثانية فواضح في قصة أبي طالب، وأما نزول الآية التي قبلها ففيه نظر، ويظهر أن المراد أن الآية المتعلقة بالاستغفار نزلت بعد أبي طالب بمدة، وهي عامة في حقه وحق غيره، يوضـح ذلك ما يأتي في التفسير، فأنزل الله بعد ذلك: { • } ( ) - الآية) ونزل في أبي طالب: { • } ( ) كله ظاهر في أنه مات على غير الإسلام. ويضعف ما ذكره السهيلي أنه روي في بعض كتب المسعودى أنه أسلم، لأن مثل ذلك لا يعارض ما في الصحيح. انتهى.
وفيه تحريم الاستغفار للمشركين وموالاتهم ومحبتهم، لأنه إذا حرم الاستغفار لهم فموالاتهم ومحبتهم أولى.
المسائل المستنبطة من هذا الباب
فيه مسائل:
الأولى: تفسير قوله: { • } ( )
الثانية: تفسير قوله: { • • • } ( ).
الثالثة: وهي المسألة الكبيرة تفسير قوله قل: " لا إله إلا الله " بخلاف ما عليه من يدعي العلم.
الرابعة: أن أبا جهل ومن معه يعرفون مراد النبي إذ قال للرجل: " قل: لا إله إلا الله " فقبح الله من أبو جهل أعلم منه بأصل الإسلام.
الخامسة: جده ومبالغته في إسلام عمه.
السادسة: الرد على من زعم إسلام عبد المطلب وأسلافه.
السابعة: كونه استغفر له فلم يغفر له، بل نهي عن ذلك.
الثامنة: مضرة أصحاب السوء على الإنسان.
التاسعة: مضرة تعظيم الأسلاف والأكابر.
العاشرة: استدلال الجاهلية بذلك.
الحادية عشرة: الشاهد لكون الأعمال بالخواتيم، لأنه لو قالها لنفعته.
الثانية عشرة: التأمل في كبر هذه الشبهة في قلوب الضالين، لأن في القصة أنهم لم يجادلوه إلا بها، مع مبالغته وتكريره، فلأجل عظمتها ووضوحها عندهم، اقتصروا عليها.
باب ما جاء أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم هو الغلو في الصالحين
وقـول الله : { • } ( ) ... (النساء - 171).
وفي الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما في قول الله تعالى: { • • } ( ) (نوح - 23) قال: "هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم: أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابا وسموها بأسمائهم، ففعلوا، ولم تعبد، حتى إذا هلك أولئك ونسي العلم، عبدت".
وقال ابن القيم: قال غير واحد من السلف: " لما ماتوا عكفوا على قبورهم ثم صوروا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم ".
وعن عمر: أن رسول الله قال: { لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله } ( ) أخرجاه.
قال: وقال رسول الله { إياكم والغلو، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو } ( ).
ولمسلم عن ابن مسعود أن رسول الله قال{ هلك المتنطعون - قالها ثلاثا } ( ).
قوله: باب " ما جاء أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم هو الغلو في الصالحين "
قوله: " تركهم " بالجر عطفا على المضاف إليه. وأراد المصنف رحمه الله تعالى بيان ما يؤول إليه الغلو في الصالحين من الشرك بالله في الإلهية الذي هو أعظم ذنب عصي الله به، وهو ينافي التوحيد الذي دلت عليه كلمة الإخلاص: شهادة أن لا إله إلى الله.
قـوله: " وقـول الله { • } ( ) ... (النساء - 171) "
الغلو: هو الإفراط بالتعظيم بالقول والاعتقاد، أي لا ترفعوا المخلوق عن منزلته التي أنزله الله فتنزلوه المنزلة التي لا تنبغي إلا لله. والخطاب - وإن كان لأهل الكتاب - فإنه عام يتناول جميع الأمة، تحذيرا لهم أن يفعلوا بنبيهم فعل النصارى في عيسى، واليهود في العزير كما قال تعالى: { } ( ) (الحديد - 16) ولهذا قال النبي { لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم } ( ) " ويأتي.
فكل من دعا نبيا أو وليا من دون الله فقد اتخذه إلها، وضاهأ النصارى في شركهم، وضاهأ اليهود في تفريطهم. فإن النصارى غلوا في عيسى عليه السلام، واليهود عادوه وسبوه وتنقصوه. فالنصارى أفرطوا، واليهود فرطوا. وقال تعالى: { • } ( ) ... (المائدة - 75) ففي هذه الآية وأمثالها الرد على اليهود والنصارى.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: ومن تشبه من هذه الأمة باليهود والنصارى، وغلا في الدين بإفراط فيه أو تفريط فقد شابههم. قال: وعلي حرق الغالية من الرافضة، فأمر بأخاديد خُدَّت لهم عند باب كندة فقذفهم فيها. واتفق الصحابة على قتلهم. لكن ابن عباس مذهبه أن يقتلوا بالسيف من غير تحريق. وهو قول أكثر العلماء.
قوله: " في الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: { • • } ( ) (نوح - 23). قال: " هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم: أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابا وسموها بأسمائهم، ففعلوا، ولم تعبد، حتى إذا هلك أولئك ونسى العلم عبدت "
قوله: " في الصحيح ": أي صحيح البخاري.
وهذا الأثر اختصره المصنف. ولفظ ما في البخاري: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: " صارت الأوثان التي في قوم نوح في العرب بعد. أما وَدٌّ: فكانت لكلب بدومة الجندل. وأما سُواع: فكانت لهذيل. وأما يغوث: فكانت لمراد ثم لبنى غُطيف بالجرف عند سبأ. وأما يعوق: فكانت لهمدان. وأما نسر: فكانت لحمير لآل ذي الكلاع: أسماء رجال صالحين في قوم نوح - إلخ ".
وروى عكرمة والضحاك وابن إسحاق نحو هذا.
قال ابن جرير: حدثنا ابن حميد قال: حدثنا مهران عن سفيان عن موسى عن محمد بن قيس " أن يغوث ويعوق ونسرا كانوا قوما صالحين من بني آدم، وكان لهم أتباع يقتدون بهم، فلما ماتوا قال أصحابهم: لو صورناهم كان أشوق لنا إلى العبادة، فصوروهم، فلما ماتوا وجاء آخرون دب إليهم إبليس فقال: إنما كانوا يعبدونهم وبهم يسقون المطر. فعبدوهم ".
قوله: " أن انصبوا " هو بكسر الصاد المهملة.
قوله: " أنصابا " جمع نصب، والمراد به هنا: الأصنام المصورة على صور أولئك الصالحين التي نصبوها في مجالسهم، وسموها بأسمائهم. وفي سياق حديث ابن عباس ما يدل على أن الأصنام تسمى أوثانا. فاسم الوثن يتناول كل معبود من دون الله، سواء كان ذلك المعبود قبرا أو مشهدا، أو صورة أو غير ذلك.
قوله: " حتى إذا هلك أولئك " أي الذين صوروا تلك الأصنام.
قوله: " ونُسي العلم " ورواية البخاري " وينسخ " وللكشميهني " ونسخ العلم " أي درست آثاره بذهاب العلماء، وعم الجهل حتى صاروا لا يميزون بين التوحيد والشرك، فوقعوا في الشرك ظنا منهم أنه ينفعهم عند الله.
قوله: " عبدت " لما قال لهم إبليس: إن من كان قبلكم كانوا يعبدونهم وبهم يسقون المطر، فهو الذي زين لهم عبادة الأصنام وأمرهم بها، فصار هو معبودهم في الحقيقة. كما قال تعالى: { • • } ( ) (يس - 60 - 62) وهذا يفيد الحذر من الغلو ووسائل الشرك، وإن كان القصد بها حسنا. فإن الشيطان أدخل أولئك في الشرك من باب الغلو في الصالحين ومحبتهم، كما قد وقع مثل ذلك في هذه الأمة، أظهر لهم الغلو والبدع في قالب تعظيم الصالحين ومحبتهم، ليوقعهم فيما هو أعظم من ذلك، من عبادتهم لهم من دون الله، وفي رواية أنهم قالوا: ما عظم أولنا هؤلاء إلا وهم يرجون شفاعتهم عند الله، أي يرجون شفاعة أولئك الصالحين الذين صوروا تلك الأصنام على صورهم وسموها بأسمائهم. ومن هنا يعلم أن اتخاذ الشفعاء ورجاء شفاعتهم بطلبها منهم: شرك بالله، كما تقدم بيانه في الآيات المحكمات.
قوله: " وقال ابن القيم رحمه الله: قال غير واحد من السلف: لما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم ".
قوله: " وقال ابن القيم رحمه الله " هو الإمام العلامة محمد بن أبي بكر بن أيوب الزرعي الدمشقي المعروف بابن قيم الجوزية. قال الحافظ السخاوي: العلامة الحجة المتقدم في سعة العلم ومعرفة الخلاف وقوة الجنان، المجمع عليه بين الموافق والمخالف، صاحب التصانيف السائرة والمحاسن الجمة. مات سنة إحدى وخمسين وسبعمائة.
قوله: " وقال غير واحد من السلف " هو بمعنى ما ذكره البخاري وابن جرير إلا أنه ذكر عكوفهم على قبورهم قبل تصويرهم تماثيلهم. وذلك من وسائل الشرك، بل هو الشرك؛ لأن العكوف لله في المساجد عبادة. فإذا عكفوا على القبور صار عكوفهم تعظيما ومحبة عبادة لها. قوله: " ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم " أي طال عليهم الزمان. وسبب تلك العبادة والموصل إليها هو ما جرى من الأولين من التعظيم بالعكوف على قبورهم، ونصب صورهم في مجالسهم، فصارت بذلك أوثانا تعبد من دون الله، كما ترجم به المصنف رحمه الله تعالى. فإنهم تركوا بذلك دين الإسلام الذي كان أولئك عليه قبل حدوث وسائل هذا الشرك، وكفروا بعبادة تلك الصور واتخذوهم شفعاء. وهذا أول شرك حدث في الأرض.
قال القرطبي: وإنما صور أوائلهم الصور ليتأسوا بهم، ويتذكروا أفعالهم الصالحة، فيجتهدوا كاجتهادهم، ويعبدوا الله عند قبورهم، ثم خلفهم قوم جهلوا مرادهم، فوسوس لهم الشيطان أسلافهم كانوا يعبدون هذه الصور ويعظمونها. ا هـ.
قال ابن القيم رحمه الله: وما زال الشيطان يوحي إلى عباد القبور ويلقي إليهم أن البناء والعكوف عليها من محبة أهل القبور من الأنبياء والصالحين، وأن الدعاء عندها مستجاب، ثم ينقلهم من هذه المرتبة إلى الدعاء بها، والإقسام على الله بها، فإن شأن الله أعظم من أن يقسم عليه أو يسأل بأحد من خلقه.
فإذا تقرر ذلك عندهم نقلهم منه إلى دعائه وعبادته، وسؤاله الشفاعة من دون الله، واتخاذ قبره وثنا تعلق عليه القناديل والستور، ويطاف به ويستلم ويقبل، ويحج إليه ويذبح عنده.
فإذا تقرر ذلك عندهم نقلهم منه إلى دعاء الناس إلى عبادته، واتخاذه عيدا ومنسكا، ورأوا أن ذلك أنفع لهم في دنياهم وأخراهم. وكل هذا مما قد علم بالاضطرار من دين الإسلام أنه مضاد لما بعث الله به رسوله من تجديد التوحيد، وأن لا يعبد إلا الله.
فإذا تقرر ذلك عندهم نقلهم منه إلى أن من نهى عن ذلك فقد تنقص أهل هذه الرتب العالية، وحطهم عن منزلتهم، وزعم أنه لا حرمة لهم ولا قدر، فغضب المشركون واشمأزت قلوبهم، كما قال تعالى: { • } ( ) (الزمر - 45) وسرى ذلك في نفوس كثير من الجهال والطغام، وكثير ممن ينتسب إلى العلم والدين، حتى عادوا أهل التوحيد ورموهم بالعظائم ونفروا الناس عنهم، ووالوا أهل الشرك وعظموهم، وزعموا أنهم أولياء الله وأنصار دينه ورسوله، ويأبي الله ذلك:... { } ( ).... اهـ كلام ابن القيم رحمه الله. وفي القصة فوائد ذكرها المصنف رحمه الله.
ومنها: رد الشبه التي يسميها أهل الكلام عقليات، ويدفعون بها ما جاء به الكتاب والسنة من توحيد الصفات، وإثباتها على ما يليق بجلال الله وعظمته وكبريائه.
ومنها: مضرة التقليد.
ومنها: ضرورة الأمة إلى ما جاء به الرسول علما وعملا بما يدل عليه الكتاب والسنة فإن ضرورة العبد إلى ذلك فوق كل ضرورة.
قوله: " وعن عمر أن رسول الله قال: { لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم. إنما أعبد عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله } ( ) أخرجاه.
قوله: " عن عمر " هو ابن الخطاب بن نفيل - بنون وفاء مصغرا - العدوى، أمير المؤمنين وأفضل الصحابة بعد الصديق رضي الله عنهم. ولي الخلافة عشر سنين ونصفا. فامتلأت الدنيا عدلا، وفتحت في أيامه ممالك كسرى وقيصر. واستشهد في ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين رضي الله عنه.
قوله: { لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم } ( ) الإطراء: مجاوزة الحد في المدح، والكذب فيه. قاله أبو السعادات. وقال غيره: أي لا تمدحوني بالباطل، ولا تجاوزوا الحد في مدحي.
قوله: { إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله } ( ) أي لا تمدحوني فتغلوا في مدحي كما غلت النصارى في عيسى عليه السلام فادَّعوا فيه الإلهية. وإنما أنا عبد الله ورسوله، فصفوني بذلك كما وصفني ربي، فقولوا: عبد الله ورسوله، فأبى المشركون إلا مخالفة أمره وارتكاب نهيه، وعظموه بما نهاهم عنه وحذرهم منه، وناقضوه أعظم مناقضة، وضاهأوا النصارى في غلوهم وشركهم، ووقعوا في المحذور، وجرى منهم من الغلو والشرك شعرا ونثرا ما يطول عده، وصنفوا فيه مصنفات.
وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله عن بعض أهل زمانه أنه جوز الاستغاثة بالرسول في كل ما يستغاث فيه بالله، وصنف في ذلك مصنفا رده شيخ الإسلام، ورده موجود بحمد الله.
ويقول: إنه يعلم مفاتيح الغيب التي لا يعلهما إلا الله. وذكر عنهم أشياء من هذا النمط. نعوذ بالله من عمى البصيرة. وقد اشتهر في نظم البوصيري قوله:
سـواك عنـد حدوث الحادث العمم
يا أكـرم الخلق مـا لي مـن ألوذ به
وما بعده من الأبيات التي مضمونها إخلاص الدعاء واللياذ والرجاء والاعتماد في أضيق الحالات وأعظم الاضطرار لغير الله، فناقضوا الرسول بارتكاب ما نهى عنه أعظم مناقضة، وشاقوا الله ورسوله أعظم مشاقة، وذلك أن الشيطان أظهر لهم هذا الشرك العظيم في قالب محبة النبي وتعظيمه، وأظهر التوحيد والإخلاص الذي بعثه الله في قالب تنقيصه، وهؤلاء المشركون هم المتنقصون الناقصون، أفرطوا في تعظيمه بما نهاهم عنه أشد النهي، وفرطوا في متابعته، فلم يعبأوا بأقواله وأفعاله، ولا رضوا بحكمه ولا سلموا له. وإنما يحصل تعظيم الرسول بتعظيم أمره ونهيه، والاهتداء بهديه، واتباع سنته، والدعوة إلى دينه الذي دعا إليه ونصرته، وموالاة من عمل به، ومعاداة من خالفه. فعكس أولئك المشركون ما أراد الله ورسوله علما وعملا، وارتكبوا ما نهى الله ورسوله عنه. فالله المستعان.
قوله: وقال رسول الله { إياكم والغلو؛ فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو } ( ).
هذا الحديث ذكره المصنف بدون ذكر راويه. وقد رواه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه من حديث ابن عباس.
وهذا لفظ رواية أحمد: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله غداة جَمْع: { هلم الْقُط لي. فلقطت له حصيات هن حصى الحذف. فما وضعهن في يده قال: نعم بأمثال هؤلاء فارموا. وإياكم والغلو في الدين، فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين } ( ).
قال شيخ الإسلام: هذا عام في جميع أنواع الغلو في الاعتقادات والأعمال وسبب هذا اللفظ العام رمي الجمار، وهو داخل فيه، مثل الرمي بالحجارة الكبار، بناء على أنه أبلغ من الصغار. ثم علله بما يقتضي مجانبة هدى من كان قبلنا إبعادا عن الوقوع فيما هلكوا به، فإن المشارك لهم في بعض هديهم يُخاف عليه من الهلاك.
قوله: " ولمسلم عن ابن مسعود: أن رسول الله قال: { هلك المتنطعون - قالها ثلاثا - } ( ).
قال الخطابي: المتنطع: المتعمق في الشيء، المتكلف البحث عنه علي مذاهب أهل الكلام الداخلين فيما لا يعنيهم، الخائضين فيما لا تبلغه عقولهم.
ومن التنطع: الامتناع عن المباح مطلقا، كالذي يمتنع من أكل اللحم والخبز، ومن لبس الكتان والقطن، ولا يلبس إلا الصوف، ويمتنع من نكاح النساء، ويظن أن هذا من الزهد المستحب. قال الشيخ تقي الدين: فهذا جاهل ضال، انتهى.
وقال ابن القيم رحمه الله: قال الغزالي: والمتنطعون في البحث والاستقصاء.
وقال أبو السعادات: هم المتعمقون الغالون في الكلام، المتكلمون بأقصى حلوقهم. مأخوذ من النطع، وهو الغار الأعلى من الفم، ثم استعمل في كل متعمق قولا وفعلا.
وقال النووي: فيه: كراهة التقعر في الكلام بالتشدق وتكلف الفصاحة، واستعمال وحشى اللغة ودقائق الإعراب في مخاطبة العوام ونحوهم.
قوله: { قالها ثلاثا } أي قال هذه الكلمة ثلاث مرات، مبالغة في التعليم والإبلاغ، فقد بلغ البلاغ المبين. صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
المسائل المستنبطة من هذا الباب
فيه مسائل:
الأولى: أن من فهم هذا الباب وبابين بعده، تبين له غربة الإسلام، ورأى من قدرة الله وتقليبه للقلوب العجب.
الثانية: معرفة أول شرك حدث في الأرض أنه بشبهة الصالحين.
الثالثة: أول شيء غير به دين الأنبياء، وما سبب ذلك مع معرفة أن الله أرسلهم.
الرابعة: قبول البدع مع كون الشرائع والفطر تردها.
الخامسة: أن سبب ذلك كله مزج الحق بالباطل، فالأول: محبة الصالحين، والثاني: فعل أناس من أهل العلم شيئا أرادوا به خيرا، فظن من بعدهم أنهم أرادوا به غيره.
السادسة: تفسير الآية التي في سورة نوح.
السابعة: جبلة الآدمي في كون الحق ينقص في قلبه، والباطل يزيد مع طول الأمد وضعف المتابعة والذكر.
الثامنة: فيه شاهد لما نقل عن السلف أن البدع سبب الكفر.
التاسعة: معرفة الشيطان بما تؤول إليه البدعة، ولو حسن قصد الفاعل.
العاشرة: معرفة القاعدة الكلية، وهي النهي عن الغلو، ومعرفة ما يؤول إليه.
الحادية عشرة: مضرة العكوف على القبر لأجل عمل صالح.
الثانية عشرة: معرفة النهي عن التماثيل، والحكمة في إزالتها.
الثالثة عشرة: معرفة شأن هذه القصة، وشدة الحاجة إليها مع الغفلة عنها.
الرابعة عشرة: وهي أعجب وأعجب: قراءتهم إياها في كتب التفسير والحديث، ومعرفتهم بمعنى الكلام، وكون الله حال بينهم وبين قلوبهم حتى اعتقدوا أن فعل قوم نوح هو أفضل العبادات، واعتقدوا أن ما نهى الله ورسوله عنه، فهو الكفر المبيح للدم والمال.
الخامسة عشرة: التصريح بأنهم لم يريدوا إلا الشفاعة.
السادسة عشرة: ظنهم أن العلماء الذين صوروا الصور أرادوا ذلك.
السابعة عشرة: البيان العظيم في قوله: { لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم } ( ) فصلوات الله وسلامه على من بلغ البلاغ المبين.
الثامنة عشرة: نصيحته إيانا بهلاك المتنطعين.
التاسعة عشرة: التصريح بأنها لم تعبد حتى نسي العلم، ففيها: بيان معرفة قدر وجوده ومضرة فقده.
العشرون: أن سبب فقد العلم موت العلماء.
باب ما جاء في التغليظ فيمن عبد الله عند قبر رجل صالح فكيف إذا عبده
في الصحيح عن عائشة: { أن أم سلمة ذكرت لرسول الله كنيسة رأتها بأرض الحبشة وما فيها من الصور، فقال: أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح، أو العبد الصالح، بنوا على قبره مسجدا، وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله } ( ).
فهؤلاء جمعوا بين الفتنتين، فتنة القبور، وفتنة التماثيل.
ولهما عنها قالت: { لما نزل برسول الله طفق يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتم بها كشفها، فقال ـ وهو كذلك ـ: لعنة الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما صنعوا، ولولا ذلك أبرز قبره، غير أنه خشي أن يتخذ مسجدا } ( ) أخرجاه.
ولمسلم عن جندب بن عبد الله قال: سمعت النبي قبل أن يموت بخمس وهو يقول: { إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل، فإن الله قد اتخذني خليلا، كما اتخذ إبراهيم خليلا، ولو كنت متخذا من أمتي خليلا، لاتخذت أبا بكر خليلا، ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك } ( ).
فقد نهى عنه في آخر حياته.
ثم إنه لعن ـ وهو في السياق ـ من فعله، والصلاة عندها من ذلك، وإن لم يبن مسجد، وهو معنى قولها: { خشي أن يتخذ مسجدا } ( ) فإن الصحابة لم يكونوا ليبنوا حول قبره مسجدا، وكل موضع قصدت الصلاة فيه فقد اتخذ مسجدا، بل كل موضع يصلى فيه يسمى مسجدا، كما قال { جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا } ( ).
ولأحمد بسند جيد عن ابن مسعود مرفوعا: { إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء، والذين يتخذون القبور مساجد } ( ) ورواه أبو حاتم في صحيحه.
قوله: باب " ما جاء في التغليظ فيمن عبد الله عند قبر رجل صالح، فكيف إذا عبده؟ "
أي: الرجل الصالح، فإن عبادته الشرك الأكبر، وعبادة الله عنده وسيلة إلى عبادته، ووسائل الشرك محرمة؛ لأنها تؤدي إلى الشرك الأكبر وهو أعظم الذنوب.
قوله: " في الصحيح: عن عائشة رضي الله عنها: { أن أم سلمة ذكرت لرسول الله كنيسة رأتها بأرض الحبشة وما فيها من الصور. فقال: أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح أو العبد الصالح، بنوا على قبره مسجدا، وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله } ( ).
فهؤلاء جمعوا بين الفتنتين: فتنة القبور وفتنة التماثيل.
قوله: في " الصحيح " أي الصحيحين.
قوله: " أن أم سلمة " هي هند بنت أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم القرشية المخزومية. تزوجها رسول الله بعد أبي سلمة سنة أربع، وقيل: ثلاث، وكانت قد هاجرت مع أبي سلمة إلى الحبشة ماتت سنة اثنتين وستين.
قوله: { ذكرت لرسول الله } ( ) وفي الصحيحين " { أن أم حبيبة وأم سلمة ذكرتا ذلك لرسول الله } ( )، و " الكنيسة " بفتح الكاف وكسر النون: معبد النصارى.
قوله: " أولئك " بكسر الكاف خطاب للمرأة.
قوله: { إذا مات فيهم الرجل الصالح أو العبد الصالح } ( ) هذا - والله أعلم - شك من بعض رواة الحديث: هل قال النبي هذا أو هذا؟ ففيه: التحري في الرواية. وجواز الرواية بالمعنى.
قوله: { وصوروا فيه تلك الصور } ( ) الإشارة إلى ما ذكرت أم سلمة وأم حبيبة من التصاوير التي في الكنيسة.
قوله: { أولئك شرار الخلق عند الله } ( ) وهذا يقتضى تحريم بناء المساجد على القبور، وقد لعن من فعل ذلك كما سيأتي. قال البيضاوي: لما كانت اليهود والنصارى يسجدون لقبور الأنبياء تعظيما لشأنهم، ويجعلونها قبلة يتوجهون في الصلاة نحوها واتخذوها أوثانا لعنهم النبي .
قال القرطبي: وإنما صور أوائلهم الصور ليتأسوا بها، وعملوا أعمالهم الصالحة، فيجتهدوا كاجتهادهم، ويعبدوا الله عند قبورهم، ثم خلفهم قوم جهلوا مرادهم ووسوس لهم الشيطان أن أسلافهم كانوا يعبدون هذه الصور ويعظمونها. فحذر النبي عن مثل ذلك، سدا للذريعة المؤدية إلى ذلك.
قوله: " فهؤلاء جمعوا بين فتنتين: فتنة القبور وفتنة التماثيل " هذا من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، ذكره المصنف رحمه الله تنبيها على ما وقع من شدة الفتنة بالقبور والتماثيل فإن الفتنة بالقبور كالفتنة بالأصنام أو أشد.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: وهذه العلة التي لأجلها نهى الشارع عن اتخاذ المساجد على القبور هي التي أوقعت كثيرا من الأمم إما في الشرك الأكبر أو فيما دونه من الشرك. فإن النفوس قد أشركت بتماثيل الصالحين، وتماثيل يزعمون أنها طلاسم الكواكب ونحو ذلك. فإن الشرك بقبر الرجل الذي يعتقد صلاحه أقرب إلى النفوس من الشرك بخشبة أو حجر. ولهذا تجد أهل الشرك يتضرعون ويخضعون، ويعبدون بقلوبهم عبادة لا يفعلونها في بيوت الله ولا وقت السحر، ومنهم من يسجد لها، وأكثرهم يرجون من بركة الصلاة عندها والدعاء ما لا يرجونه في المساجد، فلأجل هذه المفسدة حسم النبي مادتها. حتى نهى عن الصلاة في المقبرة مطلقا، وإن لم يقصد المصلي بركة البقعة بصلاته، كما يقصد بصلاته بركة المساجد، كما نهى عن الصلاة وقت طلوع الشمس وغروبها، لأنها أوقات يقصد فيها المشركون الصلاة للشمس، فنهى أمته عن الصلاة حينئذ وإن لم يقصد ما قصده المشركون، سدا للذريعة. وأما إذا قصد الرجل الصلاة عند القبور متبركا بالصلاة في تلك البقعة فهذا عين المحادة لله ولرسوله، والمخالفة لدينه وابتداع دين لم يأذن به الله، فإن المسلمين قد أجمعوا على ما علموه بالاضطرار من دين الرسول أن الصلاة عند القبور منهي عنها، وأنه لعن من اتخذها مساجد، فمن أعظم المحدثات وأسباب الشرك الصلاة عندها واتخاذها مساجد، وبناء المساجد عليها.
وقد تواترت النصوص عن النبي بالنهي عن ذلك والتغليظ فيه. وقد صرح عامة الطوائف بالنهي عن بناء المساجد عليها متابعة منهم للسنة الصحيحة الصريحة. وصرح أصحاب أحمد وغيرهم من أصحاب مالك والشافعي بتحريم ذلك. وطائفة أطلقت الكراهة.
والذي ينبغي أن تحمل على كراهة التحريم، إحسانا للظن بالعلماء، وأن لا يظن بهم أن يجوزوا فعل ما تواتر عن رسول الله لعن فاعله والنهي عنه. ا هـ كلامه رحمه الله تعالى.
قوله: " ولهما عنها - أي عائشة رضي الله عنها - قالت: { لما نُزل برسول الله طفق يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتم بها كشفها فقال - وهو كذلك -: لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد. يحذر ما صنعوا. ولولا ذلك أبرز قبره، غير أنه خشي أن يتخذ مسجدا } ( ) أخرجاه.
قوله: " ولهما " أي البخاري ومسلم. وهو يغني عن قوله في آخره " أخرجاه ".
قوله: " لما نزل " هو بضم النون وكسر الزاي. أي نزل به ملك الموت والملائكة الكرام عليهم السلام.
قوله: " طفق " بكسر الفاء وفتحها، والكسر أفصح. وبه جاء القرآن، ومعناه: جعل.
قوله: " خميصة " بفتح المعجمة والصاد المهملة: كساء له أعلام.
قوله: { فإذا اغتم بها كشفها } ( ) أي عن وجهه.
قوله: { لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد } ( ) يبين أن من فعل مثل ذلك حل عليه من اللعنة ما حل على اليهود والنصارى.
قوله: { يحذر ما صنعوا } ( ) الظاهر أن هذا كلام من عائشة رضي الله عنها لأنها فهمت من قول النبي ذلك تحذير أمته من هذا الصنيع الذي كانت تفعله اليهود والنصارى في قبور أنبيائهم، فإنه من الغلو في الأنبياء، ومن أعظم الوسائل إلى الشرك. ومن غربة الإسلام أن هذا الذي لعن رسول الله فاعليه؛ تحذيرا لأمته أن يفعلوه معه ومع الصالحين من أمته - قد فعله الخلق الكثير من متأخري هذه الأمة، واعتقدوه قربة من القربات، وهو من أعظم السيئات والمنكرات، وما شعروا أن ذلك محادة لله ورسوله. قال القرطبي في معنى هذا الحديث: وكل ذلك لقطع الذريعة المؤدية إلى عبادة من فيها كما كان السبب في عبادة الأصنام. انتهى.
إذ لا فرق بين عبادة القبر ومن فيه وعبادة الصنم، وتأمل قول الله تعالى عن نبيه يوسف بن يعقوب حيث قال: { • } ( )... نكرة في سياق النفي تعم كل شرك.
قوله: { ولولا ذلك } ( ) أي ما كان يحذر من اتخاذ قبر النبي مسجدا لأبرز قبره وجعل مع قبور الصحابة الذين كانت قبورهم في البقيع.
قوله: { غير أنه خشي أن يتخذ مسجدا } ( ) روى بفتح الخاء وضمها، فعلى الفتح يكون هو الذي خشي ذلك وأمرهم أن يدفنوه في المكان الذي قبض فيه. وعلى رواية الضم يحتمل أن يكون الصحابة هم الذين خافوا أن يقع ذلك من بعض الأمة، فلم يبرزوا قبره، خشية أن يقع ذلك من بعض الأمة غلوا وتعظيما مراعاة لما أبدى وأعاد من النهي والتحذير منه ومن فاعله.
قال القرطبي: ولهذا بالغ المسلمون في سد الذريعة في قبر النبي فأغلقوا حيطان تربته وسدوا المداخل إليها، وجعلوها محدقة بقبره ثم خافوا أن يتخذ موضع قبره قبلة إذا كان مستقبل المصلين، فتصور الصلاة إليه بصورة العبادة فبنوا جدارين من ركني القبر الشماليين وحرفوهما حتى التقيا على زاوية مثلثة من ناحية الشمال حتى لا يتمكن أحد من استقبال قبره. انتهى.
قوله: " ولمسلم عن جندب بن عبد الله قال: سمعت النبي قبل أن يموت بخمس، وهو يقول: { إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل. فإن الله قد اتخذني خليلا، كما اتخذ إبراهيم خليلا ولو كنت متخذا من أمتي خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك } ( ).
قوله: " عن جندب بن عبد الله " أي ابن سفيان البجلي، وينسب إلى جده، صحابي مشهور. مات بعد الستين. قوله: { إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل } ( ) أي أمتنع عما لا يجوز لي أن أفعله، والخلة فوق المحبة، والخليل هو المحبوب غاية الحب، مشتق من الخلة - بفتح الخاء - وهي تخلل المودة في القلب، كما قال الشاعر:
وبـذا سمـي الخـليـل خـليـلا
قـد تخلـلت مسلك الروح مني
هذا هو الصحيح في معناها كما ذكره شيخ الإسلام وابن القيم وابن كثير وغيرهم رحمهم الله تعالى.
قال القرطبي: وإنما كان ذلك لأن قلبه قد امتلأ من محبة الله وتعظيمه ومعرفته فلا يسع خلة غيره.
قوله: { فإن الله قد اتخذني خليلا } ( ) فيه بيان أن الخلة فوق المحبة.
قال ابن القيم رحمه الله: وأما ما يظنه بعض الغالطين من أن المحبة أكمل من الخلة، وأن إبراهيم خليل الله، ومحمد حبيب الله - فمن جهلهم، فإن المحبة عامة، والخلة خاصة، وهي نهاية المحبة، وقد أخبر النبي أن الله قد اتخذه خليلا، ونفى أن يكون له خليل غير ربه، مع إخباره بحبه لعائشة ولأبيها، ولعمر بن الخطاب، ومعاذ بن جبل وغيرهم رضي الله عنهم.
وأيضا فإن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين ويحب الصابرين، وخلته خاصة بالخليلين.
قوله: { ولو كنت متخذا خليلا لا تخذت أبا بكر خليلا } ( ) فيه: بيان أن الصديق أفضل الصحابة، وفيه الرد على الرافضة وعلى الجهمية وهما شر أهل البدع، وأخرجهم بعض السلف من الثنتين والسبعين فرقة، وبسبب الرافضة حدث الشرك وعبادة القبور، وهم أول من بنى عليها المساجد. قاله المصنف رحمه الله، وهو كما قال بلا ريب.
وفيه إشارة إلى خلافة أبي بكر؛ لأن من كانت محبته لشخص أشد كان أولى به من غيره، وقد استخلفه في الصلاة بالناس، وغضب لما قيل يصلي بهم عمر وذلك في مرضه الذي توفي فيه . واسم أبي بكر: عبد الله بن عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة، الصديق الأكبر، خليفة رسول الله وأفضل الصحابة بإجماع من يعتد بقوله من أهل العلم، مات في جمادى الأولى سنة ثلاث عشرة، وله ثلاث وستون سنة رضي الله عنه.
قوله: " ألا " حرف استفتاح، { وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد } ( ) - الحديث " قال الخطابي: وإنكار النبي صنيعهم هذا مخرج على وجهين:
أحدهما: أنهم يسجدون لقبور الأنبياء تعظيما.
الثاني: أنهم يجوزون الصلاة في مدافن الأنبياء والتوجه إليها حالة الصلاة، نظرا منهم بذلك إلى عبادة الله عندها وإليها والمبالغة في تعظيم الأنبياء. والأول: هو الشرك الجلي. والثاني: الخفي، فلذلك استحقوا اللعن.
قوله: " فقد نهى عنه في آخر حياته " أي كما في حديث جندب، وهذا من كلام شيخ الإسلام، وكذا ما بعده.
قوله: " ثم إنه لعن " - وهو في السياق - من فعله " كما في حديث عائشة.
قلت: فكيف يسوغ بعد هذا التغليظ من سيد المرسلين أن تعظم القبور ويبنى عليها ويصلى عندها وإليها ! هذا أعظم مشاقة ومحادة لله تعالى ولرسوله لو كانوا يعقلون.
قوله: " الصلاة عندها من ذلك، وإن لم يبن مسجد ".
أي من اتخاذها مساجد الملعون فاعله، وهذا يقتضي تحريم الصلاة عند القبور وإليها.
وعن أبي سعيد الخدري مرفوعا{ الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام } ( ) رواه أحمد وأهل السنن وصححه ابن حبان والحاكم.
قال ابن القيم رحمه الله: وبالجملة فمن له معرفة بالشرك وأسبابه وذرائعه وفهم عن رسول الله مقاصده، جزم جزما لا يحتمل النقيض أن هذه المبالغة واللعن والنهي بصيغتيه - صيغة " لا تفعلوا " وصيغة " إني أنهاكم عن ذلك " - ليس لأجل النجاسة، بل هو لأجل نجاسة الشرك اللاحقة لمن عصاه، وارتكب ما عنه نهاه، واتبع هواه، ولم يخش ربه ومولاه، وقل نصيبه أو عدم من " لا إله إلا الله " فإن هذا وأمثاله من النبي صيانة لحمى التوحيد أن يلحقه الشرك ويغشاه؛ وتجريد له وغضب لربه أن يعدل به سواه، فأبى المشركون إلا معصية لأمره وارتكابا لنهيه، وغرهم الشيطان بأن هذا تعظيم لقبور المشايخ والصالحين، وكلما كنتم لها أشد تعظيما وأشد فيهم غلوا كنتم بقربهم أسعد، ومن أعدائهم أبعد، ولعمر الله، من هذا الباب دخل الشيطان على عباد يغوث ويعوق ونسر، ودخل على عباد الأصنام منذ كانوا إلى يوم القيامة، فجمع المشركون بين الغلو فيهم والطعن في طريقتهم، فهدى الله أهل التوحيد لسلوك طريقتهم وإنزالهم منازلهم التي أنزلهم الله إياها: من العبودية وسلب خصائص الإلهية عنهم.
قال الشارح -رحمه الله تعالى-: وممن علل بخوف الفتنة بالشرك: الإمام الشافعي، وأبو بكر الأثرم، وأبو محمد المقدسي. وشيخ الإسلام وغيرهم -رحمهم الله-. وهو الحق الذي لا ريب فيه.
قوله: " فإن الصحابة لم يكونوا ليبنوا حول قبره مسجدا " أي لما علموا من تشديده في ذلك وتغليظه النهي عنه، ولعن من فعله.
قوله: " وكل موضع قصدت الصلاة فيه فقد اتخذ مسجدا " أي وإن لم يبن مسجد، بل كل موضع يصلى فيه يسمى مسجدا، يعني وإن لم يقصد بذلك، كما إذا عرض لمن أراد أن يصلي فأوقع الصلاة عنده من غير أن يقصد ذلك الموضع بخصوصه، فصار بفعل الصلاة فيه مسجدا.
قوله: كما قال { جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا } ( ) أي: فسمى الأرض مسجدا تجوز الصلاة في كل بقعة منها، إلا ما استثنى من المواضع التي لا تجوز الصلاة فيها، كالمقبرة ونحوها.
قال البغوي في شرح السنة: أراد أن أهل الكتاب لم تبح لهم الصلاة إلا في بيعهم وكنائسهم، فأباح الله لهذه الأمة الصلاة حيث كانوا، تخفيفا عليهم وتيسيرا، ثم خص من جميع المواضع: الحمام والمقبرة والمكان النجس. انتهى.
قوله: " ولأحمد بسند جيد عن ابن مسعود مرفوعا { إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء، والذين يتخذون القبور مساجد } ( ) ورواه أبو حاتم وابن حبان في صحيحه".
قوله: { إن من شرار الناس } ( ) بكسر الشين جمع شرير.
قوله: { من تدركهم الساعة وهم أحياء } ( ) أي مقدماتها، كخروج الدابة، وطلوع الشمس من مغربها. وبعد ذلك ينفخ في الصور نفخة الفزع.
قوله: { والذين يتخذون القبور مساجد } ( ) معطوف على خبر "إن" في محل نصب على نية تكرار العامل، أي وإن من أشرار الناس الذين يتخذون القبور مساجد أي بالصلاة عندها وإليها، وبناء المساجد عليها، وتقدم في الأحاديث الصحيحة أن هذا من عمل اليهود والنصارى وأن النبي لعنهم على ذلك، تحذيرا للأمة أن يفعلوا مع نبيهم وصالحيهم مثل اليهود والنصارى. فما رفع أكثرهم بذلك رأسا، بل اعتقدوا أن هذا الأمر قربة إلى الله، وهو مما يبعدهم عن الله ويطردهم عن رحمته ومغفرته. والعجب أن أكثر من يدعي العلم ممن هو من هذه الأمة لا ينكرون ذلك، بل ربما استحسنوه ورغبوا في فعله، فلقد اشتدت غربة الإسلام وعاد المعروف منكرا والمنكر معروفا، والسنة بدعة والبدعة سنة، نشأ على هذا الصغير وهرم عليه الكبير.
قال شيخ الإسلام: أما بناء المساجد على القبور: فقد صرح عامة الطوائف بالنهي عنه، متابعة للأحاديث الصحيحة، وصرح أصحابنا وغيرهم من أصحاب مالك والشافعي بتحريمه. قال: ولا ريب في القطع بتحريمه، ثم ذكر الأحاديث في ذلك - إلى أن قال -: وهذه المساجد المبنية على قبور الأنبياء والصالحين، أو الملوك وغيرهم، تتعين إزالتها بهدم أو غيره، هذا مما لا أعلم فيه خلافا بين العلماء المعروفين.
وقال ابن القيم -رحمه الله-: يجب هدم القباب التي بنيت على القبور، لأنها أسست على معصية الرسول وقد أفتى جماعة من الشافعية بهدم ما في القرافة من الأبنية، منهم ابن الجميزي والظهير الترميني وغيرهما.
وقال القاضي ابن كج: ولا يجوز أن تجصص القبور، ولا أن يبنى عليها قباب، ولا غير قباب، والوصية بها باطلة.
وقال الأذرعي: وأما بطلان الوصية ببناء القباب وغيرها من الأبنية وإنفاق الأموال الكثيرة، فلا ريب في تحريمه.
وقال القرطبي في حديث جابر { نهى أن يجصص القبر أو يبنى عليه } ( ) وبظاهر هذا الحديث قال مالك، وكره البناء والجص على القبور. وقد أجازه غيره، وهذا الحديث حجة عليه.
وقال ابن رشد: كره مالك البناء على القبر وجعل البلاطة المكتوبة، وهو من بدع أهل الطول، أحدثوه إرادة الفخر والمباهاة والسمعة، وهو مما لا اختلاف فيه.
وقال الزيلعي في شرح الكنز: ويكره أن يبنى على القبر. وذكر قاضي خان: أنه لا يجصص القبر ولا يبنى عليه. لما روي عن النبي أنه نهى عن التجصيص والبناء فوق القبر. والمراد بالكراهة - عند الحنفية رحمهم الله - كراهة التحريم. وقد ذكر ذلك ابن نجيم في شرح الكنز.
وقال الشافعي -رحمه الله تعالى-: أكره أن يعظم مخلوق، حتى يجعل قبره مسجدا؛ مخافة الفتنة عليه وعلى من بعده من الناس. وكلام الشافعي -رحمه الله- يبين أن مراده بالكراهة: كراهة التحريم.
قال الشارح -رحمه الله تعالى-: وجزم النووي -رحمه الله- في شرح المهذب بتحريم البناء مطلقا، وذكر في شرح مسلم نحوه أيضا.
وقال أبو محمد عبد الله بن أحمد بن قدامة إمام الحنابلة صاحب المصنفات الكبار كالمغني والكافي وغيرهما -رحمه الله تعالى-: ولا يجوز اتخاذ المساجد على القبور؛ لأن النبي قال: { لعن الله اليهود والنصارى } ( ) - الحديث " وقد روينا أن ابتداء عبادة الأصنام: تعظيم الأموات واتخاذ صورهم، والتمسح بها والصلاة عندها، انتهى.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: وأما المقبرة فلا فرق فيها بين الجديدة والعتيقة، انقلبت تربتها أو لم تنقلب. ولا فرق بين أن يكون بينه وبين الأرض حائل أو لا لعموم الاسم وعموم العلة، ولأن النبي لعن الذين اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، ومعلوم أن قبور الأنبياء لا تنجس.
وبالجملة، فمن علل النهي عن الصلاة في المقبرة بنجاسة التربة خاصة فهو بعيد عن مقصود النبي ثم لا يخلو أن يكون القبر قد بني عليه مسجد، فلا يصلى في هذا المسجد، سواء صلى خلف القبر أو أمامه بغير خلاف في المذهب؛ لأن النبي قال { إن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك } ( ) وخص قبور الأنبياء؛ لأن عكوف الناس على قبورهم أعظم، واتخاذها مساجد أشد، وكذلك إن لم يكن بني عليه مسجد، فهذا قد ارتكب حقيقة المفسدة التي كان النهي عن الصلاة عند القبور من أجلها، فإن كل مكان صلي فيه يسمى مسجدا، كما قال { جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا } ( ) وإن كان موضع قبر أو قبرين.
وقال بعض أصحابنا: لا يمنع الصلاة فيه لأنه لا يتناولها اسم المقبرة، وليس في كلام أحمد ولا بعض أصحابه هذا الفرض، بل عموم كلامهم يقتضي منع الصلاة عند كل قبر.
وقد تقدم عن علي أنه قال: " لا أصلي في حمام ولا عند قبر ".
فعلى هذا: ينبغي أن يكون النهي متناولا لحريم القبر وفنائه، ولا تجوز الصلاة في مسجد بني في مقبرة، سواء كان له حيطان تحجز بينه وبين القبور أو كان مكشوفا. قال في رواية الأثرم: إذا كان المسجد بين القبور لا يصلى فيه الفريضة، وإن كان بينها وبين المسجد حاجز فرخص أن يصلى فيه على الجنائز ولا يصلى فيه على غير الجنائز. وذكر حديث أبي مرثد عن النبي { لا تصلوا على القبور } ( ) وقال: إسناده جيد. انتهى.
ولو تتبعنا كلام العلماء في ذلك لاحتمل عدة أوراق. فتبين بهذا أن العلماء -رحمهم الله- بينوا أن علة النهي ما يؤدي إليه ذلك: من الغلو فيها وعبادتها من دون الله كما هو الواقع والله المستعان.
وقد حدث بعد الأئمة الذين يعتد بقولهم، أناس كثر في أبواب العلم بالله اضطرابهم، وغلظ عن معرفة ما بعث الله به رسوله من الهدى والعلم حجابهم، فقيدوا نصوص الكتاب والسنة بقيود أوهنت الانقياد، وغيروا بها ما قصده الرسول بالنهي وأراد. فقال بعضهم: النهي عن البناء على القبور يختص بالمقبرة المسبلة، والنهي عن الصلاة فيها لتنجسها بصديد الموتى، وهذا كله باطل من وجوه: منها: أنه من القول على الله بلا علم. وهو حرام بنص الكتاب.
ومنها: أن ما قالوه لا يقتضي لعن فاعله والتغليظ عليه، وما المانع له أن يقول: من صلى في بقعة نجسة فعليه لعنة الله. ويلزم على ما قاله هؤلاء: أن النبي لم يبين العلة وأحال الأمة في بيانها على من يجيء بعده وبعد القرون المفضلة والأئمة، وهذا باطل قطعا وعقلا وشرعا، لما يلزم عليه من أن الرسول عجز عن البيان أو قصر في البلاغ، وهذا من أبطل الباطل؛ فإن النبي بلغ البلاغ المبين، وقدرته في البيان فوق قدرة كل أحد، فإذا بطل اللازم بطل الملزوم.
ويقال أيضا: هذا اللعن والتغليظ الشديد إنما هو فيمن اتخذ قبور الأنبياء مساجد، وجاء في بعض النصوص ما يعم الأنبياء وغيرهم، فلو كانت هذه هي العلة لكانت منتفية في قبور الأنبياء لكون أجسادهم طرية لا يكون لها صديد يمنع من الصلاة عند قبورهم، فإذا كان النهي عن اتخاذ المساجد عند القبور يتناول قبور الأنبياء بالنص، علم أن العلة ما ذكره هؤلاء العلماء الذين قد نقلت أقوالهم، والحمد لله على ظهور الحجة وبيان المحجة. والحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
المسائل المستنبطة من هذا الباب
فيه مسائل:
الأولى: ما ذكر الرسول فيمن بنى مسجدا يعبد الله فيه عند قبر رجل صالح، ولو صحت نية الفاعل.
الثانية: النهي عن التماثيل، وغلظ الأمر في ذلك.
الثالثة: العبرة في مبالغته في ذلك. كيف بين لهم هذا أولا، ثم قبل موته بخمس قال ما قال، ثم لما كان في السياق لم يكتف بما تقدم.
الرابعة: نهيه عن فعله عند قبره قبل أن يوجد القبر.
الخامسة: أنه من سنن اليهود والنصارى في قبور أنبيائهم.
السادسة: لعنه إياهم على ذلك.
السابعة: أن مراده تحذيره إيانا عن قبره.
الثامنة: العلة في عدم إبراز قبره.
التاسعة: في معنى اتخاذها مسجدا.
العاشرة: أنه قرن بين من اتخذها وبين من تقوم عليهم الساعة، فذكر الذريعة إلى الشرك قبل وقوعه مع خاتمته.
الحادية عشرة: ذكره في خطبته قبل موته بخمس: الرد على الطائفتين اللتين هما شر أهل البدع، بل أخرجهم بعض أهل العلم من الثنتين والسبعين فرقة، وهم الرافضة والجهمية. وبسبب الرافضة حدث الشرك وعبادة القبور، وهم أول من بنى عليها المساجد.
الثانية عشرة: ما بلي به من شدة النزع.
الثالثة عشرة: ما أكرم به من الخلة.
الرابعة عشرة: التصريح بأنها أعلى من المحبة.
الخامسة عشرة: التصريح بأن الصديق أفضل الصحابة.
السادسة عشرة: الإشارة إلى خلافته.
باب ما جاء أن الغلو في قبور الصالحين يصيرها أوثانا تعبد من دون الله
روى مالك في الموطأ: أن رسول الله قال: { اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد } ( ).
ولابن جرير بسنده عن سفيان عن منصور عن مجاهد: " (أفرأيتم اللات والعزى) قال: كان يلت لهم السويق فمات، فعكفوا على قبره ".
وكذلك قال أبو الجوزاء عن ابن عباس: " كان يلت السويق للحاج ".
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: { لعن رسول الله زائرات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج } ( ). رواه أهل السنن.
قوله: باب: " ما جاء أن الغلو في قبور الصالحين يصيرها أوثانا تعبد من دون الله "
روى مالك في الموطأ: أن رسول الله قال: { اللهم لا تجعل قبرى وثنا يعبد؛ اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد } ( ).
هذا الحديث رواه مالك مرسلا عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار: " أن رسول الله قال - الحديث ". ورواه ابن أبي شيبة في مصنفه عن ابن عجلان عن زيد بن أسلم به، ولم يذكر عطاء، ورواه البزار عن زيد عن عطاء عن أبي سعيد الخدري مرفوعا.
وله شاهد عند الإمام أحمد بسنده عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة رفعه: { اللهم لا تجعل قبري وثنا، لعن الله قوما اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد } ( ).
قوله: " روى مالك في الموطأ " هو الإمام مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر بن عمرو الأصبحي، أبو عبد الله المدني إمام دار الهجرة وأحد الأئمة الأربعة، وأحد المتقنين للحديث، حتى قال البخاري: أصح الأسانيد مالك عن نافع عن ابن عمر، مات سنة تسع وسبعين ومائة. وكان مولده سنة ثلاث وتسعين. وقيل أربع وتسعين. وقال الواقدي: بلغ تسعين سنة.
قوله: { اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد } ( ) قد استجاب الله دعاءه كما قال ابن القيم -رحمه الله تعالى-:
وأحـاطـه بثـلاثـة الجـدران
في عـزة وحمـايـة وصيـان
فأجـاب رب العالـمين دعـاءه
حـتى غـدت أرجـاؤه بدعـائه
ودل الحديث على أن قبر النبي لو عبد لكان وثنا، لكن حماه الله تعالى بما حال بينه وبين الناس فلا يوصل إليه. ودل الحديث على أن الوثن هو ما يباشره العابد من القبور والتوابيت التي عليها. وقد عظمت الفتنة بالقبور بتعظيمها وعبادتها، كما قال عبد الله بن مسعود " كيف أنتم إذا لبستكم فتنة يهرم فيها الكبير، وينشأ فيها الصغير. تجري على الناس يتخذونها سنة، إذا غيرت قيل: غيرت السنة " انتهى.
ولخوف الفتنة نهى عمر عن تتبع آثار النبي .
قال ابن وضاح: سمعت عيسى بن يونس يقول: " أمر عمر بن الخطاب بقطع الشجرة التي بويع تحتها النبي " فقطعها؛ لأن الناس كانوا يذهبون فيصلون تحتها، فخاف عليهم الفتنة.
وقال المعرور بن سويد: " صليت مع عمر بن الخطاب بطريق مكة صلاة الصبح. ثم رأى الناس يذهبون مذاهب، فقال: أين يذهب هؤلاء؟ فقيل: يا أمير المؤمنين، مسجد صلى فيه النبي فهم يصلون فيه، فقال: إنما هلك من كان قبلكم بمثل هذا؛ كانوا يتتبعون آثار أنبيائهم ويتخذونها كنائس وبيعا، فمن أدركته الصلاة في هذه المساجد، فليصل، ومن لا فليمض ولا يتعمدها ".
وفي مغازي ابن إسحاق من زيادات يونس بن بكير عن أبي خلدة خالد بن دينار. حدثنا أبو العالية قال: " لما فتحنا تستر وجدنا في بيت مال الهرمزان سريرا عليه رجل ميت، عند رأسه مصحف. فأخذنا المصحف فحملناه إلى عمر، فدعا له كعبا فنسخه بالعربية، فأنا أول رجل قرأه من العرب، قرأته مثل ما أقرأ القرآن. فقلت لأبي العالية: ما كان فيه؟. قال: سيرتكم وأموركم ولحون كلامكم وما هو كائن بعد. قلت: فماذا صنعتم بالرجل؟ قال: حفرنا له بالنهار ثلاثة عشر قبرا متفرقة. لما كان الليل دفناه وسوينا القبور كلها لنعميه على الناس لا ينبشونه. قلت: وما يرجون منه؟ قال: كانت السماء إذا حبست عنهم برزوا بسريره فيمطرون. فقلت: من كنتم تظنون الرجل؟ قال: رجل يقال له: دانيال. فقلت: منذ كم وجدتموه مات؟ قال: منذ ثلاثمائة سنة؛ قلت: ما كان تغير منه شيء؟ قال: لا، إلا شعيرات من قفاه، إن لحوم الأنبياء لا تبليها الأرض.
قال ابن القيم -رحمه الله-: ففي هذه القصة ما فعله المهاجرون والأنصار -رضي الله عنهم- من تعمية قبره لئلا يفتتن به، ولم يبرزوه للدعاء عنده والتبرك به ولو ظفر به المتأخرون لجالدوا عليه بالسيف، ولعبدوه من دون الله.
قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: وهو إنكار منهم لذلك، فمن قصد بقعة يرجو الخير بقصدها - ولم يستحب الشارع قصدها - فهو من المنكرات، وبعضه أشد من بعض، سواء قصدها ليصلي عندها أو ليدعو عندها، أو ليقرأ عندها، أو ليذكر الله عندها، أو لينسك عندها، بحيث يخص تلك البقعة بنوع من العبادة التي لم يشرع تخصيصها به، لا نوعا ولا عينا، إلا أن ذلك قد يجوز بحكم الاتفاق لا لقصد الدعاء فيها، كمن يزورها ويسلم عليها، ويسأل الله العافية له وللموتى، كما جاءت به السنة. وأما تحري الدعاء عندها بحيث يستشعر أن الدعاء هناك أجوب منه في غيره، فهذا هو المنهي عنه. انتهى ملخصا.
قوله: { اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد } ( ) فيه تحريم البناء على القبور، وتحريم الصلاة عندها، وأن ذلك من الكبائر. وفي القرى للطبري عن أصحاب مالك عـن مالك أنه كره أن يقول: زرت قبر النبي وعلل ذلك بقوله { اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد } ( )... الحديث: كره إضافة هذا اللفظ إلى القبر؛ لئلا يقع التشبه بفعل أولئك، سدا للذريعة.
قال شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى-: ومالك قد أدرك التابعين، وهم أعلم الناس بهذه المسألة، فدل ذلك على أنه لم يكن معروفا عندهم ألفاظ زيارة قبر النبي - إلى أن قال - وقد ذكروا أسباب كراهته لأن يقول: " زرت قبر النبي لأن هذا اللفظ قد صار كثير من الناس يريد به الزيارة البدعية، وهو قصد الميت لسؤاله ودعائه، والرغبة إليه في قضاء الحوائج، ونحو ذلك مما يفعله كثير من الناس، فهم يعنون بلفظ الزيارة مثل هذا، وهذا ليس بمشروع باتفاق الأئمة. وكره مالك أن يتكلم بلفظ مجمل يدل على معنى فاسد، بخلاف الصلاة والسلام عليه، فإن ذلك مما أمر الله به. أما لفظ الزيارة في عموم القبور فلا يفهم منها مثل هذا المعنى. ألا ترى إلى قوله: { فزوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة } ( ) مع زيارته لقبر أمه. فإن هذا يتناول القبور العامة. فلا يفهم من ذلك زيارة الميت لدعائه وسؤاله والاستغاثة به، ونحو ذلك مما يفعله أهل الشرك والبدع، بخلاف ما إذا كان المزور معظما في الدين كالأنبياء والصالحين، فإنه كثيرا ما يعني بزيارة قبورهم هذه الزيارة البدعية الشركية، فلهذا كره مالك ذلك في هذا، وإن لم يكره ذلك في موضع آخر ليس فيه هذه المفسدة. اهـ.
وفيه: أن النبي لم يستعذ إلا مما يخاف وقوعه. ذكره المصنف -رحمه الله تعالى-.
وقوله: " ولابن جرير بسنده عن سفيان عن منصور عن مجاهد { • } ( ) قال: كان يلُت لهم السويق، فمات فعكفوا على قبره، وكذا قال أبو الجوزاء عن ابن عباس قال: " كان يلت السويق للحاج ". قوله: " ولابن جرير " هو الإمام الحافظ محمد بن جرير بن يزيد الطبري، صاحب التفسير والتاريخ والأحكام وغيرها. قال ابن خزيمة: لا أعلم على وجه الأرض أعلم من محمد بن جرير وكان من المجتهدين لا يقلد أحدا. وله أصحاب يتفقهون على مذهبه ويأخذون بأقواله. ولد سنة أربع وعشرين ومائتين، ومات ليومين بقيا من شوال سنة عشر وثلاثمائة.
قوله: " عن سفيان " الظاهر: أنه سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري أبو عبد الله الكوفي ثقة حافظ فقيه إمام عابد كان مجتهدا، وله أتباع يتفقهون على مذهبه. مات سنة إحدى وستين ومائة، وله أربع وستون سنة.
قوله: " عن منصور " هو ابن المعتمر بن عبد الله السلمي ثقة ثبت فقيه، مات سنة اثنتين وثلاثين ومائة.
قوله: " عن مجاهد " هو ابن جبر - بالجيم والموحدة - أبو الحجاج المخزومي مولاهم المكي، ثقة إمام في التفسير، أخذ عن ابن عباس وغيره -رضي الله عنهم-. مات سنة أربع ومائة، قاله يحيى القطان، وقال ابن حبان: مات سنة - اثنتين - أو ثلاث - ومائة وهو ساجد، ولد سنة إحدى وعشرين في خلافة عمر .
قوله: " كان يلت السويق لهم فمات فعكفوا على قبره " في رواية " فيطعم من يمر من الناس. فلما مات عبدوه، وقالوا: هو اللات " رواه سعيد بن منصور.
ومناسبته للترجمة: أنهم غلوا فيه لصلاحه حتى عبدوه وصار قبره وثنا من أوثان المشركين.
قوله: " وكذا قال أبو الجوزاء هو أوس بن عبد الله الربعي، بفتح الراء والباء، مات سنة ثلاث وثمانين.
قال البخاري: حدثنا مسلم وهو ابن إبراهيم. حدثنا أبو الأشهب حدثنا أبو الجوزاء عن ابن عباس قال: " كان اللات رجلا يلت سويق الحجاج ".
قال ابن خزيمة: وكذا العزى، وكانت شجرة عليها بناء وأستار بنخلة، بين مكة والطائف، كانت قريش يعظمونها، كما قال أبو سفيان يوم أحد: " لنا العزى ولا عزى لكم ".
قوله: " وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: { لعن رسول الله زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج } ( ) رواه أهل السنن.
قلت: وفي الباب حديث أبي هريرة وحديث حسان بن ثابت. فأما حديث أبي هريرة فرواه أحمد والترمذي وصححه. وحديث حسان أخرجه ابن ماجه من رواية عبد الرحمن بن حسان بن ثابت عن أبيه قال: { لعن رسول الله زوارات القبور } ( ).
وحديث ابن عباس هذا في إسناده أبو صالح مولى أم هانئ، وقد ضعفه بعضهم ووثقه بعضهم. قال علي بن المديني، عن يحيى القطان: لم أر أحدا من أصحابنا ترك أبا صالح مولى أم هانئ. وما سمعت أحدا من الناس يقول فيه شيئا، ولم يتركه شعبة ولا زائدة ولا عبد الله بن عثمان. قال ابن معين: ليس به بأس ولهذا أخرجه ابن السكن في صحيحه. انتهى من الذهب الإبريز عن الحافظ المزي.
قال شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى-: وقد جاء عن النبي من طريقين: فعن أبي هريرة { أن رسول الله لعن زوارات القبور } ( ) وذكر حديث ابن عباس. ثم قال: ورجال هذا ليس رجال هذا. فلم يأخذه أحدهما عن الآخر. وليس في الإسنادين من يتهم بالكذب. ومثل هذا حجة بلا ريب. وهذا من أجود الحسن الذي شرطه الترمذي، فإنه جعل الحسن: ما تعددت طرقه ولم يكن فيه متهم، ولم يكن شاذا، أي مخالفا لما ثبت بنقل الثقات. وهذا الحديث تعددت طرقه وليس فيها متهم ولا خالفه أحد من الثقات، هذا لو كان عن صاحب واحد، فكيف إذا كان رواه عن صاحب وذاك عن آخر؟ فهذا كله يبين أن الحديث في الأصل معروف.
والذين رخصوا في الزيارة اعتمدوا على ما روي عن عائشة رضي الله عنها: أنها زارت قبر أخيها عبد الرحمن وقالت: " لو شهدتك ما زرتك " وهذا يدل على أن الزيارة ليست مستحبة للنساء كما تستحب للرجال. إذ لو كان كذلك لاستحبت زيارته سواء شهدته أم لا.
قلت: فعلى هذا لا حجة فيه لمن قال بالرخصة.
وهذا السياق لحديث عائشة رواه الترمذي من رواية عبد الله بن أبي مليكة عنها، وهو يخالف سياق الأثرم له عن عبد الله بن أبي مليكة أيضا { أن عائشة -رضي الله عنها- أقبلت ذات يوم من المقابر. فقلت لها: يا أم المؤمنين، أليس نهى رسول الله عن زيارة القبور؟ قالت: نعم، نهى عن زيارة القبور، ثم أمر بزيارتها }.
فأجاب شيخ الإسلام -رحمه الله- عن هذا وقال: ولا حجة في حديث عائشة؛ فإن المحتج عليها احتج بالنهي العام، فدفعت ذلك بأن النهي منسوخ، ولم يذكر لها المحتج النهي الخاص بالنساء الذي فيه لعنهن على الزيارة. يبين ذلك قولها " قد أمر بزيارتها " فهذا يبين أنه أمر بها أمرا يقتضي الاستحباب، والاستحباب إنما هو ثابت للرجال خاصة. ولو كانت تعتقد أن النساء مأمورات بزيارة القبور لكانت تفعل ذلك كما يفعله الرجال ولم تقل لأخيها " لما زرتك " واللعن صريح في التحريم، والخطاب بالإذن في قوله " فزوروها " لم يتناول النساء فلا يدخلن في الحكم الناسخ، والعام إذا عرف أنه بعد الخاص لم يكن ناسخا له عند جمهور العلماء، وهو مذهب الشافعي وأحمد في أشهر الروايتين عنه، وهو المعروف عند أصحابه، فكيف إذا لم يعلم أن هذا العام بعد الخاص؟ إذ قد يكون قوله: { لعن الله زوارات القبور } ( ) بعد إذنه للرجال في الزيارة. يدل على ذلك: أنه قرنه بالمتخذين عليها المساجد والسرج. ومعلوم أن اتخاذ المساجد والسرج النهي عنها محكم، كما دلت عليه الأحاديث الصحيحة وكذلك الآخر.
والصحيح: أن النساء لم يدخلن في الإذن في زيارة القبور لعدة أوجه:
أحدها: أن قوله " فزوروها " صيغة تذكير. وإنما يتناول النساء أيضا على سبيل التغليب. لكن هذا فيه قولان، قيل: إنه يحتاج إلى دليل منفصل، وحينئذ فيحتاج تناول ذلك للنساء إلى دليل منفصل، وقيل: إنه يحمل على ذلك عند الإطلاق. وعلى هذا فيكون دخول النساء بطريق العموم الضعيف، والعام لا يعارض الأدلة الخاصة ولا ينسخها عند جمهور العلماء، ولو كان النساء داخلات في هذا الخطاب لاستحب لهن زيارة القبور. وما علمنا أحدا من الأئمة استحب لهن زيارة القبور، ولا كان النساء على عهد النبي وخلفائه الراشدين يخرجن إلى زيارة القبور.
ومنها: أن النبي علل الإذن للرجال بأن ذلك " يذكر الموت، ويرقق القلب، وتدمع العين " هكذا في مسند أحمد. ومعلوم أن المرأة إذا فتح لها هذا الباب أخرجها إلى الجزع والندب والنياحة؛ لما فيها من الضعف وقلة الصبر. وإذا كانت زيارة النساء مظنة وسببا للأمور المحرمة، فإنه لا يمكن أن يحد المقدار الذي لا يفضي إلى ذلك، ولا التمييز بين نوع ونوع، ومن أصول الشريعة: أن الحكمة إذا كانت خفية أو منتشرة علق الحكم بمظنتها. فيحرم هذا الباب سدا للذريعة، كما حرم النظر إلى الزينة الباطنة، وكما حرم الخلوة بالأجنبية وغير ذلك، وليس في ذلك من المصلحة ما يعارض هذه المفسدة، فإنه ليس في ذلك إلا دعاؤها للميت، وذلك ممكن في بيتها.
ومن العلماء من يقول: التشييع كذلك، ويحتج بقوله { ارجعن مأزورات غير مأجورات، فإنكن تفتن الحي وتؤذين الميت } ( )، وقوله لفاطمة: { أما إنك لو بلغت معهم الكدى لم تدخلي الجنة } ( ) ويؤيده ما ثبت في الصحيحين من { أنه نهى النساء عن اتباع الجنائز } ومعلوم أن قوله { من صلى على جنازة فله قيراط ومن تبعها حتى تدفن فله قيراطان } ( ) هو أدل على العموم من صيغة التذكير، فإن لفظ " من " يتناول الرجال والنساء باتفاق الناس، وقد علم بالأحاديث الصحيحة أن هذا العموم لم يتناول النساء لنهي النبي لهن عن اتباع الجنائز، فإذا لم يدخلن في هذا العموم. فكذلك في ذلك بطريق الأولى. انتهى ملخصا.
قلت: ويكون الإذن في زيارة القبور مخصوصا للرجال، خص بقوله: { لعن الله زوارات القبور } ( ) - الحديث" فيكون من العام المخصوص.
وعما استدل به القائلون بالنسخ أجوبة أيضا.
منها: ما ذكروه عن عائشة وفاطمة -رضي الله عنهما- معارض بما ورد عنهما في هذا الباب فلا يثبت به نسخ.
ومنها: أن قول الصحابي وفعله ليس حجة على الحديث بلا نزاع، وأما تعليمه عائشة كيف تقول: إذا زارت القبور ونحو ذلك، فلا يدل على نسخ ما دلت عليه الأحاديث الثلاثة من لعن زائرات القبور، لاحتمال أن يكون ذلك قبل هذا النهي الأكيد والوعيد الشديد والله أعلم.
قال محمد بن اسماعيل الصنعاني -رحمه الله- في كتابه تطهير الاعتقاد: فإن هذه القباب والمشاهد التي صارت أعظم ذريعة إلى الشرك والإلحاد، وأكبر وسيلة إلى هدم الإسلام وخراب بنيانه: غالب - بل كل - من يعمرها هم الملوك والسلاطين والرؤساء والولاة، إما على قريب لهم أو على من يحسنون الظن فيه من فاضل أو عالم أو صوفي أو فقير أو شيخ كبير، ويزوره الناس الذين يعرفونه زيارة الأموات من دون توسل به ولا هتف باسمه، بل يدعون له ويستغفرون، حتى ينقرض من يعرفه أو أكثرهم، فيأتي من بعدهم فيجد قبرا قد شيد عليه البناء، وسرجت عليه الشموع، وفرش بالفراش الفاخر، وأرخيت عليه الستور، وألقيت عليه الورود والزهور، فيعتقد أن ذلك لنفع أو دفع ضر، وتأتيه السدنة يكذبون على الميت بأنه فعل وفعل، وأنزل بفلان الضر وبفلان النفع. حتى يغرسوا في جبلته كل باطل، والأمر ما ثبت في الأحاديث النبوية من لعن من أسرج على القبور وكتب عليها وبنى عليها. وأحاديث ذلك واسعة معروفة فإن ذلك في نفسه منهي عنه. ثم هو ذريعة إلى مفسدة عظيمة. انتهى.
ومنه تعلم مطابقة الحديث للترجمة. والله أعلم.
قوله: { والمتخذين عليها المساجد } ( ) تقدم شرحه في الباب قبله.
قوله: " والسرج " قال أبو محمد المقدسي: لو أبيح اتخاذ السرج عليها لم يلعن من فعله، لأن فيه تضييعا للمال في غير فائدة، وإفراطا في تعظيم القبور أشبه بتعظيم الأصنام.
قوله: "رواه أهل السنن" يعني أبا داود والترمذي وابن ماجه فقط ولم يروه النسائي.
المسائل المستنبطة من هذا الباب
فيه مسائل:
الأولى: تفسير الأوثان.
الثانية: تفسير العبادة.
الثالثة: أنه لم يستعذ إلا مما يخاف وقوعه.
الرابعة: قرنه بهذا اتخاذ قبور الأنبياء مساجد.
الخامسة: ذكر شدة الغضب من الله.
السادسة: وهي من أهمها: صفة معرفة عبادة اللات التي هي أكبر الأوثان.
السابعة: معرفة أنه قبر رجل صالح.
الثامنة: أنه اسم صاحب القبر، وذكر معنى التسمية.
التاسعة: لعنة زوارات القبور.
العاشرة: لعنة من أسرجها.
باب ما جاء في حماية المصطفى جناب التوحيد وسده كل طريق يوصل إلى الشرك
وقول الله تعالى: { } ( ) (التوبة - 128، 129).
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله { لا تجعلوا بيوتكم قبورا، ولا تجعلوا قبري عيدا، وصلوا علي، فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم } ( ) رواه أبو داود بإسناد حسن، ورواته ثقات.
وعن علي بن الحسين: { أنه رأى رجلا يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي فيدخل فيها فيدعو، فنهاه، وقال: ألا أحدثكم حديثا سمعته من أبي عن جدي عن رسول الله قال: لا تتخذوا قبري عيدا، ولا بيوتكم قبورا، وصلوا علي فإن تسليمكم يبلغني أين كنتم } رواه في المختارة.
قوله: باب " ما جاء في حماية المصطفى جناب التوحيد وسده كل طريق يوصل إلى الشرك "
الجناب: هو الجانب. والمراد حمايته عما يقرب منه أو يخالطه من الشرك وأسبابه.
قوله: " وقول الله تعالى: { } ( ).
قال ابن كثير -رحمه الله-: يقول الله تعالى ممتنا على المؤمنين بما أرسل إليهم رسولا من أنفسهم أي من جنسهم وعلى لغتهم كما قال إبراهيم -عليه السلام-: { } ( ) ... (البقرة - 129) وقال تعالى: { } ( )... (آل عمران - 164) وقال تعالـى: { } ( ) أي منكم، كما قال جعفر بن أبي طالب للنجاشي، والمغيرة بن شعبة لرسول كسرى: " إن الله بعث فينا رسولا منا نعرف نسبه وصفته، ومدخله ومخرجه، وصدقه وأمانته " وذكر الحديث. قال سفيان بن عيينة عن جعفر بن محمد عن أبيه في قوله تعالى: { } ( ) قال: " لم يصبه شيء في ولادة الجاهلية ".
وقوله: { } ( ) أي يعز عليه الشيء الذي يعنت أمته ويشق عليها ولهذا جاء في الحديث المروي من طرق عنه أنه قال: { بعثت بالحنيفية السمحة } ( ) وفي الصحيح: { إن هذا الدين يسر } ( ) وشريعته كلها سمحة سهلة كاملة، يسيرة على من يسرها الله عليه.
قوله: { } ( ) أي على هدايتكم ووصول النفع الدنيوي والأخروي إليكم. وعن أبي ذر قال: " تركنا رسول الله وما طائر يقلب جناحيه في الهواء إلا وهو يذكر لنا منه علما " أخرجه الطبراني، قال: وقال رسول الله { ما بقي شيء يقرب من الجنة ويباعد من النار إلا وقد بينته لكم }.
وقوله: { } ( ) كما قال تعالى: { • } ( ) (الشعراء 215-217) وهكذا أمره تعالى في هذه الآية الكريمة وهي قوله: (فإن تولوا) أي عما جئتهم به من الشريعة المطهرة الكاملة الشاملة { } ( ).
قلت: فاقتضت هذه الأوصاف التي وصف بها رسول الله في حق أمته أن أنذرهم وحذرهم الشرك الذي هو أعظم الذنوب، وبين لهم ذرائعه الموصلة إليه، وأبلغ في نهيهم عنها ومن ذلك تعظيم القبور والغلو فيها، والصلاة عندها وإليها، ونحو ذلك مما يوصل إلى عبادتها، كما تقدم، وكما سيأتي في أحاديث الباب.
وقوله: " عن أبي هريرة قال: قال رسول الله " { لا تجعلوا بيوتكم قبورا ولا تجعلوا قبري عيدا، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم } ( ) رواه أبو داود بإسناد حسن. ورواته ثقات:
قوله: { لا تجعلوا بيوتكم قبورا } ( ) قال شيخ الإسلام: أي لا تعطلوها من الصلاة فيها والدعاء والقراءة، فتكون بمنزلة القبور، فأمر بتحري العبادة في البيوت، ونهى عن تحريها عند القبور، عكس ما يفعله المشركون من النصارى ومن تشبه بهم من هذه الأمة.
وفي الصحيحين عن ابن عمر مرفوعا: { اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم ولا تتخذوها قبورا } ( ) وفي صحيح مسلم عن ابن عمر مرفوعا: { لا تجعلوا بيوتكم مقابر؛ فإن الشيطان يفر من البيت الذي يسمع سورة البقرة تقرأ فيه } ( ).
قوله: { ولا تجعلوا قبري عيدا } ( ) قال شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى-: العيد اسم لما يعود من الاجتماع العام على وجه معتاد... عائدا، إما بعود السنة، أو بعود الأسبوع، أو الشهر ونحو ذلك.
وقال ابن القيم -رحمه الله تعالى-: العيد: ما يعتاد مجيئه وقصده من زمان ومكان، مأخوذ من العادة والاعتياد. فإذا كان اسما للمكان فهو المكان الذي يقصد فيه الاجتماع وانتيابه للعبادة وغيرها، كما أن المسجد الحرام ومنى ومزدلفة وعرفة والمشاعر جعلها الله عيدا للحنفاء ومثابة، كما جعل أيام العيد فيها عيدا. وكان للمشركين أعياد زمانية ومكانية. فلما جاء الله بالإسلام أبطلها وعوض الحنفاء منها عيد الفطر وعيد النحر، وأيام منى، كما عوضهم من أعياد المشركين المكانية بالكعبة ومنى ومزدلفة وعرفة والمشاعر.
قوله: { وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم } ( ).
قال شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى-: يشير بذلك إلى أن ما ينالني منكم من الصلاة والسلام يحصل مع قربكم من قبري وبعدكم، فلا حاجة لكم إلى اتخاذه عيدا.
قوله: { لا تجعلوا بيوتكم قبورا } ( ) تقدم في كلام شيخ الإسلام في معنى الحديث قبله. اهـ.
قوله: " وعن علي بن الحسين أنه رأى رجلا يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي فيدخل فيها فيدعو، فنهاه وقال: { ألا أحدثكم حديثا سمعته من أبي عن جدي عن رسول الله ؟ قال: لا تتخذوا قبري عيدا، ولا بيوتكم قبورا، وصلوا علي فإن تسليمكم يبلغني أين كنتم } ( ) " رواه في المختارة.
هذا الحديث والذي قبله جيدان حسنا الإسنادين.
أما الأول: فرواه أبو داود وغيره من حديث عبد الله بن نافع الصائغ قال: أخبرني ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن أبي هريرة فذكره، ورواته ثقات مشاهير، لكن عبد الله بن نافع قال فيه أبو حاتم: ليس بالحافظ، تعرف وتنكر. وقال ابن معين: هو ثقة، وقال أبو زرعة: لا بأس به. قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: ومثل هذا إذا كان لحديثه شواهد علم أنه محفوظ، وهذا له شواهد متعددة. وقال الحافظ محمد بن عبد الهادي: هو حديث حسن جيد الإسناد، وله شواهد يرتقى بها إلى درجة الصحة. وأما الحديث الثاني: فرواه أبو يعلى والقاضي إسماعيل والحافظ الضياء محمد بن عبد الواحد المقدسي في المختارة.
قال شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى-: فانظر هذه السنة كيف مخرجها من أهل المدينة وأهل البيت الذين لهم من رسول الله قرب النسب وقرب الدار؛ لأنهم إلى ذلك أحوج من غيرهم، فكانوا له أضبط. اهـ.
وقال سعيد بن منصور في سننه: حدثنا عبد العزيز بن محمد أخبرني سهيل بن أبي سهيل قال: " رآني الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب -رضي الله عنهم- عند القبر، فناداني، وهو في بيت فاطمة -رضي الله عنها- يتعشى، فقال: هلم إلى العشاء. فقلت: لا أريده. فقال: ما لي رأيتك عند القبر؟ فقلت: سلمت على النبي . فقال: إذا دخلت المسجد فسلم. ثم قال: إن رسول الله قال: { لا تتخذوا قبري عيدا، ولا تتخذوا بيوتكم مقابر، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم، لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد. ما أنتم ومن بالأندلس إلا سواء } ( ).
وقال سعيد أيضا: حدثنا حبان بن علي، حدثنا محمد بن عجلان عن أبي سعيد مولى المهري قال: قال رسول الله { لا تتخذوا قبري عيدا، ولا بيوتكم قبورا، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني } ( ).
قال شيخ الإسلام: فهذان المرسلان من هذين الوجهين المختلفين يدلان على ثبوت الحديث لا سيما وقد احتج به من أرسله. وذلك يقتضي ثبوته عنده، هذا لو لم يرو من وجوه مسندة من غير هذين، فكيف وقد تقدم مسندا؟
قوله: " علي بن الحسين " أي ابن علي بن أبي طالب، المعروف بزين العابدين أفضل التابعين من أهل بيته وأعلمهم. قال الزهري: ما رأيت قرشيا أفضل منه. مات سنة ثلاث وتسعين على الصحيح. وأبوه الحسين سبط رسول الله وريحانته، حفظ عن النبي واستشهد يوم عاشوراء سنة إحدى وستين وله ست وخمسون سنة .
قوله: " أنه رأى رجلا يجيء إلى فرجة " بضم الفاء وسكون الراء، وهي الكوة في الجدار والخوخة ونحوهما.
قوله: " فيدخل فيها فيدعو فنهاه " هذا يدل على النهي عن قصد القبور والمشاهد لأجل الدعاء والصلاة عندها.
قال شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى-: ما علمت أحدا رخص فيه، لأن ذلك نوع من اتخاذه عيدا، ويدل أيضا على أن قصد القبر للسلام إذا دخل المسجد ليصلي منهي عنه؛ لأن ذلك لم يشرع، وكره مالك لأهل المدينة كلما دخل الإنسان المسجد، أن يأتي قبر النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن السلف لم يكونوا يفعلون ذلك، قال: " ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها " وكان الصحابة والتابعون -رضي الله عنهم- يأتون إلى مسجد النبي فيصلون، فإذا قضوا الصلاة قعدوا أو خرجوا، ولم يكونوا يأتون القبر للسلام، لعلمهم أن الصلاة والسلام عليه في الصلاة أكمل وأفضل، وأما دخولهم عند قبره للصلاة والسلام عليه هناك، أو للصـلاة والدعاء فلم يشرعه لهم، بل نهاهم عنه في قوله { لا تتخذوا قبري عيدا وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني } ( ) فبين أن الصلاة تصل إليه من بعد وكذلك السلام، ولعن من اتخذ قبور الأنبياء مساجد. وكانت الحجرة في زمانهم يدخل إليها من الباب، إذ كانت عائشة -رضي الله عنها- فيها، وبعد ذلك إلى أن بني الحائط الآخر، وهم مع ذلك التمكن من الوصول إلى قبره لا يدخلون عليه، لا للسلام ولا للصلاة، ولا للدعاء لأنفسهم ولا لغيرهم، ولا لسؤال عن حديث أو علم، ولا كان الشيطان يطمع فيهم حتى يسمعهم كلاما أو سلاما فيظنون أنه هو كلمهم وأفتاهم، وبين لهم الأحاديث، أو أنه قد رد عليهم السلام، بصوت يسمع من خارج، كما طمع الشيطان في غيرهم فأضلهم عند قبره وقبر غيره، حتى ظنوا أن صاحب القبر يأمرهم وينهاهم ويفتيهم ويحدثهم في الظاهر، وأنه يخرج من القبر ويرونه خارجا من القبر، ويظنون أن نفس أبدان الموتى خرجت تكلمهم، وأن روح الميت تجسدت لهم فرأوها كما رآهم النبي ليلة المعراج.
والمقصود: أن الصحابة -رضي الله عنهم- لم يكونوا يعتادون الصلاة والسلام عليه عند قبره كما يفعله من بعدهم من الخلف، وإنما كان بعضهم يأتي من خارج فيسلم إذا قدم من سفر. كما كان ابن عمر يفعله. قال عبيد الله بن عمر عن نافع " كان ابن عمر إذا قدم من سفر أتى قبر النبي فقال: السلام عليك يا رسول الله. السلام عليك يا أبا بكر. السلام عليك يا أبتاه ثم ينصرف " قال عبيد الله " ما نعلم أحدا من أصحاب النبي فعل ذلك إلا ابن عمر " وهذا يدل على أنه لا يقف عند القبر للدعاء إذا سلم كما يفعله كثير.
قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: لأن ذلك لم ينقل عن أحد من الصحابة، فكان بدعة محضة. وفي المبسوط: قال مالك: لا أرى أن يقف عند قبر النبي ولكن يسلم ويمضي. ونص أحمد أنه يستقبل القبلة ويجعل الحجرة عن يساره لئلا يستدبره.
وبالجملة، فقد اتفق الأئمة على أنه إذا دعا لا يستقبل القبر، وتنازعوا هل يستقبله عند السلام عليه أم لا؟ وفي الحديث دليل على منع شد الرحال إلى قبره وإلى غيره من القبور والمشاهد؛ لأن ذلك من اتخاذها أعيادا. بل من أعظم أسباب الإشراك بأصحابها. وهذه هي المسألة التي أفتى بها شيخ الإسلام -رحمه الله- أعني من سافر لمجرد زيارة قبور الأنبياء والصالحين - ونقل فيها اختلاف العلماء، فمن مبيح لذلك. كالغزالي وأبي محمد المقدسي. ومن مانع لذلك، كابن بطة وابن عقيل، وأبي محمد الجويني، والقاضي عياض. وهو قول الجمهور، نص عليه مالك، ولم يخالفه أحد من الأئمة. وهو الصواب، لما في الصحيحين عن أبي سعيد عن النبي قال: { لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى } ( ) فدخل في النهي شدها لزيارة القبور والمشاهد، فإما أن يكون نهيا، وإما أن يكون نفيا. وجاء في رواية بصيغة النهي، فتعين أن يكون للنهي، ولهذا فهم منه الصحابة -رضي الله عنهم- المنع - كما في الموطأ والمسند والسنن - عن بصرة بن أبي بصرة الغفاري: أنه قال لأبي هريرة - وقد أقبل من الطور -: " لو أدركتك قبل أن تخرج إليه لما خرجت: { سمعت رسول الله يقول: " لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى } ( ) وروى الإمام أحمد وعمر بن شبة في أخبار المدينة بإسناد جيد عن قزعة قال: أتيت ابن عمر، فقلت: إني أريد الطور. فقال: إنما تشد الرحال إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجد المدينة، والمسجد الأقصى، فدع عنك الطور ولا تأته " فابن عمر وبصرة بن أبي بصرة جعلا الطور مما نهي عن شد الرحال إليه؛ لأن اللفظ الذي ذكر فيه النهي عن شدها إلى غير الثلاثة مما يقصد به القربة، فعلم أن المستثنى منه عام في المساجد وغيرها، وأن النهي ليس خاصا بالمساجد، ولهذا نهيا عن شدها إلى الطور مستدلين بهذا الحديث. والطور إنما يسافر من يسافر إليه لفضيلة البقعة: فإن الله سماه (الوادي المقدس، والبقعة المباركة) وكلم كليمه موسى -عليه السلام- هناك، وهذا هو الذي عليه الأئمة الأربعة وجمهور العلماء، ومن أراد بسط القول في ذلك والجواب عما يعارضه فعليه بما كتبه شيخ الإسلام مجيبا لابن الإخنائي فيما اعترض به على ما دلت عليه الأحاديث الصحيحة وأخذ به العلماء وهو قياس أولوي؛ لأن المفسدة في ذلك ظاهرة.
وأما النهي عن زيارة غير المساجد الثلاثة فغاية ما فيها: أنها لا مصلحة في ذلك توجب شد الرحال، ولا مزية تدعو إليه. وقد بسط القول في ذلك الحافظ محمد بن عبد الهادي في كتاب " الصارم المنكي في الرد على السبكي " وذكر فيه علل الأحاديث الواردة في زيارة قبر النبي وذكر هو وشيخ الإسلام -رحمهما الله تعالى-: أنه لا يصح منها حديث عن النبي ولا عن أحد من أصحابه، مع أنها لا تدل على محل النزاع؛ إذ ليس فيها إلا مطلق الزيارة، وذلك لا ينكره أحد بدون شد الرحال، فيحمل على الزيارة الشرعية التي ليس فيها شرك ولا بدعة.
قوله: " رواه في المختارة " المختارة: كتاب جمع فيه مؤلفه الأحاديث الجياد الزائدة على الصحيحين.
ومؤلفه: هو أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسي الحافظ ضياء الدين الحنبلي أحد الأعلام. قال الذهبي: أفنى عمره في هذا الشأن مع الدين المتين، والورع والفضيلة التامة والإتقان. فالله يرحمه ويرضى عنه.
وقال شيخ الإسلام: تصحيحه في مختاراته خير من تصحيح الحاكم بلا ريب. مات سنة ثلاث وأربعين وستمائة.
المسائل المستنبطة من هذا الباب
فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية براءة.
الثانية: إبعاده أمته عن هذا الحمى غاية البعد.
الثالثة: ذكر حرصه علينا ورأفته ورحمته.
الرابعة: نهيه عن زيارة قبره على وجه مخصوص، مع أن زيارته من أفضل الأعمال.
الخامسة: نهيه عن الإكثار من الزيارة.
السادسة: حثه على النافلة في البيت.
السابعة: أنه متقرر عندهم أنه لا يصلى في المقبرة.
الثامنة: تعليله ذلك بأن صلاة الرجل وسلامه عليه يبلغه وإن بعد، فلا حاجة إلى ما يتوهمه من أراد القرب.
التاسعة: كونه في البرزخ تعرض عليه أعمال أمته في الصلاة والسلام عليه.
باب ما جاء أن بعض هذه الأمة يعبد الأوثان
وقوله تعالى: { } ( ) (النساء - 51).
وقوله تعالى: { } ( )... (المائدة - 60).
وقوله تعالى: { • } ( ) (الكهف - 21).
عن أبي سعيد أن رسول الله قال: { لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه. قالوا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟ } ( ) أخرجاه.
ولمسلم عن ثوبان أن رسول الله قال: " { إن الله زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوى لي منها، وأعطيت الكنزين: الأحمر والأبيض. وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنة بعامة، وأن لا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم، وإن ربي قال: يا محمد إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد وإني أعطيتك لأمتك ألا أهلكهم بسنة عامة وألا أسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم، ولو اجتمع عليهم من بأقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضا ويسبي بعضهم بعضا } ( ) ورواه البرقاني في صحيحه. وزاد: { وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين، وإذا وقع عليهم السيف لم يرفع إلى يوم القيامة، ولا تقوم الساعة حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين، وحتى تعبد فئام من أمتي الأوثان، وإنه سيكون في أمتي كذابون ثلاثون، كلهم يزعم أنه نبي، وأنا خاتم النبيين، ولا نبي بعدي، ولا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله تبارك وتعالى } ( ).
قوله: باب " ما جاء أن بعض هذه الأمة يعبد الأوثان "
وقول الله تعالى: { } ( )....
" الوثن " يطلق على ما قصد بنوع من أنواع العبادة من دون الله من القبور والمشاهد وغيرها لقول الخليل -عليه السلام-: { } ( ).. (العنكبوت - 17) ومـع قـوله: { } ( ) (الشعراء - 71) وقوله { } ( ) (الصافات - 95) فبذلك يعلم أن الوثن يطلق على الأصنام وغيرها مما عبد من دون الله، كما تقدم في الحديث.
قوله: { } ( ) روى ابن أبي حاتم عن عكرمة قال: " جاء حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف إلى أهل مكة فقالوا لهم: أنتم أهل الكتاب وأهل العلم، فأخبرونا عنا وعن محمد. فقالوا: ما أنتم وما محمد؟ فقالوا: نحن نصل الأرحام، وننحر الكوماء، ونسقي الماء على اللبن، ونفك العناة، ونسقي الحجيج، ومحمد صنبور، قطع أرحامنا، واتبعه سراق الحجيج من غفار. فنحن خير أم هو؟ فقالوا: أنتم خير وأهدى سبيلا، فأنزل الله تعالى: { } ( ) وفي مسند أحمد عن ابن عباس نحوه.
قال عمر بن الخطاب " الجبت السحر، والطاغوت الشيطان " وكذلك قول ابن عباس وأبو العالية ومجاهد والحسن وغيرهم. وعن ابن عباس وعكرمة وأبي مالك " الجبت الشيطان - زاد ابن عباس: بالحبشية " وعن ابن عباس أيضا: " الجبت الشرك " وعنه " الجبت الأصنام " وعنه " الجبت: حيي بن أخطب " وعن الشعبي " الجبت الكاهن " وعن مجاهد: " الجبت كعب بن الأشرف " قال الجوهري " الجبت: كلمة تقع على الصنم والكاهن والساحر " ونحو ذلك.
قال المصنف -رحمه الله تعالى-: " وفيه: معرفة الإيمان بالجبت والطاغوت في هذا الموضع هل هو اعتقاد قلب، أو هو موافقة أصحابها، مع بغضها ومعرفة بطلانها؟.
قوله: وقوله تعالى: { } ( ) (المائدة - 60)
يقول تعالى لنبيه محمد قل يا محمد هل أخبركم بشر جزاء عند الله يوم القيامة مما تظنونه بنا؟ وهم أنتم أيها المتصفون بهذه الصفات المفسرة بقوله (من لعنه الله) أي أبعده من رحمته (وغضب عليه) أي غضبا لا يرضى بعده أبدا (وجعل منهم القردة والخنازير) وقد قال النووي عن علقمة بن مرثد عن المغيرة بن عبد الله اليشكري عن المعرور بن سويد: أن ابن مسعود قال { سئل رسول الله عن القردة والخنازير، أهي مما مسخ الله؟ فقال: إن الله لم يهلك قوما - أو قال لم يمسخ قوما - فجعل لهم نسلا ولا عقبا، وإنما القردة والخنازير كانت قبل ذلك } ( ) رواه مسلم.
قال البغوي في تفسيره: (قل) يا محمد (هل أنبئكم) أخبركم (بشر من ذلك) الذي ذكرتم، يعني قولهم: لم نر أهل دين أقل حظا في الدنيا والآخرة منكم، ولا دينا شرا من دينكم، فذكر الجواب بلفظ الابتداء وإن لم يكن الابتداء شرا؛ لقوله تعالى: { • } ( ).... (الحج - 72).
وقوله: (مثوبة) ثوابا وجزاء، نصب على التفسير (عند الله من لعنه الله) أي هو من لعنه الله (وغضب عليه) يعني اليهود (وجعل منهم القردة والخنازير) فالقردة أصحاب السبت، والخنازير كفار مائدة عيسى. وعن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس " أن المسخين كلاهما من أصحاب السبت، فشبابهم مسخوا قردة، وشيوخهم مسخوا خنازير ".
(وعبد الطاغوت) أي جعل منهم من عبد الطاغوت، أي أطاع الشيطان فيما سول له، وقرأ ابن مسعود (عبدوا الطاغوت) وقرأ حمزة: "وعبد" بضم الباء، و " الطاغوت " بجر التاء أراد العبد، وهما لغتان: عبد بسكون الباء، وعبد بضمها، مثل سبع وسبع وقرأ الحسن " وعبد الطاغوت " على الواحد.
وفي تفسير الطبري: قرأ حمزة وحده (وعبد الطاغوت) بضم الياء وجر التاء والباقون " وعبد الطاغوت " بنصب الباء وفتح التاء. وقرأ ابن عباس وابن مسعود وإبراهيم النخعي والأعمش وأبان بن تغلب (وعبد الطاغوت) بضم العين والباء وفتح الدال وخفض التاء، قال: وحجة حمزة في قراءته (وعبُد الطاغوت) أنه يحمله على ما عمل فيه "وجعل" منهم عبد الطاغوت ومعنى (جعل): خلق. كقوله: { } ( ) وليس " عبد " لفظ جمع؛ لأنه ليس من أبنية الجموع شيء على هذا البناء، ولكنه واحد يراد به الكثرة، ألا ترى أن في الأسماء المفردة المضافة إلى المعارف ما لفظه لفظ الإفراد ومعناه الجمع، كما في قوله تعالى: { } ( ).... ولأن بناء فعل يراد به المبالغة والكثرة نحو يقظ ودنس، وكأن تقديره: أنه ذهب في عبادة الطاغوت كل مذهب.
وأما من فتح فقال: (وعبد الطاغوت) فإنه عطفه على بناء المضي الذي في الصلة، وهو قوله: (لعنه الله) وأفرد الضمير في " عبد " وإن كان المعنى فيه الكثرة؛ لأن الكلام محمول على لفظه دون معناه، وفاعله ضمير " من " فأفرد لحمل ذلك جميعا على اللفظ.
وأما قوله: (عبد الطاغوت) فهو جمع عبد.
وقال أحمد بن يحيى: عبد جمع عابد؛ كبازل وبزل، وشارف وشرف، وكذلك عبد جمع عابد ومثله عباد وعباد.
وقال شيخ الإسلام في قوله: (وعبد الطاغوت) الصواب: أنه معطوف على ما قبله من الأفعال، أي من لعنه وغضب عليه، ومن جعل منهم القردة والخنازير ومن عبد الطاغوت [ولا عبرة باختلاف الفاعل في هذه الأفعال بل العبرة بما وقعت عليه (من) الموصولة بحسب الضمير العائد عليها وهو المفعول به في اللعن والغضب أي من لعنوا وغضب عليهم وهو المجرور بمن في قوله أي من جعل منهم القردة والخنازير وهو الفاعل في (عبد) أي من عبدوا الطاغوت وبذلك تكون هذه الأمور كلها] صفة لصنف واحد وهم اليهود.
قـوله: { • } ( ) ممـا تظنـون بـنا { } ( ) (المائدة - 60) وهذا من باب استعمال أفعل التفضيل فيما ليس في الطرف الآخر له مشارك كقوله تعالى: { • } ( ) (الفرقان - 24) قاله العماد ابن كثير في تفسيره، وهو ظاهر.
قـوله: " وقول الله تعالى: { • } ( )... (الكهف - 21) والمراد: أنهم فعلوا مع الفتية بعد موتهم ما يذم فاعله؛ لأن النبي قال: { لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد } ( ) أراد تحذير أمته أن يفعلوا كفعلهم.
قوله: " عن أبي سعيد أن رسول الله قال: { لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه قالوا: يا رسول الله ! اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟ } ( ) أخرجاه وهذا سياق مسلم.
قوله: " سنن " بفتح المهملة أي طريق من كان قبلكم. قال المهلب: الفتح أولى.
قوله: { حذو القذة بالقذة } ( ) بنصب " حذو " على المصدر. والقذة - بضم القاف - واحدة القذذ وهو ريش السهم. أي لتتبعن طريقهم في كل ما فعلوه، وتشبهونهم في ذلك كما تشبه قذة السهم القذة الأخرى. وبهذا تظهر مناسبة الآيات للترجمة. وقد وقع كما أخبر، وهو علم من أعلام النبوة.
قوله: { حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه } ( ) وفي حديث آخر " { حتى لو كان فيهم من يأتي أمه علانية لكان في أمتي من يفعل ذلك } ( ) أراد أن أمته لا تدع شيئا مما كان يفعله اليهود والنصارى إلا فعلته كله لا تترك منه شيئا ولهذا قال سفيان بن عيينة: من فسد من علمائنا ففيه شبه من اليهود، ومن فسد من عبادنا ففيه شبه من النصارى. اهـ.
قلت: فما أكثر الفريقين، لكن من رحمة الله تعالى ونعمته أن جعل هذه الأمة لا تجتمع على ضلالة كما في حديث ثوبان الآتي قريبا.
قوله: { قالوا يا رسول الله: اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟ } ( ) هو برفع " اليهود خبر مبتدأ محذوف، أي أهم اليهود والنصارى الذين نتبع سننهم؟ ويجوز النصب بفعل محذوف تقديره: تعني.
قوله: (قال: فمن؟) استفهام إنكاري: أي فمن هم غير أولئك؟
قوله: " ولمسلم عن ثوبان أن رسول الله قال: { إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها. وأعطيت الكنزين: الأحمر، والأبيض. وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنة بعامة، وأن لا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم، فيستبيح بيضتهم، وإن ربي قال: يا محمد، إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد، وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكها بسنة بعامة. وأن لا أسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم، ولو اجتمع عليهم من بأقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضا، ويسبي بعضهم بعضا } ( ) ورواه البرقاني في صحيحه وزاد { وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين. وإذا وقع عليهم السيف لم يرفع إلى يوم القيامة ولا تقوم الساعة حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين، وحتى تعبد فئام من أمتي الأوثان. وإنه سيكون في أمتي كذابون ثلاثون، كلهم يزعم أنه نبي، وأنا خاتم النبيين، لا نبي بعدي، ولا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله تبارك وتعالى } ( ).
هذا الحديث رواه أبو داود في سننه وابن ماجه بالزيادة التي ذكرها المصنف.
قوله: " عن ثوبان " هو مولى النبي صحبه، ولازمه ونزل بعده الشام ومات بحمص سنة أربع وخمسين.
قوله: { زوى لي الأرض } ( ) قال التوربشتي: زويت الشيء جمعته وقبضته، يريد تقريب البعيد منها حتى اطلع عليه اطلاعه على القريب. وحاصله: أنه طوى له الأرض وجعلها مجموعة كهيئة كف في مرآة ينظره. قال الطيبي: أي جمعها لي حتى أبصرت ما تملكه أمتي من أقصى المشارق والمغارب منها.
قوله: { وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها } ( ) قال القرطبي: هذا الخبر وجد مخبره كما قال. وكان ذلك من دلائل نبوته؛ وذلك أن ملك أمته اتسع إلى أن بلغ أقصى طنجة - بالنون والجيم - الذي هو منتهى عمارة المغرب، إلى أقصى المشرق مما هو وراء خراسان والنهر، وكثير من بلاد السند والهند والصغد، ولم يتسع ذلك الاتساع من جهة الجنوب والشمال. ولذلك لم يذكر -عليه السلام- أنه أريه ولا أخبر أن ملك أمته يبلغه.
قوله: { ما زوى لي منها } ( ) يحتمل أن يكون مبنيا للفاعل، وأن يكون مبنيا للمفعول.
قوله: { وأعطيت الكنزين: الأحمر والأبيض } ( ) قال القرطبي: يعني به كنز كسرى، وهو ملك الفرس، وكنز قيصر وهو ملك الروم وقصورهما وبلادهما. وقد قال { والذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله } ( ) وعبر بالأحمر عن كنز قيصر؛ لأن الغالب عندهم كان الذهب، وبالأبيض عن كنز كسرى؛ لأن الغالب عندهم كان الجوهر والفضة. ووجد ذلك في خلافة عمر. فإنه سيق إليه تاج كسرى وحليته وما كان في بيوت أمواله، وجميع ما حوته مملكته على سعتها وعظمتها، وكذلك فعل الله بقيصر. " والأبيض والأحمر " منصوبان على البدل.
قوله: { وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنة بعامة } ( ) هكذا ثبت في أصل المصنف -رحمه الله- " بعامة " بالباء، وهي رواية صحيحة في صحيح مسلم وفي بعضها بحذفها. قال القرطبي: وكأنها زائدة لأن " عامة ": صفة السنة، والسنة: الجدب الذي يكون به الهلاك العام، ويسمى الجدب والقحط: سنة. ويجمع على سنين، كما قال تعالى: { } ( )... (الأعراف - 130) أي الجدب المتوالي.
قوله: { من سوى أنفسهم } ( ) أي من غيرهم من الكفار بل يهلك بعضهم بعضا، ويسبي بعضهم بعضا، كما هو مبسوط في التاريخ فيما قبل. وفي زماننا هذا، نسأل الله العفو والعافية.
قوله: { فيستبيح بيضتهم } ( ) قال الجوهري: بيضة كل شيء حوزته. وبيضة القوم ساحتهم، وعلى هذا فيكون معنى الحديث: إن الله تعالى لا يسلط العدو على كافة المسلمين حتى يستبيح جميع ما حازوه من البلاد والأرض، ولو اجتمع عليهم من بأقطار الأرض وهي جوانبها. وقيل: بيضتهم معظمهم وجماعتهم، وإن قلوا.
قوله: { وإن ربي قال: يا محمد، إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد } ( ) قال بعضهم: أي إذا حكمت حكما مبرما نافذا فإنه لا يرد بشيء، ولا يقدر أحد على رده، كما قال النبي { ولا راد لما قضيت }.
قوله: { حتى يكون بعضهم يهلك بعضا، ويسبي بعضهم بعضا } ( ) والظاهر أن " حتى " عاطفة، أو تكون لانتهاء الغاية، أي أن أمر الأمة إلى أن يكون بعضهم يهلك بعضا. وقد سلط بعضهم على بعض كما هو الواقع، وذلك لكثرة اختلافهم وتفرقهم.
قوله: " ورواه البرقاني في صحيحه " هو الحافظ الكبير أبو بكر أحمد بن محمد بن أحمد بن غالب الخوارزمي الشافعي. ولد سنة ست وثلاثين وثلاثمائة، ومات سنة خمس وعشرين وأربعمائة. قال الخطيب: كان ثبتا ورعا، لم نر في شيوخنا أثبت منه، عارفا بالفقه كثير التصانيف. صنف مسندا ضمنه ما اشتمل عليه الصحيحان، وجمع حديث الثوري وحديث شعبة وطائفة.
وهذا الحديث رواه أبو داود بتمامه بسنده إلى أبي قلابة عن أبي أسماء عن ثوبان قال: قال رسول الله { إن الله - أو قال: إن ربي - زوى لي الأرض فأريت مشارق الأرض ومغاربها، وإن ملك أمتي سيبلغ ما زوى لي منها، وأعطيت الكنزين: الأحمر والأبيض، وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنة عامة ولا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم، وإن ربي قال لي: يا محمد، إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد، ولا أهلكهم بسنة عامة، ولا أسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم. ولو اجتمع عليهم من بين أقطارها - أو قال: بأقطارها - حتى يكون بعضهم يهلك بعضا، وحتى يكون بعضهم يسبي بعضا. وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين. وإذا وضع السيف في أمتي لم يرفع عنها إلى يوم القيامة. ولا تقوم الساعة حتى يلحق قبائل من أمتي بالمشركين، وحتى تعبد قبائل من أمتي الأوثان، وإنه سيكون في أمتي كذابون ثلاثون كلهم يزعم أنه نبي، وأنا خاتم النبيين، لا نبي بعدي، ولا تزال طائفة من أمتي على الحق - قال ابن عيسى: ظاهرين ثم اتفقا - لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله تعالى } ( ) ".
وروى أبو داود أيضا عن عبد الله بن مسعود عن النبي أنه قال: { تدور رحى الإسلام لخمس وثلاثين، أو ست وثلاثين، أو سبع وثلاثين، فإن يهلكوا فسبيل من هلك، وإن يقم لهم دينهم يقم سبعين عاما. قال: قلت: أمما بقي أو مما مضى؟ قال: مما مضى } ( ).
وروى في سننه أيضا عن أبي هريرة قال: قال رسول الله { يتقارب الزمان وينقص العلم، وتظهر الفتن، ويلقى الشح، ويكثر الهرج، قيل: يا رسول الله أيه هو؟ قال: القتل القتل } ( ).
قوله: { وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين } ( ) أي الأمراء والعلماء والعباد فيحكمون فيهم بغير علم فيضلونهم، كما قال تعالى: { } ( ) (الأحزاب - 67) وكان بعض هؤلاء يقول لأصحابه: من كان له حاجة فليأت إلى قبري فإني أقضيها له، ولا خير في رجل يحجبه عن أصحابه ذراع من تراب، ونحو هذا. وهذا هو الضلال البعيد، يدعو أصحابه إلى أن يعبدوه من دون الله ويسألوه ما لا يقدر عليه من قضاء حاجاتهم، وتفريج كرباتهم، وقد قال تعالى: { } ( ) (الحج12، 13) وقال تعالى: { } ( ) (الفرقان - 3) وقال تعالى:... { } ( ) (العنكبوت - 17) وأمثال هذا في القرآن كثير يبين الله تعالى به الهدى من الضلال.
ومن هذا الضرب: من يدعي أنه يصل مع الله إلى حال تسقط فيها عنه التكاليف، ويدعي أن الأولياء يدعون ويستغاث بهم في حياتهم ومماتهم، وأنهم ينفعون ويضرون ويدبرون الأمور على سبيل الكرامة، وأنه يطلع على اللوح المحفوظ، ويعلم أسرار الناس وما في ضمائرهم، ويجوز بناء المساجد على قبور الأنبياء والصالحين، وإيقادها بالسرج، ونحو ذلك من الغلو والإفراط والعبادة لغير الله. فما أكثر هذا الهذيان والكفر والمحادة لله ولكتابه ولرسوله.
وقوله { وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين } ( ) أتى بإنما التي قد تأتي للحصر بيانا لشدة خوفه على أمته من أئمة الضلال، وما وقع في خلد النبي من ذلك إلا لما أطلعه الله عليه من غيبه أنه سيقع نظير ما في الحديث قبله من قوله: { لتتبعن سنن من كان قبلكم } ( ) - الحديث ".
وعن أبي الدرداء قال: قال رسول الله { إن أخوف ما أخاف على أمتي الأئمة المضلون } ( ) رواه أبو داود الطيالسي. وعن ثوبان أن رسول الله قال: { إنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين } ( ) رواه الدارمي.
وقد بين الله تعالى في كتابه صراطه المستقيم الذي هو سبيل المؤمنين. فكل من أحدث حدثا ليس فـي كتاب الله ولا في سنة رسوله فهو ملعون وحدثه مردود، كما قال { من أحدث حدثا، أو آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا } ( ) وقال: { من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد } ( ) وقال: { كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة } ( ) وهذه أحاديث صحيحة. ومدار أصول الدين وأحكامه على هذه الأحاديث ونحوها. وقد بين الله تعالى هـذا الأصل في مواضع مـن كتابه العزيـز، كما قـال تعالى: ({ • } ( ) (الأعراف - 3) وقـال تعـالى: { • } ( ) (الجاثية - 18) ونظائرها في القرآن كثير.
وعن زياد بن حدير قال: قال لي عمر " هل تعرف ما يهدم الإسلام؟ قلت: لا، قال: يهدمه زلة العالم، وجدال المنافق بالكتاب، وحكم الأئمة المضلين " رواه الدارمي.
وقال يزيد بن عمير: كان معاذ بن جبل لا يجلس مجلسا للذكر إلا ويقول: الله حكم قسط: هلك المرتابون - وفيه: فاحذروا زيغة الحكيم، فإن الشيطان قد يقول الضلالة على لسان الحكيم، وقد يقول المنافق كلمة الحق. قلت لمعاذ: وما يدريني -رحمك الله- أن الحكيم قد يقول كلمة الضلالة، والمنافق قد يقول كلمة الحق؟ فقال: اجتنب من كلام الحكيم المشتبهات التي يقال: ما هذه؟ ولا يثنيك ذلك عنه، فإنه لعله أن يراجع الحق، وتلق الحق إذا سمعته، فإن على الحق نورا " رواه أبو داود وغيره.
قوله: { وإذا وقع عليهم السيف لم يرفع إلى يوم القيامة } ( ) وكذلك وقع فإن السيف لما وقع بقتل عثمان لم يرفع، وكذلك يكون إلى يوم القيامة، ولكن قد يكثر تارة ويقل أخرى، ويكون في جهة ويرتفع عن أخرى.
قوله: { ولا تقوم الساعة حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين } ( ) " الحي " واحد الأحياء وهي القبائل: وفي رواية أبي داود { حتى يلحق قبائل من أمتي بالمشركين } ( ) والمعنى يكونون معهم ويرتدون برغبتهم عن أهل الإسلام، ويلحقون بأهل الشرك.
وقوله: { حتى تعبد فئام من أمتي الأوثان } ( ) " الفئام " بكسر الفاء مهموز: الجماعات الكثيرة، قاله أبو السعادات.
وفي رواية أبي داود { وحتى تعبد قبائل من أمتي الأوثان } ( ).
وهذا هو شاهد الترجمة، ففيه الرد على من قال بخلافه من عباد القبور الجاحدين لما يقع منهم من الشرك بالله بعبادتهم الأوثان، وذلك لجهلهم بحقيقة التوحيد وما يناقضه من الشرك والتنديد، فالتوحيد هو أعظم مطلوب، والشرك هو أعظم الذنوب.
وفي معنى هذا الحديث: ما في الصحيحين عن أبي هريرة مرفوعا: " { لا تقوم الساعة حتى تضطرب أليات نساء دوس على ذي الخلصة قال: وذو الخلصة طاغية دوس التي كانوا يعبدون في الجاهلية } ( ) وروى ابن حبان عن معمر قال: إن عليه الآن بيتا مبنيا مغلقا.
قال العلامة ابن القيم -رحمه الله- في قصة هدم اللات، لما أسلمت ثقيف: فيه أنه لا يجوز إبقاء مواضع الشرك والطواغيت بعد القدرة على هدمها وإبطالها يوما واحدا، وكذا حكم المشاهد التي بنيت على القبور، والتي اتخذت أوثانا تعبد من دون الله، والأحجار التي تقصد للتبرك والنذر لا يجوز إبقاء شيء منها على وجه الأرض مع القدرة على إزالتها، وكثير منها بمنزلة اللات والعزى ومناة، أو أعظم شركا عندها وبها. فاتبع هؤلاء سنن من كان قبلهم، وسلكوا سبيلهم حذو القذة بالقذة، وغلب الشرك على أكثر النفوس، لظهور الجهل وخفاء العلم، وصار المعروف منكرا والمنكر معروفا، والسنة بدعة والبدعة سنة، وطمست الأعلام، واشتدت غربة الإسلام، وقل العلماء، وغلب السفهاء، وتفاقم الأمر، واشتد البأس، وظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس، ولكن لا تزال طائفة من العصابة المحمدية بالحق قائمين، ولأهل الشرك والبدع مجاهدين، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين اهـ ملخصا.
قلت: فإذا كان هذا في القرن السابع وقبله، فما بعده أعظم فسادا كما هو الواقع.
وقوله: { وإنه سيكون في أمتي كذابون ثلاثون، كلهم يزعم أنه نبي } ( ) قال القرطبي: وقد جاء عددهم معينا في حديث حذيفة قال: قال رسول الله { يكون في أمتي كذابون دجالون سبع وعشرون، منهم أربع نسوة } ( ) أخرجه أبو نعيم. وقال: هذا حديث غريب. انتهى.
وحديث ثوبان أصح من هذا.
قال القاضي عياض: عد من تنبأ من زمن رسول الله إلى الآن ممن اشتهر بذلك وعرف واتبعه جماعة على ضلالة، فوجد هذا العدد فيهم، ومن طالع كتب الأخبار والتواريخ عرف صحة هذا.
وقال الحافظ: وقد ظهر مصداق ذلك في زمن رسول الله فخرج مسيلمة الكذاب باليمامة، والأسود العنسي باليمن، وفي خلافة أبي بكر: طليحة بن خويلد في بني أسد بن خزيمة، وسجاح في بني تميم، وقتل الأسود قبل أن يموت النبي وقتل مسيلمة في خلافة أبي بكر قتله وحشي قاتل حمزة يوم أحد، وشاركه في قتل مسيلمة يوم اليمامة رجل من الأنصار، وتاب طليحة ومات على الإسلام في زمن عمر . ونقل أن سجاح تابت أيضا. ثم خرج المختار بن أبي عبيد الثقفي وغلب على الكوفة في أول خلافة ابن الزبير. وأظهر محبة أهل البيت ودعا الناس إلى طلب قتلة الحسين، فتتبعهم فقتل كثيرا ممن باشر ذلك، وأعان عليه. فأحبه الناس، ثم ادعى النبوة وزعم أن جبريل -عليه السلام- يأتيه. ومنهم الحارث الكذاب، خرج في خلافة عبد الملك بن مروان فقتل. وخرج في خلافة بني العباس جماعة.
وليس المراد بالحديث من ادعى النبوة مطلقا. فإنهم لا يحصون كثرة لكون غالبهم تنشأ دعوته عن جنون أو سوداء. وإنما المراد من قامت له شوكة وبدا له شبهة كمن وصفنا. وقد أهلك الله تعالى من وقع له منهم ذلك وبقي منهم من يلحقه بأصحابه وآخرهم الدجال الأكبر.
قوله: { وأنا خاتم النبيين } ( ) قال الحسن: الخاتم: الذي ختم به يعني أنه آخر النبيين، كما قال تعالى: { • • } ( )... (الأحزاب - 40) وإنما ينزل عيسى ابن مريم في آخر الزمان حاكما بشريعة محمد مصليا إلى قبلته، فهو كأحد أمته، بل هو أفضل هذه الأمة. قال النبي { والذي نفسي بيده لينزلن فيكم ابن مريم حكما مقسطا. فليكسرن الصليب، وليقتلن الخنزير، وليضعن الجزية } ( ).
قوله: { ولا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم } ( ) قال يزيد بن هارون، وأحمد بن حنبل: " إن لم يكونوا أهل الحديث فلا أدري من هم؟ ".
قال ابن المبارك وعلي بن المديني، وأحمد بن سنان والبخاري وغيرهم " إنهم أهل الحديث " وعن ابن المديني، رواية " هم العرب " واستدل برواية من روى، هم أهل الغرب. وفسر الغرب بالدلو العظيمة؛ لأن العرب هم الذين يستقون بها.
قال النووي: يجوز أن تكون الطائفة جماعة متعددة من أنواع المؤمنين ما بين شجاع وبصير بالحرب، وفقيه ومحدث ومفسر، وقائم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وزاهد وعابد، ولا يلزم أن يكونوا مجتمعين في بلد واحد، بل يجوز اجتماعهم في قطر واحد، وافتراقهم في أقطار الأرض، ويجوز أن يجتمعوا في البلد الواحد وأن يكونوا في بعض دون بعض منه، ويجوز إخلاء الأرض من بعضهم أولا فأولا إلى أن لا يبقى إلا فرقة واحدة ببلد واحد، فإذا انقرضوا جاء أمر الله. اهـ ملخصا مع زيادة فيه. قاله الحافظ.
قال القرطبي: وفيه دليل على أن الإجماع حجة؛ لأن الأمة إذا اجتمعت فقد دخل فيهم الطائفة المنصورة.
قال المصنف -رحمه الله-: " وفيه: الآية العظيمة: أنهم مع قلتهم لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم. وفيه البشارة بأن الحق لا يزول بالكلية".
قلت: واحتج به الإمام أحمد على أن الاجتهاد لا ينقطع ما دامت هذه الطائفة موجودة.
قوله: { حتى يأتي أمر الله } ( ) الظاهر أن المراد به ما روي من قبض من بقي من المؤمنين بالريح الطيبة، ووقوع الآيات العظام، ثم لا يبقى إلا شرار الناس، كما روى الحاكم: أن عبد الله بن عمرو قال: { لا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق، هم شر أهل الجاهلية } ( )، فقال عقبة بن عامر لعبد الله: " اعلم ما تقول، وأما أنا فسمعت النبي يقول: { لا تزال عصابة من أمتي يقاتلون على أمر الله ظاهرين لا يضرهم من خالفهم حتى تأتيهم الساعة وهم على ذلك } ( ) قال عبد الله: { ويبعث الله ريحا ريحها المسك، ومسها مس الحرير فلا تترك أحدا في قلبه مثقال ذرة من إيمان إلا قبضته، ثم يبقى شرار الناس فعليهم تقوم الساعة } ( ) وفي صحيح مسلم: { لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض الله الله } ( ).
وعلى هذا: فالمراد بقوله في حديث عقبة وما أشبهه { حتى تأتيهم الساعة } ساعتهم. وهي وقت موتهم بهبوب الريح. ذكره الحافظ.
وقد اختلف في محل هذه الطائفة، فقال ابن بطال: إنها تكون في بيت المقدس، كما رواه الطبراني من حديث أبي أمامة قيل: { يا رسول الله، أين هم؟ قال: ببيت المقدس } ( ) وقال معاذ بن جبل " هم بالشام " وفي كلام الطبري ما يدل على أنه لا يجب أن تكون في الشام أو في بيت المقدس دائما، بل قد تكون في موضع آخر في بعض الأزمنة.
قلت: ويشهد له الواقع وحال أهل الشام وأهل بيت المقدس، فإنهم من أزمنة طويلة لا يعرف فيهم من قام بهذا الأمر بعد شيخ الإسلام ابن تيمية وأصحابه في القرن السابع وأول الثامن، فإنهم كانوا في زمانهم على الحق يدعون إليه، ويناظرون عليه، ويجاهدون فيه. وقد يجيء من أمثالهم بعد بالشام من يقوم مقامهم بالدعوة إلى الحق والتمسك بالسنة. والله على كل شيء قدير.
ومما يؤيد هذا: أن أهل الحق والسنة في زمن الأئمة الأربعة، وتوافر العلماء في ذلك الزمان وقبله وبعده لم يكونوا في محل واحد، بل هم في غالب الأمصار، في الشام منهم الأئمة، وفي الحجاز، وفي مصر، وفي العراق واليمن، وكلهم على الحق يناضلون، ويجاهدون أهل البدع، ولهم المصنفات التي صارت أعلاما لأهل السنة، وحجة على كل مبتدع.
فعلى هذا: فهذه الطائفة قد تجتمع وقد تتفرق، وقد تكون في الشام، وقد تكون في غيره، فإن حديث أبي أمامة، وقول معاذ، لا يفيد حصرها بالشام، وإنما يفيد أنها تكون في الشام في بعض الأزمان لا في كلها.
وكل جملة من هذا الحديث علم من أعلام النبوة، فإن كل ما أخبر به النبي في هذا الحديث وقع كما أخبر .
وقوله: " تبارك وتعالى " قال ابن القيم: البركة نوعان: أحدهما: بركة هي فعلة، والفعل منها بارك، ويتعدى بنفسه تارة وبأداة "على" تارة، وبأداة "في" تارة والمفعول منها مبارك. وهو ما جعل منها كذلك، فكان مباركا بجعله تعالى.
والنوع الثاني: بركة تضاف إليه إضافة الرحمة والعزة؛ والفعل منها تبارك، ولهذا لا يقال لغيره ذلك، ولا يصلح إلا له فهو سبحانه المتبارك، وعبده ورسوله المبارك، كما قال المسيح -عليه السلام-: { } ( )... فمن يبارك الله فيه وعليه فهو المبارك.
وأما صفة تبارك فمختصة به، كما أطلقه على نفسه في قوله:... { } ( ) (الأعراف - 54)، { } ( ) (الملك - 1) أفلا تراها كيف اطردت في القرآن جارية عليه مختصة به، لا تطلق على غيره. وجاءت على بناء السعة والمبالغة، كتعالى وتعاظم ونحوه، فجاء بناء " تبارك " على بناء " تعالى " الذي هو دال على كمال العلو ونهايته، فكذلك " تبارك " دال على كمال بركته وعظمته وسعتها. وهذا معنى قول من قال من السلف " تبارك " تعاظم. وقال ابن عباس -رضي الله عنهما- " جاء بكل بركة ".
المسائل المستنبطة من هذا الباب
فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية النساء.
الثانية: تفسير آية المائدة.
الثالثة: تفسير آية الكهف.
الرابعة: -وهي أهمها-: ما معنى الإيمان بالجبت والطاغوت: هل هو اعتقاد قلب، أو هو موافقة أصحابها مع بغضها ومعرفة بطلانها؟.
الخامسة: قولهم إن الكفار الذين يعرفون كفرهم أهدى سبيلا من المؤمنين.
السادسة: - وهي المقصود بالترجمة - أن هذا لا بد أن يوجد في هذه الأمة، كما تقرر في حديث أبي سعيد.
السابعة: التصريح بوقوعها، أعني عبادة الأوثان في هذه الأمة في جموع كثيرة.
الثامنة: العجب العجاب خروج من يدعي النبوة، مثل المختار، مع تكلمه بالشهادتين وتصريحه بأنه من هذه الأمة، وأن الرسول حق، وأن القرآن حق وفيه أن محمدا خاتم النبيين، ومع هذا يصدق في هذا كله مع التضاد الواضح. وقد خرج المختار في آخر عصر الصحابة، وتبعه فئام كثيرة.
التاسعة: البشارة بأن الحق لا يزول بالكلية كما زال فيما مضى، بل لا تزال عليه طائفة.
العاشرة: الآية العظمى: أنهم مع قلتهم لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم.
الحادية عشرة: أن ذلك الشرط إلى قيام الساعة.
الثانية عشرة: ما فيهن من الآيات العظيمة، منها: إخباره بأن الله زوى له المشارق والمغارب، وأخبر بمعنى ذلك فوقع كما أخبر، بخلاف الجنوب والشمال.
وإخباره بأنه أعطي الكنزين.
وإخباره بإجابة دعوته لأمته في الاثنتين.
وإخباره بأنه منع الثالثة.
وإخباره بوقوع السيف، وأنه لا يرفع إذا وقع.
وإخباره بظهور المتنبئين في هذه الأمة.
وإخباره ببقاء الطائفة المنصورة.
وكل هذا وقع كما أخبر، مع أن كل واحدة منها من أبعد ما يكون من العقول.
الثالثة عشرة: حصر الخوف على أمته في كونه من الأئمة المضلين.
الرابعة عشرة: التنبيه على معنى عبادة الأوثان.
باب ما جاء في السحر
وقول الله تعالى:... { } ( ) .. (البقرة - 102).
وقوله:... { } ( ).. (النساء - 51).
قال عمر: " الجبت: السحر، والطاغوت: الشيطان ".
وقال جابر: " الطواغيت: كهان، كان ينزل عليهم الشيطان في كل حي واحد ".
وعن أبي هريرة أن رسول الله قال: { اجتنبوا السبع الموبقات، قالوا: يا رسول الله وما هن؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات } ( ).
وعن جندب مرفوعا: { حد الساحر: ضربه بالسيف } ( ) رواه الترمذي، وقال: الصحيح أنه موقوف.
وفي صحيح البخاري عن بجالة بن عبدة قال: " كتب عمر بن الخطاب: أن اقتلوا كل ساحر وساحرة، قال: فقتلنا ثلاث سواحر ".
وصح عن حفصة رضي الله عنها: " أنها أمرت بقتل جارية لها سحرتها، فقتلت " وكذا صح عن جندب.
قال أحمد: عن ثلاثة من أصحاب النبي .
قوله: باب "ما جاء في السحر"
أي: والكهانة. السحر في اللغة: عبارة عما خفي ولطُف سببه، ولهذا جاء في الحديث: { إن من البيان لسحرا } ( ) وسمي السحر سحرا، لأنه يقع خفيا آخر الليل.
قال أبو محمد المقدسي في الكافي: السحر عزائم ورُقى وعُقَد يؤثر في القلوب والأبدان، فيمرض ويقتل، ويفرق بين المرء وزوجه. قال الله تعالى:... { } ( ) (البقرة - 102) وقال سبحانه: { • } ( ) (الفلق - 4) يعني السواحر اللاتي يعقدن في سحرهن وينفثن في عقدهن. ولولا أن للسحر حقيقة لم يأمر الله بالاستعاذة منه.
وعن عائشة -رضي الله عنها- { أن النبي سُحر حتى إنه ليخيل إليه أنه يفعل الشيء وما يفعله، وأنه قال لها ذات يوم: أتاني ملكان، فجلس أحدهما عند رأسي والآخر عند رجلي، فقال: ما وجع الرجل؟ قال: مطبوب. قال: ومَن طبَّه؟ قال: لبيد بن الأعصم في مشط ومُشاطة، وفي جُف طلعة ذكر في بئر ذَرْوان } ( ) رواه البخاري.
قـال " وقـول الله تعـالى: { } ( ) ... قال ابن عباس " من نصيب " قال قتادة: وقد علم أهل الكتاب فيما عهد إليهم: أن الساحر لا خلاق له في الآخرة، وقال الحسن: ليس له دين.
فدلت الآية على تحريم السحر، وكذلك هو محرم في جميع أديان الرسل -عليهم السلام-، كما قال تعالى:... { } ( ) (طه - 69) وقد نص أصحاب أحمد أنه يكفر بتعلمه وتعليمه. وروى عبد الرزاق عن صفوان بن سليم قال: قال رسول الله { من تعلم شيئا من السحر قليلا كان أو كثيرا كان آخر عهده من الله } وهذا مرسل.
واختلفوا هل يكفر الساحر أو لا؟ فذهب طائفة من السلف إلى أنه يكفر، وبه قال مالك وأبو حنيفة وأحمد -رحمهم الله-. قال أصحابه: إلا أن يكون سحره بأدوية وتدخين وسقي شيء يضر فلا يكفر.
وقال الشافعي: إذا تعلم السحر قلنا له: صف لنا سحرك، فإن وصف ما يوجب الكفر، مثل ما اعتقده أهل بابل من التقرب إلى الكواكب السبعة، وأنها تفعل ما يلتمس منها فهو كافر، وإن كان لا يوجب الكفر فإن اعتقد إباحته كفر. اهـ.
وقد سماه الله كفرا بقوله: { } ( )... (البقرة - 102) وقوله:... { } ( ).. (البقرة - 102) قال ابن عباس في قوله: { } ( ) وذلك أنهما علما الخير والشر والكفر والإيمان، فعرفا أن السحر من الكفر.
قال: وقوله تعالى:... { } ( )... تقدم الكلام عليهما في الباب قبله، وفيه أن السحر من الجبت. قاله المصنف -رحمه الله-.
قوله: " قال عمر الجبت: السحر. والطاغوت: الشيطان " هذا الأثر رواه ابن أبي حاتم وغيره.
قوله: " وقال جابر: الطواغيت كهان، كان ينزل عليهم الشيطان، في كل حي واحد " هذا الأثر رواه ابن أبي حاتم بنحوه مطولا عن وهب بن منبه قال: سألت جابر بن عبد الله عن الطواغيت التي كانوا يتحاكمون إليها؛ فقال: إن في جهينة واحدا، وفي أسلم واحدا، وفي هلال واحدا، وفي كل حي واحدا، وهم كهان كانت تنزل عليهم الشياطين.
قوله: " قال جابر " هو ابن عبد الله بن حرام الأنصاري.
قوله: " الطواغيت: كهان " أراد أن الكهان من الطواغيت، فهو من أفراد المعنى.
قوله: " كان ينزل عليهم الشيطان " أراد الجنس لا الشيطان الذي هو إبليس خاصة، بل تنزل عليهم الشياطين ويخاطبونهم ويخبرونهم بما يسترقون من السمع، فيصدقون مرة ويكذبون مائة.
قوله: " في كل حي واحد " الحي واحد الأحياء، وهم القبائل، أي في كل قبيلة كاهن يتحاكمون إليه ويسألونه عن الغيب، وكذلك كان الأمر قبل مبعث النبي فأبطل الله ذلك بالإسلام، وحرست السماء بكثرة الشهب.
قوله: " وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله { اجتنبوا السبع الموبقات، قالوا: يا رسول الله وما هن؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات } ( ).
كذا أورده المصنف غير معزو، وقد رواه البخاري ومسلم.
قوله: " اجتنبوا " أي ابعدوا، وهو أبلغ من قوله: دعوا واتركوا؛ لأن النهي عن القربان أبلغ، كقوله:... { • } ( )... (الأنعام - 151).
قوله: " الموبقات " بموحدة وقاف: أي المهلكات، وسميت هذه موبقات لأنها تهلك فاعلها في الدنيا بما يترتب عليها من العقوبات، وفي الآخرة من العذاب.
وفي حديث ابن عمر عند البخاري في الأدب المفرد والطبري في التفسير، وعبد الرزاق مرفوعا وموقوفا قال { الكبائر تسع - وذكر السبعة المذكورة - وزاد: والإلحاد في الحرم، وعقوق الوالدين } ( ) ولابن أبي حاتم عن علي قال " الكبائر - فذكر السبع - إلا مال اليتيم. وزاد: العقوق، والتعرب بعد الهجرة، وفراق الجماعة، ونكث الصفقة ".
قال الحافظ: ويحتاج عندي هذا الجواب عن الحكمة في الاقتصار على سبع.
ويجاب: بأن مفهوم العدد ليس بحجة وهو ضعيف، أو بأنه أعلم أولا بالمذكورات. ثم أعلم بما زاد، فيجب الأخذ بالزائد، أو أن الاقتصار وقع بحسب المقام بالنسبة إلى السائل.
وقد أخرج الطبراني وإسماعيل القاضي عن ابن عباس أنه قيل له: " الكبائر سبع " قال: " هن أكثر من سبع وسبع " وفي رواية " هي إلى سبعين أقرب " وفي رواية: " إلى السبعمائة ".
قوله: قال " الشرك بالله " هو أن يجعل لله ندا يدعوه ويرجوه ويخافه كما يخاف الله، بدأ به لأنه أعظم ذنب عصي الله به، كما في الصحيحين عن ابن مسعود { سألت النبي أي الذنب أعظم عند الله؟ قال: أن تجعل لله ندا وهو خلقك } ( ) - الحديث "، وأخرج الترمذي بسنده عن صفوان بن عسال قال: { قال يهودي لصاحبه: اذهب بنا إلى هذا النبي، فقال له صاحبه: لا تقل نبي، إنه لو سمعك لكان له أربع أعين، فأتيا رسول الله فسألاه عن تسع آيات بينات، فقال النبي " لا تشركوا بالله شيئا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، ولا تمشوا ببريء إلى ذي سلطان ليقتله، ولا تسحروا، ولا تأكلوا الربا، ولا تقذفوا محصنة، ولا تولوا الفرار يوم الزحف، وعليكم خاصة اليهود أن لا تعدوا في السبت. فقبلا يديه ورجليه. وقالا: نشهد أنك نبي } ( ) - الحديث ". وقال: حسن صحيح.
قوله: " السحر " تقدم معناه. وهذا وجه مناسبة الحديث للترجمة.
وقوله: { وقتل النفس التي حرم الله } ( ) أي حرم قتلها. وهي نفس المسلم المعصوم.
قوله: " إلا بالحق " أي بأن تفعل ما يوجب قتلها. كالشرك والنفس بالنفس، والزاني بعد الإحصان، وكذا قتل المعاهد كما في الحديث { من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة } ( ).
واختلف العلماء فيمن قتل مؤمنا متعمدا، وهل له توبة أم لا؟ فذهب ابن عباس وأبو هريرة وغيرهما أنه لا توبة له، استدلالا بقوله تعالى: { • } ( ).... (النساء - 93) وقال ابن عباس " نزلت هذه الآية وهي آخر ما نزل، وما نسخها شيء " وفي رواية " لقد نزلت في آخر ما نزل، وما نسخها شيء حتى قبض رسول الله وما نزل وحي " وروي في ذلك آثار تدل لما ذهب إليه هؤلاء، كما عنـد الإمام أحمد والنسائـي وابن المنذر عـن معاوية: سمعت رسول الله يقول: {كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا الرجل يموت كافرا أو الرجل يقتل مؤمنا متعمدا}( ).
وذهب جمهور الأمة سلفا وخلفا إلى أن القاتل له توبة فيما بينه وبين الله، فإن تاب وأناب وعمل صالحا بدل الله سيئاته حسنات، كما قال تعالى: { • • } ( )... (الفرقان -68 - 70).
قوله: { } ( ) قال أبو هريرة وغيره " هذا جزاؤه إن جازاه ".
وقد روي عن ابن عباس ما يوافق قول الجمهور، فروى عبد بن حميد والنحاس عن سعيد بن عبادة: أن ابن عباس -رضي الله عنهما- كان يقول: " لمن قتل مؤمنا توبة " وكذلك ابن عمر، رضي الله عنهما. وروي مرفوعا " { أن جزاءه جهنم إن جازاه }.
قوله: { وأكل الربا } ( ) أي تناوله بأي وجه كان، كما قال تعالى: { } ( )... الآيات (البقرة 275 - 280). قال ابن دقيق العيد: وهو مجرب لسوء الخاتمة. نعوذ بالله من ذلك.
قوله: { وأكل مال اليتيم } ( ) يعني التعدي فيه. وعبر بالأكل لأنه أعم وجوه الانتفاع، كما قال تعالى: { • } ( ) (النساء -10).
قوله: { والتولي يوم الزحف } ( ) أي الإدبار عن الكفار وقت التحام القتال، وإنما يكون كبيرة إذا فر إلى غير فئة أو غير متحرف لقتال. كما قيد به في الآية.
قوله: { وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات } ( ) وهو بفتح الصاد: المحفوظات من الزنا، وبكسرها الحافظات فروجهن منه، والمراد الحرائر العفيفات، والمراد رميهن بزنا أو لواط. والغافلات: أي عن الفواحش وما رمين به. فهو كناية عن البريئات؛ لأن الغافل بريء عما بهت به. والمؤمنات: أي بالله تعالى. احترازا من قذف الكافرات.
قوله: " وعن جندب مرفوعا { حد الساحر: ضربه بالسيف } ( ) رواه الترمذي، وقال: الصحيح أنه موقوف.
قوله: " عن جندب " ظاهر صنيع الطبراني في الكبير: أنه جندب بن عبد الله البجلي. لا جندب الخير الأزدي قاتل الساحر، فإنه رواه في ترجمة جندب البجلي من طريق خالد العبد عن الحسن عن جندب عن النبي وخالد العبد ضعيف. قال الحافظ: والصواب أنه غيره. وقد رواه ابن قانع والحسن بن سفيان من وجهين عن الحسن عن جندب الخير: " أنه جاء إلى ساحر فضربه بالسيف حتى مات، وقال: سمعت رسول الله يقول - فذكره " وجندب الخير: هو جندب بن كعب، وقيل: جندب بن زهير، وقيل: هما واحد، كما قال ابن حبان: أبو عبد الله الأزدي الغامدي صحابي، روى ابن السكن من حديث بريدة: أن النبي قال: { يضرب ضربة واحدة فيكون أمة واحدة }.
قوله: { حد الساحر: ضربه بالسيف } ( ) وروي بالهاء وبالتاء، وكلاهما صحيح.
وبهذا الحديث أخذ مالك وأحمد وأبو حنيفة فقالوا: يقتل الساحر. وروي ذلك عن عمر، وعثمان، وابن عمر، وحفصة، وجندب بن عبد الله، وجندب بن كعب، وقيس بن سعد، وعمر بن عبد العزيز، ولم ير الشافعي القتل عليه بمجرد السحر إلا إن عمل في سحره ما يبلغ الكفر. وبه قال ابن المنذر، وهو رواية عن أحمد. والأول أولى للحديث ولأثر عمر، وعمل به الناس في خلافته من غير نكير.
قوله: " وفي صحيح البخاري عن بجالة بن عبدة قال: كتب عمر بن الخطاب: أن اقتلوا كل ساحر وساحرة. قال: فقتلنا ثلاث سواحر ".
هذا الأثر رواه البخاري كما قال المصنف -رحمه الله-، لكن لم يذكر قتل السواحر.
قوله: " عن بجالة " بفتح الموحدة بعدها جيم، ابن عبدة - بفتحتين - التميمي العنبري بصري ثقة.
قوله: " كتب إلينا عمر بن الخطاب: أن اقتلوا كل ساحر وساحرة " وظاهره أنه يقتل من غير استتابة. وهو كذلك على المشهور عن أحمد، وبه قال مالك؛ لأن علم السحر لا يزول بالتوبة. وعن أحمد يستتاب، فإن تاب قبلت توبته، وبه قال الشافعي؛ لأن ذنبه لا يزيد عن الشرك، والمشرك يستتاب وتقبل توبته. ولذلك صح إيمان سحرة فرعون وتوبتهم.
قوله: " وصح عن حفصة -رضي الله عنها- أنها أمرت بقتل جارية لها سحرتها فقتلت ".
هذا الأثر رواه مالك في الموطأ.
و " حفصة " هي أم المؤمنين بنت عمر بن الخطاب، تزوجها النبي بعد خنيس بن حذافة وماتت سنة خمس وأربعين.
قوله: " وكذا صح عن جندب " أشار المصنف بهذا إلى قتله الساحر. كما رواه البخاري في تاريخه عن أبي عثمان النهدي قال: " كان عند الوليد رجل يلعب فذبح إنسانا وأبان رأسه فعجبنا، فأعاد رأسه فجاء جندب الأزدي فقتله.
ورواه البيهقي في الدلائل مطولا. وفيه " فأمر به الوليد فسجن " فذكر القصة بتمامها. ولها طرق كثيرة.
قوله: " قال أحمد عن ثلاثة من أصحاب النبي " أحمد هو الإمام أحمد بن محمد بن حنبل.
قوله: " عن ثلاثة " أي صح قتل الساحر عن ثلاثة، أو جاء قتل الساحر عن ثلاثة من أصحاب النبي يعني عمر، وحفصة، وجندبا. والله أعلم.
المسائل المستنبطة من هذا الباب
فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية البقرة.
الثانية: تفسير آية النساء.
الثالثة: تفسير الجبت والطاغوت، والفرق بينهما.
الرابعة: أن الطاغوت قد يكون من الجن، وقد يكون من الإنس.
الخامسة: معرفة السبع الموبقات المخصوصات بالنهي.
السادسة: أن الساحر يكفر.
السابعة: أنه يقتل ولا يستتاب.
الثامنة: وجود هذا في المسلمين على عهد عمر، فكيف بعده؟
باب بيان شيء من أنواع السحر
قال أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا عوف عن حيان بن العلاء، حدثنا قطن بن قبيصة عن أبيه: أنه سمع النبي قال: { إن العيافة والطرق والطيرة من الجبت } ( ).
قال عوف: العيافة: زجر الطير، والطرق: الخط يخط بالأرض.
والجبت، قال: الحسن: " رنة الشيطان " إسناده جيد.
ولأبي داود والنسائي وابن حبان في صحيحه، المسند منه.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله { من اقتبس شعبة من النجوم، فقد اقتبس شعبة من السحر، زاد ما زاد } ( ) رواه أبو داود وإسناده صحيح.
وللنسائي من حديث أبي هريرة { من عقد عقدة ثم نفث فيها فقد سحر، ومن سحر فقد أشرك، ومن تعلق شيئا وكل إليه } ( ).
وعن ابن مسعود: أن رسول الله قال: { ألا هل أنبئكم ما العضه؟ هي النميمة، القالة بين الناس } ( ) رواه مسلم.
ولهما عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله قال: { إن من البيان لسحرا } ( ).
قوله: باب: " بيان شيء من أنواع السحر "
قلت: ذكر الشارح -رحمه الله تعالى- هاهنا شيئا من الخوارق وكرامات الأولياء، وذكر ما اغتر به كثير من الناس من الأحوال الشيطانية التي غرت كثيرا من العوام والجهال، وظنوا أنها تدل على ولاية من جرت على يديه ممن هو من أولياء الشيطان لا من أولياء الرحمن، ثم قال: ولشيخ الإسلام كتاب " الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان " فراجعه. انتهى.
قال -رحمه الله تعالى-: " قال أحمد: حدثنا محمد بن جعفر حدثنا عوف عن حيان بن العلاء، حدثنا قطن بن قبيصة عن أبيه: أنه سمع النبي قال: { إن العيافة، والطرق، والطيرة من الجبت } ( ) قال عوف: العيافة: زجر الطير، والطرق: الخط يخط في الأرض، والجبت: قال الحسن " رنة الشيطان " إسناده جيد: ولأبي داود والنسائي وابن حبان في صحيحه: المسند منه.
قوله: " قال أحمد " هو الإمام أحمد بن محمد بن حنبل.
ومحمد بن جعفر: هو المشهور بغندر الهذلي البصري، ثقة مشهور، مات سنة ست ومائتين.
وعوف: هو ابن أبي جميلة - بفتح الجيم - العبدي البصري، المعروف بعوف الأعرابي، ثقة. مات سنة ست - أو سبع - وأربعين، وله ست وثمانون سنة.
وحيان بن العلاء: هو بالتحتية، ويقال: حيان بن مخارق، أبو العلاء البصري، مقبول، وقطن - بفتحتين - أبو سهل البصري، صدوق.
قوله: " عن أبيه " هو قبيصة - بفتح أوله - ابن مخارق - بضم الميم - أبو عبد الله الهلالي صحابي نزل البصرة.
قوله: " إن العيافة والطرق والطيرة من الجبت " قال عوف: العيافة: زجر الطير، والتفاؤل بأسمائها وأصواتها وممرها، وهو من عادات العرب، وكثير في أشعارهم يقال: عاف يعيف: عيفا، إذا زجر وحدس وظن.
قوله: " والطرق: الخط يخط بالأرض " كذا فسره عوف، وهو كذلك.
وقال أبو السعادات: هو الضرب بالحصى الذي يفعله النساء. وأما الطيرة: فيأتي الكلام عليها في بابها إن شاء الله تعالى.
قوله: " من الجبت " أي: السحر، قال القاضي: والجبت في الأصل: الفشل الذي لا خير فيه، ثم استعير لما يعبد من دون الله، وللساحر والسحر.
قوله: " قال الحسن: رنة الشيطان " قلت: ذكر إبراهيم بن محمد بن مفلح: أن في تفسير بقي بن مخلد " أن إبليس رن أربع رنات: رنة حين لعن، ورنة حين أهبط، ورنة حين ولد رسول الله ورنة حين نزلت فاتحة الكتاب ".
قال سعيد بن جبير: " لما لعن الله تعالى إبليس، تغيرت صورته عن صورة الملائكة، ورن رنة، فكل رنة منها في الدنيا إلى يوم القيامة ". رواه ابن أبي حاتم.
وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: " لما فتح رسول الله مكة، رن إبليس رنة اجتمعت إليه جنوده ". رواه الحافظ الضياء في المختارة.
الرنين: الصوت. وقد رن يرن رنينا. وبهذا يظهر معنى قول الحسن -رحمه الله تعالى-.
قوله: " ولأبي داود وابن حبان في صحيحه: المسند منه " ولم يذكر التفسير الذي فسره به عوف. وقد رواه أبو داود بالتفسير المذكور بدون كلام الحسن.
قوله: وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله { من اقتبس شعبة من النجوم، فقد اقتبس شعبة من السحر، زاد ما زاد } ( ) رواه أبو داود بإسناد صحيح وكذا صححه النووي والذهبي، ورواه أحمد وابن ماجه.
قوله: " من اقتبس " قال أبو السعادات: قبست العلم واقتبسته إذا علمته. اهـ.
قوله: " شعبة " أي طائفة من علم النجوم. والشعبة الطائفة. ومنه الحديث { الحياء شعبة من الإيمان } ( ) أي جزء منه.
قوله: " فقد اقتبس شعبة من السحر " المحرم تعلمه.
قال شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى-: فقد صرح رسول الله بأن علم النجوم من السحر، وقال تعالى: { } ( ) (طه - 69).
قوله: " زاد ما زاد " أي كلما زاد من تعلم علم النجوم، زاد في الإثم الحاصل بزيادة الاقتباس من شعبه، فإن ما يعتقده في النجوم من التأثير باطل، كما أن تأثير السحر باطل.
قوله: " وللنسائي من حديث أبي هريرة { من عقد عقدة ثم نفث فيها فقد سحر. ومن سحر فقد أشرك. ومن تعلق شيئا وكل إليه } ( ) هذا حديث ذكره المصنف من حديث أبي هريرة وعزاه للنسائي وقد رواه النسائي مرفوعا وحسنه ابن مفلح.
قوله: " وللنسائي " هو الإمام الحافظ أحمد بن شعيب بن علي بن سنان بن بحر بن دينار أبو عبد الرحمن صاحب السنن وغيرها. روى عن محمد بن المثنى وابن بشار وقتيبة وخلق. وكان إليه المنتهى في العلم بعلل الحديث. مات سنة ثلاث وثلاثمائة، وله ثمان وثمانون سنة -رحمه الله تعالى-.
قوله: { من عقد عقدة ثم نفث فيها فقد سحر } ( ) اعلم أن السحرة إذا أرادوا عمل السحر عقدوا الخيوط ونفثوا على كل عقدة، حتى ينعقد ما يريدون من السحر، قال الله تعالى: { • } ( ) (الفلق - 4) يعني السواحر اللاتي يفعلن ذلك، والنفث هو النفخ مع الريق، وهو دون التفل، والنفث فعل الساحر، فإذا تكيفت نفسه بالخبث والشر الذي يريده بالمسحور ويستعين عليه بالأرواح الخبيثة نفخ في تلك العقدة نفخا معه ريق. فيخرج من نفسه الخبيثة نفس ممازج للشر والأذى مقارن للريق الممازج لذلك، وقد يتساعد هو والروح الشيطانية على أذى المسحور فيصيبه بإذن الله الكوني القدري لا الشرعي، قاله ابن القيم -رحمه الله تعالى-.
قوله: { ومن سحر فقد أشرك } ( ) نص في أن الساحر مشرك، إذا لا يتأتى السحر بدون الشرك كما حكاه الحافظ عن بعضهم.
قوله: { ومن تعلق شيئا وكل إليه } ( ) أي من تعلق قلبه شيئا، بحيث يعتمد عليه ويرجوه وكله الله إلى ذلك الشيء فمن تعلق على ربه وإلهه وسيده ومولاه رب كل شيء ومليكه، كفاه ووقاه وحفظه وتولاه. فنعم المولى ونعم النصير. قال تعالى: { } ( )... (الزمر - 36) ومن تعلق على السحرة والشياطين وغيرهم من المخلوقين وكله الله إلى من تعلقه فهلك. ومن تأمل ذلك في أحوال الخلق ونظر بعين البصيرة رأى ذلك عيانا، وهذا من جوامع الكلم. والله أعلم.
قال: " وعن ابن مسعود أن رسول الله قال: { ألا هل أنبئكم ما العضه؟ هي النميمة، القالة بين الناس } ( ) رواه مسلم.
قوله: " ألا هل أنبئكم " أخبركم، " والعضه " بفتح المهملة وسكون المعجمة. قال أبو السعادات: هكذا يروى في كتب الحديث. والذي في كتب الغريب " ألا أنبئكم ما العضة " بكسر العين وفتح الضاد. قال الزمخشري: أصلها " العضة " فعلة من العضه وهو البهت. فحذفت لامه، كما حذفت من السنة والشفة، وتجمع على " عضين " ثم فسره بقوله: " { هي النميمة القالة بين الناس } ( ) فأطلق عليها " العضه " لأنها لا تنفك من الكذب والبهتان غالبا. ذكره القرطبي.
وذكر ابن عبد البر عن يحيى بن أبي كثير قال: " يفسد النمام والكذاب في ساعة ما لا يفسد الساحر في سنة ". وقال أبو الخطاب في عيون المسائل: ومن السحر السعي بالنميمة والإفساد بين الناس. قال في الفروع: ووجهه أن يقصد الأذى بكلامه وعمله على وجه المكر والحيلة، أشبه السحر، وهذا يعرف بالعرف والعادة أنه يؤثر، وينتج ما يعمله السحر أو أكثر فيعطى حكمه تسوية بين المتماثلين أو المتقاربين. لكن يقال: الساحر إنما يكفر لوصف السحر وهو أمر خاص ودليله خاص، وهذا ليس بساحر، إنما يؤثر عمله ما يؤثره فيعي حكمه إلا فيما اختص به من الكفر وعدم قبوله التوبة. انتهى ملخصا.
وبه يظهر مطابقة الحديث للترجمة. وهو يدل على تحريم النميمة، وهو مجمع عليه قال ابن حزم -رحمه الله-: اتفقوا على تحريم الغيبة والنميمة في غير النصيحة الواجبة. وفيه دليل على أنها من الكبائر.
قوله: " القالة بين الناس " قال أبو السعادات: أي كثرة القول وإيقاع الخصومة بين الناس. ومنه الحديث: " فشت القالة بين الناس ".
قال: " ولهما عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله قال: { إن من البيان لسحرا } ( ) البيان: البلاغة والفصاحة. قال صعصعة بن صوحان: " صدق نبي الله، فإن الرجل يكون عليه الحق وهو ألحن بالحجج من صاحب الحق، فيسحر القوم ببيانه فيذهب بالحق " وقال ابن عبد البر: تأولته طائفة على الذم؛ لأن السحر مذموم، وذهب أكثر أهل العلم وجماعة أهل الأدب إلى أنه على المدح؛ لأن الله تعالى مدح البيان. قال: وقد قال عمر بن عبد العزيز لرجل سأله عن حاجة فأحسن المسألة فأعجبه قوله. قال: " هذا والله السحر الحلال " انتهى. والأول أصح. والمراد البيان الذي فيه تمويه على السامع وتلبيس، كما قال بعضهم:
والحـق قـد يعتـريه سوء تعبير
في زخـرف القـول تزيين لباطله
مأخوذ عن قول الشاعر:
تقول: تقول:
وإن تشأ قـلت: ذا قيء الـزنابير
والحـق قـد يعتـريـه سـوء تعبير
هـذا مـجـاج النحـل تـمدحه
مـدحا وذما، وما جاوزت وصفهما
قوله: { إن من البيان لسحرا } ( ) هذا من التشبيه البليغ، لكون ذلك يعمل عمل السحر، فيجعل الحق في قالب الباطل، والباطل في قالب الحق. فيستميل به قلوب الجهال، حتى يقبلوا الباطل وينكروا الحق، ونسأل الله الثبات والاستقامة على الهدى.
وأما البيان الذي يوضح الحق ويقرره، ويبطل الباطل ويبينه. فهذا هو الممدوح. وهكذا حال الرسل وأتباعهم، ولهذا علت مراتبهم في الفضائل، وعظمت حسناتهم.
وبالجملة: فالبيان لا يحمد إلا إذا لم يخرج إلى حد الإسهاب والإطناب، وتغطية الحق، وتحسين الباطل. فإذا خرج إلى هذا فهو مذموم. وعلى هذا تدل الأحاديث كحديث الباب وحديث " إن الله يبغض البليغ من الرجال الذي يتخلل بلسانه كما تتخلل البقرة بلسانها " رواه أحمد وأبو داود.
المسائل المستنبطة من هذا الباب
فيه مسائل:
الأولى: أن العيافة والطرق والطيرة من الجبت.
الثانية: تفسير العيافة والطرق.
الثالثة: أن علم النجوم نوع من السحر.
الرابعة: العقد مع النفث من ذلك.
الخامسة: أن النميمة من ذلك.
السادسة: أن من ذلك بعض الفصاحة.
باب ما جاء في الكهان ونحوهم
روى مسلم في صحيحه، عن بعض أزواج النبي عن النبي قال: { من أتىعرافا فسأله عن شيء فصدقه بما يقول، لم تقبل له صلاة أربعين يوما } ( ).
وعن أبي هريرة عن النبي قال: { من أتى كاهنا فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد } ( ) رواه أبو داود.
وللأربعة، والحاكم وقال: صحيح على شرطهما، عن النبي " { من أتى عرافا أو كاهنا فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد } ( ).
ولأبي يعلى بسند جيد عن ابن مسعود مثله موقوفا.
وعن عمران بن حصين مرفوعا: { ليس منا من تطير أو تطير له، أو تكهن أو تكهن له، أو سحر أو سحر له، ومن أتى كاهنا فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد } رواه البراز بإسناد جيد.
ورواه الطبراني في الأوسط بإسناد حسن من حديث ابن عباس دون قوله: " ومن أتى - إلى آخره ".
قال البغوي: العراف: الذي يدعي معرفة الأمور بمقدمات يستدل بها على المسروق ومكان الضالة، ونحو ذلك.
وقيل: هو الكاهن، والكاهن: هو الذي يخبر عن المغيبات في المستقبل.
وقيل: الذي يخبر عما في الضمير.
وقال أبو العباس ابن تيمية: العراف: اسم للكاهن والمنجم والرمال ونحوهم ممن يتكلم في معرفة الأمور بهذه الطرق.
وقال ابن عباس -في قوم يكتبون أبا جاد وينظرون في النجوم -: " ما أرى من فعل ذلك له عند الله من خلاق ".
قوله: باب " ما جاء في الكهان ونحوهم "
الكاهن: هو الذي يأخذ عن مسترق السمع، وكانوا قبل المبعث كثيرين. وأما بعد المبعث فإنهم قليل؛ لأن الله تعالى حرس السماء بالشهب. وأكثر ما يقع في هذه الأمة ما يخبر به الجن أولياءهم من الإنس عن الأشياء الغائبة بما يقع في الأرض من الأخبار، فيظنه الجاهل كشفا وكرامة، وقد اغتر بذلك كثير من الناس يظنون المخبر لهم بذلك عن الجن وليا لله. وهـو مـن أولياء الشيـطان، كما قـال تعالى: { • • } ( ) (الأنعام - 128).
قوله: روى مسلم في صحيحه عن بعض أزواج النبي عن النبي قال: { من أتى عرافا فسأله عن شيء فصدقه بما يقول، لم تقبل له صلاة أربعين يوما } ( ) قوله: " عن بعض أزواج النبي " هي حفصة، ذكره أبو مسعود الثقفي؛ لأنه ذكر هذا الحديث في الأطراف في مسندها.
قوله: { من أتى عرافا } ( ) سيأتي بيان العراف إن شاء الله تعالى. وظاهر هذا الحديث: أن الوعيد مرتب على مجيئه وسؤاله، سواء صدقه أو شك في خبره. فإن في بعض روايات الصحيح { من أتى عرافا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة } ( ).
قوله: { لم تقبل له صلاة } ( ) إذا كانت هذه حال السائل، فكيف بالمسئول؟ قال النووي وغيره: معناه أنه لا ثواب له فيها، وإن كانت مجزئة بسقوط الفرض عنه، ولا بد من هذا التأويل في هذا الحديث، فإن العلماء متفقون على أنه لا يلزم من أتى العراف إعادة صلاة أربعين ليلة. اهـ ملخصا.
وفي هذا الحديث: النهي عن إتيان الكاهن ونحوه. قال القرطبي: يجب على من قدر على ذلك من محتسب وغيره أن يقيم من يتعاطى شيئا من ذلك من الأسواق وينكر عليهم أشد النكير، وعلى من يجيء إليهم، ولا يغتر بصدقهم في بعض الأمور، ولا بكثرة من يجيء إليهم ممن ينتسب إلى العلم، فإنهم غير راسخين في العلم بل من الجهال بما في إتيانهم من المحذور.
قال: " وعن أبي هريرة عن النبي قال: { من أتى كاهنا فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد } ( ) رواه أبو داود.
وفي رواية أبي داود " أو أتى امرأة - قال مسدد: امرأته حائضا - أو أتى امرأة. قال مسدد: امرأته في دبرها فقد برئ مما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم" فناقل هذا الحديث من السنن حذف منه هذه الجملة واقتصر على ما يناسب الترجمة.
قال: " وللأربعة والحاكم - وقال: صحيح على شرطهما عن النبي " { من أتى عرافا أو كاهنا فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد } ( ) هكذا بيض المصنف لاسم الراوي. وقد رواه أحمد والبيهقي والحاكم عن أبي هريرة مرفوعا.
قوله: " من أتى كاهنا " قال بعضهم: لا تعارض بين هذا وبين حديث { من أتى عرافا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة } ( ) هذا على قول من يقول: هو كفر دون كفر، أما على قول من يقول بظاهر الحديث فيسأل عن وجه الجمع بين الحديثين. وظاهر الحديث: أنه يكفر متى اعتقد صدقه بأي وجه كان، وكان غالب الكهان قبل النبوة إنما كانوا يأخذون عن الشياطين.
قوله: { فقد كفر بما أنزل على محمد } ( ) " قال القرطبي: المراد بالمنزل الكتاب والسنة. اهـ. وهل الكفر في هذا الموضع كفر دون كفر، فلا ينقل عن الملة، أم يتوقف فيه، فلا يقال: يخرج عن الملة ولا لا يخرج؟ وهذا أشهر الروايتين عن أحمد -رحمه الله تعالى-. قال: " ولأبي يعلى بسند جيد عن ابن مسعود مثله موقوفا ".
" أبو يعلى " اسمه أحمد بن علي بن المثنى الموصلي الإمام صاحب التصانيف كالمسند وغيره. روى عن يحيى بن معين وأبي بكر بن أبي شيبة وخلق، وكان من الأئمة الحفاظ: مات سنة سبع وثلاثمائة.
وهذا الأثر رواه البزار أيضا، ولفظه: " من أتى كاهنا أو ساحرا فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد " وفيه دليل على كفر الكاهن والساحر؛ لأنهما يدعيان علم الغيب وذلك كفر، والمصدق لهما يعتقد ذلك ويرضى به وذلك كفر أيضا.
قاله: " وعن عمران بن حصين مرفوعا { ليس منا من تطير أو تطير له، أو تكهن أو تكهن له، أو سحر أو سحر له، ومن أتى كاهنا فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد } رواه البزار بإسناد جيد، ورواه الطبراني في الأوسط بإسناد حسن من حديث ابن عباس دون قوله: " ومن أتى كاهنا - إلى آخره ".
قوله: " ليس منا " فيه: وعيد شديد يدل على أن هذه الأمور من الكبائر وتقدم أن الكهانة والسحر كفر.
قوله: " من تطير " أي فعل الطيرة " أو تطير له " أي قبل قول المتطير له وتابعه وكذا معنى " أو تكهن أو تكهن له " كالذي يأتي الكاهن ويصدقه ويتابعه، وكذلك من عمل الساحر له السحر.
فكل من تلقى هذه الأمور عمن تعاطاها فقد برئ منه رسول الله لكونها إما شركا، كالطيرة، أو كفرا كالكهانة والسحر، فمن رضي بذلك وتابع عليه فهو كالفاعل: لقبوله الباطل واتباعه.
قوله: " رواه البزار " هو أحمد بن عمرو بن عبد الخالق، أبو بكر البزار البصري صاحب المسند الكبير. وروى عن ابن بشار وابن المثنى وخلق، مات سنة اثنتين وتسعين ومائتين.
قوله: قال " البغوي - إلى آخره " البغوي - بفتحتين - هو الحسين بن مسعود الفراء الشافعي، صاحب التصانيف وعالم أهل خراسان، كان ثقة فقيها زاهدا، مات في شوال سنة ست عشرة وخمسمائة -رحمه الله تعالى-.
قوله: " العراف: الذي يدعي معرفة الأمور " ظاهره: أن العراف هو الذي يخبر عن الوقائع كالسرقة وسارقها، والضالة ومكانها.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-: إن العراف اسم للكاهن والمنجم والرمال ونحوهم، كالحازر الذي يدعي علم الغيب أو يدعي الكشف.
وقال: أيضا والمنجم يدخل في اسم العراف، وعند بعضهم هو معناه.
وقال: أيضا والمنجم يدخل في اسم الكاهن عند الخطابي وغيره من العلماء، وحكى ذلك عن العرب. وعند آخرين: هو من جنس الكاهن، وأسوأ حالا منه، فيلحق به من جهة المعنى.
وقال الإمام أحمد: العرافة: طرف من السحر. والساحر أخبث.
وقال أبو السعادات: العراف: المنجم، والحازر: الذي يدعي علم الغيب، وقد استأثر الله تعالى به.
وقال ابن القيم -رحمه الله تعالى-: من اشتهر بإحسان الزجر عندهم سموه عائفا، وعرافا.
والمقصود من هذا: معرفة أن من يدعي معرفة علم الشيء من المغيبات، فهو إما داخل في اسم الكاهن، وإما مشارك له في المعنى فيلحق به. وذلك أن إصابة المخبر ببعض الأمور الغائبة في بعض الأحيان يكون بالكشف ومنه ما هو من الشياطين، ويكون بالفأل والزجر والطيرة والضرب بالحصى والخط في الأرض والتنجيم والكهانة والسحر، ونحو هذا من علوم الجاهلية، ونعني بالجاهلية كل من ليس من أتباع الرسل -عليهم السلام-، كالفلاسفة والكهان والمنجمين، وجاهلية العرب الذين كانوا قبل مبعث النبي فإن هذه علوم لقوم ليس لهم علم بما جاءت به الرسل صلوات الله عليهم، وكل هذه الأمور يسمى صاحبها كاهنا أو عرافا أو في معناهما، فمن أتاهم فصدقهم بما يقولون لحقه الوعيد. وقد ورث هذه العلوم عنهم أقوام، فادعوا بها علم الغيب الذي استأثر الله بعلمه، وادعوا أنهم أولياء، وأن ذلك كرامة.
ولا ريب أن من ادعى الولاية، واستدل بإخباره ببعض المغيبات فهو من أولياء الشيطان لا من أولياء الرحمن؛ إذ الكرامة أمر يجريه الله على يد عبده المؤمن التقي: إما بدعاء، أو أعمال صالحة لا صنع للولي فيها، ولا قدرة له عليها، بخلاف من يدعي أنه ولي ويقول للناس: اعلموا أني أعلم المغيبات، فإن هذه الأمور قد تحصل بما ذكرنا من الأسباب، وإن كانت أسبابا محرمة كاذبة في الغالب، ولهذا { قال النبي في وصف الكهان " فيكذبون معها مائة كذبة } ( ) فبين أنهم يصدقون مرة ويكذبون مائة، وهكذا حال من سلك سبيل الكهان ممن يدعي الولاية والعلم بما في ضمائر الناس، مع أن نفس دعواه دليل على كذبه، لأن في دعواه تزكية النفس المنهي عنها بقوله تعالى:... { } ( )... (النجم - 32) وليس هذا من شأن الأولياء، فإن شأنهم الإزراء على نفوسهم وعيبهم لها، وخوفهم من ربهم، فكيف يأتون الناس ويقولون: اعرفوا أننا أولياء، وأنا نعلم الغيب؟ وفي ضمن ذلك طلب المنزلة في قلوب الخلق واقتناص الدنيا بهذه الأمور. وحسبك بحال الصحابة والتابعين -رضي الله عنهم-، وهم سادات الأولياء، أفكان عندهم من هذه الدعاوى والشطحات شيء؟ لا والله، بل كان أحدهم لا يملك نفسه من البكاء إذا قرأ القرآن، كالصديق وكان عمر يسمع نشيجه من وراء الصفوف يبكي في صلاته، وكان يمر بالآية في ورده من الليل فيمرض منها ليالي يعودونه، وكان تميم الداري يتقلب على فراشه ولا يستطيع النوم إلا قليلا خوفا من النار ثم يقوم إلى صلاته. ويكفيك في صفات الأولياء ما ذكره الله تعالى في صفاتهم في سورة الرعد والمؤمنون والفرقان والذاريات والطور فالمتصفون بتلك الصفات هم الأولياء، لا أهل الدعوى والكذب ومنازعة رب العالمين فيما اختص به من الكبرياء والعظمة وعلم الغيب، بل مجرد دعواه علم الغيب كفر. فكيف يكون المدعي لذلك وليا لله؟ ولقد عظم الضرر واشتد الخطب بهؤلاء المفترين الذين ورثوا هذه العلوم عن المشركين، ولبسوا بها على خفافيش القلوب، نسأل الله السلامة والعافية في الدنيا والآخرة.
قوله: " وقال ابن عباس - في قوم يكتبون أبا جاد - إلى آخره) هذا الأثر رواه الطبراني عن ابن عباس مرفوعا وإسناده ضعيف. ولفظه " رب معلم حروف أبي جاد دارس في النجوم، ليس له عند الله خلاق يوم القيامة " ورواه حميد بن زنجويه عنه بلفظ " رب ناظر في النجوم ومتعلم حروف أبي جاد ليس له عند الله خلاق ".
قوله: " ما أرى " يجوز فتح الهمزة بمعنى لا أعلم. ويجوز ضمها بمعنى: أظن.
وكتابة " أبي جاد " وتعلمها لمن يدعي بها علم الغيب هو الذي يسمى علم الحرف، وهو الذي جاء في الوعيد، فأما تعلمها للتهجي وحساب الجمل فلا بأس به.
قوله: " وينظرون في النجوم " أي: يعتقدون أن لها تأثيرا كما سيأتي في باب التنجيم. وفيه من الفوائد: عدم الاغترار بما يؤتاه أهل الباطل من معارفهم وعلومهم كما قال تعالى: { • } ( ) (غافر - 83).
المسائل المستنبطة من هذا الباب
فيه مسائل:
الأولى: لا يجتمع تصديق الكاهن مع الإيمان بالقرآن.
الثانية: التصريح بأنه كفر.
الثالثة: ذكر من تكهن له.
الرابعة: ذكر من تطير له.
الخامسة: ذكر من سحر له.
السادسة: ذكر من تعلم أبا جاد.
السابعة: ذكر الفرق بين الكاهن والعراف.
باب ما جاء في النشرة
عن جابر { أن رسول الله سئل عن النشرة فقال: هي من عمل الشيطان } ( ) رواه أحمد بسند جيد، وأبو داود، وقال: سئل أحمد عنها؟ فقال: ابن مسعود يكره هذا كله.
وفي البخاري عن قتادة: " قلت لابن المسيب: رجل به طب أو يؤخذ عن امرأته، أيحل عنه أو ينشر؟ قال: لا بأس به، إنما يريدون به الإصلاح، فأما ما ينفع فلم ينه عنه ". ا هـ.
وروي عن الحسن أنه قال: " لا يحل السحر إلا ساحر ".
قال ابن القيم: النشرة: حل السحر عن المسحور، وهي نوعان:
أحدهما: حل بسحر مثله، وهو الذي من عمل الشيطان، وعليه يحمل قول الحسن، فيتقرب الناشر والمنشر إلى الشيطان بما يحب، فيبطل عمله عن المسحور.
والثاني: النشرة بالرقية والتعوذات والأدوية والدعوات المباحة، فهذا جائز.
قوله: باب " ما جاء في النُّشْرة "
بضم النون، كما في القاموس، قال أبو السعادات: النشرة ضرب من العلاج والرقية، يعالج به من يظن أن به مسا من الجن، سميت نشرة لأنه ينشر بها عنه ما خامره من الداء، أي: يكشف ويزال.
قال الحسن: النشرة من السحر. وقد نشرت عنه تنشيرا، ومنه الحديث " فلعل طبا أصابه. ثم نشره بقل أعوذ برب الناس " أي: رقاه.
وقال ابن الجوزي: النشرة: حل السحر عن المسحور، ولا يكاد يقدر عليه إلا من يعرف السحر.
قوله: عن جابر { أن رسول الله سئل عن النشرة فقال: هي من الشيطان } ( ) رواه أحمد بسند جيد، وأبو داود، وقال: سئل أحمد عنها فقال: ابن مسعود يكره هذا كله.
هذا الحديث رواه أحمد، ورواه عنه أبو داود في سننه، والفضل بن زيادة في كتاب المسائل عن عبد الرزاق عن عقيل بن معقل بن منبه عن جابر، فذكره. قال ابن مفلح: إسناد جيد، وحسن الحافظ إسناده.
قوله: { سئل عن النشرة } ( ) والألف واللام في " النشرة " للعهد أي النشرة المعهودة التي كان أهل الجاهلية يصنعونها فقال: { هي من عمل الشيطان } ( ).
قوله: " قال: سئل أحمد عنها؟ فقال: ابن مسعود يكره هذا كله " أراد أحمد -رحمه الله- أن ابن مسعود يكره النشرة التي هي من عمل الشيطان كما يكره تعليق التمائم مطلقا.
قوله: وفي البخاري عن قتادة: " قلت لابن المسيب: رجل به طب أو يؤخذ عن امرأته أيحل عنه، أو ينشر؟ قال: لا بأس به: إنما يريدون به الإصلاح فأما ما ينفع فلم ينه عنه ".
قوله: " عن قتادة " هو ابن دِعامة - بكسر الدال - الدوسي ثقة فقيه من أحفظ التابعين. قالوا: إنه ولد أكمه. مات سنة بضع عشرة ومائة.
قوله: " رجل به طب " بكسر الطاء. أي سحر، يقال: طب الرجل - بالضم - إذا سحر. ويقال: كنوا عن السحر بالطب تفاؤلا. كما يقال للديغ: سليم.
وقال ابن الأنباري: الطب من الأضداد. يقال لعلاج الداء: طب، والسحر من الداء يقال له: طب.
قوله: " يؤخذ " بفتح الواو مهموزة وتشديد الخاء المعجمة وبعدها ذال معجمة، أي يحبس عن امرأته ولا يصل إلى جماعها. والأخذة - بضم الهمزة - الكلام الذي يقوله الساحر.
قوله: " أيحل " بضم الياء وفتح الحاء مبني للمفعول.
قوله: " أو ينشر " بتشديد المعجمة.
قوله: " لا بأس به " يعني: أن النشرة لا بأس بها؛ لأنهم يريدون بها الإصلاح، أي إزالة السحر، ولم ينه عما يراد به الإصلاح، وهذا من ابن المسيب يحمل على نوع من النشرة لا يعلم أنه سحر.
قوله: " وروي عن الحسن أنه قال: لا يحل السحر إلا ساحر " هذا الأثر ذكره ابن الجوزي في جامع المسانيد.
والحسن: هو ابن أبي الحسن، واسمه: يسار - بالتحتية والمهملة - البصري الأنصاري مولاهم، ثقة فقيه، إمام من خيار التابعين. مات سنة عشر ومائة -رحمه الله-، وقد قارب التسعين.
قوله: " قال ابن القيم: النشرة حل السحر عن المسحور، وهي نوعان، حل بسحر مثله، وهو الذي من عمل الشيطان - إلى آخره " ومما جاء في صفة النشرة الجائزة: ما رواه ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ليث بن أبي سليم قال: " بلغني أن هؤلاء الآيات شفاء من السحر بإذن الله، تقرأ في إناء فيه ماء، ثم يصب على رأس المسحور: الآية التي في سورة يونس: { • • • } ( ) (يونس - 81، 82) وقوله: { • } ( ) (الأعراف 118 - 122) وقوله:... { } ( ) (طه - 69).
وقال ابن بطال: في كتاب وهب بن منبه: أنه يأخذ سبع ورقات من سدر أخضر فيدقه بين حجرين ثم يضربه بالماء ويقرأ فيه آية الكرسي والقواقل، ثم يحسو منه ثلاث حسوات ثم يغتسل به يذهب عنه كل ما به، وهو جيد للرجل إذا حبس عن أهله.
قلت: قول العلامة ابن القيم " والثاني النشرة بالرقية والتعوذات والدعوات والأدوية المباحة، فهو جائز " يشير -رحمه الله- إلى مثل هذا، وعليه يحمل كلام من أجاز النشرة من العلماء.
والحاصل: أن ما كان منه بالسحر فيحرم، وما كان بالقرآن والدعوات والأدوية المباحة، فجائز، والله أعلم.
المسائل المستنبطة من هذا الباب
فيه مسائل:
الأولى: النهي عن النشرة.
الثانية: الفرق بين المنهي عنه والمرخص فيه مما يزيل الإشكال.
باب ما جاء في التطير
وقول الله تعالى: { } ( ) (الأعراف - 131).
وقوله: { • } ( ) (يس - 19).
عن أبي هريرة أن رسول الله قال: { لا عدوى، ولا طيرة، ولا هامة، ولا صفر } ( ) أخرجاه. زاد مسلم: { ولا نوء، ولا غول }.
ولهما عن أنس قال: قال رسول الله { لا عدوى ولا طيرة، ويعجبني الفأل، قالوا: وما الفأل؟ قال: الكلمة الطيبة } ( ).
ولأبي داود بسند صحيح عن عقبة بن عامر قال: " ذكرت الطيرة عند رسول الله فقال: { أحسنها الفأل، ولا ترد مسلما فإذا رأى أحدكم ما يكره فليقل: اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يدفع السيئات إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بك } ( ).
وعن ابن مسعود مرفوعا: { الطيرة شرك، الطيرة شرك، وما منا إلا، ولكن الله يذهبه بالتوكل } ( ) رواه أبو داود، والترمذي وصححه، وجعل آخره من قول ابن مسعود.
ولأحمد من حديث ابن عمرو: { من ردته الطيرة عن حاجة فقد أشرك، قالوا: فما كفارة ذلك؟ قال: أن نقول: اللهم لا خير إلا خيرك، ولا طير إلا طيرك، ولا إله غيرك } ( ).
وله من حديث الفضل بن عباس { إنما الطيرة ما أمضاك أو ردك } ( ).
قوله: باب: " ما جاء في التطير "
أي: من النهي عنه والوعيد فيه، مصدر تطير يتطير، و " الطيرة " بكسر الطاء وفتح الياء، وقد تسكن: اسم مصدر من تطير طيرة، كما يقال: تخير خيرة، ولم يجئ في المصادر على هذه الزنة غيرهما، وأصله: التطير بالسوانح والبوارح من الطير والظباء وغيرهما، وكان ذلك يصدهم عن مقاصدهم، فنفاه الشارع وأبطله، وأخبر أنه لا تأثير له في جلب نفع أو دفع ضر.
قال المدائني " سألت رؤبة بن الحجاج قلت: ما السانح؟ قال: ما ولاك ميامنه. قلت: فما البارح؟ قال: ما ولاك مياسره. والذي يجيء من أمامك فهو الناطح والنطيح، والذي يجيء من خلفك فهو القاعد والقعيد ".
ولما كانت الطيرة من الشرك المنافي لكمال التوحيد الواجب، لكونها من إلقاء الشيطان وتخويفه ووسوسته ذكرها المصنف -رحمه الله- في كتاب التوحيد. تحذيرا مما ينافي كمال التوحيد الواجب.
قوله: " وقول الله تعالى:... { } ( )... ذكر تعالى هذه العبارة في سياق قوله: { • • } ( )... (الأعراف - 131). المعنى أن آل فرعون كانوا إذا أصابتهم الحسنة - أي الخصب والسعة والعافية، كما فسره مجاهد وغيره - قالوا: لنا هذه، أي نحن الجديرون والحقيقون به، ونحن أهله وإن تصبهم سيئة - أي بلاء وقحط - تطيروا بموسى ومن معه، فيقولون: هذا بسبب موسى وأصحابه أصابنا بشؤمهم. فقال الله تعالى: { } ( )... قال ابن عباس " طائرهم: ما قضي عليهم وقدر لهم " وفي رواية " شؤمهم عند الله ومن قبله " أي إنما جاءهم الشؤم من قبله بكفرهم وتكذيبهم بآياته ورسله.
قوله:... { } ( ) (الأعراف - 131) أي أن أكثرهم جهال لا يدرون. ولو فهموا وعقلوا لعلموا أنه ليس فيما جاء به موسى -عليه السلام- إلا الخير والبركة والسعادة والفلاح لمن آمن به واتبعه.
قوله: " وقوله تعالى: { • } ( )... (يس - 19) المعنى - والله أعلم - حظكم وما نابكم من شر معكم؛ بسبب أفعالكم وكفركم ومخالفتكم الناصحين، ليس هو من أجلنا ولا بسببنا. بل ببغيكم وعدوانكم. فطائر الباغي الظالم معه، فما وقع به من الشر فهو سببه الجالب له. وذلك بقضاء الله وقدره وحكمته وعدله، كما قال تعالى: { } ( ) (القلم - 35 - 36) ويحتمل أن يكون المعنى: طائركم معكم. أي راجع عليكم، فالتطير الذي حصل لكم إنما يعود عليكم: وهذا من باب القصاص في الكلام. ونظيره قوله -عليه الصلاة والسلام-: " إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا: وعليكم " ذكره ابن القيم -رحمه الله-.
قوله تعالى: { } ( ) أي من أجل أنا ذكرناكم وأمرناكم بتوحيد الله قابلتمونا بهذا الكلام { } ( ) قال قتادة: أإن ذكرناكم بالله تطيرتم بنا؟.
ومناسبة الآيتين للترجمة: أن التطير من عمل أهل الجاهلية والمشركين. وقد ذمهم الله تعالى به ومقتهم، وقد نهى رسول الله عن التطير وأخبر أنه شرك. كما سيأتي في أحاديث الباب.
قال: " وعن أبي هريرة أن رسول الله قال: " { لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر } ( ) أخرجاه. زاد مسلم: { ولا نوء ولا غول }.
قال أبو السعادات: " العدوى " اسم من الإعداء. كالدعوى. يقال: أعداه الداء يعديه إعداء إذا أصابه مثل ما بصاحب الداء.
وقال غيره: " لا عدوى " هو اسم من الإعداء، وهو مجاوزة العلة من صاحبها إلى غيره والمنفي نفس سراية العلة أو إضافتها إلى العلة. والأول هو الظاهر.
وفي رواية لمسلم: أن أبا هريرة كان يحدث بحديث لا عدوى، ويحدث عن النبي أنه قال: { لا يورد ممرض على مصح } ( ) ثم إن أبا هريرة اقتصر على حديث: { لا يورد ممرض على مصح } ( ) وأمسك عن حديث "لا عدوى" فراجعوه وقالوا: سمعناك تحدث به، فأبى أن يعترف به. قال أبو مسلمة - الراوي عن أبي هريرة: فلا أدري أنسي أبو هريرة أو نسخ أحد القولين الآخر.
وقد روى حديث " لا عدوى " جماعة من الصحابة: أنس بن مالك، وجابر بن عبد الله، والسائب بن يزيد، وابن عمر، وغيرهم، وفي بعض روايات هذا الحديث { وفر من المجذوم كما تفر من الأسد } ( ).
وقد اختلف العلماء في ذلك. وأحسن ما قيل فيه قول البيهقي، وتبعه ابن الصلاح، وابن القيم، وابن رجب، وابن مفلح وغيرهم: أن قوله " لا عدوى " على الوجه الذي يعتقده أهل الجاهلية من إضافة الفعل إلى غير الله تعالى، وأن هذه الأمور تعدي بطبعها. وإلا فقد يجعل الله بمشيئته مخالطة الصحيح من به شيء من الأمراض سببا لحدوث ذلك، ولهذا قال: { فر من المجذوم كما تفر من الأسد } ( ) وقال: { لا يورد ممرض على مصح } ( ) وقال في الطاعون { من سمع به في أرض فلا يقدم عليه } وكل ذلك بتقدير الله تعالى. ولأحمد والترمذي عن ابن مسعود مرفوعا { لا يعدي شيء - قالها ثلاثا - فقال أعرابي: يا رسول الله إن النقبة من الجرب تكون بمشفر البعير أو بذنبه في الإبل العظيمة فتجرب كلها؟ فقال رسول الله فمن أجرب الأول؟ لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر، خلق الله كل نفس وكتب حياتها ومصائبها ورزقها } ( ) فأخبر أن ذلك كله بقضاء الله وقدره، والعبد مأمور باتقاء أسباب الشر إذا كان في عافية. فكما أنه يؤمر أن لا يلقي نفسه في الماء وفي النار، مما جرت العادة أن يهلك أو يضر. فكذلك اجتنب مقاربة المريض كالمجذوم، والقدوم على بلد الطاعون، فإن هذه كلها أسباب للمرض والتلف، فالله سبحانه هو خالق الأسباب ومسبباتها، لا خالق غيره ولا مقدر غيره. وأما إذا قوي التوكل على الله والإيمان بقضاء الله وقدره فقويت النفس على مباشرة بعض هذه الأسباب، اعتمادا على الله، ورجاء منه أن لا يحصل به ضرر، ففي هذه الحال تجوز مباشرة ذلك، لا سيما إذا كانت مصلحة عامة أو خاصة، وعلى هذا يحمل الحديث الذي رواه أبو داود والترمذي: { أن النبي أخذ بيد مجذوم فأدخلها معه في القصعة، ثم قال: كل بسم الله، ثقة بالله وتوكلا عليه } ( ) وقد أخذ به الإمام أحمد. وروي ذلك عن عمر وابنه وسلمان -رضي الله عنهم-. ونظير ذلك ما روي عن خالد بن الوليد أنه أكل السم، ومنه مشي سعد بن أبي وقاص وأبي مسلم الخولاني على متن البحر، قاله ابن رجب، رحمه الله.
قوله: " ولا طيرة " قال ابن القيم -رحمه الله تعالى-: يحتمل أن يكون نفيا أو نهيا: أي لا تطيروا، ولكن قوله في الحديث: { لا عدوى ولا صفر ولا هامة } ( ) يدل على أن المراد النفي وإبطال هذه الأمور التي كانت الجاهلية تعانيها. والنفي في هذا أبلغ من النهي؛ لأن النفي يدل على بطلان ذلك وعدم تأثيره، والنهي إنما يدل على المنع منه.
وفي صحيح مسلم عن معاوية بن الحكم: أنه قال لرسول الله { ومنا أناس يتطيرون. قال: ذلك شيء يجده أحدكم في نفسه فلا يصدنكم } ( ) فأخبر أن تأذيه وتشاؤمه بالطيرة إنما هو في نفسه وعقيدته، لا في المتطير به، فوهمه وخوفه وإشراكه هو الذي يطيره ويصده لما رآه وسمعه، فأوضح لأمته الأمر، وبين لهم فساد الطيرة ليعلموا أن الله سبحانه لم يجعل لهم عليها علامة، ولا فيها دلالة، ولا نصبها سببا لما يخافونه ويحذرونه، ولتطمئن قلوبهم، وتسكن نفوسهم إلى وحدانيته تعالى التي أرسل بها رسله، وأنزل بها كتبه، وخلق لأجلها السماوات والأرض، وعمر الدارين الجنة والنار بسبب التوحيد، فقطع علق الشرك من قلوبهم؛ لئلا يبقى فيها علقة منها، ولا يتلبسوا بعمل من أعمال أهل النار ألبتة.
فمن استمسك بعروة التوحيد الوثقى، واعتصم بحبله المتين، وتوكل على الله، قطع هاجس الطيرة من قبل استقرارها، وبادر خواطرها من قبل استكمالها.
قال عكرمة: كنا جلوسا عند ابن عباس، فمر طائر يصيح، فقال رجل من القوم: خير، فقال له ابن عباس: لا خير ولا شر. فبادره بالإنكار عليه، لئلا يعتقد تأثيره في الخير والشر، وخرج طاوس مع صاحب له في سفر، فصاح غراب، فقال الرجل: خير. فقال طاوس: وأي خير عند هذا؟ لا تصحبني. اهـ ملخصا.
وقد جـاءت أحاديث ظن بعض الناس أنها تـدل علـى جواز الطيرة، كقوله { الشؤم في ثلاث: في المرأة، والدابة، والدار } ( ) ونحو هذا.
قال ابن القيم -رحمه الله تعالى-: إخباره بالشؤم في هذه الثلاثة ليس فيه إثبات الطيرة التي نفاها الله سبحانه، وإنما غايته أن الله سبحانه قد يخلق منها أعيانا مشؤومة على من قاربها وساكنها، وأعيانا مباركة لا يلحق من قاربها شؤم ولا شر، وهذا كما يعطي سبحانه الوالدين ولدا مباركا يريان الخير على وجهه، ويعطي غيرهما ولدا مشؤوما يريان الشر على وجهه، وكذلك ما يعطاه العبد من ولاية وغيرها، فكذلك الدار والمرأة والفرس. والله سبحانه خالق الخير والشر والسعود والنحوس، فيخلق بعض هذه الأعيان سعودا مباركة، ويقضي بسعادة من قاربها وحصول اليمن والبركة له، ويخلق بعضها نحوسا يتنحس بها من قاربها. وكل ذلك بقضائه وقدره، كما خلق سائر الأسباب وربطها بمسبباتها المتضادة والمختلفة. كما خلق المسك وغيره من الأرواح الطيبة ولذذ بها من قاربها من الناس. وخلق ضدها وجعلها سببا لألم من قاربها من الناس، والفرق بين هذين النوعين مدرك بالحس، فكذلك الديار والنساء والخيل. فهذا لون والطيرة الشركية لون. انتهى.
قوله: " ولا هامة " بتخفيف الميم على الصحيح. قال الفراء: الهامة طير من طير الليل كأنه يعني البومة. قال ابن الأعرابي، كانوا يتشاءمون بها إذا وقعت على بيت أحدهم يقول: نعت إلي نفسي أو أحدا من أهل داري، فجاء الحديث بنفي ذلك وإبطاله.
قوله: " ولا صفر " بفتح الفاء، روى أبو عبيدة في غريب الحديث عن رؤبة أنه قال: هي حية تكون في البطن تصيب الماشية والناس، وهي أعدى من الجرب عند العرب. وعلى هذا: فالمراد بنفيه ما كانوا يعتقدونه من العدوى. وممن قال بهذا سفيان بن عيينة والإمام أحمد والبخاري وابن جرير.
وقال آخرون: المراد به شهر صفر، والنفي لما كان أهل الجاهلية يفعلونه في النسيء، وكانوا يحلون المحرم ويحرمون صفر مكانه، وهو قول مالك.
روى أبو داود عن محمد بن راشد عمن سمعته يقول: إن أهل الجاهلية يتشاءمون بصفر، ويقولون: إنه شهر مشؤوم، فأبطل النبي ذلك. قال ابن رجب: ولعل هذا القول أشبه الأقوال، والتشاؤم بصفر هو من جنس الطيرة المنهي عنها، وكذلك التشاؤم بيوم من الأيام كيوم الأربعاء وتشاؤم أهل الجاهلية بشوال في النكاح فيه خاصة.
قوله: " ولا نوء " النوء واحد الأنواء، وسيأتي الكلام عليه في بابه إن شاء الله تعالى.
قوله: " ولا غول " هو بالضم اسم، وجمعه أغوال وغيلان. وهو المراد هنا.
قال أبو السعادات: الغول واحد الغيلان، وهو جنس من الجن والشياطين، كانت العرب تزعم أن الغول في الفلاة تتراءى للناس، تتلون تلونا في صور شتى وتغولهم: أي تضلهم عن الطريق وتهلكهم، فنفاه النبي وأبطله.
فإن قيل: ما معنـى النفي: وقد قال النبي { إذا تغولت الغيلان فبادروا بالأذان؟ } ( ) .
أجيب عنه: بأن ذلك كان في الابتداء، ثم دفعها الله عن عباده. أو يقال: المنفي ليس وجود الغول، بل ما يزعمه العرب من تصرفه في نفسه، أو يكون المعنى بقوله " لا غول " أنها لا تستطيع أن تضل أحدا مع ذكر الله والتوكل عليه. ويشهد له الحديث الآخر { لا غول ولكن السعالى سحرة الجن } ( ) أي ولكن في الجن سحرة لهم تلبيس وتخييل. ومنه الحديث { إذا تغولت الغيلان فبادروا بالأذان } ( ) أي ادفعوا شرها بذكر الله. وهذا يدل على أنه لم يرد بنفيها عدمها. ومنه حديث أبي أيوب " كان لي تمر في سهوة فكانت الغول تجيء فتأخذ ".
قوله: ولهما عن أنس قال: قال رسول الله { لا عدوى ولا طيرة، ويعجبني الفأل، قالوا: وما الفأل؟ قال: الكلمة الطيبة } ( ).
قوله: " ويعجبني الفأل " قال أبو السعادات: الفأل، مهموز فيما يسر ويسوء، والطيرة لا تكون إلا فيما يسوء، وربما استعملت فيما يسر. يقال: تفاءلت بكذا وتفاولت، على التحقيق والقلب، وقد أولع الناس بترك الهمزة تخفيفا، وإنما أحب الفأل لأن الناس إذا أملوا فائدة الله، ورجوا عائدته عند كل سبب ضعيف أو قوي فهم على خير، وإذا قطعوا آمالهم ورجاءهم من الله تعالى كان ذلك من الشر. وأما الطيرة فإن فيها سوء الظن بالله وتوقع البلاء، والتفاؤل: أن يكون رجل مريض فيسمع آخر يقول: يا سالم، أو يكون طالب ضالة فيسمع آخر يقول: يا واجد، فيقع في ظنه أنه يبرأ من مرضه ويجد ضالته. ومنه الحديث: " قيل: يا رسول الله، ما الفأل؟ قال: الكلمة الطيبة ".
قوله: " قالوا: وما الفأل؟ قال: الكلمة الطيبة " بين أن الفأل يعجبه. فدل على أنه ليس من الطيرة المنهي عنها.
قال ابن القيم -رحمه الله تعالى-: ليس في الإعجاب بالفأل ومحبته شيء من الشرك، بل ذلك إبانة عن مقتضى الطبيعة وموجب الفطرة الإنسانية التي تميل إلى ما يوافقها ويلائمها، كما أخبرهم أنه حبب إليه من الدنيا النساء والطيب، وكان يحب الحلواء والعسل، ويحب حسن الصوت بالقرآن والأذان ويستمع إليه، ويحب معالي الأخلاق ومكارم الشيم.
وبالجملة يحب كل كمال وخير وما يفضي إليهما، والله سبحانه قد جعل في غرائز الناس الإعجاب بسماع الاسم الحسن ومحبته، وميل نفوسهم إليه، وكذلك جعل فيها الارتياح والاستبشار والسرور باسم الفلاح والسلام والنجاح والتهنئة والبشرى والفوز والظفر ونحو ذلك فإذا قرعت هذه الأسماء الأسماع استبشرت بها النفوس، وانشرح لها الصدر، وقوي بها القلب، وإذا سمعت أضدادها أوجب لها ضد هذه الحال. فأحزنها ذلك، وأثار لها خوفا وطيرة وانكماشا وانقباضا عما قصدت له وعزمت عليه، فأورث لها ضررا في الدنيا ونقصا في الإيمان ومقارفة الشرك.
وقال الحليمي: وإنما كان يعجبه الفأل؛ لأن التشاؤم سوء ظن بالله تعالى لكونه بغير سبب محقق، والتفاؤل حسن ظن به، والمؤمن مأمور بحسن الظن بالله تعالى على كل حال.
قوله: ولأبي داود بسند صحيح عن عقبة بن عامر قال: { ذكرت الطيرة عند رسول الله فقال: " أحسنها الفأل، ولا ترد مسلما. فإذا رأى أحدكم ما يكره فليقل: اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يدفع السيئات إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بك } ( ).
قوله: " عن عقبة بن عامر " هكذا وقع في نسخ التوحيد، وصوابه: عن عروة بن عامر كذا أخرجه أحمد وأبو داود وغيرهما. وهو مكي اختلف في نسبه، فقال أحمد: عن عروة بن عامر القرشي، وقال غيره: الجهني. واختلف في صحبته، فقال الماوردي: له صحبة، وذكره ابن حبان في ثقات التابعين، وقال المزي: لا صحبة له تصح.
قوله: " فقال: أحسنها الفأل " قد تقدم أن النبي كان يعجبه الفأل، وروى الترمذي وصححه عن أنس " أن النبي كان إذا خرج لحاجته يحب أن يسمع: يا نجيح، يا راشد " وروى أبو داود عن بريدة " أن النبي كان لا يتطير من شيء، وكان إذا بعث عاملا سأله عن اسمه، فإذا أعجبه فرح به، وإن كره اسمه رئي كراهية ذلك في وجهه " وإسناده حسن. وهذا فيه استعمال الفأل.
قال ابن القيم: أخبر أن الفأل من الطيرة وهو خيرها، فأبطل الطيرة وأخبر أن الفأل منها ولكنه خير منها، ففصل بين الفأل والطيرة؛ لما بينهما من الامتياز والتضاد، ونفع أحدهما، ومضرة الآخر، ونظير هذا: منعه من الرقي بالشرك، وإذنه في الرقية إذا لم يكن فيها شرك، لما فيها من المنفعة الخالية من المفسدة.
قوله: " ولا ترد مسلما " قال الطيبي: تعريض بأن الكافر بخلافه.
قوله: " اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت ولا يدفع السيئات إلا أنت " أي لا تأتي الطيرة بالحسنات ولا تدفع المكروهات، بل أنت وحدك لا شريك لك الذي تأتي بالحسنات وتدفع السيئات، و " الحسنات " هنا النعم، و " السيئات " المصائب، كقوله تعالى:... { • } ( )... (النساء - 78، 79) ففيه نفي تعليق القلب بغير الله في جلب نفع أو دفع ضر، وهذا هو التوحيد، وهو دعاء مناسب لمن وقع في قلبه شيء من الطيرة وتصريح بأنها لا تجلب نفعا ولا تدفع ضرا، ويعد من اعتقدها سفيها مشركا.
قوله: " ولا حول ولا قوة إلا بك " استعانة بالله تعالى على فعل التوكل، وعدم الالتفات إلى الطيرة التي قد تكون سببا لوقوع المكروه عقوبة لفاعلها. وذلك الدعاء إنما يصدر عن حقيقة التوكل الذي هو أقوى الأسباب في جلب الخيرات ودفع المكروهات.
و " الحول " التحول والانتقال من حال إلى حال، و" القوة " على ذلك بالله وحده لا شريك له. ففيه: التبري من الحول والقوة والمشيئة بدون حول الله وقوته ومشيئته وهذا هو التوحيد في الربوبية، وهو الدليل على توحيد الإلهية الذي هو إفراد الله تعالى بجميع أنواع العبادة، وهو توحيد القصد والإرادة، وقد تقدم بيان ذلك بحمد الله.
قوله: " وعن ابن مسعود مرفوعا: " الطيرة شرك، الطيرة شرك. وما منا إلا، ولكن الله يذهبه بالتوكل " رواه أبو داود والترمذي وصححه. وجعل آخره من قول ابن مسعود.
ورواه ابن ماجه وابن حبان. ولفظ أبي داود " الطيرة شرك، الطيرة شرك، الطيرة شرك. ثلاثا " وهذا صريح في تحريم الطيرة، وأنها من الشرك، لما فيها من تعلق القلب على غير الله تعالى.
قال ابن حمدان: تكره الطيرة، وكذا قال غيره من أصحاب أحمد.
قال ابن مفلح: والأولى القطع بتحريمها لأنها شرك، وكيف يكون الشرك مكروها الكراهية الاصطلاحية.
قال في شرح السنن: وإنما جعل الطيرة من الشرك لأنهم كانوا يعتقدون أن الطيرة تجلب لهم نفعا أو تدفع عنهم ضرا إذا عملوا بموجبها، فكأنهم أشركوا مع الله تعالى.
قوله: " وما منا إلا " قال أبو القاسم الأصبهاني، والمنذري: في الحديث إضمار، التقدير: وما منا إلا وقد وقع في قلبه شيء من ذلك. اهـ.
وقال الخلخالي: حذف المستثنى لما يتضمنه من الحالة المكروهة. وهذا من أدب الكلام.
قوله: " ولكن الله يذهبه بالتوكل " أي لكن لما توكلنا على الله في جلب النفع ودفع الضر أذهبه الله عنا بتوكلنا عليه وحده.
قوله: " وجعل آخره من قول ابن مسعود " قال ابن القيم: وهو من الصواب؛ فإن الطيرة نوع من الشرك.
قال: ولأحمد من حديث ابن عمر: { ومن ردته الطيرة عن حاجته فقد أشرك. قالوا: فما كفارة ذلك؟ قال: أن تقول: اللهم لا خير إلا خيرك، ولا طير إلا طيرك، ولا إله غيرك } ( ).
هذا الحديث رواه أحمد والطبراني عن عبد الله بن عمرو بن العاص، وفي إسناده ابن لهيعة وبقية رجاله ثقات.
قوله: " من حديث ابن عمرو " هو عبد الله بن عمرو بن العاص بن وائل السهمي أبو محمد. وقيل: أبو عبد الرحمن، أحد السابقين المكثرين من الصحابة. وأحد العبادلة الفقهاء. مات في ذي الحجة ليالي الحرة - على الأصح - بالطائف.
قوله: " من ردته الطيرة عن حاجته فقد أشرك " وذلك أن الطيرة هي التشاؤم بالشيء المرئي أو المسموع، فإذا رده شيء من ذلك عن حاجته التي عزم عليها كإرادة السفر ونحوه، فمنعه عما أراده وسعى فيه ما رأى وما سمع تشاؤما، فقد دخل في الشرك. كما تقدم، فلم يخلص توكله على الله بالتفاته إلى ما سواه، فيكون للشيطان منه نصيب.
قوله: " فما كفارة ذلك؟ " إلى آخره، فإذا قال ذلك وأعرض عما وقع في قلبه، ولم يلتفت إليه، كفر الله عنه ما وقع في قلبه ابتداء؛ لزواله عن قلبه بهذا الدعاء المتضمن للاعتماد على الله وحده، والإعراض عما سواه.
وتضمن الحديث: أن الطيرة لا تضر من كرهها ومضى في طريقه، وأما من لم يخلص توكله على الله واسترسل مع الشيطان في ذلك، فقد يعاقب بالوقوع فيما يكره؛ لأنه أعرض عن واجب الإيمان بالله، وأن الخير كله بيده، فهو الذي يجلبه لعبده بمشيئته وإرادته، وهو الذي يدفع عنه الضر وحده بقدرته ولطفه وإحسانه، فلا خير إلا منه، وهو الذي يدفع الشر عن عبده فما أصابه من ذلك فبذنبه، كما قال تعالى: { • } ( )... (النساء - 79).
قوله: وله من حديث الفضل بن عباس: { إنما الطيرة ما أمضاك أو ردك } ( ).
هذا الحديث عند الإمام أحمد من حديث الفضل بن عباس قال: { خرجت مع رسول الله يوما، فبرح ظبي، فمال في شقه فاحتضنته، فقلت: يا رسول الله، تطيرت. فقال: إنما الطيرة ما أمضاك أو ردك } ( ) وفي إسناده انقطاع، أي بين مسلمة راويه وبين الفضل، وهو الفضل بن العباس بن عبد المطلب ابن عم النبي . قال ابن معين: قتل يوم اليرموك. وقال غيره: قتل يوم مرج الصفر سنة ثلاث عشرة وهو ابن اثنتين وعشرين سنة. وقال أبو داود: قتل بدمشق، كان عليه درع رسول الله .
قوله: " إنما الطيرة ما أمضاك أو ردك " هذا حد الطيرة المنهي عنها: أنها ما يحمل الإنسان على المضي فيما أراده أو يمنعه من المضي فيه كذلك. وأما الفأل الذي كان يحبه النبي فهو ما فيه نوع بشارة، فيسر به العبد ولا يعتمد عليه؛ بخلاف ما يمضيه أو يرده؛ فإن للقلب عليه نوع اعتماد. فافهم الفرق. والله أعلم.
المسائل المستنبطة من هذا الباب
فيه مسائل:
الأولى: التنبيه على قوله:... { } ( )... (الأعراف - 131) مع قوله:... { • } ( )... (يس - 19).
الثانية: نفي العدوى.
الثالثة: نفي الطيرة.
الرابعة: نفي الهامة.
الخامسة: نفي الصفر.
السادسة: أن الفأل ليس من ذلك، بل مستحب.
السابعة: تفسير الفأل.
الثامنة: أن الواقع في القلوب من ذلك مع كراهته لا يضر، بل يذهبه الله بالتوكل.
التاسعة: ذكر ما يقول من وجده.
العاشرة: التصريح بأن الطيرة شرك.
الحادية عشرة: تفسير الطيرة المذمومة.
باب ما جاء في التنجيم
قال البخاري في صحيحه: قال قتادة: " خلق الله هذه النجوم لثلاث: زينة للسماء ورجوما للشياطين، وعلامات يهتدى بها. فمن تأول فيها غير ذلك أخطأ، وأضاع نصيبه، وتكلف ما لا علم له به " انتهى.
وكره قتادة: تعلم منازل القمر، ولم يرخص ابن عيينة فيه. ذكره حرب عنهما. ورخص في المنازل أحمد وإسحاق.
وعن أبي موسى قال: قال رسول الله " ثلاثة لا يدخلون الجنة: مدمن الخمر، ومصدق بالسحر، وقاطع الرحم " رواه أحمد وابن حبان في صحيحه.
قوله: باب: " ما جاء في التنجيم "
قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: التنجيم: هو الاستدلال بالأحوال الفلكية، على الحوادث الأرضية.
وقال الخطابي: علم النجوم المنهي عنه هو ما يدعيه أهل التنجيم من علم الكوائن والحوادث التي ستقع في مستقبل الزمان، كأوقات هبوب الرياح ومجيء المطر، وتغير الأسعار، وما في معناها من الأمور التي يزعمون أنها تدرك معرفتها بمسير الكواكب في مجاريها، واجتماعها وافتراقها، يدعون أن لها تأثيرا في السفليات. وهذا منهم تحكم على الغيب، وتعاط لعلم قد استأثر الله به، ولا يعلم الغيب سواه.
قوله: " قال البخاري في صحيحه: قال قتادة: خلق الله هذه النجوم لثلاث: زينة للسماء، ورجوما للشياطين، وعلامات يهتدى بها. فمن تأول فيها غير ذلك أخطأ وأضاع نصيبه، وتكلف ما لا علم له به.
هذا الأثر علقه البخاري في صحيحه. وأخرجه عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وغيرهم. وأخرجه الخطيب في كتاب النجوم عن قتادة، ولفظه قال: " إنما جعل الله هذه النجوم لثلاث خصال: جعلها زينة للسماء، وجعلها يهتدى بها، وجعلها رجوما للشياطين. فمن تعاطى فيها غير ذلك فقد قال برأيه، وأخطأ حظه، وأضاع نصيبه، وتكلف ما لا علم له به، وإن ناسا جهلة بأمر الله قد أحدثوا في هذه النجوم كهانة: من أعرس بنجم كذا وكذا كان كذا وكذا، ومن سافر بنجم كذا وكذا كان كذا وكذا. ولعمري ما من نجم إلا يولد به الأحمر والأسود والطويل والقصير، والحسن والدميم، وما علم هذه النجوم وهذه الدابة وهذا الطائر بشيء من هذا الغيب. ولو أن أحدا علم الغيب لعلمه آدم الذي خلقه الله بيده وأسجد له ملائكته وعلمه أسماء كل شيء ". انتهى.
فتأمل ما أنكره هذا الإمام مما حدث من المنكرات في عصر التابعين، وما زال الشر يزداد في كل عصر بعدهم حتى بلغ الغاية في هذه الأعصار، وعمت به البلوى في جميع الأمصار، فمقل ومستكثر، وعز في الناس من ينكره، وعظمت المصيبة به في الدين. فإنا لله وإنا إليه راجعون.
قوله: " خلق الله هذه النجوم لثلاث " قال تعالى: { • } ( ).... (الملك - 5) وقال تعالى: { • } ( ).... (النحل - 16) وفيه: إشارة إلى أن النجوم في السماء الدنيا، كما روى ابن مردويه عن ابن مسعود قال: قال رسول الله { أما السماء الدنيا: فإن الله خلقها من دخان، وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا، وزينها بمصابيح، وجعلها رجوما للشياطين، وحفظا من كل شيطان رجيم }.
قوله: " وعلامات " أي: دلالات على الجهات " يهتدى بها " أي يهتدي بها الناس في ذلك. كما قـال تعالى: { } ( )... (الأنعام - 97) أي لتعرفوا بها جهة قصدكم، وليس المراد أن يهتدى بها في علم الغيب، كما يعتقده المنجمون، وقد تقدم وجه بطلانه، وأنه لا حقيقة له كما قال قتادة: " فمن تأول فيها غير ذلك " أي: زعم فيها غير ما ذكر الله في كتابه من هذه الثلاث فقد أخطأ. حيث زعم شيئا ما أنزل الله به من سلطان، وأضاع نصيبه من كل خير؛ لأنه شغل نفسه بما يضره ولا ينفعه.
فإن قيل: المنجم قد يصدق. قيل: صدقه كصدق الكاهن، يصدق في كلمة ويكذب في مائة. وصدقه ليس عن علم، بل قد يوافق قدرا، فيكون فتنة في حق من صدقه.
وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- في قوله: { } ( )... (النحل - 15) فقـوله: " وعلامات " معطوف على ما تقدم مما ذكـره في الأرض، ثم استأنف فقال: { • } ( ) ذكره ابن جرير عن ابن عباس بمعناه.
وقد جاءت الأحاديث عن النبي بإبطال علم التنجيم، كقوله: { من اقتبس شعبة من النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر. زاد ما زاد } ( ).
وعن رجاء بن حيوة: أن النبي قال: { إن مما أخاف على أمتي: التصديق بالنجوم، والتكذيب بالقدر، وحيف الأئمة } رواه عبد بن حميد. وعن أبي محجن مرفوعا: { أخاف على أمتي ثلاثا: حيف الأئمة، وإيمانا بالنجوم، وتكذيبا بالقدر } رواه ابن عساكر وحسنه السيوطي.
وعن أنس مرفوعا { أخاف على أمتي بعدي خصلتين: تكذيبا بالقدر، وإيمانا بالنجوم } رواه أبو يعلى وابن عدي والخطاب في كتاب النجوم، وحسنه السيوطي أيضا. والأحاديث في ذم التنجيم والتحذير منه كثيرة.
قوله: " وكره قتادة تعلم منازل القمر. ولم يرخص ابن عيينة فيه. ذكره حرب عنهما. ورخص في تعلم المنازل أحمد وإسحاق ".
قال الخطابي: أما علم النجوم الذي يدرك من طريق المشاهدة والخبر الذي يعرف به الزوال، وتعلم به جهة القبلة: فإنه غير داخل فيما نهي عنه. وذلك أن معرفة رصد الظل ليس شيئا أكثر من أن الظل ما دام متناقصا فالشمس بعد صاعدة نحو وسط السماء من الأفق الشرقي، وإذا أخذ في الزيادة فالشمس هابطة من وسط السماء نحو الأفق الغربي، وهذا علم يصح إدراكه بالمشاهدة، إلا أن أهل هذه الصناعة قد دبروها بما اتخذوه من الآلات التي يستغني الناظر فيها عن مراعاة مدته ومراصدته. وأما ما يستدل به من النجوم على جهة القبلة: فإنها كواكب رصدها أهل الخبرة من الأئمة الذين لا نشك في عنايتهم بأمر الدين ومعرفتهم بها، وصدقهم فيما أخبروا به عنها، مثل أن يشاهدها بحضرة الكعبة، ويشاهدها على حال الغيبة عنها، فكان إدراكهم الدلالة منها بالمعاينة، وإدراكنا ذلك بقبول خبرهم إذ كانوا عندنا غير متهمين في دينهم، ولا مقصرين في معرفتهم. انتهى.
وروى ابن المنذر عن مجاهد: " أنه كان لا يرى بأسا أن يتعلم الرجل منازل القمر " وروى عن إبراهيم " أنه كان لا يرى بأسا أن يتعلم الرجل من النجوم ما يهتدى به " قال ابن رجب: والمأذون في تعلمه التسيير لا علم التأثير؛ فإنه باطل محرم، قليله وكثيره. وأما علم التسيير فتعلم ما يحتاج إليه منه الاهتداء ومعرفة القبلة والطرق جائز عند الجمهور.
قوله: " ذكره حرب عنهما " هو الإمام الحافظ حرب بن إسماعيل أبو محمد الكرماني الفقيه من جلة أصحاب الإمام أحمد. روى عن أحمد وإسحاق وابن المديني وابن معين وغيرهم. وله كتاب المسائل التي سئل عنها الإمام أحمد وغيره، مات سنة ثمانين ومائتين.
وأما إسحاق: فهو ابن إبراهيم بن مخلد أبو أيوب الحنظلي النيسابوري، الإمام المعروف بابن راهويه. روى عن ابن المبارك وأبي أسامة وابن عيينة وطبقتهم. قال أحمد: إسحاق عندنا إمام من أئمة المسلمين. روى عنه أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود وغيرهم. وروى هو أيضا عن أحمد. مات سنة تسع وثلاثين ومائتين.
قال: " وعن أبي موسى قال: قال رسول الله " ثلاثة لا يدخلون الجنة: مدمن الخمر، وقاطع الرحم، ومصدق السحر " رواه أحمد وابن حبان في صحيحه.
هذا الحديث رواه أيضا الطبراني والحاكم وقال: صحيح. وأقره الذهبي. وتمامه: " ومن مات وهو يدمن الخمر سقاه الله من نهر الغوطة: نهر يجري من فروج المومسات، يؤذي أهل النار ريح فروجهن ".
قوله: " وعن أبي موسى " هو عبد الله بن قيس بن سليم بن حضار - بفتح المهملة وتشديد الضاد - أبي موسى الأشعري. صحابي جليل. مات سنة خمسين.
قوله: " ثلاثة لا يدخلون الجنة " هذا من نصوص الوعيد التي كره السلف تأويلها، وقالوا: أمروها كما جاءت، ومن تأولها فهو على خطر من القول على الله بلا علم وأحسن ما يقال: إن كل عمل دون الشرك والكفر المخرج عن ملة الإسلام فإنه يرجع إلى مشيئة الله: فإن عذبه فقد استوجب العذاب، وإن غفر له فبفضله وعفوه ورحمته.
قوله: " مدمن الخمر " أي المداوم على شربها.
قوله: " وقاطع الرحم " يعني القرابة كما قال تعالى: (فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم) (محمد - 22).
قوله: " ومصدق بالسحر " أي مطلقا. ومنه التنجيم؛ لما تقدم من الحديث. وهذا وجه مطابقة الحديث للترجمة.
قال الذهبي في الكبائر: ويدخل فيه تعلم السيميا وعملها، وعقد المرء عن زوجته، ومحبة الزوج لامرأته، وبغضها وبغضه، وأشباه ذلك بكلمات مجهولة، قال: وكثير من الكبائر - بل عامتها إلا الأقل - يجهل خلق من الأمة تحريمه، وما بلغه الزجر فيه، ولا الوعيد عليه. اهـ.
المسائل المستنبطة من هذا الباب
فيه مسائل:
الأولى: الحكمة في خلق النجوم.
الثانية: الرد على من زعم غير ذلك.
الثالثة: ذكر الخلاف في تعلم المنازل.
الرابعة: الوعيد فيمن صدق بشيء من السحر، ولو عرف أنه باطل.
باب ما جاء في الاستسقاء بالأنواء
وقول الله تعالى: { } ( ) (الواقعة - 82).
وعن أبي مالك الأشعري أن رسول الله قال: " { أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن: الفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة } ( ). وقال: { النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب } ( ) رواه مسلم.
ولهما عن زيد بن خالد قال: { صلى لنا رسول الله صلاة الصبح بالحديبية على إثر سماء كانت من الليل، فلما انصرف أقبل على الناس فقال: هل تدرون ماذا قال ربكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا، فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب } ( ).
ولهما من حديث ابن عباس بمعناه، وفيه: " قال بعضهم: لقد صدق نوء كذا وكذا، فأنزل الله هذه الآيات: { • } ( ) (الواقعة - 75 - 82).
قوله: باب " ما جاء في الاستسقاء بالأنواء "
أي من الوعيد، والمراد: نسبة السقيا ومجيء المطر إلى الأنواء، و "الأنواء" جمع "نوء" وهي منازل القمر، قال أبو السعادات: وهي ثمان وعشرون منزلة، ينزل القمر كل ليلة منزلة منها. ومنه قوله تعالى: { } ( )... (يس - 39) يسقط في الغرب كل ثلاث عشرة ليلة منزلة مع طلوع الفجر، وتطلع أخرى مقابلتها ذلك الوقت من المشرق، فتنقضي جميعها مع انقضاء السنة. وكانت العرب تزعم أن مع سقوط المنزلة وطلوع رقيبها يكون مطر، وينسبونه إليها، ويقولون: " مطرنا بنوء كذا وكذا " وإنما سمي نوءا لأنه إذا سقط الساقط منها ناء الطالع بالمشرق، أي نهض وطلع.
قال: وقوله تعالى: { } ( ) روى الإمام أحمد، والترمذي وحسنه وابن جريـر وابن أبي حـاتم والضياء في المختـارة عـن علي قال: قال رسـول الله { { } ( ) يقول: شكركم { } ( ) تقولون: مطرنا بنوء كذا وكذا: بنجم كذا وكذا } وهذا أولى ما فسرت به الآية، وروي ذلك عن علي وابن عباس وقتادة والضحاك وعطاء والخراساني وغيرهم، وهو قول جمهور المفسرين، وبه يظهر وجه استدلال المصنف -رحمه الله- بالآية.
قال ابن القيم -رحمه الله-: أي تجعلون حظكم من هذا الرزق الذي به حياتكم: التكذيب به، يعني القرآن. قال الحسن: تجعلون حظكم ونصيبكم من القرآن أنكم تكذبون، قال: وخسر عبد لا يكون حظه من القرآن إلا التكذيب.
قوله: " عن أبي مالك الأشعري أن رسول الله قال: { أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن: الفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة } ( ). وقال: { النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقوم يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب } ( ) رواه مسلم.
" أبو مالك " اسمه الحارث بن الحارث الشامي. صحابي تفرد عنه بالرواية أبو سلام، وفي الصحابة أبو مالك الأشعري اثنان غير هذا.
قوله: { أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن } ( ) ستفعلها هذه الأمة إما مع العلم بتحريمها أو مع الجهل بذلك، مع كونها من أعمال الجاهلية المذمومة المكروهة المحرمة. والمراد بالجاهلية هنا ما قبل المبعث، سموا بذلك لفرط جهلهم، وكل ما يخالف ما جاء به الرسول فهو جاهلية، فقد خالفهم رسول الله في كثير من أمورهم أو أكثرها، وذلك يدرك بتدبر القرآن ومعرفة السنة. ولشيخنا -رحمه الله- مصنف لطيف ذكر فيه ما خالف رسول الله فيه أهل الجاهلية، بلغ مائة وعشرين مسألة.
قال شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى-: أخبر أن بعض أمر الجاهلية لا يتركه الناس كلهم ذما لمن لم يتركه، وهذا يقتضي أن كل ما كان من أمر الجاهلية وفعلهم فهو مذموم في دين الإسلام، وإلا لم يكن في إضافة هذه المنكرات إلى الجاهلية ذم لها، ومعلوم أن إضافتها إلى الجاهلية خرج مخرج الذم، وهذا كقوله تعالى:... { • } ( )... (الأحزاب - 33) فإن ذلك ذم للتبرج وذم لحال الجاهلية الأولى، وذلك يقتضي المنع من مشابهتهم في الجملة.
قوله: " الفخر بالأحساب " أي التعاظم على الناس بالآباء ومآثرهم، وذلك جهل عظيم، إذ لا كرم إلا بالتقوى، كما قال تعالى: { • } ( ) (الحـجرات - 13) وقـال تعالـى: { } ( ) (سبأ - 37).
ولأبي داود عن أبي هريرة مرفوعا: { إن الله قد أذهب عنكم عبية الجاهلية، وفخرها بالآباء، إنما هو مؤمن تقي، أو فاجر شقي، الناس بنو آدم، وآدم خلق من تراب، ليدعن رجال فخرهم بأقوام إنما هم فحم من فحم جهنم، أو ليكونن أهون على الله من الجعلان } ( ).
قوله: " والطعن في الأنساب " أي الوقوع فيها بالعيب والتنقص. { ولما عير أبو ذر رجلا بأمه قال له النبي " أعيرته بأمه؟ إنك امرؤ فيك جاهلية } ( ) متفق عليه. فدل على أن الطعن في الأنساب من عمل الجاهلية، وأن المسلم قد يكون فيه شيء من هذه الخصال بجاهلية ويهودية ونصرانية، ولا يوجب ذلك كفره ولا فسقه. قاله شيخ الإسلام، رحمه الله.
قوله: " والاستسقاء بالنجوم " أي نسبة المطر إلى النوء وهو سقوط النجم. كما أخـرج الإمام أحمد وابن جرير عـن جابر السوائي قال: سمعت رسول الله يقول: { أخاف على أمتي ثلاثا: استسقاء بالنجوم، وحيف السلطان، وتكذيبا بالقدر }.
فإذا قال قائلهم: مطرنا بنجم كذا أو بنوء كذا فلا يخلو: إما أن يعتقد أن له تأثيرا في إنزال المطر، فهذا شرك وكفر. وهو الذي يعتقده أهل الجاهلية كاعتقادهم أن الميت والغائب يجلب لهم نفعا، أو يدفع عنهم ضرا، أو أنه يشفع بدعائهم إياه، فهذا هو الشرك الذي بعث الله رسوله بالنهي عنه وقتال من فعله، كما قال تعالى: { } ( )... (الأنفال - 39) والفتنة الشرك، وإما أن يقول: مطرنا بنوء كذا مثلا، لكن مع اعتقاده أن المؤثر هو الله وحده. لكنه أجرى العادة بوجود المطر عند سقوط ذلك النجم، والصحيح: أنه يحرم نسبة ذلك إلى النجم ولو على طريق المجاز، فقد صرح ابن مفلح في الفروع، بأنه يحرم قول " مطرنا بنوء كذا " وجزم في الإنصاف بتحريمه ولو على طريق المجاز، ولم يذكر خلافا. وذلك أن القائل لذلك نسب ما هو من فعل الله تعالى الذي لا يقدر عليه غيره إلى خلق مسخر، لا ينفع ولا يضر، ولا قدرة له على شيء، فيكون ذلك شركا أصغر. والله أعلم.
قوله: " والنياحة " أي رفع الصوت بالندب على الميت لأنها تسخط بقضاء الله، وذلك ينافي الصبر الواجب، وهي من الكبائر لشدة الوعيد والعقوبة.
قوله: " النائحة إذا لم تتب قبل موتها " فيه: تنبيه على أن التوبة تكفر الذنب وإن عظم، هذا مجمع عليه في الجملة، ويكفر أيضا بالحسنات الماحية والمصائب، ودعاء المسلمين بعضهم لبعض، وبالشفاعة بإذن الله، وعفو الله عمن شاء ممن لا يشرك به شيئا وفي الحديث عن ابن عمر مرفوعا: { إن الله تعالى يقبل توبة العبد ما لم يغرغر } ( ) رواه أحمد والترمذي وابن ماجه وابن حبان.
قوله: " تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب " قال القرطبي: السربال واحد السرابيل، وهي الثياب والقمص، يعني أنهن يلطخن بالقطران، فيكون لهم كالقمص، حتى يكون اشتعال النار بأجسادهن أعظم، ورائحتهن أنتن، وألمهن بسبب الجرب أشد. وروى عن ابن عباس: إن القطران هو النحاس المذاب.
قال: ولهما عن زيد بن خالد قال { صلى لنا رسول الله صلاة الصبح بالحديبية على إثر سماء كانت من الليل، فلما انصرف أقبل على الناس فقال: هل تدرون ماذا قال ربكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمن بي، كافر بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا، فذلك كافر بي، مؤمن بالكوكب } ( ).
زيد بن خالد الجهني صحابي مشهور، مات سنة ثمان وستين، وقيل: غير ذلك، وله خمس وثمانون سنة.
قوله: " صلى لنا رسول الله " أي بنا، فاللام بمعنى الباء. قال الحافظ: وفيه إطلاق ذلك مجازا. وإنما الصلاة لله.
قوله: " بالحديبية " بالمهملة المضمومة وتخفيف يائها وتثقل.
قوله: " على إثر سماء كانت من الليل " بكسر الهمزة وسكون المثلثة على المشهور، وهو ما يعقب الشيء.
قوله: " سماء " أي مطر؛ لأنه ينزل من السحاب، والسماء يطلق على كل ما ارتفع.
قوله: " فلما انصرف " أي من صلاته، أي التفت إلى المأمومين، كما يدل عليه قوله: " أقبل على الناس " ويحتمل أنه أراد السلام.
قوله: " هل تدرون " لفظ استفهام ومعناه التنبيه. وفي النسائي: " ألم تسمعوا ما قال ربكم الليلة؟ " وهذا من الأحاديث القدسية. وفيه: إلقاء العالم على أصحابه المسألة ليخبرهم.
قوله: " قالوا الله ورسوله أعلم " فيه: حسن الأدب للمسئول عما لا يعلم أن يكل العلم إلى عالمه. وذلك يجب.
قوله: " أصبح من عبادي " الإضافة هنا للعموم بدليل التقسيم إلى مؤمن وكافر، كقوله تعالى: ({ } ( ) (التغابن - 2).
قوله: " مؤمن بي وكافر " إذا اعتقد أن للنوء تأثيرا في إنزال المطر فهذا كفر؛ لأنه أشرك في الربوبية والمشرك كافر. وإن لم يعتقد ذلك فهو من الشرك الأصغر؛ لأنه نسب نعمة الله إلى غيره، ولأن الله لم يجعل النوء سببا لإنزال المطر فيه، وإنما هو فضل من الله ورحمة يحبسه إذا شاء وينزله إذا شاء.
ودل هذا الحديث على أنه لا يجوز لأحد أن يضيف أفعال الله إلى غيره ولو على سبيل المجاز. وأيضا، الباء تحتمل معاني، وكلها لا تصدق بهذا اللفظ، فليست للسببية ولا للاستعانة، لما عرفت من أن هذا باطل. ولا تصدق أيضا على أنها للمصاحبة؛ لأن المطر قد يجيء في هذا الوقت وقد لا يجيء فيه، وإنما يجيء المطر في الوقت الذي أراد الله مجيئه فيه برحمته وحكمته وفضله. فكل معنى تحمل عليه الباء في هذا اللفظ المنهي عنه فاسد. فيظهر على هذا: تحريم هذه اللفظة مطلقا لفساد المعنى. وقد تقدم القطع بتحريمه في كلام صاحب الفروع والإنصاف.
قال المصنف -رحمه الله-: " وفيه التفطن للإيمان في هذا الموضع " يشير إلى أنه الإخلاص.
قوله: " فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته " فالفضل والرحمة صفتان لله، ومذهب أهل السنة والجماعة: أن ما وصف الله به نفسه ووصفه به رسوله من صفات الذات: كالحياة والعلم، وصفات الأفعال، كالرحمة التي يرحم بها عباده: كلها صفات لله قائمة بذاته، ليست قائمة بغيره فتفطن لهذا فقد غلط فيه طوائف.
وفي هذا الحديث أن نعم الله لا يجوز أن تضاف إلا إليه وحده، وهو الذي يحمد عليها، وهذه حال أهل التوحيد.
قوله: " وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا " إلى آخره، تقدم ما يتعلق بذلك.
قال المصنف -رحمه الله-: " وفيه: التفطن للكفر في هذا الموضع ".
يشير إلى أن نسبة النعمة إلى غير الله كفر، ولهذا قطع بعض العلماء بتحريمه، وإن لم يعتقد تأثير النوء بإنزال المطر، فيكون من كفر النعم؛ لعدم نسبتها إلى الذي أنعم بها، ونسبتها إلى غيره، كما سيأتي في قوله تعالى: { } ( ) (النحل - 83).
قال القرطبي في شرح حديث زيد بن خالد: وكانت العرب إذا طلع نجم من المشرق وسقط آخر من المغرب فحدث عند ذلك مطر أو ريح، فمنهم من ينسبه إلى الطالع، ومنهم من ينسبه إلى الغارب؛ نسبة إلى إيجاد واختراع، ويطلقون ذلك القول المذكور في الحديث، فنهى الشارع عن إطلاق ذلك؛ لئلا يعتقد أحد اعتقادهم ولا يتشبه بهم في نطقهم. انتهى.
قوله: فمنهم من ينسبه نسبة إيجاد - يدل على أن بعضهم كان لا يعتقد ذلك. كما قال تعالى: ({ • • } ( ) (العنكبوت - 63) فدل على أن منهم من يعرف ويقر بأن الله هو الذي أوجد المطر، وقد يعتقد هؤلاء أن للنوء فيه شيئا من التأثير، والقرطبي في شرحه لم يصرح أن العرب كلهم يعتقدون ذلك المعتقد الذي ذكره، فلا اعتراض عليه بالآية للاحتمال المذكور.
قوله: " ولهما مـن حديث ابن عباس معناه، وفيه: " قال بعضهم: لقد صدق نوء كذا وكذا. فـأنزل الله هـذه الآيـات: { • } ( ) (الواقعة - 75-82).
وبلفظه عن ابن عباس قال " مطر الناس على عهد النبي فقال النبي أصبح من الناس شاكر، ومنهم كافر. قالوا: هذه رحمة الله. وقال بعضهم: لقد صدق نوء كذا وكذا. قال: فنزلت هذه الآية: { } ( ).
هذا قسم من الله يقسم بما شاء من خلقه على ما شاء. وجواب القسم: { } ( ) فتكون " لا " صلة لتأكيد النفي، فتقدير الكلام: ليس الأمر كما زعمتم في القرآن أنه سحر، أو كهانة، بل هو قرآن كريم. قال ابن جرير: قال بعض أهل العربية: معنى قوله: { } ( ) فليس الأمر كما تقولون، ثم استؤنف القسم بعد، فقيل: أقسم بمواقع النجوم. قال ابن عباس: يعني نجوم القرآن، فإنه نزل جملة ليلة القدر من السماء العليا إلى السماء الدنيا، ثم نزل مفرقا في السنين بعد، ثم قرأ ابن عباس هذه الآية. ومواقعها: نزولها شيئا بعد شيء. وقال مجاهد: مواقع النجوم مطالعها ومشارقها. واختاره ابن جرير. وعلى هذا فتكون المناسبة بين المقسم به والمقسم عليه - وهو القرآن - من وجوه:
أحدها: أن النجوم جعلها الله ليهتدى بها في ظلمات البر والبحر، وآيات القرآن يهتدى بها في ظلمات الغي والجهل. فتلك هداية في الظلمات الحسية، والقرآن هداية في الظلمات المعنوية، فجمع بين الهدايتين مع ما في النجوم من الزينة الظاهرة. وفي القرآن من الزينة الباطنة ومع ما في النجوم من الرجوم للشياطين، وفي القرآن من رجوم شياطين الجن والإنس، والنجوم آياته المشهودة العيانية، وفي القرآن آياته المتلوة السمعية، مع ما في مواقعها عند الغروب من العبرة والدلالة على آياته القرآنية ومواقعها عند النزول، ذكره ابن القيم -رحمه الله-.
وقوله: { } ( ) قال ابن كثير: أي وإن هذا القسم الذي أقسمت به لقسم عظيم، لو تعلمون عظمته لعظمتم المقسم به عليه.
وقوله: { } ( ) هذا هو المقسم عليه، وهو القرآن، أي إنه وحي الله وتنزيله وكلامه، لا كما يقول الكفار: إنه سحر أو كهانة، أو شعر. بل هو قرآن كريم: أي عظيم كثير الخير؛ لأنه كلام الله.
قال ابن القيم -رحمه الله تعالى-: فوصفه بما يقتضي حسنه وكثرة خيره ومنافعه وجلالته؛ فإن الكريم هو البهي الكثير الخير العظيم، وهو من كل شيء أحسنه وأفضله، والله سبحانه وتعالى وصف نفسه بالكرم، ووصف به كلامه، ووصف به عرشه، ووصف به ما كثر خيره وحسن منظره من النبات وغيره، ولذلك فسر السلف " الكريم " بالحسن. قال الأزهري: الكريم اسم جامع لما يحمد، والله تعالى كريم جميل الفعال، وإنه لقرآن كريم يحمد، لما فيه من الهدى والبيان والعلم والحكمة.
وقوله: { • } ( ) أي في كتاب معظم محفوظ موقر، قاله ابن كثير.
وقال ابن القيم -رحمه الله تعالى-: اختلف المفسرون في هذا، فقيل: هو اللوح المحفوظ والصحيح أنه الكتاب الذي بأيدي الملائكة، وهو المذكور في قوله: { } ( ) (عبس 13- 16) ويدل على أنه الكتاب الذي بأيدي الملائكة قوله: { } ( ) فهذا يدل على أنه بأيديهم يمسونه.
قوله: { } ( ) قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: { } ( ). قـال: " الكتاب الذي في السماء " وفي رواية { } ( ) يعني الملائكة " وقال قتادة: " لا يمسه عند الله إلا المطهرون. فأما في الدنيا فإنه يمسه المجوسي النجس والمنافق الرجس " واختار هذا القول كثيرون. منهم ابن القيم -رحمه الله- ورجحه، وقال ابن زيد: زعمت قريش أن هذا القرآن تنزلت به الشياطين، فأخبر الله تعالى أنـه لا يمسه إلا المطهرون كما قال تعالى: { • } ( ) (الشعراء 210 - 212) قال ابن كثير: هذا قول جيد. وهو لا يخرج عن القول قبله. وقال البخاري -رحمه الله تعالى- في صحيحه في هذه الآية: " لا يجد طعمه إلا من آمن به ".
قال ابن القيم -رحمه الله-: هذا من إشارة الآية وتنبيهها، وهو أنه لا يلتذ به وبقراءته وفهمه وتدبره إلا من يشهد أنه كلام الله تكلم به حقا، وأنزله على رسوله وحيا. لا ينال معانيه إلا من لم يكن في قلبه حرج منه بوجه من الوجوه.
وقال آخرون: { } ( ) أي من الجنابة والحدث. قالوا: ولفظ الآية خبر معناه الطلب. قالوا: والمراد بالقرآن هاهنا المصحف. واحتجوا على ذلك بما رواه مالك في الموطأ عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم: { إن في الكتاب الذي كتبه رسول الله لعمرو بن حزم: أن لا يمس القرآن إلا طاهر } ( ).
وقوله: { } ( ) قال ابن كثير: هذا القرآن منزل من الله رب العالمين وليس كما يقولون: إنه سحر أو كهانة أو شعر، بل هو الحق الذي لا مرية فيه، وليس وراءه حق نافع. وفي هذه الآية: أنه كلام الله تكلم به.
قال ابن القيم -رحمه الله-: ونظيره:... { • } ( ) ... (السجدة - 13) وقوله: { • • } ( ) ... (النحل - 102) هو إثبات علو الله تعالى على خلقه. فإن النزول والتنزيل الذي تعقله العقول وتعرفه الفطر هـو وصول الشيء مـن أعلى إلى أسفل، ولا يرد عليه قوله:... { } ( )... (الزمر - 6) لأنا نقول: إن الذي أنزلها فوق سماواته. فأنزلها لنا بأمره.
قال ابن القيم -رحمه الله-: وذكر التنزيل مضافا إلى ربوبيته للعالمين المستلزمة لملكه لهم وتصرفه فيهم، وحكمه عليهم، وإحسانه إليهم، وإنعامه عليهم، وأن من هذا شأنه مع الخلق كيف يليق به مع ربوبيته التامة أن يتركهم سدى، ويدعهم هملا، ويخلقهم عبثا، لا يأمرهم ولا ينهاهم ولا يثيبهم ولا يعاقبهم؟ فمن أقر بأنه رب العالمين أقر بأن القرآن تنزيله على رسوله. واستدل بكونه رب العالمين على ثبوت رسالة رسوله وصحة ما جاء به، وهذا الاستدلال أقوى وأشرف من الاستدلال بالمعجزات والخوارق. وإن كانت دلالتها أقرب إلى أذهان عموم الناس. وتلك إنما تكون لخواص العقلاء.
قوله: { } ( ) قال مجاهد: أتريدون أن تمالئوهم فيه، وتركنوا إليهم؟.
قال ابن القيم -رحمه الله تعالى-: ثم وبخهم على وضعهم الإدهان في غير موضعه، وأنهم يداهنون فيما حقه أن يصدع به ويعرف به، ويعض عليه بالنواجذ، وتثنى عليه الخناصر، وتعقد عليه القلوب والأفئدة، ويحارب ويسالم لأجله، ولا يلتوي عنه يمنة ولا يسرة، ولا يكون للقلب التفات إلى غيره، ولا محاكمة إلا إليه، ولا مخاصمة إلا به، ولا اهتداء في طرق المطالب العالية إلا بنوره، ولا شفاء إلا به، فهو روح الوجود، وحياة العالم، ومدار السعادة، وقائد الفلاح، وطريق النجاة، وسبيل الرشاد، ونور البصائر.
فكيف تطلب المداهنة بما هذا شأنه، ولم ينزل للمداهنة، وإنما نزل بالحق وللحق، والمداهنة إنما تكون في باطل قوي لا تمكن إزالته، أو في حق ضعيف لا تمكن إقامته، فيحتاج المداهن إلى أن يترك بعض الحق ويلتزم بعض الباطل، فأما الحق الذي قام به كل حق فكيف يداهن به؟
قوله: { } ( ) تقدم الكلام عليها أول الباب، والله تعالى أعلم.
المسائل المستنبطة من هذا الباب
فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية الواقعة.
الثانية: ذكر الأربع التي من أمر الجاهلية.
الثالثة: ذكر الكفر في بعضها.
الرابعة: أن من الكفر ما لا يخرج من الملة.
الخامسة: قوله: " أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر " بسبب نزول النعمة.
السادسة: التفطن للإيمان في هذا الموضع.
السابعة: التفطن للكفر في هذا الموضع.
الثامنة: التفطن لقوله: " لقد صدق نوء كذا وكذا ".
التاسعة: إخراج العالم للتعليم للمسألة بالاستفهام عنها، لقوله: " هل تدرون ماذا قال ربكم؟ ".
العاشرة: وعيد النائحة.
باب قول الله تعالى ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله...
وقوله: { } ( )... (التوبة - 24).
عن أنس: أن رسول الله قال: { لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين } ( ) أخرجاه.
ولهما عنه قال: قال رسول الله { ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار } ( ).
وفي رواية: { لا يجد أحد حلاوة الإيمان حتى } ( ) إلى آخره.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: " من أحب في الله، وأبغض في الله، ووالى في الله، وعادى في الله، فإنما تنال ولاية الله بذلك، ولن يجد عبد طعم الإيمان وإن كثرت صلاته وصومه حتى يكون كذلك. وقد صارت عامة مؤاخاة الناس على أمر الدنيا، وذلك لا يجدي على أهله شيئا " رواه ابن جرير.
وقال ابن عباس في قوله تعالى: { } ( ) (البقرة - 166) قال: " المودة ".
باب.
قوله: باب " قول الله تعالى:
{ •• } ( )... (البقرة - 165).
لما كانت محبته سبحانه هي أصل دين الإسلام الذي يدور عليه قطب رحاه، فبكمالها يكمل، وبنقصها ينقص توحيد الإنسان، نبه المصنف على ذلك بهذه الترجمة.
قوله تعالى: { •• } ( ) – الآية، قال في شرح المنازل: أخبر تعالى أن من أحب من دون الله شيئا كما يحب الله تعالى فهو ممن اتخذ من دون الله أندادا، فهذا ند في المحبة لا في الخلق والربوبية، فإن أحدا من أهل الأرض لا يثبت هذا الند، بخلاف ند المحبة. فإن أكثر أهل الأرض قد اتخذوا من دون الله أندادا في الحب والتعظيم. ثم قال تعالى:... { } ( )... وفي تقدير الآية قولان: أحدهما: والذين آمنوا أشد حبا لله من أصحاب الأنداد لأندادهم وآلهتهم التي يحبونها ويعظمونها من دون الله.
وروى ابن جرير عن مجاهد في قوله تعالى: { } ( ) مباهاة ومضاهاة للحق بالأنداد { } ( ) من الكفار لأوثانهم. ثم روى عن ابن زيد قال: هؤلاء المشركون أندادهم آلهتهم التي عبدوا مع الله يحبونهم كما يحب الذين آمنوا الله، والذين آمنوا أشد حبا لله من حبهم آلهتهم. انتهى.
والثاني: والذين آمنوا أشد حبا لله من المشركين بالأنداد لله؛ فإن محبة المؤمنين خالصة ومحبة أصحاب الأنداد قد ذهبت أندادهم بقسط منها، والمحبة الخالصة أشد من المشتركة. والقولان مرتبان على القولين في قوله تعالى: { } ( ) فإن فيها قولين أيضا، أحدهما: يحبونهم كما يحبون الله. فيكون قد أثبت لهم محبة الله، ولكنها محبة أشركوا فيها مع الله تعالى أندادهم. والثاني: أن المعنى: يحبون أندادهم كما يحب المؤمنون الله، ثم بين تعالى أن محبة المؤمنين لله أشد من محبة أصحاب الأنداد لأندادهم.
وكان شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: يرجح القول الأول ويقول: إنما ذموا بأن شركوا بين الله وبين أندادهم في المحبة ولم يخلصوها لله كمحبة المؤمنين له، وهذه التسوية المذكورة في قوله تعالى حكاية عنهم، وهم في النار، أنهم يقولون لآلهتهم وأندادهم وهي محضـرة معهـم في العذاب: { • } ( ) (الشعراء 97، 98) ومعلوم أنهم ما سووهم برب العالمين في الخلق والربوبية وإنما سووهم به في المحبة والتعظيم، وهذا أيضا هو العدل المذكور في قوله تعالى: { } ( ) (الأنعام - 1)، به غيره في العبادة التي هي المحبة والتعظيم.
وقـال تعـالى: { • } ( )... (آل عمران - 31)، وهذه تسمى آية المحبة. قال بعض السلف: ادعى قوم محبة الله، فأنزل الله تعالى آية المحبة: { • } ( ) إشارة إلى دليل المحبة وثمرتها وفائدتها، فدليلها وعلامتها: اتباع الرسول وفائدتها وثمرتها: محبة المرسل لكم، فما لم تحصل منكم المتابعة فمحبتكم له غير حاصلة، ومحبته لكم منتفية.
وقال تعالى: { • } ( )... (المائدة -54) ذكر لهم أربع علامات:
إحداها وثانيتها: أنهم أذلة على المؤمنين، قيل: معناه: أرقاء رحماء مشفقين عاطفين عليهم، فلما ضمن " أذلة " هذا المعنى عداه بأداة " على ". قال عطاء -رحمه الله-: للمؤمنين كالولد لوالده وكالعبد لسيده، وعلى الكافرين كالأسد على فريسته { } ( )... (الفتح - 29).
العلامة الثالثة: الجهاد في سبيل الله بالنفس واليد والمال واللسان. وذلك تحقيق دعوى المحبة.
العلامة الرابعة: أنهم لا تأخذهم في الله لومة لائم. وهذه علامة صحة المحبة. فكل محب أخذه اللوم على محبوبه فليس بمحب على الحقيقة. وقال تعالى: { } ( ) .. (الإسراء - 57) فذكر المقامات الثلاثة: الحب. وهو ابتغاء القرب إليه، والتوسل إليه بالأعمال الصالحة. والرجاء والخوف يدل على أن ابتغاء الوسيلة أمر زائد على رجاء الرحمة وخوف العذاب، ومن المعلوم قطعا أنه لا يتنافس إلا في قرب من يحب قربه، وحب قربه تبع لمحبة ذاته، بل محبة ذاته أوجبت محبة القرب منه.
وعند الجهمية والمعطلة: ما من ذلك كله شيء؛ فإنه عندهم لا تقرب ذاته من شيء، ولا يقرب من ذاته شيء، ولا يحب، فأنكروا حياة القلوب، ونعيم الأرواح وبهجة النفوس، وقرة العيون، وأعلى نعيم الدنيا والآخرة. ولذلك ضربت قلوبهم بالقسوة وضرب دونهم ودون الله حجاب عن معرفته ومحبته، فلا يعرفونه ولا يذكرونه إلا عند تعطيل أسمائه وصفاته، فذكرهم أعظم آثامهم وأوزارهم، بل يعاقبون من يذكره بأسمائه وصفاته ونعوت جلاله، ويرمونهم بالأدواء التي هم أحق بها وأهلها. وحسب ذي البصيرة وحياة القلب ما يرى على كلامهم من القسوة والمقت والتنفير عن محبة الله تعالى ومعرفته وتوحيده. والله المستعان.
وقال -رحمه الله تعالى- أيضا: لا تحد المحبة بحد أوضح منها، فالحدود لا تزيدها إلا خفاء. فحدها وجودها ولا توصف بوصف أظهر من المحبة، وإنما يتكلم الناس في أسبابها وموجباتها وعلاماتها وشواهدها وثمراتها وأحكامها. وأجمع ما قيل في ذلك: ما ذكره أبو بكر الكتاني عن الجنيد.
قال أبو بكر " جرت مسألة في المحبة بمكة - أعزها الله - في أيام الموسم، فتكلم الشيوخ فيها، وكان الجنيد أصغرهم سنا، فقالوا: ما عندك يا عراقي، فأطرق رأسه، ودمعت عيناه، ثم قال: عبد ذاهب عن نفسه، متصل بذكر ربه، قائم بأداء حقوقه، ناظر إليه بقلبه، أحرق قلبه أنوار هيبته، وصفا شرابه من كأس مودته، وانكشف له الحياء ( ) من أستار غيبه، فإن تكلم فبالله، وإن نطق فعن الله، وإن تحرك فبأمر الله، وإن سكن فمع الله، فهو لله وبالله ومع الله. فبكى الشيوخ. وقالوا: ما على هذا مزيد، جبرك الله يا تاج العارفين.
وذكر -رحمه الله تعالى-: أن الأسباب الجالبة للمحبة عشرة:
أحدها: قراءة القرآن بالتدبر والتفهم لمعانيه وما أريد به.
الثاني: التقرب إلى الله تعالى بالنوافل بعد الفرائض.
الثالث: دوام ذكره على كل حال باللسان والقلب والعمل والحال، فنصيبه من المحبة على قدر هذا.
الرابع: إيثار محابه على محابك عند غلبة الهوى.
الخامس: مطالعة القلب لأسمائه ومشاهدتها وتقلبه في رياض هذه المعرفة وميادينها.
السادس: مشاهدة بره وإحسانه ونعمه الظاهرة والباطنة.
السابع - وهو - أعجبها: انكسار القلب بين يديه.
الثامن: الخلوة وقت النزول الإلهي وتلاوة كتابه ثم ختم ذلك بالاستغفار والتوبة.
التاسع: مجالسة المحبين الصادقين، والتقاط أطايب ثمرات كلامهم، ولا تتكلم إلا إذا ترجحت مصلحة الكلام وعلمت أن فيه مزيدا لحالك، ومنفعة لغيرك.
العاشرة: مباعدة كل سبب يحول بين القلب وبين الله عز وجل.
فمن هذه الأسباب العشرة وصل المحبون إلى منازل المحبة، ودخلوا على الحبيب.
قوله: وقول الله تعالى: { } ( ).
أمر الله نبيه أن يتوعد من أحب أهله وماله وعشيرته وتجارته ومسكنه فآثرها، أو بعضها على فعل ما أوجبه الله عليه من الأعمال التي يحبها الله تعالى ويرضاها، كالهجرة والجهاد ونحو ذلك.
قال العماد ابن كثير -رحمه الله تعالى-: أي إن كانت هذه الأشياء { } ( ) أي انتظروا ماذا يحل بكم من عقابه. روى الإمام أحمد وأبو داود - واللفظ له - من حديث أبي عبد الرحمن السلمي عن عطاء الخراساني عن نافع عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله يقول: " { إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه عنكم حتى تراجعوا دينكم } ( ).
فلا بد من إيثار ما أحبه الله من عبده وأراده على ما يحبه العبد ويريده، فيحب ما يحبه الله، ويبغض ما يبغضه، ويوالي فيه ويعادي فيه ويتابع رسوله كما تقدم في آية المحبة ونظائرها.
قوله: " عن أنس أن رسول الله قال: { لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين } ( ) أخرجاه. أي البخاري ومسلم.
قوله: " لا يؤمن أحدكم " أي الإيمان الواجب، والمراد كماله، حتى يكون الرسول أحب إلى العبد من ولده ووالده والناس أجمعين، بل ولا يحصل هذا الكمال إلا بأن يكون الرسول أحب إليه من نفسه، كما في الحديث: { أن عمر بن الخطاب قال: يا رسول الله لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي. فقال: والذي نفسي بيده، حتى أكون أحب إليك من نفسك. فقال له عمر: فإنك الآن أحب إلي من نفسي، فقال: الآن يا عمر } ( ) رواه البخاري.
فمن قال: إن المنفي هو الكمال، فإن أراد الكمال الواجب الذي يذم تاركه ويعرض للعقوبة فقد صدق، وإن أراد أن المنفي الكمال المستحب، فهذا لم يقع قط في كلام الله ورسوله . قاله شيخ الإسلام -رحمه الله-.
فمن ادعى محبة النبي بدون متابعته وتقديم قوله على قول غيره فقد كذب، كما قال تعالى: { • } ( ) (النور - 47) فنفى الإيمان عمن تولى عن طاعة الرسول لكن كل مسلم يكون محبا بقدر ما معه من الإسلام، وكل مسلم لا بد أن يكون مؤمنا وإن لم يكن مؤمنا الإيمان المطلق، لأن ذلك لا يحصل إلا لخواص المؤمنين.
قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: وعامة الناس إذا أسلموا بعد كفر، أو ولدوا على الإسلام والتزموا شرائعه، وكانوا من أهل الطاعة لله ورسوله، فهم مسلمون ومعهم إيمان مجمل. لكن دخول حقيقة الإيمان إلى قلوبهم يحصل شيئا فشيئا، إن أعطاهم الله ذلك، وإلا فكثير من الناس لا يصلون إلى اليقين ولا إلى الجهاد، ولو شككوا لشكوا، ولو أمروا بالجهاد لما جاهدوا، إذ ليس عندهم من علم اليقين ما يدرأ الريب، ولا عندهم من قوة الحب لله ورسوله ما يقدمونه على الأهل والمال، فهؤلاء إن عوفوا من المحنة وماتوا دخلوا الجنة، وإن ابتلوا بمن يدخل عليهم شبهات توجب ريبهم، فإن لم ينعم الله عليهم بما يزيل الريب وإلا صاروا مرتابين، وانتقلوا إلى نوع من النفاق. انتهى.
وفي هذا الحديث: أن الأعمال من الإيمان، لأن المحبة عمل القلب.
وفيه: أن محبة الرسول واجبة تابعة لمحبة الله لازمة لها، فإنها لله ولأجله، تزيد بزيادة محبة الله في قلب المؤمن وتنقص بنقصها، وكل من كان محبا لله فإنما يحب في الله ولأجله كما يحب الإيمان والعمل الصالح، وهذه المحبة ليس فيها شيء من شوائب الشرك كالاعتماد عليه ورجائه في حصول مرغوب منه أو دفع مرهوب، وما كان فيها ذلك فمحبة مع الله، لما فيها من التعلق على غيره والرغبة إليه من دون الله. فبهذا يحصل التمييز بين المحبة في الله ولأجله، التي هي من كمال التوحيد، وبين المحبة مع الله التي هي محبة الأنداد من دون الله، لما يتعلق في قلوب المشركين، من الإلهية التي لا تجوز إلا لله وحده.
قوله: ولهما عنه، أي البخاري ومسلم، عـن أنس قـال: قال رسول الله { ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف بالنار } ( ).
وفي رواية: { لا يجد أحد حلاوة الإيمان حتى يحب المرء لا يحبه إلا لله } ( ) إلخ ".
قوله: " ثلاث " أي ثلاث خصال.
قوله: " من كن فيه " أي وجدت فيه تامة.
قوله: " وجد بهن حلاوة الإيمان " الحلاوة هنا هي التي يعبر عنها بالذوق؛ لما يحصل به من لذة القلب ونعيمه وسروره وغذائه، وهي شيء محسوس يجده أهل الإيمان في قلوبهم.
قال السيوطي -رحمه الله- في التوشيح: " وجد حلاوة الإيمان " فيه: استعارة تخييلية. شبه رغبة المؤمن في الإيمان بشيء حلو، وأثبت له لازم ذلك الشيء، وأضافه إليه.
وقال النووي: معنى حلاوة الإيمان: استلذاذ الطاعات وتحمل المشاق، وإيثار ذلك على أغراض الدنيا، ومحبة العبد لله بفعل طاعته وترك مخالفته، وكذلك الرسول .
قال يحيى بن معاذ: حقيقة الحب في الله: أن لا يزيد بالبر، ولا ينقص بالجفاء.
قوله: " أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما " يعني بالسوى: ما يحبه الإنسان بطبعه، كمحبة الولد والمال والأزواج ونحوها، فتكون " أحب " هنا على بابها.
وقال الخطابي: المراد بالمحبة هنا: حب الاختيار لا حب الطبع، كذا قال. وأما المحبة الشركية التي قد تقدم بيانها، فقليلها وكثيرها ينافي محبة الله ورسوله، وفي بعض الأحاديث: " { أحبوا الله بكل قلوبكم }، فمن علامات محبة الله ورسوله: أن يحب ما يحبه الله، ويكره ما يكرهه الله، ويؤثر مرضاته على ما سواه، ويسعى في مرضاته ما استطاع، ويبعد عما حرمه الله ويكرهه أشد الكراهة، ويتابع رسوله، ويمتثل أمره، ويترك نهيه، كما قال تعالى: { • } ( ) (النساء - 80)، فمن آثر أمر غيره على أمره، وخالف ما نهى عنه، فذلك علم على عدم محبته لله ورسوله؛ فإن محبة الرسول من لوازم محبة الله، فمن أحب الله وأطاعه أحب الرسول وأطاعه، ومن لا فلا، كما في آية المحبة ونظائرها. والله المستعان.
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: أخبر النبي أن هذه الثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان؛ لأن وجود الحلاوة للشيء يتبع المحبة له، فمن أحب شيئا واشتهاه إذا حصل له مراده فإنه يجد الحلاوة واللذة والسرور بذلك، واللذة أمر يحصل عقيب إدراك الملائم الذي هو المحبوب أو المشتهى. قال: فحلاوة الإيمان المتضمنة للذة والفرح تتبع كمال محبة العبد لله. وذلك بثلاثة أمور: تكميل هذه المحبة وتفريعها، ودفع ضدها. فتكميلها: أن يكون الله ورسوله أحب إلى العبد مما سواهما، فإن محبة الله ورسوله لا يكتفى فيها بأصل الحب، بل أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما.
قلت: ومحبة الله تعالى تستلزم محبة طاعته، فإنه يحب من عبده أن يطيعه. والمحب يحب ما يحبه محبوبه ولا بد.
ومن لوازم محبة الله أيضا: محبة أهل طاعته، كمحبة أنبيائه ورسله والصالحين من عباده. فمحبة ما يحبه الله ومن يحبه الله من كمال الإيمان، كما في حديث ابن عباس الآتي.
قال: وتفريغها. أن يحب المرء لا يحبه إلا لله، قال: ودفع ضدها: أن يكره ضد الإيمان كما يكره أن يقذف في النار.
قوله: { أحب إليه مما سواهما } ( ) فيه: جمع ضمير الله تعالى وضمير رسوله وفيه قولان:
أحدهما: أنه ثنى الضمير هنا إيماء إلى أن المعتبر هو المجموع المركب من المحبتين، لا كل واحدة، فإنها وحدها لاغية. وأمر بالإفراد في حديث الخطيب إشعارا بأن كل واحد من العصيانين مستقل بإلزام الغواية؛ إذ العطف في تقدير التكرير، والأصل استقلال كل من المعطوفين في الحكم.
الثاني: حمل حديث الخطيب على الأدب والأولى، وهذا على الجواز.
وجواب ثالث: وهو أن هذا وارد على الأصل، وحديث الخطيب ناقل، فيكون أرجح.
قوله: { كما يكره أن يقذف في النار } ( ) أي يستوى عنده الأمران، وفيه رد على الغلاة الذين يتوهمون أن صدور الذنب من العبد نقص في حقه مطلقا وإن تاب منه.
والصواب: أنه إن لم يتب كان نقصا، وإن تاب فلا؛ ولهذا كان المهاجرون والأنصار رضي الله عنهم أفضل هذه الأمة، مع كونهم في الأصل كفارا، فهداهم الله إلى الإسلام، والإسلام يمحو ما قبله، وكذلك الهجرة كما صح الحديث بذلك.
قوله: وفي رواية: { لا يجد أحد } ( )، هذه الرواية أخرجها البخاري في الأدب من صحيحه. ولفظها: { لا يجد أحد حلاوة الإيمان حتى يحب المرء لا يحبه إلى لله، وحتى أن يقذف في النار أحب إليه من أن يرجع إلى الكفر بعد إذ أنقذه الله منه، وحتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما } ( ).
وقد تقدم أن المحبة هنا عبارة عما يجده المؤمن من اللذة والبهجة والسرور والإجلال والهيبة ولوازم ذلك، قال الشاعر:
عـلي ولـكن مـلء عـين حبيبها
أهـابك إجـلالا ومـا بك قـدرة
قوله: وعن ابن عباس رضي الله عنهما: " من أحب في الله، وأبغض في الله، ووالى في الله، وعادى في الله، فإنما تنال ولاية الله بذلك، ولن يجد عبد طعم الإيمان وإن كثرت صلاته وصومه حتى يكون كذلك، وقد صارت عامة مؤاخاة الناس على أمر الدنيا، وذلك لا يجدي على أهله شيئا " رواه ابن جرير. وأخرج ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم الجملة الأولى منه فقط.
قوله: " من أحب في الله " أي أحب أهل الإيمان بالله وطاعته من أجل ذلك.
قوله: " وأبغض في الله " أي أبغض من كفر بالله وأشرك به وفسق عن طاعته لأجل ما فعلوه مما يسخط الله، وإن كانوا أقرب الناس إليه، كما قال تعالى: { • } ( ) (المجادلة - 22).
قوله: " ووالى في الله " هذا والذي قبله من لوازم محبة العبد لله تعالى، فمن أحب الله تعالى، أحب فيه، ووالى أولياءه، وعادى أهل معصيته وأبغضهم، وجاهد أعداءه، ونصر أنصاره. وكلما قويت محبة العبد لله في قلبه قويت هذه الأعمال المترتبة عليها، وبكمالها يكمل توحيد العبد، ويكون ضعفها على قدر ضعف محبة العبد لربه، فمقل ومستكثر ومحروم.
قوله: " فإنما تنال ولاية الله بذلك " أي توليه لعبده. و " ولاية " بفتح الواو وكسرها: أي الأخوة والمحبة والنصرة، والإمارة، والمراد هنا الأول. ولأحمد والطبراني عن النبي قال: { لا يجد العبد صريح الإيمان حتى يحب لله ويبغض لله. فإذا أحب لله وأبغض لله، فقد استحق الولاية لله }. وفي حديث آخر: " { أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله } ( ) رواه الطبراني.
قوله: " ولن يجد عبد طعم الإيمان " إلى آخره: أي لا يحصل له ذوق الإيمان ولذته وسروره، وإن كثرت صلاته وصومه، حتى يكون كذلك، أي حتى يحب في الله ويبغض في الله، ويعادي في الله، ويوالي فيه.
وفي حديث أبي أمامة مرفوعا: { من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان } ( ) رواه أبو داود.
قوله: " وقد صارت عامة مؤاخاة الناس على أمر الدنيا، وذلك لا يجدي على أهله شيئا " أي لا ينفعهم، بل يضرهم، كما قال تعالى: { } ( ) (الزخرف -67) فإذا كانت البلوى قد عمت بهذا في زمن ابن عباس خير القرون، فما زاد الأمر بعد ذلك إلا شدة، حتى وقعت الموالاة على الشرك والبدع والفسوق والعصيان. وقد وقع ما أخبر به بقوله: { بدأ الإسلام غريبا، وسيعود غريبا كما بدأ } ( ). وقد كان الصحابة رضي الله عنهم من المهاجرين والأنصار في عهد نبيهم وعهد أبي بكر وعمر رضي الله عنهما يؤثر بعضهم بعضا على نفسه، محبة في الله، وتقربا إليه، كما قال تعالى: { } ( ) (الحشر - 9). وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: { لقد رأيتنا على عهد رسول الله وما منا أحد يرى أنه أحق بديناره ودرهمه من أخيه المسلم } رواه ابن ماجه.
قوله: " وقال ابن عباس في قوله تعالى: { } ( ) قال: " المودة "، هذا الأثر رواه عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم، وصححه.
قوله: " قال: المودة " أي التي كانت بينهم في الدنيا خانتهم أحوج ما كانوا إليها، وتبرأ بعضهم من بعض، كما قال تعالى: { •• • } ( ) (العنكبوت - 25).
قال العلامة ابن القيم في قوله تعالى: { • } ( ) الآيتان (البقرة - 166، 167) فهؤلاء المتبوعون كانوا على الهدى، وأتباعهم ادعوا أنهم على طريقهم ومناهجهم، وهم مخالفون لهم، سالكون غير طريقهم، ويزعمون أن محبتهم لهم تنفعهم مع مخالفتهم، فيتبرءون منهم يوم القيامة، فإنهم اتخذوهم أولياء من دون الله، وهذا حال كل من اتخذ من دون الله وليجة وأولياء، يوالي لهم، ويعادي لهم، ويرضى لهم، ويغضب لهم، فإن أعماله كلها باطلة، يراها يوم القيامة حسرات عليه مع كثرتها وشدة تعبه فيها ونصبه، إذ لم يجرد موالاته ومعاداته وحبه وبغضه وانتصاره وإيثاره لله ورسوله، فأبطل الله ذلك العمل كله. وقطع تلك الأسباب، فينقطع يوم القيامة كل سبب وصلة ووسيلة ومودة كانت لغير الله، ولا يبقى إلا السبب الواصل بين العبد وربه: وهو حظه من الهجرة إليه وإلى رسوله، وتجريده عبادته لله وحده ولوازمها: من الحب والبغض، والعطاء والمنع، والموالاة والمعاداة، والتقريب والإبعاد، وتجريد متابعة رسول الله تجريدا محضا بريئا من شوائب الالتفات إلى غيره، فضلا عن الشرك بينه وبين غيره، فضلا عن تقديم قول غيره عليه، فهذا السبب هو الذي لا ينقطع بصاحبه، وهذه هي النسبة بين العبد وربه، وهي نسبة العبودية المحضة، وهي آخيته التي يجول ما يجول وإليها مرجعه، ولا تتحقق إلا بتجريده متابعة الرسل صلوات الله وسلامه عليهم، إذ هذه العبودية إنما جاءت على ألسنتهم، وما عرفت إلا بهم، ولا سبيل إليها إلا بمتابعتهم وقد قال تعالى: { •• } ( ) (الفرقان - 23) فهذه هي الأعمال التي كانت في الدنيا على غير سنة رسله وطريقتهم، ولغير وجهه، يجعلها الله هباءً منثورا، لا ينتفع منها صاحبها بشيء أصلا، وهذا من أعظم الحسرات على العبد يوم القيامة: أن يرى سعيه ضائعا، وقد سعد أهل السعي النافع بسعيهم. انتهى ملخصا.
المسائل المستنبطة من هذا الباب
فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية البقرة.
الثانية: تفسير آية براءة.
الثالثة: وجوب محبته على النفس والأهل والمال.
الرابعة: نفي الإيمان لا يدل على الخروج من الإسلام.
الخامسة: أن للإيمان حلاوة قد يجدها الإنسان وقد لا يجدها.
السادسة: أعمال القلب الأربعة التي لا تنال ولاية الله إلا بها، ولا يجد أحد طعم الإيمان إلا بها.
السابعة: فهم الصحابي للواقع: أن عامة المؤاخاة على أمر الدنيا.
الثامنة: تفسير: { } ( ).
التاسعة: أن من المشركين من يحب الله حبا شديدا.
العاشرة: الوعيد على من كان الثمانية أحب إليه من دينه.
الحادية عشرة: أن من اتخذ ندا تساوي محبته محبة الله فهو الشرك الأكبر.
باب قول الله تعالى إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم...
قول الله تعالى: { } ( ) (آل عمران - 175).
وقوله: { • • } ( ) (التوبة -18).
وقوله: { •• • •• } ( )... (العنكبوت - 10).
عن أبي سعيد مرفوعا: { إن من ضعف اليقين: أن ترضي الناس بسخط الله، وأن تحمدهم على رزق الله، وأن تذمهم على ما لم يؤتك الله، إن رزق الله لا يجره حرص حريص، ولا يرده كراهية كاره }.
وعن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله قال: { من التمس رضا الله بسخط الناس وأرضى عنه الناس، ومن التمس رضا الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس } ( ) رواه ابن حبان في صحيحه.
قوله: " باب قول الله تعالى:
{ }( ) (آل عمران - 175).
الخوف من أفضل مقامات الدين وأجلها، وأجمع أنواع العبادة التي يجب إخلاصها لله تعالى. قال الله تعالى: { } ( ) (الأنبياء - 28)، وقال تعالى: { } ( ) (النحل - 50)، وقال تعالى: { • } ( ) (الرحمن - 46) وقال تعالى: { } ( ) (النحل - 51)، وقال تعالى: { •• } ( ) (المائدة - 44) وأمثال هذه الآيات في القرآن كثير.
والخوف من حيث هو على ثلاثة أقسام:
أحدها: خوف السر، وهو أن يخاف من غير الله من وثن أو طاغوت أن يصيبه بما يكره، كما قال تعالى عن قوم هود عليه السلام أنهم قالوا له: { } ( ) (هود - 54، 55) وقال تعالى: { } ( ) (الزمر - 36) وهذا هو الواقع من عباد القبور ونحوها من الأوثان، يخافونها ويخوفون بها أهل التوحيد إذا أنكروا عبادتها وأمروا بإخلاص العبادة لله، وهذا ينافي التوحيد.
الثاني: أن يترك الإنسان ما يجب عليه، خوفا من بعض الناس، فهذا محرم، وهو نوع من الشرك بالله المنافى لكمال التوحيد، وهذا هو سبب نزول هذه الآية، كما قال تعالى: { •• • •• • } ( ) (آل عمران: 173 - 175). وفي الحديث: { إن الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة: ما منعك إذ رأيت المنكر أن لا تغيره؟ فيقول: رب خشية الناس، فيقول: إياي كنت أحق أن تخشى } ( ).
الثالث: الخوف الطبيعي، وهو الخوف من عدو، أو سبع، أو غير ذلك. فهذا لا يذم. كما قال تعالى في قصة موسى عليه السلام: { } ( ) (القصص - 21).
ومعنى قوله: { } ( ) أي يخوفكم أولياءه { } ( )، وهذا نهي من الله تعالى للمؤمنين أن يخافوا غيره، وأمر لهم أن يقصروا خوفهم على الله، فلا يخافون إلا إياه، وهذا هو الإخلاص الذي أمر به عباده ورضيه منهم، فإذا أخلصوا له الخوف وجميع العبادة، أعطاهم ما يرجون، وأمنهم من مخاوف الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: { } ( ) (الزمر - 36).
قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى: ومن كيد عدو الله: أنه يخوف المؤمنين من جنده وأوليائه؛ لئلا يجاهدوهم، لا يأمروهم بمعروف، ولا ينهوهم عن منكر، وأخبر تعالى أن هذا من كيد الشيطان وتخويفه. ونهانا أن نخافهم. قال: والمعنى عند جميع المفسرين: يخوفهم بأوليائه. قال قتادة: يعظمهم في صدوركم، فكلما قوى إيمان العبد زال خوف أولياء الشيطان من قلبه، وكلما ضعف إيمانه قوى خوفه منهم، فدلت هذه الآية على أن إخلاص الخوف من كمال شروط الإيمان.
قـوله: " وقـول الله تعـالى: { • • } ( ) (المائدة -18) ":
أخبر تعالى أن مساجد الله لا يعمرها إلا أهل الإيمان بالله واليوم الآخر، الذين آمنوا بقلوبهم وعملوا بجوارحهم، وأخلصوا له الخشية دون من سواه، فأثبت لهم عمارة المساجد بعد أن نفاها عن المشركين؛ لأن عمارة المساجد بالطاعة والعمل الصالح، والمشرك وإن عمل فعمله: { • } ( ) (النور - 39)، أو: { } ( ) (إبراهيم - 18)، وما كان كذلك فالعدم خير منه، فلا تكون المساجد عامرة إلا بالإيمان الذي معظمه التوحيد مع العمل الصالح الخالص من شوائب الشرك والبدع، وذلك كله داخل في مسمى الإيمان المطلق عند أهل السنة والإجماع.
قوله: { • } ( )، قال ابن عطية: يريد خشية التعظيم والعبادة والطاعة، ولا محالة أن الإنسان يخشى المحاذير الدنيوية، وينبغي أن يخشى في ذلك كله قضاء الله وتصريفه.
وقال ابن القيم رحمه الله: الخوف عبودية القلب، فلا يصلح إلا لله، كالذل، والإنابة، والمحبة، والتوكل، والرجاء، وغيرها من عبودية القلب.
قوله: { } ( ) قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: يقول: إن أولئك هم المهتدون، وكل " عسى " في القرآن فهي واجبة. وفي الحديث: { إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالإيمان } ( ) قال الله تعالى: { } ( ) رواه أحمد والترمذي والحاكم عن أبي سعيد الخدري.
قوله: { •• • •• } ( ) (العنكبوت - 10) ".
قال ابن كثير رحمه الله تعالى: يقول تعالى مخبرا عن صفات قوم من المكذبين يدعون الإيمان بألسنتهم، ولم يثبت في قلوبهم - أنهم إذا جاءتهم محنة وفتنة في الدنيا اعتقدوا أنها من نقمة الله بهم، فارتدوا عن الإسلام، قال ابن عباس رضي الله عنهما: يعني فتنة أن يرتد عن دينه إذا أوذي في الله.
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: الناس إذا أرسل إليهم الرسل بين أمرين: إما أن يقول أحدهم: آمنا، وإما أن لا يقول ذلك، بل يستمر على السيئات والكفر، فمن قال: آمنا، امتحنه ربه وابتلاه وفتنه. والفتنة: الابتلاء والاختبار؛ ليتبين الصادق من الكاذب، ومن لم يقل: آمنا، فلا يحسب أنه يعجز الله ويفوته ويسبقه. فمن آمن بالرسل وأطاعهم عاداه أعداؤهم وآذوه، وابتلي بما يؤلمه، ومن لم يؤمن بهم ولم يطعهم عوقب في الدنيا والآخرة، وحصل له ما يؤلمه، وكان هذا الألم أعظم وأدوم من ألم أتباعهم. فلا بد من حصول الألم لكل نفس آمنت أو رغبت عن الإيمان، لكن المؤمن يحصل له الألم في الدنيا ابتداء ثم تكون له العاقبة في الدنيا والآخرة، والمعرض عن الإيمان تحصل له اللذة ابتداء، ثم يصير في الألم الدائم، والإنسان لا بد أن يعيش مع الناس، والناس لهم إرادات وتصورات، فيطلبون منه أن يوافقهم عليها، وإن لم يوافقهم آذوه وعذبوه، وإن وافقهم حصل له العذاب تارة منهم وتارة من غيرهم، كمن عنده دين وتقى حل بين قوم فجار ظلمة لا يتمكنون من فجورهم وظلمهم إلا بموافقته لهم أو سكوته عنهم، فإن وافقهم أو سكت عنهم سلم من شرهم في الابتداء، ثم يتسلطون عليه بالإهانة والأذى أضعاف ما كان يخافه ابتداء لو أنكر عليهم وخالفهم، وإن سلم منهم فلا بد أن يهان ويعاقب على يد غيرهم. فالحزم كل الحزم بما قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها لمعاوية { من أرضى الله بسخط الناس كفاه الله مؤونة الناس، ومن أرضى الناس بسخط الله لم يغنوا عنه من الله شيئا }.
فمن هداه الله وألهمه رشده ووقاه شر نفسه امتنع من الموافقة على فعل المحرم، وصبر على عداوتهم، ثم تكون له العاقبة في الدنيا والآخرة، كما كانت للرسل وأتباعهم.
ثم أخبر تعالى عن حال الداخل في الإيمان بلا بصيرة، وأنه إذا أوذي في الله جعل فتنة الناس له، وهي أذاهم ونيلهم إياه بالمكروه، وهو الألم الذي لا بد أن ينال الرسل وأتباعهم ممن خالفهم - جعل ذلك في فراره منه وتركه السبب الذي يناله به كعذاب الله الذي فر منه المؤمنون بالإيمان.
فالمؤمنون لكمال بصيرتهم فروا من ألم عذاب الله إلى الإيمان، وتحملوا ما فيه من الألم الزائل المفارق عن قرب. وهذا لضعف بصيرته فر من ألم أعداء الرسل إلى موافقتهم ومتابعتهم، ففر من ألم عذابهم إلى ألم عذاب الله، فجعل ألم فتنة الناس في الفرار منه بمنزلة عذاب الله، وغبن كل الغبن؛ إذ استجار من الرمضاء بالنار، وفر من ألم ساعة إلى ألم الأبد، وإذا نصر الله جنده وأولياءه قال: إني كنت معكم، والله أعلم بما انطوى عليه صدره من النفاق. انتهى.
وفي الآية: رد على المرجئة والكرامية، ووجهه: أنه لم ينفع هؤلاء قولهم: آمنا بالله، مع عدم صبرهم على أذى من عاداهم في الله، فلا ينفع القول والتصديق بدون العمل. فلا يصدق الإيمان الشرعي على الإنسان إلا باجتماع الثلاثة: التصديق بالقلب وعمله، والقول باللسان، والعمل بالأركان. وهذا قول أهل السنة والجماعة سلفا وخلفا، والله سبحانه وتعالى أعلم.
قوله: " عن أبي سعيد مرفوعا: إن من ضعف اليقين أن ترضى الناس بسخط الله، وأن تحمدهم على رزق الله، وأن تذمهم على ما لم يؤتك الله، إن رزق الله لا يجره حرص حريص، ولا يرده كراهية كاره ".
هذا الحديث رواه أبو نعيم في الحلية، والبيهقي وأعله بمحمد بن مروان السدي، وقال: ضعيف، وفيه أيضا عطية العوفي: ذكره الذهبي الضعفاء والمتروكين، ومعنى الحديث صحيح، وتمامه: { وإن الله بحكمته جعل الروح والفرح في الرضى واليقين، وجعل الهم والحزن في الشك والسخط }.
قوله: " إن من ضعف اليقين " الضعف - يضم ويحرك - ضد القوة، ضعف ككرم ونصر، ضعفا، وضعفا، وضعافة، وضعافية، فهو ضعيف وضعوف وضعفان، والجمع: ضعاف وضعفاء وضعفة وضعفى، وضعافى، أو الضعف -بالفتح - في الرأي، وبالضم، في البدن، فهي ضعيفة وضعوف.
و " اليقين " كمال الإيمان. قال ابن مسعود: اليقين الإيمان كله، والصبر نصف الإيمان. رواه أبو نعيم الحلية، والبيهقي في الزهد من حديثه مرفوعا. قال: ويدخل في ذلك تحقيق الإيمان بالقدر السابق، كما في حديث ابن عباس مرفوعا: {فإن استطعت أن تعمل بالرضا في اليقين فافعل، فإن لم تستطع فإن في الصبر على ما تكره خيرا كثيرا } ( ) وفي رواية: { قلت: يا رسول الله، كيف أصنع باليقين؟ قال: أن تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك } ( ).
قوله: " أن ترضى الناس بسخط الله " أي تؤثر رضاهم على رضا الله، وذلك إذا لم يقم بقلبه من إعظام الله وإجلاله وهيبته ما يمنعه من استجلاب رضى المخلوق بما يجلب له سخط خالقه وربه ومليكه الذي يتصرف في القلوب ويفرج الكروب ويغفر الذنوب، وبهذا الاعتبار يدخل في نوع من الشرك؛ لأنه آثر رضى المخلوق على رضى الله، وتقرب إليه بما يسخط الله، ولا يسلم من هذا إلا من سلمه الله، ووفقه لمعرفته ومعرفة ما يجوز على الله من إثبات صفاته على ما يليق بجلاله، وتنزيهه تعالى عن كل ما ينافي كماله، ومعرفة توحيده من ربوبيته وإلهيته، وبالله التوفيق.
قوله: " وأن تحمدهم على رزق الله " أي على ما وصل إليك من أيديهم، بأن تضيفه إليهم وتحمدهم عليه. فإن المتفضل في الحقيقة هو الله وحده الذي قدره لك وأوصله إليك، وإذا أراد أمرا قيض له أسبابا، ولا ينافي هذا حديث: { من لا يشكر الناس لا يشكر الله } ( ) لأن شكرهم إنما هو بالدعاء لهم لكون الله ساقه على أيديهم، فتدعو لهم أو تكافئهم، الحديث: { ومن صنع إليكم معروفا فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه } ( ). وليس بإضافة الصنيعة إليهم لكونهم صاروا سببا في إيصال المعروف إليك، والذي قدره وساقه هو الله وحده.
قوله: " وأن تذمهم على ما لم يؤتك الله "؛ لأنه لم يقدر لك ما طلبته على أيديهم، فلو قدره لك لساقته المقادير إليك. فمن علم أن المتفرد بالعطاء والمنع هو الله وحده، وأنه هو الذي يرزق العبد بسبب وبلا سبب، ومن حيث لا يحتسب - لم يمدح مخلوقا على رزق، ولم يذمه على منع، ويفوض أمره إلى الله، ويعتمد عليه في أمر دينه ودنياه. وقد قرر النبي هذا المعنى بقوله في الحديث: { إن رزق الله لا يجره حرص حريص، ولا يرده كراهية كاره } كما قال تعالى: { • •• } ( ) (فاطر - 2).
قال شيخ الإسلام رحمه الله: اليقين يتضمن اليقين في القيام بأمر الله وما وعد الله أهل طاعته، ويتضمن اليقين بقدر الله وخلقه وتدبيره، فإذا أرضيتهم بسخط الله لم تكن موقنا لا بوعده ولا برزقه، فإنه إنما يحمل الإنسان على ذلك: إما ميل إلى ما في أيديهم، فيترك القيام فيهم بأمر الله؛ لما يرجوه منهم، وإما ضعف تصديقه بما وعد الله أهل طاعته من النصر والتأييد والثواب في الدنيا والآخرة. فإنك إذا أرضيت الله نصرك ورزقك وكفاك مئونتهم، وإرضاؤهم بما يسخطه إنما يكون خوفا منهم ورجاءً لهم، وذلك من ضعف اليقين، وإذا لم يقدر لك ما تظن أنهم يفعلونه معك، فالأمر في ذلك إلى الله لا لهم. فإنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، فإذا ذممتهم على ما لم يقدر كان ذلك من ضعف يقينك، فلا تخفهم ولا ترجهم ولا تذمهم من جهة نفسك وهواك، ولكن من حمده الله ورسوله منهم فهو المحمود، ومن ذمه الله ورسوله منهم فهو المذموم. ولما { قال بعض وفد بني تميم: " أي محمد أعطني، فإن حمدي زين وذمي شين، قال النبي ذاك الله }. ودل الحديث على أن الإيمان يزيد وينقص، وأن الأعمال من مسمى الإيمان.
قوله: " وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله قال: { من التمس رضى الله بسخط الناس، وأرضى عنه الناس، ومن التمس رضى الناس بسخط الله، سخط الله عليه وأسخط عليه الناس } ( ) رواه ابن حبان في صحيحه.
هذا الحديث رواه ابن حبان بهذا اللفظ، ورواه الترمذي عن رجل من أهل المدينة قال: { كتب معاوية إلى عائشة رضي الله عنها: أن اكتبي لي كتابا توصيني فيه، ولا تكثري علي، فكتبت عائشة رضي الله عنها إلى معاوية: سلام عليك، أما بعد فإني سمعت رسول الله يقول: " من التمس رضا الله بسخط الناس كفاه الله مؤنة الناس، ومن التمس رضا الناس بسخط الله وكله الله إلى الناس، والسلام عليك } ( ) ورواه أبو نعيم في الحلية.
قوله: " من التمس ": أي طلب.
قال شيخ الإسلام: وكتبت عائشة إلى معاوية، وروي أنها رفعته: { من أرضى الله بسخط الناس كفاه الله مؤنة الناس، ومن أرضى الناس بسخط الله لم يغنوا عنه من الله شيئا } ( ) هذا لفظ المرفوع. ولفظ الموقوف: { من أرضى الله بسخط الناس وأرضى عنه الناس، ومن أرضى الناس بسخط الله عاد حامده من الناس له ذاما }، وهذا من أعظم الفقه في الدين، فإن من أرضى الله بسخطهم كان قد اتقاه وكان عبده الصالح، والله يتولى الصالحين، والله كاف عبده: { } ( ) (الطلاق - 2، 3). والله يكفيه مؤنة الناس بلا ريب، وأما كون الناس كلهم يرضون عنه فقد لا يحصل ذلك، لكن يرضون عنه إذا سلموا من الأغراض، وإذا تبين لهم العاقبة. { ومن أرضى الناس بسخط الله لم يغنوا عنه من الله شيئا } كالظالم الذي يعض يديه. وأما كون حامده ينقلب ذاما، فهذا يقع كثيرا ويحصل في العاقبة. فإن العاقبة للتقوى لا تحصل ابتداء عند أهوائهم. ا هـ.
وقد أحسن من قال:
فكـل الـذي فـوق التـراب تراب
إذا صـح منك الـود يا غايـة المنى
قال ابن رجب رحمه الله: فمن تحقق أن كل مخلوق فوق التراب فهو تراب، فكيف يقدم طاعة من هو تراب على طاعة رب الأرباب؟ أم كيف يرضى التراب بسخط الملك الوهاب؟ إن هذا لشئ عجاب.
وفي الحديث: عقوبة من خاف الناس وآثرهم رضاهم على الله، وأن العقوبة قد تكون في الدين، عياذا بالله من ذلك، كما قال تعالى: { } ( ) (التوبة - 77).
المسائل المستنبطة من هذا الباب
فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية آل عمران.
الثانية: تفسير آية براءة.
الثالثة: تفسير آية العنكبوت.
الرابعة: أن اليقين يضعف ويقوى.
الخامسة: علامة ضعفه، ومن ذلك هذه الثلاث.
السادسة: أن إخلاص الخوف لله من الفرائض.
السابعة: ذكر ثواب من فعله.
الثامنة: ذكر عقاب من تركه.
باب قول الله تعالى:... وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين
قول الله تعالى:... { } ( ) (المائدة - 23).
وقوله: { } ( ) (الأنفال -2).
وقوله: { • • } ( ) (الأنفال -64).
وقوله... { } ( )... (الطلاق - 3).
{ وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: { } ( ) قالها إبراهيم حين ألقي في النار، وقالها محمد حين قالوا له:... { • •• } ( ) } (آل عمران - 173). رواه البخاري والنسائي.
قوله: " باب قول الله تعالى:
{ } ( ) (المائدة - 23).
قال أبو السعادات: يقال: توكل بالأمر، إذا ضمن القيام به، ووكلت أمري إلى فلان: إذا اعتمدت عليه، ووكل فلان فلانا: إذا استكفاه أمره ثقة بكفايته، أو عجزا عن القيام بأمر نفسه. ا هـ.
وأراد المصنف رحمه الله بهذه الترجمة بالآية: بيان أن التوكل فريضة يجب إخلاصه لله تعالى، فإن تقديم المعمول يفيد الحصر، أي وعلى الله فتوكلوا لا على غيره، فهو من أجمع أنواع العبادة وأعظمها، لما ينشأ عنه من الأعمال الصالحة، فإنه إذا اعتمد على الله في جميع أموره الدينية والدنيوية دون كل من سواه صح إخلاصه ومعاملته مع الله تعالى، فهو من أعظم منازل { } ( ) (الفاتحة - 5) فلا يحصل كمال التوحيد بأنواعه الثلاثة إلا بكمال التوكل على الله، كما في هذه الآية، وكما قال تعالى: { } ( ) (يونس - 84) وقوله: { } ( ) (المزمل -9) والآيات في الأمر به كثيرة جدا. قال الإمام أحمد رحمه الله: التوكل عمل القلب.
وقال ابن القيم في معنى الآية المترجم بها: فجعل التوكل على الله شرطا في الإيمان، فدل على انتفاء الإيمان عند انتفائه، وفي الآية الآخرى: { } ( )، فجعل دليل صحة الإسلام التوكل، وكلما قوى إيمان العبد كان توكله أقوى، وإذا ضعف الإيمان ضعف التوكل، وإذا كان التوكل ضعيفا كان دليلا على ضعف الإيمان ولا بد. والله تعالى يجمع بين التوكل والعبادة، وبين التوكل والإيمان، وبين التوكل والتقوى، وبين التوكل والإسلام، وبين التوكل والهداية.
فظهر أن التوكل أصل لجميع مقامات الإيمان والإحسان، ولجميع أعمال الإسلام، وأن منزلته منها كمنزلة الجسد من الرأس، فكما لا يقوم الرأس إلا على البدن، فكذلك لا يقوم الإيمان ومقاماته وأعماله إلا على ساق التوكل.
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: وما رجا أحد مخلوقا ولا توكل عليه إلا خاب ظنه فيه، فإنه مشرك: { } ( ) (الحج - 31).
قال الشارح رحمه الله تعالى: قلت: لكن التوكل على الله قسمان:
أحدهما: التوكل في الأمور التي لا يقدر الله، كالذين يتوكلون على الأموات والطواغيت في رجاء مطالبهم من نصر، أو حفظ، أو رزق، أو شفاعة، فهذا شرك أكبر.
الثاني: التوكل في الأسباب الظاهرة، كمن يتوكل على أمير أو سلطان فيما أقدره الله تعالى عليه من رزق، أو دفع أذى، ونحو ذلك، فهو نوع شرك أصغر. والوكالة الجائزة: هي توكيل الإنسان الإنسان في فعل ما يقدر عليه نيابة عنه، لكن ليس له أن يعتمد في حصوله ما وكل فيه، بل يتوكل على الله في تيسير أمره الذي يطلبه بنفسه أو نائبه، وذلك من جملة الأسباب التي يجوز فعلها، ولا يعتمد عليها، بل يعتمد على المسبب الذي أوجد السبب والمسبب.
قال: " وقول الله تعالى: { } ( ) (الأنفال - 2) ":
قال ابن عباس في الآية: المنافقون لا يدخل في قلوبهم شئ من ذكر الله عند أداء فرائضه، ولا يؤمنون بشيء من آيات الله، ولا يتوكلون على الله، ولا يصلون إذا غابوا، ولا يؤدون زكاة أموالهم، فأخبر الله أنهم ليسوا بمؤمنين، ثم وصف المؤمنين فقال: { } ( )، فأدوا فرائضه. رواه ابن جرير وابن أبي حاتم. ووجل القلب من الله مستلزم القيام بفعل ما أمر به وترك ما نهى عنه، قال السدي: { } ( ) ، هو الرجل يريد أن يظلم، أو قال: يهم بمعصية، فيقال له: اتق الله، فيجل قلبه. رواه ابن أبي شيبة وابن جرير.
قوله: { } ( ) ، استدل الصحابة رضي الله عنهم والتابعون ومن تبعهم من أهل السنة بهذه الآية ونظائرها على زيادة الإيمان ونقصانه.
قال عمير بن حبيب الصحابي: إن الإيمان يزيد وينقص، فقيل له: وما زيادته ونقصانه؟ قال: إذا ذكرنا الله وخشيناه فذلك زيادته، وإذا غفلنا ونسينا وضيعنا فذلك نقصانه " رواه ابن سعد.
وقال مجاهد: الإيمان يزيد وينقص، وهو قول وعمل. رواه ابن أبي حاتم.
وحكى الإجماع على ذلك الشافعي وأحمد وأبو عبيد وغيرهم، رحمهم الله تعالى.
قوله: { } ( ) أي يعتمدون عليه بقلوبهم، مفوضين إليه أمورهم، فلا يرجون سواه، ولا يقصدون إلا إياه، ولا يرغبون إلا إليه، يعلمون أن ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، وأنه المتصرف في الملك وحده، والمعبود وحده، لا شريك له. وفي الآية وصف المؤمنين حقا بثلاث مقامات من مقامات الإحسان، وهي: الخوف، وزياة الإيمان، والتوكل على الله وحده. وهذه المقامات تقتضي كمال الإيمان وحصول أعماله الباطنة والظاهرة، مثال ذلك: الصلاة، فمن أقام الصلاة وحافظ عليها وأدى الزكاة كما أمره الله، استلزم ذلك العمل بما يقدر عليه من الواجبات وترك جميع المحرمات، كما قال تعالى: { } ( ) (العنكبوت - 45).
قال: " وقوله: { • • } ( ) (الأنفال - 64) قال ابن القيم رحمه الله: أي الله وحده كافيك وكافي أتباعك، فلا تحتاجون معه إلى أحد، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
وقيل: المعنى حسبك الله وحسبك المؤمنون.
قال ابن القيم رحمه الله: وهذا خطأ محض لا يجوز حمل الآية عليه، فإن الحسب والكفاية لله وحده، كالتوكل والتقوى والعبادة، قال الله تعالى: { } ( ) (الأنفال - 62) ففرق بين الحسب والتأييد، فجعل الحسب له وحده، وجعل التأييد له بنصـره وبعباده، وأثنى على أهل التوحيد من عباده حيث أفردوه بالحسب، فقال تعالى: { •• • •• } ( ) (آل عمران - 173)، ولم يقولوا: حسبنا الله ورسوله. ونظير هذا قوله سبحانه: { } ( ) (التوبة - 59). فتأمل كيف جعل الإيتاء لله والرسول، وجعل الحسب له وحده، فلم يقل: وقالوا حسبنا الله ورسوله، بل جعله خالص حقه، كما قال: { } ( )، فجعل الرغبة إليه وحده، كما قال تعالى: { } ( ) (الشرح -8) فالرغبة والتوكل والإنابة والحسب لله وحده، كما أن العبادة والتقوى والسجود والنذر والحلق لا يكون إلا له سبحانه وتعالى. انتهى.
وبهذا يتبين مطابقة الآية للترجمة، فإذا كان هو الكافي لعبده وجب ألا يتوكل إلا عليه، ومتى التفت بقلبه إلى سواه وكله الله إلى من التفت إليه، كما في الحديث: { من تعلق شيئا وكل إليه } ( ).
قال: " وقول الله تعالى: { } ( ) (الطلاق - 3):
قال ابن القيم رحمه الله وغيره: أي كافيه، ومن كان الله كافيه وواقيه فلا مطمع فيه لعدوه، ولا يضره إلا أذى لا بد منه، كالحر والبرد والجوع والعطش، وأما أن يضره بما يبلغ به مراده منه فلا يكون أبدا، وفرق بين الأذى الذي هو الظاهر إيذاء وفي الحقيقة إحسان وإضرار بنفسه، وبين الضرر الذي يتشفى به منه. قال بعض السلف: جعل الله لكل عمل جزاء من نفسه، وجعل جزاء التوكل عليه نفس كفايته، فقال: { } ( ) ، فلم يقل: فله كذا وكذا من الأجر. كما قال في الأعمال، بل جعل نفسه سبحانه كافي عبده المتوكل عليه وحسبه وواقيه. فلو توكل العبد على الله حق توكله، وكادته السموات والأرض ومن فيهن، لجعل الله له مخرجا، وكفاه رزقه ونصره. انتهى.
وفي أثر رواه أحمد في الزهد عن وهب بن منبه قال: { قال الله في بعض كتبه: بعزتي إنه من اعتصم بي فكادته السماوات بمن فيهن والأرضون بمن فيهن، فإني أجعل له من ذلك مخرجا، ومن لم يعتصم بي، فإني أقطع يديه من أسباب السماء، وأخسف من تحت قدميه الأرض، فأجعله في الهواء، ثم أكله إلى نفسه. كفى بي لعبدي مآلا، إذا كان عبدي في طاعتي أعطيه قبل أن يسألني، وأستجيب له قبل أن يدعوني، فأنا أعلم بحاجته التي ترفق به منه }.
وفي الآية دليل على فضل التوكل، وأنه أعظم الأسباب في جلب المنافع ودفع المضار؛ لأن الله تعالى علق الجملة الأخيرة على الأولى تعليق الجزاء على الشرط. فيمتنع أن يكون وجود الشرك كعدمه؛ لأن الله تعالى رتب الحكم على الوصف المناسب له، فعلم أن توكله هو سبب كون الله حسبا له.
وفيها تنبيه على القيام بالأسباب مع التوكل؛ لأنه تعالى ذكر التقوى، ثم ذكر التوكل، كما قال تعالى: { • } ( ) (المائدة - 11) فجعل التوكل مع التقوى الذي هو قيام بالأسباب المأمور بها. فالتوكل بدون القيام بالأسباب المأمور بها عجز محض، وإن كان مشوبا بنوع من التوكل، فلا ينبغي للعبد أن يجعل توكله عجزا، ولا عجزه توكلا، بل يجعل توكله من جملة الأسباب التي لا يتم المقصود إلا بها كلها. ذكره ابن القيم بمعناه.
قـال: {وعـن ابن عباس رضـي الله عـنهما قال: { } ( ) قالها إبراهيم حين ألقـي في النار، وقالها محمد حين قالوا له: { • •• } ( ) } (آل عمران - 173) رواه البخاري والنسائي.
قوله: " حسبنا الله " أي كافينا. فلا نتكل إلا عليه. قال تعالى: { } ( ).
قوله: " ونعم الوكيل " أي نعم الموكول إليه، كما قال تعالى: { • } ( ) (الحج - 78)، ومخصوص " نعم " محذوف تقديره " هو ".
قال ابن القيم رحمه الله: هو حسب من توكل عليه وكافى من لجأ إليه، وهو الذي يؤمن خوف الخائف، ويجير المستجير، فمن تولاه، واستنصر به، وتوكل عليه، وانقطع بكليته إليه - تولاه وحفظه وحرسه وصانه، ومن خافه واتقاه أمنه مما يخاف ويحذر، ويجلب إليه ما يحتاج إليه من المنافع.
قوله: " قالها إبراهيم حين ألقي في النار " قال تعالى: { } ( ) (الأنبياء - 68 - 70).
قوله: { وقالها محمد حين قالوا له: { • •• } ( ) وذلك بعد منصرف قريش والأحزاب من أحد، بلغه أن أبا سفيان ومن معه قد أجمعوا الكرة عليهم، فخرج النبي في سبعين راكبا حتى انتهى إلى حمراء الأسد، فألقى الله الرعب في قلب أبي سفيان، فرجع إلى مكة بمن معه، ومر به ركب من عبد القيس فقال: أين تريدون؟ قالوا: نريد المدينة. قال: فهل أنتم مبلغون محمدا عني رسالة؟ قالوا: نعم. قال: فإذا وافيتموه فأخبروه أنا قد أجمعنا السير إليه وإلى أصحابه لنستأصل بقيتهم. فمر الركب برسول الله وهو بحمراء الأسد، فأخبروه بالذي قال أبو سفيان. فقال: حسبنا الله ونعم الوكيل }.
ففي هاتين القصتين فضل هذه الكلمة العظيمة، وأنها قول الخليلين عليهما الصلاة والسلام في الشدائد. وجاء في الحديث: { إذا وقعتم في الأمر العظيم فقولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل }.
المسائل المستنبطة من هذا الباب
فيه مسائل:
الأولى: أن التوكل من الفرائض.
الثانية: أنه من شروط الإيمان.
الثالثة: تفسير آية الأنفال.
الرابعة: تفسير الآية في آخرها.
الخامسة: تفسير آية الطلاق.
السادسة: عظم شأن هذه الكلمة، وأنها قول إبراهيم ومحمد في الشدائد.
باب قول الله تعالى أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون
قول الله تعالى: { } ( ) (الأعراف - 99).
وقوله: { } ( ) (الحجر - 56).
{ وعن ابن عباس رضي الله عنهما: " أن رسول الله سئل عن الكبائر؟ فقال: الشرك بالله، واليأس من روح الله، والأمن من مكر الله } ( ).
{ وعن ابن مسعود قال: " أكبر الكبائر: الإشراك بالله، والأمن من مكر الله، والقنوط من رحمة الله، واليأس من روح الله } ( ) رواه عبد الرزاق.
قوله: باب قول الله تعالى: { } ( ) (الأعراف - 99).
قصد المصنف رحمه الله بهذه الآية التنبيه على أن الأمن من مكر الله من أعظم الذنوب، وأنه ينافي كمال التوحيد، كما أن القنوط من رحمة الله كذلك، وذلك يرشد إلى أن المؤمن يسير إلى الله بين الخوف والرجاء، كما دل على ذلك الكتاب والسنة، وأرشد إليه سلف الأمة والأئمة.
ومعنى الآية: أن الله تبارك وتعالى لما ذكر حال أهل القرى المكذبين للرسل بين أن الذي حملهم على ذلك هو الأمن مكر الله وعدم الخوف منه، قال تعالى: { } ( ). أي الهالكون، وذلك أنهم أمنوا مكر الله لما استدرجهم بالسراء والنعم، فاستبعدوا أن يكون ذلك مكرا.
قال الحسن رحمه الله: من وسع الله عليه فلم ير أنه يمكر به فلا رأى له.
وقال قتادة: بغت القوم أمر الله، وما أخذ الله قوما قط إلا عند سلوتهم ونعمتهم غرتهم. فلا تغتروا بالله.
وفي الحديث: { إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب فإنما هو استدراج } ( ). رواه أحمد وابن جرير وابن أبي حاتم.
وقال إسماعيل بن رافع: " من الأمن من مكر الله: إقامة العبد على الذنب يتمنى على الله المغفرة ". رواه ابن أبي حاتم.
وهذا هو تفسير المكر في قول بعض السلف: يستدرجهم الله بالنعم إذا عصوه، ويملى لهم ثم يأخذهم أخذ عزيز مقتدر. وهذا هو معنى المكر والخديعة ونحو ذلك. ذكره ابن جرير بمعناه.
قال: (وقول الله تعالى: { } ( ) (الحجر - 56):
القنوط: استبعاد الفرج واليأس منه، وهو يقابل الأمن من مكر الله، وكلاهما ذنب عظيم، وتقدم ما فيه لمنافاته لكمال التوحيد.
وذكر المصنف رحمه الله تعالى هذه الآية مع التي قبلها تنبيها على أنه لا يجوز لمن خاف الله أن يقنط من رحمته، بل يكون خائفا راجيا، يخاف ذنوبه ويعمل بطاعته، ويرجو رحمته، كما قال تعالى: { • } ( ) (الزمر - 9) وقال تعالى: { • } ( ) (البقرة - 218) فالرجاء مع المعصية وترك الطاعة غرور من الشيطان؛ ليوقع العبد في المخاوف مع ترك الأسباب المنجية من المهالك، بخلاف حال أهل الإيمان الذين أخذوا بأسباب النجاة؛ خوفا من الله تعالى، وهربا من عقابه، وطمعا في المغفرة، ورجاء لثوابه.
والمعنى: أن الله تعالى حكى قول خليله إبراهيم عليه السلام، لما بشرته الملائكة بابنه إسحاق { • } ( ) (الحجر - 54) لأن العادة أن الرجل إذا كبر سنه وسن زوجته استبعد أن يولد له منها، والله على كل شئ قدير، فقالت الملائكة: { } ( ) الذي لا ريب فيه، فإن الله إذا أراد شيئا إنما يقول له كن فيكون: { } ( ) (الحجر - 55) أي من الآيسين، فقال عليه السلام: { } ( ) ، فإنه يعلم من قدرة الله ورحمته ما هو أبلغ من ذلك وأعظم، لكنه - والله أعلم - قال ذلك على وجه التعجب.
قوله: { } ( ) ، قال بعضهم: إلا المخطئون طريق الصواب، أو إلا الكافرون كقوله: { } ( ) (يوسف - 87).
قوله: { وعن ابن عباس رضي الله عنهما، أن رسول الله سئل عن الكبائر، فقال: الشرك بالله، واليأس من روح الله، والأمن من مكر الله } ( ):
هذا الحديث رواه البزار وابن أبي حاتم من طريق شبيب بن بشر، عن عكرمة، عن ابن عباس، ورجاله ثقات إلا شبيب بن بشر، فقال ابن معين: ثقة. ولينه أبو حاتم.
وقال ابن كثير: في إسناده نظر، والأشبه أن يكون موقوفا.
قوله: " الشرك بالله " هو أكبر الكبائر. قال ابن القيم رحمه الله: الشرك بالله هضم للربوبية، وتنقص للإلهية، وسوء ظن برب العالمين. انتهى.
ولقد صدق ونصح، قال تعالى: { } ( ) (الأنعام - 1)، وقال تعالى: { } ( ) (لقمان - 13)؛ ولهذا لا يغفره الله إلا بالتوبة منه.
قوله: " واليأس من روح الله " أي قطع الرجاء والأمل من الله فيما يخافه ويرجوه، وذلك إساءة ظن بالله، وجهل به وبسعة رحمته وجوده ومغفرته.
قوله: " والأمن من مكر الله " أي من استدراجه للعبد وسلبه ما أعطاه من الإيمان، نعوذ بالله من ذلك، وذلك جهل بالله وبقدرته، وثقة بالنفس وعجب بها.
واعلم أن هذا الحديث لم يرد به حصر الكبائر في الثلاث، بل الكبائر كثير، وهذه الثلاث من أكبر الكبائر المذكورة في الكتاب والسنة، وضابطها ما قاله المحققون من العلماء: كل ذنب ختمه الله بنار أو لعنة أو غضب أو عذاب. زاد شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: أو نفى الإيمان.
قلت: ومن برئ منه رسول الله أو قال: " ليس منا من فعل كذا وكذا ".
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: هي إلى سبعمائة أقرب منها إلى سبع، غير أنه لا كبيرة مع الاستغفار، ولا صغيرة مع الإصرار.
قوله: " وعن ابن مسعود قال: أكبر الكبائر الإشراك بالله، والأمن من مكر الله، والقنوط من رحمة الله، واليأس من روح الله ". رواه عبد الرزاق.
ورواه ابن جرير بأسانيد صحاح عن ابن مسعود رضي الله عنه.
قوله: " والقنوط من رحمة الله " قال أبو السعادات: هو أشد اليأس.
وفيه التنبيه على الرجاء والخوف، فإذا خاف فلا يقنط ولا ييأس، بل يرجو رحمة الله. وكان السلف يستحبون أن يقوى في الصحة الخوف، وفي المرض الرجاء، وهذه طريقة أبي سليمان الداراني وغيره. قال: وينبغي للقلب أن يكون الغالب عليه الخوف، فإذا غلب الرجاء الخـوف فسد القلب. قال تعالى: { • • } ( ) (الملك - 12)، وقال: { } ( ) (النور - 37) وقال تعالى: { • • } ( ) (المؤمنون - 60، 61)، وقال تعالى: { • } ( ) (الزمر -9) قدم الحذر على الرجاء في هذه الآية.
المسائل المستنبطة من هذا الباب
فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية الأعراف.
الثانية: تفسير آية الحجر.
الثالثة: شدة الوعيد فيمن أمن مكر الله.
الرابعة: شدة الوعيد في القنوط.
باب من الإيمان بالله الصبر على أقدار الله
وقوله تعالى:... { } ( ) (التغابن - 11).
قال علقمة: " هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله، فيرضى ويسلم ".
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله قال: { اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في النسب، والنياحة على الميت } ( ).
ولهما عن ابن مسعود مرفوعا: { ليس منا من ضرب الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية } ( ).
وعن أنس أن رسول الله قال: { إذا أراد الله بعبده الخير عجل له العقوبة في الدنيا، وإذا أراد بعبده الشر أمسك عنه بذنبه حتى يوافي به يوم القيامة } ( ).
وقال { إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله تعالى إذا أحب قوما ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط } ( ) حسنه الترمذي.
قوله: باب " من الإيمان بالله: الصبر على أقدار الله "
قال الإمام أحمد: ذكر الله تعالى الصبر في تسعين موضعا من كتابه. وفي الحديث الصحيح: { الصبر ضياء } رواه أحمد ومسلم. وللبخاري ومسلم مرفوعا: { ما أعطى أحد عطاء خيرا أوسع من الصبر } ( ). قال عمر وجدنا خير عيشنا بالصبر. رواه البخاري.
قال علي " إن الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، ثم رفع صوته فقال: ألا إنه لا إيمان لمن لا صبر له ".
واشتقاقه: من صبر إذا حبس ومنع. والصبر حبس النفس عن الجزع، وحبس اللسان عن التشكي والتسخط، والجوارح عن لطم الخدود وشق الجيوب ونحوهما. ذكره ابن القيم رحمه الله.
واعلم أن الصبر ثلاثة أقسام: صبر على ما أمر الله به، وصبر عما نهى عنه، وصبر على ما قدره من المصائب.
قوله: " وقول الله تعالى: { } ( ):
وأول الآية: { } ( )، أي بمشيئته وإرادته وحكمته، كما قال في الآية الآخرى: { • } ( ) (الحديد - 22) وقال: { } ( ) (البقرة -155 - 157).
قوله: { } ( )، قال ابـن عباس في قوله: { } ( ) إلا بأمر الله، يعني عن قدره ومشيئته { } ( ) أي من صابته مصيبة، فعلم أنها بقدر الله، فصبر واحتسب، واستسلم لقضاء الله - هدى الله قلبه، وعوضه عما فاته من الدنيا هدى في قلبه، ويقينا صادقا، وقد يخلف عليه ما كان أخذ منه.
قوله: { } ( ) تنبيه على أن ذلك إنما يصدر عن علمه المتضمن لحكمته. وذلك يوجب الصبر والرضا.
قوله: "قال علقمة: هو الرجل تصيبه المصيبة، فيعلم أنها من عند الله، فيرضى ويسلم". هذا الأثر رواه ابن جرير وابن أبي حاتم.
وعلقمة: هو ابن قيس بن عبد الله النخعي الكوفي، ولد في حياة النبي وسمع من أبي بكر، وعثمان، وعلي، وسعد، وابن مسعود، وعائشة، وغيرهم رضي الله عنهم. وهو من كبار التابعين وأجلائهم وعلمائهم وثقاتهم، مات بعد الستين.
قوله: " هو الرجل تصيبه المصيبة - إلخ ". هذا الأثر رواه الأعمش عن أبي ظبيان، قال: كنا عند علقمة فقرئ عليه هذه الآية: { } ( )، قال: هو الرجل تصيبه المصيبة، فيعلم أنها من عند الله، فيرضى ويسلم. هذا سياق ابن جرير.
وفي هذا دليل على أن الأعمال من مسمى الإيمان. قال سعيد بن جبير: { } ( )، يعني يسترجع، يقول: { } ( ). وفي الآية بيان أن الصبر سبب لهداية القلب، وأنها من ثواب الصابرين.
قوله: " وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله قال: { اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في النسب، والنياحة على الميت } ( ):
أي هما بالناس كفر، حيث كانتا من أعمال الجاهلية، وهما قائمتان بالناس، ولا يسلم منهما إلا من سلمه الله تعالى ورزقه علما وإيمانا يستضيء به، ولكن ليس من قام به شعبة من شعب الكفر يصير كافرا كالكفر المطلق. كما أنه ليس من قام به شبعة من شعب الإيمان يصير مؤمنا الإيمان المطلق. وفرق بين الكفر المعرف باللام كما في قوله: { ليس بين العبد وبين الكفر أو الشرك إلا ترك الصلاة } ( )، وبين كفر منكر في الإثبات.
قوله: { الطعن في النسب } ( )، أي عيبه، يدخل فيه أن يقال: هذا ليس ابن فلان، مع ثبوت نسبه.
قوله: { والنياحة على الميت } ( ) أي رفع الصوت بالندب، وتعداد فضائل الميت، لما فيه من التسخط على القدر المنافي للصبر، كقول النائحة: واعضداه، واناصراه، ونحو ذلك.
وفيه دليل على أن الصبر واجب، وأن الكفر ما لا ينقل عن الملة.
قوله: " ولهما عن ابن مسعود مرفوعا: { ليس منا من ضرب الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية } ( ):
هذا من نصوص الوعيد، وقد جاء عن سفيان الثوري وأحمد كراهية تأويلها؛ ليكون أوقع في النفوس، وأبلغ في الزجر، وهو يدل على أن ذلك ينافي كمال الإيمان الواجب.
قوله: { من ضرب الخدود } ( ) وقال الحافظ: خص الخد لكونه الغالب، وإلا فضرب بقية الوجه مثله.
قوله: { وشق الجيوب } ( ) هو الذي يدخل فيه الرأس من الثوب، وذلك من عادة أهل الجاهلية حزنا على الميت.
قوله: { ودعا بدعوى الجاهلية } ( )، قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: هو ندب الميت. وقال غيره: هو الدعاء بالويل والثبور. وقال ابن القيم رحمه الله: الدعاء بدعوى الجاهلية، كالدعاء إلى القبائل والعصبية، ومثله التعصب إلى المذاهب والطوائف والمشايخ، وتفضيل بعضهم على بضع، يدعو إلى ذلك ويوالي عليه ويعادي، فكل هذا من دعوى الجاهلية.
وعند ابن ماجه وصححه ابن حبان، عن أبي أمامة، أن رسول الله { لعن الخامشة وجهها، والشاقة جيبها، والداعية بالويل والثبور } ( ).
وهذا يدل على أن هذه الأمور من الكبائر، وقد يعفى عنه الشيء اليسير من ذلك، إذا كان صدقا وليس على وجه النوح والتسخط، نص عليه أحمد رحمه الله؛ لما وقع لأبي بكر وفاطمة رضي الله عنهما لما توفي رسول الله .
وليس في هذه الأحاديث ما يدل على النهي عن البكاء، لما في الصحيح أن رسول الله صلى لله عليه وسلم لما مات ابنه إبراهيم قال: { تدمع العين، ويحزن القلب، ولا نقول إلا ما يرضي الرب، وإنا بك يا إبراهيمُ لمحزونون } ( ). وفي الصحيحين عن أسامة بن زيد { أن رسول الله انطلق إلى إحدى بناته ولها صبي في الموت، فرفع إليه ونفسه تقعقع كأنها شن، ففاضت عيناه، فقال سعد: ما هذا يا رسول الله؟ قال: هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء } ( ).
قوله: " وعن أنس أن رسول الله قال: { إذا أراد الله بعبده الخير، عجل له العقوبة في الدنيا، وإذا أراد بعبده الشر، أمسك عنه بذنبه حتى يوافى به يوم القيامة } ( ):
هذا الحديث رواه الترمذي والحاكم، وحسنه الترمذي. وأخرجه الطبراني والحاكم عن عبد الله بن مغفل، وأخرجه ابن عدي عن أبي هريرة، والطبراني عن عمار بن ياسر.
قوله: { إذا أراد الله بعبده الخير عجل له العقوبة في الدنيا } ( ) أي يصب عليه البلاء والمصائب لما فرط من الذنوب منه، فيخرج منها وليس عليه ذنب يوافى به يوم القيامة.
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: المصائب نعمة؛ لأنها مكفرات للذنوب، وتدعو إلى الصبر فيثاب عليها، وتقتضي الإنابة إلى الله والذل له، والإعراض عن الخلق، إلى غير ذلك من المصالح العظيمة. فنفس البلاء يكفر الله به الذنوب والخطايا، وهذا من أعظم النعم. فالمصائب رحمة ونعمة في حق عموم الخلق، إلا أن يدخل صاحبها بسببها في معاصي أعظم مما كان قبل ذلك، فيكون شرا عليه من جهة ما أصابه في دينه، فإن من الناس من إذا ابتلى بفقر أو مرض أو وجع، حصل له من النفاق والجزع ومرض القلب والكفر الظاهر، وترك بعض الواجبات، وفعل بعض المحرمات ما يوجب له الضرر في دينه، فهذا كانت العافية خيرا له من جهة ما أورثته المصيبة، لا من جهة نفس المصيبة، كما أن من أوجبت له المصيبة صبرا وطاعة، كانت في حقه نعمة دينية، فهي بعينها فعل الرب ورحمة للخلق، والله تعالى محمود عليها، فمن ابتلى فرزق الصبر كان الصبر عليه نعمة في دينه، وحصل له بعد ما كفر من خطاياه رحمة، وحصل له بثنائه على ربه صلاة ربه عليه، قال تعالى: { } ( )، وحصل له غفران السيئات ورفع الدرجات، فمن قام بالصبر الواجب حصل له ذلك. انتهى ملخصا.
قوله: { وإذا أراد بعبده الشر أمسك عنه بذنبه } ( ) " أي أخر عنه العقوبة بذنبه { حتى يوافى به يوم القيامة } ( ) وهو بضم الياء وكسر الفاء منصوبا بحتى مبنيا للفاعل. قال العزيزي: أي لا يجازيه بذنبه في الدنيا حتى يجيء في الآخرة مستوفر الذنوب وافيها، فيستوفي ما يستحقه من العقاب. وهذه الجملة هي آخر الحديث. فأما قوله: وقال النبي { إن عظم الجزاء مع عظم البلاء } ( ) إلى آخره.
فهو أول حديث آخر، لكن لما رواهما الترمذي بإسناد واحد وصحابي واحد جعلهما المصنف كالحديث الواحد.
وفيه: التنبيه على حسن الرجاء وحسن الظن بالله فيما يقضيه لك، كما قال تعالى: { } ( ) (البقرة - 216).
قوله: وقال النبي { إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله تعالى إذا أحب قوما ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط } ( ). حسنه الترمذي:
قال الترمذي: حدثنا قتيبة، حدثنا الليث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن سعد بن سنان، عن أنس، فذكر الحديث السابق ثم قال: وبهذا الإسناد عن النبي أنه قال: { إن عظم الجزاء } ( )... الحديث. ثم قال حديث حسن غريب من هذا الوجه. ورواه ابن ماجه. وروى الإمام أحمد عن محمود بن لبيد رفعه: { إذا أحب الله قوما ابتلاهم، فمن صبر فله الصبر، ومن جزع فله الجزع } ( ) قال المنذري: رواته ثقات.
قوله: { إن عظم الجزاء } ( ) بكسر العين وفتح الظاء فيها: ويجوز ضمها مع سكون الظاء، أي من كان ابتلاؤه أعظم كمية وكيفية.
وقد يحتج بهذا الحديث من يقول: إن المصائب يثاب عليها مع تكفير الخطايا، ورجح ابن القيم أن ثوابها تكفير الخطايا فقط، إلا إذا كانت سببا لعمل صالح، كالصبر، والرضا، والتوبة، والاستغفار، فإنه حينئذ يثاب على ما تولد منها، وعلى هذا يقال في معنى الحديث: إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، إذا صبر واحتسب.
قوله: { وإن الله تعالى إذا أحب قوما ابتلاهم } ( )؛ ولهذا ورد في حديث سعد: { سئل النبي أي الناس أشد بلاء؟ قال: الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلي على قدر دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة } ( ) رواه الدارمى وابن ماجه والترمذي وصححه.
وهذا الحديث ونحوه من أدلة التوحيد، فإذا عرف العبد أن الأنبياء والأولياء يصيبهم البلاء في أنفسهم الذي هو في الحقيقة رحمة، ولا يدفعه عنهم إلا الله، عرف أنهم لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا دفعا، فلأن لا يملكوه لغيرهم أولى وأحرى، فيحرم قصدهم والرغبة إليهم في قضاء حاجة أو تفريج كربة، وفي وقوع الابتلاء بالأنبياء والصالحين من الأسرار والحكم والمصالح وحسن العاقبة ما لا يحصى.
قوله: { فمن رضي فله الرضا } ( ) أي من الله تعالى، والرضاء قد وصف الله تعالى به نفسه في مواضع من كتابه، كقوله تعالى: { • } ( ) (البينة - 8)، ومذهب السلف وأتباعهم من أهل السنة: إثبات الصفات التي وصف الله بها نفسه ووصفه بها رسول الله على ما يليق بجلاله وعظمته، إثباتا بلا تمثيل، وتنزيها بلا تعطيل، فإذا رضي الله تعالى عنه حصل له كل خير، وسلم من كل شر، والرضا هو أن يسلم العبد أمره إلى الله، ويحسن الظن به، ويرغب في ثوابه، وقد يجد لذلك راحة وانبساطا؛ محبة لله وثقة به، كما قال ابن مسعود إن الله بقسطه وعدله جعل الروح والفرح في اليقين والرضا، وجعل الهم والحزن في الشك والسخط.
قوله: { ومن سخط } ( ) وهو بكسر الخاء، قال أبو السعادات: السخط الكراهية للشيء وعدم الرضا به. أي من سخط على الله فيما دبره فله السخط، أي من الله، وكفى بذلك عقوبة. وقد يستدل به على وجوب الرضا، وهو اختيار ابن عقيل. واختار القاضي عدم الوجوب، ورجحه شيخ الإسلام وابن القيم.
قال شيخ الإسلام: ولم يجئ الأمر به كما جاء الأمر بالصبر. وإنما جاء الثناء على أصحابه. قال: وأما ما يروى " من لم يصبر على بلائي ولم يرض بقضائي، فليتخذ ربا سوائي " فهذا إسرائيلي، لم يصح عن النبي .
قال شيخ الإسلام: وأعلى من ذلك - أي من الرضا - أن يشكر الله على المصيبة؛ لما يرى من إنعام الله عليه بها. ا هـ. والله أعلم.
المسائل المستنبطة من هذا الباب
فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية التغابن.
الثانية: أن هذا من الإيمان بالله.
الثالثة: الطعن في النسب.
الرابعة: شدة الوعيد فيمن ضرب الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية.
الخامسة: علامة إرادة الله بعبده الخير.
السادسة: إرادة الله به الشر.
السابعة: علامة حب الله للعبد.
الثامنة: تحريم السخط.
التاسعة: ثواب الرضا بالبلاء.
باب ما جاء في الرياء
وقول الله تعالى: { } ( ) (الكهف - 110).
وعن أبي هريرة مرفوعا: { قال الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك معي فيه غيري تركته وشركه } ( ) رواه مسلم.
وعن أبي سعيد مرفوعا: { ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: الشرك الخفي، يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته، لما يرى من نظر رجل } ( ) رواه أحمد.
قوله: " باب: ما جاء في الرياء "
أي من النهي والتحذير. قال الحافظ: هو مشتق من الرؤية، والمراد بها إظهار العبادة لقصد رؤية الناس لها، فيحمدون صاحبها. والفرق بينه وبين السمعة: أن الرياء لما يرى من العمل كالصلاة، والسمعة لما يسمع كالقراءة والوعظ والذكر، ويدخل في ذلك التحدث بما عمله.
قـوله: وقـول الله تعـالى: { } ( ) أي ليـس لي من الربوبية ولا من الإلهية شيء، بل ذلك كله وحده لا شريك له، أوحاه إلي { } ( )، أي يخافه { } ( ) (الكهف - 110):
قوله "أحدا" نكرة في سياق النهي تعم، وهذا العموم يتناول الأنبياء والملائكة والصالحين والأولياء وغيرهم. قال شيخ الإسلام رحمه الله: أما اللقاء فقد فسره طائفة من السلف والخلف بما يتضمن المعاينة، وقالوا: لقاء الله يتضمن رؤيته سبحانه وتعالى يوم القيامة، وذكر الأدلة على ذلك.
قال ابن القيم رحمه الله في الآية: أي كما أن الله واحد لا إله سواه، فكذلك ينبغي أن تكون العبادة له وحده لا شريك له، فكما تفرد بالإلهية يجب أن يفرد بالعبودية، فالعمل الصالح: هو الخالص من الرياء المقيد بالسنة.
وفي الآية دليل على أن أصل الدين الذي بعث الله به رسول الله والمرسلين قبله، هو إفراده تعالى بأنواع العبادة، كما قال تعالى: { } ( ) (الأنبياء - 25) والمخالف لهذا الأصل من هذه الأمة أقسام: إما طاغوت ينازع الله في ربوبيته وإلهيته، ويدعو الناس إلى عبادته، أو طاغوت يدعو الناس إلى عبادة الأوثان، أو مشرك يدعو غير الله ويتقرب إليه بأنواع العبادة أو بعضها، أو شاك في التوحيد: أهو حق أم يجوز أن يجعل لله شريك في عبادته؟ أو جاهل يعتقد أن الشرك دين يقرب إلى الله، وهذا هو الغالب على أكثر العوام؛ لجهلهم وتقليدهم من قبلهم لما اشتدت غربة الدين ونسي العلم بدين المرسلين.
قوله: " وعن أبي هريرة مرفوعا: { قال الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك معي فيه غيري تركته وشركه } ( ) رواه مسلم.
قوله: { من عمل عملا أشرك فيه غيري } ( ) أي من قصد بعمله غيري من المخلوقين { تركته وشركه } ( ). ولابن ماجه { فأنا بريء وهو للذي أشرك } ( ) قال الطيبي: الضمير المنصوب في قوله: " تركته " يجوز أن يرجع إلى العمل.
قال ابن رجب رحمه الله: واعلم أن العمل لغير الله أقسام، فتارة يكون رياء محضا كحال المنافقين، كما قال تعالى: { •• } ( ) (النساء - 124)، وهذا الرياء المحض لا يكاد يصدر عن مؤمن في فرض الصلاة والصيام، وقد يصدر في الصدقة أو الحج الواجب أو غيرهما من الأعمال الظاهرة، أو التي يتعدى نفعها، فإن الإخلاص فيها عزيز، وهذا العمل لا يشك مسلم أنه حابط، وأن صاحبه يستحق المقت من الله والعقوبة.
وتارة يكون العمل لله ويشاركه الرياء، فإن شاركه من أصله فالنصوص الصحيحة تدل على بطلانه، وذكر أحاديث تدل على ذلك منها هذا الحديث، وحديث شداد بن أوس مرفوعا { من صلى يرائي فقد أشرك، ومن صام يرائي فقد أشرك، ومن تصدق يرائي فقد أشرك، وإن الله يقول: أنا خير قسيم لمن أشرك بي، فمن أشرك بي شيئا فإن حشده عمله وقليله وكثيره لشريكه الذي أشرك به، أنا عنه غني } ( ). رواه أحمد، وذكر أحاديث في المعنى ثم قال: فإن خالط نية الجهاد مثلا نية غير الرياء، مثل أخذ أجرة الخدمة، أو أخذ من الغنيمة أو التجارة، نقص بذلك أجر جهاده، ولم يبطل بالكلية.
قال ابن رجب: وقال الإمام أحمد رحمه الله: التاجر والمستأجر والمكري أجرهم على قدر ما يخلص من نياتهم في غزواتهم، ولا يكون مثل من جاهد بنفسه وماله لا يخلط به غيره.
وقال أيضا فيمن يأخذ جعل الجهاد: إذا لم يخرج لأجل الدراهم فلا بأس، كأنه خرج لدينه إن أعطى شيئا أخذه. وروى عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: " إذا أجمع أحدكم على الغزو، فعوضه الله رزقا، فلا بأس بذلك، وأما إن أحدكم أعطى دراهم غزا وإن لم يعط لم يغز فلا خير في ذلك ". وروى عن مجاهد رحمه الله أنه قال في حج الجمال وحج الأجير، وحج التاجر: هو تام لا ينقص من أجرهم شيء. أي لأن قصدهم الأصلي كان هو الحج دون التكسب. قال: وأما إن كان أصل العمل لله، ثم طرأ عليه نية الرياء، فإن كان خاطرا ثم دفعه فلا يضره بغير خلاف، وإن استرسل معه فهل يحبط عمله أم لا، فيجازى على أصل نيته؟ في ذلك اختلاف بين العلماء من السلف، قد حكاه الإمام أحمد وابن جرير، ورجحا أن عمله لا يبطل بذلك، وأنه يجازى بنيته الأولى، وهو مروي عن الحسن وغيره. وفي هذا المعنى جاء حديث أبي ذر عن النبي { أنه سئل عن الرجل يعمل العمل من الخير يحمده الناس عليه، فقال: تلك عاجل بشرى المؤمن } ( ) رواه مسلم. انتهى ملخصا.
قلت: وتمام هذا المقام يتبين في شرح حديث أبي سعيد إن شاء الله تعالى.
قوله: " وعن أبي سعيد مرفوعا: { ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: الشرك الخفي، يقوم الرجل فيصلي، فيزين صلاته لما يرى من نظر رجل } ( ) رواه أحمد.
: وروى ابن خزيمة في صحيحه عن محمود بن لبيد قال: { خرج عليه رسول الله فقال: أيها الناس، إياكم وشرك السرائر، قالوا: يا رسول الله، وما شرك السرائر؟ قال: يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته لما يرى من نظر الرجل إليه، فذلك شرك السرائر }.
قوله: عن أبي سعيد الخدري وتقدم.
قوله: الشرك الخفي سماه خفيا لأن صاحبه يظهر أن عمله لله وقد قصد به غيره، أو شركه فيه بتزيين صلاته لأجله. وعن شداد بن أوس قال: كنا نعد الرياء على عهد رسول الله الشرك الأصغر. رواه ابن أبي الدنيا في كتاب الإخلاص، وابن جرير في التهذيب، والطبراني، والحاكم وصححه.
قال ابن القيم: وأما الشرك الأصغر فكيسير الرياء، والتصنع للخلق، والحلف بغير الله، وقول الرجل للرجل: ما شاء الله وشئت، وهذا من الله ومنك، وأنا بالله وبك، وما لي إلا الله وأنت، وأنا متوكل على الله وعليك، ولولا الله وأنت لم يكن كذا وكذا، وقد يكون هذا شركا أكبر بحسب حال قائله ومقصده. انتهى.
ولا خلاف أن الإخلاص شرط لصحة العمل وقبوله، وكذلك المتابعة، كما قال الفضيل بن عياض رحمه الله في قوله تعالى: { } ( ) (الملك - 2) قال: " أخلصه وأصوبه، قيل: يا أبا علي، ما أخلصه وأصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل، وإذا كان صوابا لم يقبل، وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل حتى يكون خالصا صوابا، فالخالص ما كان لله، والصواب ما كان على السنة.
وفي الحديث عن الفوائد: شفقة النبي على أمته ونصحه لهم، وأن الرياء أخوف على الصالحين من فتنة الدجال. فإذا كان النبي يخافه على سادات الأولياء مع قوة إيمانهم وعلمهم فغيرهم ممن هو دونهم بأضعاف أولى بالخوف من الشرك أصغره وأكبره.
المسائل المستنبطة من هذا الباب
فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية الكهف.
الثانية: الأمر العظيم في رد العمل الصالح إذا دخله شيء لغير الله.
الثالثة: ذكر السبب الموجب لذلك، وهو كمال الغنى.
الرابعة: أن من الأسباب، أنه تعالى خير الشركاء.
الخامسة: خوف النبي على أصحابه من الرياء.
السادسة: أنه فسر ذلك بأن يصلي المرء لله، لكن يزينها لما يرى من نظر رجل إليه.
باب من الشرك إرادة الإنسان بعمله الدنيا
وقول الله تعالى: { • • } ( ) (هود - 15، 16).
وفي الصحيح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله { تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميلة، إن أعطي رضي، وإن لم يعط سخط، تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش، طوبى لعبد أخذ بعنان فرسه في سبيل الله، أشعث رأسه، مغبرة قدماه، إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة، إن استأذن لم يؤذن له، وإن شفع لم يشفع } ( ).
قوله: باب " من الشرك إرادة الإنسان بعمله الدنيا "
فإن قيل: فما الفرق بين هذه الترجمة وبين ترجمة الباب قبله؟
قلت: بينهما عموم وخصوص مطلق، يجتمعان في مادة، وهو ما إذا أراد الإنسان بعمله التزين عند الناس والتصنع لهم والثناء، فهذا رياء كما تقدم بيانه، كحال المنافقين. وهو أيضا إرادة الدنيا بالتصنع عند الناس، وطلب المدحة منهم والإكرام. ويفارق الرياء بكونه عمل عملا صالحا، أراد به عرضا من الدنيا، كمن يجاهد ليأخذ مالا، كما في الحديث { تعس عبد الدينار } ( ) أو يجاهد للمغنم أو غير ذلك من الأمور التي ذكرها شيخنا عن ابن عباس وغيره من المفسرين في معنى قوله تعالى: { } ( ) (هود - 15، 16).
وأراد المصنف رحمه الله بهذه الترجمة وما بعدها أن العمل لأجل الدنيا شرك ينافي كمال التوحيد الواجب، ويحبط الأعمال، وهو أعظم من الرياء؛ لأن مريد الدنيا قد تغلب إرادته تلك على كثير من عمله، وأما الرياء فقد يعرض له في عمل دون عمل، ولا يسترسل معه، والمؤمن يكون حذرا من هذا وهذا.
قال: " وقوله تعالى: { • • } ( ) (هود - 15، 16):
قال ابن عباس { } ( ) أي ثوابها وزينتها، أي مالها "نوف" أي نوفر لـهم ثواب أعمـالهم بالصحة والسرور فـي المال والأهـل والولد { } ( )، لا ينقصون، ثم نسختها: { • } ( ) (الإسراء -18، 19) الآيتان. رواه النحاس في ناسخه.
قوله: ثم نسختها، أي قيدتها، فلم تبق الآية على إطلاقها.
وقال قتادة: من كانت الدنيا همه وطلبته ونيته، جازاه الله بحسناته في الدنيا، ثم يفضي إلى الآخرة وليس له حسنة يعطي بها جزاء، وأما المؤمن فيجازى بحسناته في الدنيا، ويثاب عليها في الآخرة. ذكره ابن جرير بسنده، ثم ساق حديث أبي هريرة عن ابن المبارك عن حيوة بن شريح قال: حدثني الوليد بن أبـي الوليد أبو عثمان أن عقبة بن مسلم حدثه { أن شفي بن ماتع الأصبحي حدثه، أنه دخل المدينة فإذا هو برجل قد اجتمع عليه الناس، فقال: من هذا؟ فقالوا: أبو هريرة. قال: فدنوت منه حتى قعدت بين يديه، وهو يحدث الناس. فلما سكت وخلا قلت: أنشدك بحق وبحق لما حدثتني حديثا سمعته من رسول الله عقلته وعلمته. قال: فقال أبو هريرة: أفعل، لأحدثنك حديثا حدثنيه رسول الله في هذا البيت ما فيه أحد غيري وغيره، ثم نشغ أبو هريرة نشغة، ثم أفاق فقال: لأحدثنك حديثا حدثنيه رسول الله في هذا البيت ما فيه أحد غيري وغيره. ثم نشغ أبو هريرة نشغة أخرى، ثم مال خارا على وجهه، واشتد به طويلا. ثم أفاق فقال: حدثني رسول الله " أن الله تبارك وتعالى إذا كان يوم القيامة نزل إلى القيامة ليقضي بينهم، وكل أمة جاثية، فأول من يدعو به رجل جمع القرآن، ورجل قتل في سبيل الله، ورجل كثير المال. فيقول الله تبارك وتعالى للقارئ: ألم أعلمك ما أنزلت على رسولي؟ قال: بلى يا رب، قال: فماذا عملت فيما علمت؟ قال: كنت أقوم آناء الليل وآناء النهار. فيقول الله له: كذبت، وتقول له الملائكة: كذبت، ويقول الله له: بل أردت أن يقال فلان قارئ، فقد قيل ذلك. ويؤتى بصاحب المال فيقول الله له: ألم أوسع عليك حتى لم أدعك تحتاج إلى أحد؟ قال: بلى يا رب، قال: فما عملت فيما آتيتك؟ قال: كنت أصل الرحم وأتصدق، فيقول الله له: كذبت، وتقول له الملائكة: كذبت، ويقول الله: بل أردت أن يقال فلان جواد، فقد قيل ذلك. ويؤتى بالذي قتل في سبيل الله فيقال له: فبماذا قتلت؟ فيقول: أمرت بالجهاد في سبيلك، فقاتلت حتى قتلت، فيقول الله له: كذبت، وتقول له الملائكة: كذبت، ويقول الله له: بل أردت أن يقال: فلان جريء، فقد قيل ذلك. ثم ضرب رسول الله على ركبتي، فقال: يا أبا هريرة، أولئك الثلاثة أول خلق الله تسعر بهم النار يوم القيامة } ( ).
وقد سئل شيخنا المصنف رحمه الله عن هذه الآية، فأجاب بما حاصله: ذكر عن السلف فيها أنواع مما يفعله الناس اليوم ولا يعرفون معناه.
فمن ذلك: العمل الصالح الذي يفعله كثير من الناس ابتغاء وجه الله: من صدقة وصلاة، وصلة، وإحسان إلى الناس، وترك ظلم، ونحو ذلك مما يفعله الإنسان أو يتركه خالصا لله، لكنه لا يريد ثوابه في الآخرة، إنما يريد أن يجازيه الله بحفظ ماله وتنميته، أو حفظ أهله وعياله، أو إدامة النعمة عليهم، ولا همة له في طلب الجنة والهرب من النار، فهذا يعطي ثواب عمله في الدنيا وليس له في الآخرة من نصيب. وهذا النوع ذكره ابن عباس.
النوع الثاني: وهو أكبر من الأول وأخوف، وهو الذي ذكره مجاهد في الآية أنها نزلت فيه، وهو أن يعمل أعمالا صالحة، ونيته رياء الناس لا طلب ثواب الآخرة.
النوع الثالث: أن يعمل أعمالا صالحة يقصد بها مالا، مثل أن يحج لمال يأخذه أو يهاجر لدنيا يصيبها، أو امرأة يتزوجها، أو يجاهد لأجل المغنم، فقد ذكر أيضا هذا النوع في تفسير هذه الآية، كما يتعلم الرجل لأجل مدرسة أهله أو مكسبهم أو رياستهم، أو يتعلم القرآن ويواظب على الصلاة لأجل وظيفة المسجد، كما هو واقع كثيرا.
النوع الرابع: أن يعمل بطاعة الله مخلصا في ذلك لله وحده لا شريك له، لكنه على عمل يكفره كفرا يخرجه عن الإسلام، مثل اليهود والنصارى إذا عبدوا الله، أو تصدقوا أو صاموا ابتغاء وجه الله والدار الآخرة، ومثل كثير من هذه الأمة الذين فيهم كفر أو شرك أكبر يخرجهم من الإسلام بالكلية إذا أطاعوا الله طاعة خالصة يريدون بها ثواب الله في الدار الآخرة، لكنهم على أعمال تخرجهم من الإسلام، وتمنع قبول أعمالهم، فهذا النوع أيضا قد ذكر في هذه الآية عن أنس بن مالك وغيره، وكان السلف يخافون منها، قال بعضهم: لو أعلم أن الله تقبل مني سجدة واحدة لتمنيت الموت؛ لأن الله تعالـى يقول: { } ( ) (المائدة - 27).
ثم قال: بقي أن يقال: إذا عمل الرجل الصلوات الخمس والزكاة والصوم والحج ابتغاء وجه الله، طالبا ثواب الآخرة، ثم بعد ذلك عمل أعمالا قاصدا بها الدنيا، مثل أن يحج فرضه لله، ثم يحج بعده لأجل الدنيا كما هو واقع، فهو لما غلب عليه منهما. وقد قال بعضهم: القرآن كثيرا ما يذكر أهل الجنة الخلص، وأهل النار الخلص، ويسكت عن صاحب الشائبتين، وهو هذا وأمثاله. ا هـ.
قوله: " في الصحيح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله { تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميلة، إن أعطي رضي، وإن لم يعط سخط، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش، طوبى لعبد أخذ بعنان فرسه في سبيل الله، أشعث رأسه، مغبرة قدماه، إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة، إن استأذن لم يؤذن له، وإن شفع لم يشفع له } ( ):
قوله: " في الصحيح "، أي صحيح البخاري.
قوله: " تعس " هو بكسر العين، ويجوز الفتح أي سقط، والمراد هنا: هلك، قاله الحافظ، وقال في موضع آخر: وهو ضد سعد، أي شقي. وقال أبو السعادات: يقال تعس يتعس: إذا عثر وانكب لوجهه، وهو دعاء عليه بالهلاك.
قوله: { عبد الدينار } ( ) هو المعروف من الذهب كالمثقال في الوزن.
قوله: { تعس عبد الدرهم } ( ) وهو من الفضة، قدره الفقهاء بالشعير وزنا، وعندنا منه درهم من ضرب بني أمية، وهو زنة خمسين حبة شعير وخمسا حبة، سماه عبدا له لكونه هو المقصود بعمله، فكل من توجه بقصده لغير الله فقد جعله شريكا له في عبوديته، كما هو حال الأكثر.
قوله: { تعس عبد الخميصة } ( ) قال أبو السعادات: هي ثوب خز أو صوف معلم، وقيل: لا تسمى خميصة إلا أن تكون سوداء معلمة، وتجمع على خمائص. والخميلة بفتح الخاء المعجمة، وقال أبو السعادات: ذات الخمل، ثياب لها خمل من أي شيء كان.
قوله: { تعس وانتكس } ( ) قال الحافظ: هو بالمهملة، أي عاوده المرض. وقال أبو السعادات: أي انقلب على رأسه، وهو دعاء عليه بالخيبة. قال الطيبي: فيه الترقي بالدعاء عليه؛ لأنه إذا تعس انكب على وجهه، وإذا انتكس انقلب على رأسه بعد أن سقط.
قوله: { وإذا شيك } ( ) أي أصابته شوكة { فلا انتقش } ( ) أي فلا يقدر على إخراجها بالمنقاش، قاله أبو السعادات.
المراد: أن من كانت هذه حاله فإنه يستحق أن يدعى عليه بما يسوءه في العواقب، ومن كانت هذه حاله، فلا بد أن يجد أثر هذه الدعوات في الوقوع فيما يضره في عاجل دنياه وآجل أخراه.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: فسماه النبي عبد الدينار والدرهم، وعبد القطيفة وعبد الخميصة. وذكر فيه ما هو دعاء بلفظ الخبر وهو قوله: { تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش } ( )، وهذه حال من إذا أصابه شر لم يخرج منه ولم يفلح، لكونه تعس وانتكس، فلا نال المطلوب، ولا خلص من المكروه، وهذا حال من عبد المال. وقـد وصف ذلك بأنـه { إن أعطي رضي، وإن لم يعـط سخط } ( ) كما قـال تـعالى: { • } ( ) فرضاهم لغير الله، وسخطهم لغير الله، وهكذا حال من كان متعلقا منها برياسة أو صورة ونحو ذلك من أهواء نفسه، إن حصل له رضي، وإن لم يحصل له سخط، فهذا عبد ما يهواه من ذلك وهو رقيق له، إذ الرق والعبودية في الحقيقة هو رق القلب وعبوديته، فما استرق القلب واستعبده فهو عبده - إلى أن قال:
وهكذا أيضا طالب المال، فإن ذلك يستعبده ويسترقه، وهذه الأمور نوعان.
فمنها ما يحتاج إليه العبد، كما يحتاج إلى طعامه وشرابه ومنكحه ومسكنه ونحو ذلك، فهذا يطلب من الله ويرغب إليه فيه. فيكون المال عنده يستعمله في حاجته بمنزلة حماره الذي يركبه، وبساطه الذي يجلس عليه، من غير أن يستعبده فيكون هلوعا.
ومنها: ما لا يحتاج إليه العبد، فهذا ينبغي أن لا يعلق قلبه بها، فإذا تعلق قلبه بها صار مستعبدا لها، وربما صار مستعبدا متعمدا على غير الله فيها، فلا يبقى معه حقيقة العبودية لله ولا حقيقة التوكل عليه، بل فيه شعبة من العبادة لغير الله وشعبة من التوكل على غير الله، وهذا من أحق الناس بقوله { تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميلة } ( ) وهذا هو عبد لهذه الأمور ولو طلبها من الله، فإن الله إذا أعطاه إياه رضي، وإن منعه إياها سخط، وإنما عبد الله من يرضيه ما يرضي الله، ويسخطه ما يسخط الله، ويحب ما أحبه الله ورسوله، ويبغض ما أبغضه الله ورسوله، ويوالى أولياء الله، ويعادى أعداء الله، فهذا الذي استكمل الإيمان، انتهى ملخصا.
قوله: { طوبى لعبد }، قال أبو السعادات: " طوبى " اسم الجنة، وقيل: هي شجرة فيها، ويؤيد هذا ما روى ابن وهب بسنده عن أبي سعيد قال: { قال رجل: يا رسول الله وما طوبى؟ قال شجرة في الجنة مسيرة مائة سنة، ثياب أهل الجنة تخرج من أكمامها} ( ) ورواه الإمام أحمد: حدثنا حسن بن موسى، سمعت عبد الله بن لهيعة، حدثنا دراج أبو السمح بأن أبا الهيثم حدثه عن أبي سعيد الخدري، عن رسول الله { أن رجلا قال: يا رسول الله، طوبى لمن رآك وآمن بك، قال طوبى لمن رآني وآمن بي، وطوبى ثم طوبى ثم طوبى لمن آمن بي ولم يرني. قال له رجل: وما طوبى؟ قال: شجرة في الجنة مسيرة مائة عام، ثياب أهل الجنة تخرج من أكمامها } ( ) وله شواهد في الصحيحين وغيرهما، وقد روى ابن جرير عن وهب بن منبه هاهنا أثرا غريبا عجيبا، قال وهب رحمه الله: " إن في الجنة شجرة يقال لها طوبى، يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها، زهرها رياط، وورقها برود، وقضبانها عنبر، وبطحاؤها ياقوت، وترابها كافور، ووحلها مسك، يخرج من أصلها أنهار الخمر واللبن والعسل، وهي مجلس لأهل الجنة، بينما هم في مجلسهم إذ أتتهم ملائكة من ربهم يقودون نجبا مزمومة بسلاسل من ذهب، وجوهها كالمصابيح من حسنها، ووبرها كخز المرعزي من لينه، عليها رحال ألواحها من ياقوت، ودفوفها من ذهب، وثيابها من سندس وإستبرق، فينيخونها ويقولون: إن ربنا أرسل إليكم لتزوروه وتسلموا عليه، قال: فيركبونها، قال: فهي أسرع من الطائر، وأوطأ من الفراش، خبا من غير مهنة، يسير الراكب إلى جنب أخيه، وهو يكلمه ويناجيه، لا تصيب أذن راحلة منها أذن صاحبتها، ولا برك راحلة برك صاحبتها، حتى إن الشجرة لتنتحى عن طريقهم لئلا تفرق بين الرجل وأخيه. قال: فيأتون إلى الرحمن الرحيم، فيسفر لهم عن وجهه الكريم حتى ينظروا إليه، فإذا رأوه قالوا: اللهم أنت السلام ومنك السلام، وحق لك الجلال والإكرام، قال: فيقول تبارك وتعالى عند ذلك، أنا السلام ومني السلام، وعليكم حقت رحمتي ومحبتي، مرحبا بعبادي الذين خشوني بالغيب وأطاعوا أمري. قال: فيقولون: ربنا إنا لم نعبدك حق عبادتك، ولم نقدرك حق قدرك، فائذن لنا بالسجود قدامك. قال: فيقول الله: إنها ليست بدار نصب ولا عبادة، ولكنها دار ملك ونعيم، وإني قد رفعت عنكم نصب العبادة، فسلوني ما شئتم، بأن لكل رجل منكم أمنيته، فيسألونه، حتى إن أقصرهم أمنية ليقول: ربي، تنافس أهل الدنيا في دنياهم فتضايقوا فيها، رب فآتني من كل شيء كانوا فيه من يوم خلقتها إلى أن انتهت الدنيا، فيقول الله تعالى: لقد قصرت بك اليوم أمنيتك، ولقد سألت دون منزلتك. هذا لك منى وسأتحفك بمنزلتي؛ لأنه ليس في عطائي نكد ولا قصر يد. قال: ثم يقول: اعرضوا على عبادي ما لم تبلغ أمانيهم ولم يخطر على بال. قال: فيعرضون عليهم حتى تقصر بهم أمانيهم التي في أنفسهم، فيكون فيما يعرضون عليهم براذين مقرنة على كل أربعة منها سرير من ياقوتة واحدة. على كل سرير منها قبة من ذهب مفرعة، في كل قبة منها فرش من فرش الجنة مظاهرة، في كل قبة منها جاريتان من الحور العين، على كل جارية منهن ثوبان من ثياب الجنة، وليس في الجنة لون إلا وهو فيهما، ولا ريح طيب إلا قد عبق بهما، ينفذ ضوء وجوههما غلظ القبة، حتى يظن من يراهما أنهما من دون القبة يرى مخهما من فوق سوقهما كالسلك الأبيض في ياقوته حمراء، يريان له من الفضل على صحابته كفضل الشمس على الحجارة أو أفضل، ويرى لهما مثل ذلك، ثم يدخل عليهما فيحييانه ويقبلانه ويعانقانه ويقولان له: والله ما ظننا أن الله يخلق مثلك. ثم يأمر الله تعالى الملائكة، فيسيرون بهم صفا في الجنة، حتى ينتهي كل رجل منهم إلى منزلته التي أعدت له ".
وقد روى هذا الأثر ابن أبي حاتم بسنده عن وهب بن منبه، وزاد: " فانظروا إلى مواهب ربكم الذي وهب لكم، فإذا بقباب في الرفيق الأعلى، وغرف مبنية بالدر والمرجان أبوابها من ذهب، وسررها من ياقوت، وفرشها من سندس واستبرق، ومنابرها من نور، يفور من أبوابها وعراصها نور مثل شعاع الشمس، عنده مثل الكوكب الدري في النهار المضيء، وإذا بقصور شامخة في أعلى عليين من الياقوت يزهو نورها، فلولا أنه مسخر إذا لالتمع الأبصار، فما كان من تلك القصور من الياقوت الأبيض فهو مفروش بالحرير الأبيض، وما كان منها من الياقوت الأخضر فهو مفروش بالسندس الأخضر، وما كان منها من الياقوت الأصفر فهو مفروش بالأرجوان الأصفر، مبوبة بالزمرد الأخضر والذهب الأحمر والفضة البيضاء، قوائمها وأركانها من الجوهر، وشرفها من قباب من لؤلؤ، وبروجها غرف من المرجان، فلما انصرفوا إلى ما أعطاهم ربهم، قربت لهم براذين من ياقوت أبيض منفوخ فيها الروح، تحتها الولدان المخلدون، بيد كل وليد منهم حكمة برذون من تلك البراذين، ولجمها وأعنتها من فضة بيضاء منظومة بالدر والياقوت، سرر موضونة مفروشة بالسندس والإستبرق، فانطلقت بهم تلك البراذين تزف بهم فينظرون رياض الجنة، فلما انتهوا إلى منازلهم وجدوا الملائكة قعدوا على منابر من نور، ينتظرونهم؛ ليزوروهم ويصافحوهم ويهنئوهم بكرامة ربهم، فلما دخلوا قصورهم وجدوا فيها جميع ما تطاول به عليهم وما سألوا وما تمنوا، وإذا على باب كل قصر من تلك القصور أربعة جنان: جنتان ذواتا أفنان، وجنتان مدهامتان وفيهما عينان نضاختان، وفيهما من كل فاكهة زوجان، وحور مقصورات في الخيام، فلما تبوءوا منازلهم واستقروا قرارهم قال لهم ربهم: هل وجدتم ما وعد ربكم حقا؟ قالوا نعم وربنا. قال: هل رضيتم ثواب ربكم؟ قالوا: ربنا رضينا فارض عنا، قال: فبرضائي عنكم أحللتكم داري ونظرتم إلى وجهي، فعند ذلك قالوا: { • } ( )، وهذا سياق غريب، وأثر عجيب، ولبعضه شواهد في الصحيحين.
وقال خالد بن معدان: إن في الجنة شجرة يقال لها طوبى، ضروع كلها، ترضع صبيان أهل الجنة، وإن سقط المرأة يكون في نهر من أنهار الجنة يتقلب فيه حتى تقوم القيامة، فيبعث ابن أربعين سنة. رواه ابن أبي حاتم.
قوله: { آخذ بعنان فرسه في سبيل الله } ( ) أي في جهاد المشركين.
قوله: " أشعث " مجرور بالفتحة؛ لأنه اسم لا ينصرف للوصفية ووزن الفعل، و " رأسه " مرفوع على الفاعلية، وهو طائر الشعر، شغله الجهاد في سبيل الله عن التنعم بالأدهان وتسريح الشعر.
قوله: " مغبرة قدماه " هو بالجر صفة ثانية لعبد.
قوله: { إن كان في الحراسة كان في الحراسة } ( ) هو بكسر الحاء، أي حمى الجيش عن أن يهجم العدو عليهم.
قوله: { كان في الحراسة } ( ) أي غير مقصر فيها ولا غافل، وهذا اللفظ يستعمل في حق من قام بالأمر على وجه الكمال.
قوله: { وإن كان في الساقة كان في الساقة } ( ) أي في مؤخرة الجيش، يقلب نفسه في مصالح الجهاد، فكل مقام يقوم فيه إن كان ليلا أو نهارا، رغبة في ثواب الله وطلبا لمرضاته ومحبة لطاعته.
قال ابن الجوزي رحمه الله: وهو خامل الذكر لا يقصد السمو.
وقال الخلخالي: المعنى ائتماره بما أمر، وإقامته حيث أقيم، لا يفقد من مقامه، وإنما ذكر الحراسة والساقة لأنهما أشد مشقة. انتهى. وفيه فضل الحراسة في سبيل الله.
قوله: { إن استأذن لم يؤذن له } ( ) أي إن استأذن على الأمراء ونحوهم لم يؤذن له؛ لأنه لا جاه له عندهم ولا منزلة؛ لأنه ليس من طلابها، وإنما يطلب ما عند الله لا يقصد بعمله سواه.
قوله: " وإن شفع " بفتح أوله وثانية (لم يشفع) بفتح الفاء مشددة. يعني لو ألجأته الحال إلى أن يشفع في أمر يحبه الله ورسوله لم تقبل شفاعته عند الأمراء ونحوهم.
وروى الإمام أحمد ومسلم عن أبي هريرة مرفوعا: { رب أشعث مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره } ( ).
وروى الإمام أحمد أيضا عن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير قال: قال عثمان رضي الله وهو يخطب على منبره: إني محدثكم حديثا سمعته من رسول الله لم يكن يمنعني أن أحدثكم به إلا الظن بكم. سمعت رسول الله يقول: { حرس ليلة في سبيل الله أفضل من ألف ليلة يقام ليلها ويصام نهارها } ( ).
وروى الحافظ ابن عساكر في ترجمة عبد الله بن المبارك: قال عبد الله بن محمد قاضي نصيبين: حدثني محمد بن إبراهيم بن أبي سكينة، أنه أملى عليه عبد الله بن المبارك هذه الأبيات بطرسوس وواعده الخروج، وأنشدها معه إلى الفضيل بن عياض في سنة سبع وسبعين ومائة. قال:
لـعلمـت أنـك في العبـادة تلعب
فنـحـورنا بدمـائنا تتخـضب
فخيـولهم يـوم الصبيحـة تتعب
رهـج السنابك والغبـار الأطـيب
قـول صحـيح صـادق لا يكذب
أنـف امـرئ ودخـان نار تلـهب
ليـس الشهيـد بميـت لا يكـذب
يا عـابـد الحـرمين لـو أبصـرتنا
مـن كـان يخضـب خـده بدموعه
أو كـان يتعب خيلـه في باطـل
ريـح العبـير لكـم، ونـحن عبيرنا
ولقـد أتانـا مـن مقـال نبينا
لا يُجْمَـعَنَّ غبـار خيـل الـله في
هـذا كتـاب الـله ينطـق بيننا
قال: فلقيت الفضيل بكتابه في المسجد الحرام، فلما قرأه ذرفت عيناه فقال: صدق أبو عبد الرحمن ونصحني، ثم قال: أنت ممن يكتب الحديث؟ قلت: نعم، قال لي: اكتب هذا الحديث، وأملى علي الفضيل بن عياض: حدثنا منصور بن المعتمر، عن أبي صالح عن أبي هريرة: { أن رجلا قال: يا رسول الله علمني عملا أنال به ثواب المجاهدين في سبيل الله، فقال: هل تستطيع أن تصلي فلا تفتر، وتصوم فلا تفطر؟ فقال: يا رسول الله أنا أضعف من أن أستطيع ذلك، ثم قال النبي فوالذي نفسي بيده لو طوقت ذلك ما بلغت فضل المجاهدين في سبيل الله، أما علمت أن فرس المجاهد ليستن في طوله فيكتب له بذلك حسنات؟ } ( ).
المسائل المستنبطة من هذا الباب
فيه مسائل:
الأولى: إرادة الإنسان الدنيا بعمل الآخرة.
الثانية: تفسير آية هود.
الثالثة: تسمية الإنسان المسلم عبد الدينار والدرهم والخميصة.
الرابعة: تفسير ذلك بأنه إن أعطي رضي، وإن لم يعط سخط.
الخامسة: قوله: { تعس وانتكس } ( ).
السادسة: قوله: { وإذا شيك فلا انتقش } ( ).
السابعة: الثناء على المجاهد الموصوف بتلك الصفات.
باب من أطاع العلماء والأمراء في تحريم ما أحل الله أو تحليل ما حرم الله فقد اتخذهم أربابا من دون الله
وقال ابن عباس: " يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول: قال رسول الله وتقولون: قال أبو بكر وعمر ! ".
وقال الإمام أحمد: " عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته، ويذهبون إلى رأي سفيان، والله تعالى يقول:... { } ( ) (النور - 63) أتدري ما الفتنة؟ الفتنة: الشرك، لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك ".
عن عدي بن حاتم: { أنه سمع النبي يقرأ هذه الآية: { } ( ) (التوبة -31) فقلت له: إنا لسنا نعبدهم. قال: أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه، ويحلون ما حرم الله فتحلونه؟ فقلت: بلى. قال: فتلك عبادتهم } رواه أحمد، والترمذي وحسنه.
قوله: " باب: من أطاع العلماء والأمراء في تحريم ما أحل الله أو تحليل ما حرم الله، فقد اتخذهم أربابًا من دون الله "
لقـول الله سبحانه وتعـالى: { } ( ) (التوبة - 31)، وتقديم تفسير هذا في أصل المصنف رحمه الله عند ذكر حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه.
قوله: " وقال ابن عباس رضي الله عنهما: يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء! أقول: قال رسول الله وتقولون: قال أبو بكر وعمر؟ ":
قوله: " يوشك " بضم أوله وكسر الشين المعجمة، أي يقرب ويسرع.
وهذا القول من ابن عباس رضي الله عنهما جواب لمن قال: إن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما لا يريان التمتع بالعمرة إلى الحج، ويريان أن إفراد الحج أفضل، أو ما هو معنى هذا، وكان ابن عباس يرى أن التمتع بالعمرة إلى الحج واجب ويقول: إذا طاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة سبعة أشواط فقد حل من عمرته شاء أم أبى؛ لحديث سراقة بن مالك حين أمرهم النبي أن يجعلوها عمرة، ويحلوا إذا طافوا بالبيت وسعوا بين الصفا والمروة، فقال سراقة: { يا رسول الله، ألعامنا هذا أم للأبد؟ فقال: بل للأبد } ( ). والحديث في الصحيحين، وحينئذ فلا عذر لمن استفتى أن ينظر في مذاهب العلماء وما استدل به كل إمام ويأخذ من أقوالهم ما دل عليه الدليل إذا كان له ملكة يقتدر بها على ذلك. كما قال تعالى: { } ( ) (النساء - 59).
وللبخاري ومسلم وغيرهما أن النبي قال: { لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت، ولولا أن معي الهدى لأحللت } ( ) هذا لفظ البخاري في حديث عائشة رضي الله عنها. ولفظه في حديث جابر: { افعلوا ما أمرتكم به، فلولا أني سقت الهدى لفعلت مثل الذي أمرتكم } ( ) في عدة أحاديث تؤيد قول ابن عباس.
وبالجملة، فلهذا قال ابن عباس لما عارضوا الحديث برأي أبي بكر وعمر رضي الله عنهما: يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء.... الحديث.
وقال الإمام مالك رحمه الله تعالى: ما منا إلا راد ومردود عليه، إلا صاحب هذا القبر . وكلام الأئمة في هذا المعنى كثير.
وما زال العلماء رحمهم الله يجتهدون في الوقائع، فمن أصاب منهم فله أجران، ومن أخطأ فله أجر، كما في الحديث، لكن إذا استبان لهم الدليل أخذوا به وتركوا اجتهادهم. وأما إذا لم يبلغهم الحديث، أو لم يثبت عن النبي عندهم فيه حديث، أو ثبت وله معارض أو مخصص، ونحو ذلك، فحينئذ يسوغ للإمام أن يجتهد. وفي عصر الأئمة الأربعة رحمهم الله تعالى إنما كان طلب الأحاديث ممن هي عنده باللقى والسماع، ويسافر الرجل في طلب الحديث إلى الأمصار عدة سنين. ثم اعتنى الأئمة بالتصانيف، ودونوا الأحاديث، ورووها بأسانيدها، وبينوا صحيحها من حسنها من ضعيفها. والفقهاء صنفوا في كل مذهب، وذكروا حجج المجتهدين، فسهل الأمر على طالب العلم. وكل إمام يذكر الحكم بدليله عنده، وفي كلام ابن عباس رضي الله عنهما ما يدل على أن من يبلغه الدليل، فلم يأخذ به -تقليدا لإمامه - فإنه يجب الإنكار عليه بالتغليظ؛ لمخالفته الدليل.
وقال الإمام أحمد: حدثنا أحمد بن عمر البزار، حدثنا زياد بن أيوب، حدثنا أبو عبيدة الحداد، عن مالك بن دينار، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: ليس منا أحد إلا يؤخذ من قوله ويدع غير النبي .
وعلى هذا فيجب الإنكار على من ترك الدليل لقول أحد من العلماء كائنًا من كان، ونصوص الأئمة على هذا، وأنه لا يسوغ التقليد إلا في مسائل الاجتهاد التي لا دليل فيها يرجع إليه من كتاب ولا سنة، فهذا هو الذي عناه بعض العلماء بقوله: لا إنكار في مسائل الاجتهاد، وأما من خالف الكتاب والسنة فيجب الرد عليه، كما قال ابن عباس والشافعي ومالك وأحمد، وذلك مجمع عليه، كما تقدم في كلام الشافعي رحمه الله تعالى.
قوله: " وقال الإمام أحمد: عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته، ويذهبون إلى رأي سفيان، والله تعالى يقول: { } ( ) (النور - 63)، أتدرون ما الفتنة؟ الفتنة الشرك، لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شئ من الزيغ فيهلك ":
هذا الكلام من الإمام أحمد رحمه الله رواه عنه الفضل بن زياد وأبو طالب. قال الفضل عن أحمد: نظرت في المصحف فوجدت طاعة الرسول في ثلاث وثلاثين موضعًا، ثم جعل يتلو: { } ( ) الآية، فذكر من قوله: الفتنة الشرك إلى قولـه: فيهلك. ثم جعل يتلو هذه الآية: { } ( ) (النساء - 65).
وقال أبو طالب عن أحمد وقيل له: إن قومًا يدعون الحديث ويذهبون إلى رأي سفيان وغيره، فقال: أعجب لقوم سمعوا الحديث وعرفوا الإسناد وصحته يدعونه، ويذهبون إلى رأي سفيان وغيره، قال الله تعالى: { } ( )، فيدعون الحديث عن رسول الله وتغلبهم أهواؤهم إلى الرأي. ذكر ذلك عنه شيخ الإسلام رحمه الله تعالى.
قوله: " عرفوا الإسناد " أي إسناد الحديث وصحته، فإن صح إسناد الحديث فهو صحيح عند أهل الحديث وغيرهم من العلماء.
وسفيان: هو الثوري الإمام الزاهد العابد الثقة الفقيه، وكان له أصحاب يأخذون عنه، ومذهبه مشهور يذكره العلماء رحمهم الله في الكتب التي يذكر فيها مذاهب الأئمة، كالتمهيد لابن عبد البر، والاستذكار له، وكتاب الإشراف على مذاهب الأشراف لابن المنذر، والمحلى لابن حزم، والمغنى لأبي محمد عبد الله بن أحمد بن قدامة الحنبلي، وغير هؤلاء.
فقول الإمام أحمد رحمه الله: عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته... إلخ، إنكار منه لذلك، وأنه يئول إلى زيع القلوب الذي يكون به المرء كافرًا، وقد عمت البلوى بهذا المنكر خصوصًا ممن ينتسب إلى العلم، نصبوا الحبائل في الصد عن الأخذ بالكتاب والسنة، وصدوا عن متابعة الرسول وتعظيم أمره ونهيه، فمن ذلك قولهم: لا يستدل بالكتاب والسنة إلا المجتهد، والاجتهاد قد انقطع ويقول: هذا الذي قلدته أعلم منك بالحديث وبناسخه ومنسوخه، ونحو ذلك من الأقوال التي غايتها ترك متابعة الرسول الذي لا ينطق عن الهوى، والاعتماد على قول من يجوز عليه الخطأ، وغيره من الأئمة يخالفه، ويمنع قوله بدليل، فما من إمام إلا والذي معه بعض العلم لا كله. فالواجب على كل مكلف إذا بلغه الدليل من كتاب الله وسنة رسوله، وفهم معنى ذلك: أن ينتهي إليه ويعمل به، وإن خالفه مـن خالفه، كما قال تعالى: { • } ( ) (الأعـراف - 3)، وقـال تعـالى: { } ( ) (العنكبوت - 51). وقد تقدم حكاية الإجماع على ذلك، وبيان أن المقلد ليس من أهل العلم، وقد حكى أيضًا أبو عمر بن عبد البر وغيره الإجماع على ذلك.
قلت: ولا يخالف في ذلك إلا جهال المقلدة؛ لجهلهم بالكتاب والسنة، ورغبتهم عنها، وهؤلاء وإن ظنوا أنهم قد اتبعوا الأئمة هم في الحقيقة قد خالفوهم، واتبعوا غير سبيلهم، كما قدمنا من قول مالك والشافعي وأحمد، ولكن في كلام أحمد رحمه الله إشارة إلى أن التقليد قبل بلوغ الحجة لا يذم، وإنما ينكر على من بلغته الحجة وخالفهم لقول إمام من الأئمة، وذلك إنما ينشأ عن الإعراض عن تدبر كتاب الله وسنة رسوله، والإقبال على كتب من تأخروا والاستغناء بها عن الوحيين، وهذا يشبه ما وقع من أهل الكتاب الذي قال الله فيهم: { } ( )، كما سيأتي بيان ذلك في حديث عدي بن حاتم.
فيجب على من نصح نفسه إذا قرأ كتب العلماء، ونظر فيها، وعرف أقوالهم أن يعرضها على ما في الكتاب والسنة، فإن كل مجتهد من العلماء ومن تبعه وانتسب إلى مذهبه لا بد أن يذكر دليله، والحق في المسألة واحد، والأئمة مثابون على اجتهادهم، فالمنصف يجعل النظر في كلامهم وتأمله طريقًا إلى معرفة المسائل واستحضارها ذهنًا، وتمييزًا للصواب من الخطأ بالأدلة التي يذكرها المستدلون، ويعرف بذلك من هو أسعد بالدليل من العلماء فيتبعه، والأدلة على هذا الأصل في كتاب الله أكثر من أن تحصر، وفي السنة كذلك، كما أخرج أبو داود بسنده عن أناس من أصحاب معاذ: { أن رسول الله لما أراد أن يبعث معاذًا إلى اليمن قال: كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟ قال: أقضي بكتاب الله تعالى، قال: فإن لم تجد في كتاب الله؟ قال: فبسنة رسول الله قال: فإن لم تجد في سنة رسول الله ولا في كتاب الله؟ قال: أجتهد رأيي ولا آلو، قال: فضرب رسول الله صدره، وقال: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله } ( )، وساق بسنده عن الحارث بن عمر، عن أناس من أصحاب معاذ بن جبل " أن رسول الله لما بعثه إلى اليمن... بمعناه.
والأئمة رحمهم الله لم يقصروا في البيان، بل نهوا عن تقليدهم إذا استبانت السنة؛ لعلمهم أن من العلم شيئًا لم يعلموه، وقد يبلغ غيرهم، وذلك كثير كما لا يخفى على من نظر في أقوال العلماء.
قال أبو حنيفة رحمه الله: إذا جاء الحديث عن رسول الله فعلى الرأس والعين، وإذا جاء عن الصحابة رضي الله عنهم فعلى الرأس والعين، وإذا جاء عن التابعين فنحن رجال وهم رجال.
وقال: إذا قلت قولًا وكتاب الله يخالفه فاتركوا قولي لكتاب الله. قيل: إذا كان قول رسول الله يخالفه؟ قال: اتركوا قولي لخبر الرسول . وقيل: إذا كان قول الصحابة يخالفه؟ قال: اتركوا قولي لقول الصحابة.
وقال الربيع: سمعت الشافعي رحمه الله يقول: إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله فخذوا سنة رسول الله ودعوا ما قلت.
وقال: إذا صح الحديث بما يخالف قولي فاضربوا بقولي الحائط.
وقال مالك: كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله .
وتقدم له مثل ذلك، فلا عذر لمقلد بعد هذا. ولو استقصينا كلام العلماء في هذا لخرج عما قصدناه من الاختصار، وفيما ذكرناه كفاية لطالب الهدى.
قوله: " لعله إذا رد بعض قوله " أي قول الرسول " أن يقع في قلبه شئ من الزيغ فيهلك " نبه رحمه الله أن رد قول الرسول سبب لزيغ القلب، وذلك هو الهلاك في الدنيا والآخرة كما قال تعالى: { } ( ) (الصف - 5).
قال شيخ الإسلام رحمه الله في معنى قول الله تعالى: { } ( )، فإن كان المخالف لأمره قد حذر من الكفر والشرك، أو من العذاب الأليم، دل على أنه قد يكون مفضيًا إلى الكفر والعذاب الأليم، ومعلوم أن إفضاءه إلى العذاب الأليم هو مجرد فعل المعصية، فإفضاؤه إلى الكفر إنما هو لما يقترن به من الاستخفاف في حق الأمر، كما فعل إبليس لعنه الله تعالى ا هـ.
وقال أبو جعفر بن جرير رحمه الله تعالى عن الضحاك: { } ( )، قال: يطبع على قلبه، فلا يؤمن أن يظهر الكفر بلسانه فتضرب عنقه.
قال أبو جعفر بن جرير: أدخلت " عن " لأن معنى الكلام: فليحذر الذين يتولون عن أمره، ويدبرون عنه معرضين.
قوله: { } ( ) في عاجل الدنيا عذاب من الله موجع على خلافهم أمر رسول الله .
قوله: " عن عدي بن حاتم { أنه سمع النبي يقرأ هذه الآية: { } ( ) الآية. فقلت: " إنا لسنا نعبدهم. قال: أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه، ويحلون ما حرم الله فتحلونه؟ فقلت: بلى، قال: فتلك عبادتهم }. رواه أحمد والترمذي وحسنه ":
هذا الحديث قد روي من طرق، فرواه ابن سعد، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن جرير، وابن أبي حاتم، والطبراني، وأبو الشيخ، وابن مردويه، والبيهقي.
قوله: " عن عدي بن حاتم " أي الطائي المشهور. وحاتم هو ابن عبد الله بن سعد بن الحشرج - بفتح الحاء - المشهور بالسخاء والكرم. قدم عدي على النبي في شعبان سنة تسع من الهجرة، فأسلم وعاش مائة وعشرين سنة.
وفي الحديث دليل على أن طاعة الأحبار والرهبان في معصية الله عبادة لهم من دون الله، ومن الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله؛ لقوله تعالى في آخر الآية: { } ( )، ونظير لقوله تعالى: { • } ( ) (الأنعام - 121) وهذا قد وقع فيه كثير من الناس مع من قلدوهم؛ لعدم اعتبارهم الدليل إذا خالف المقلد، وهو من هذا الشرك. ومنهم من يغلو في ذلك ويعتقد أن الأخذ بالدليل - والحالة هذه - يكره، أو يحرم، فعظمت الفتنة. ويقول: هم أعلم منا بالأدلة، ولا يأخذ بالدليل إلا المجتهد، وربما تفوهوا بذم من يعمل بالدليل، ولا ريب أن هذا من غربة الإسلام كما قال شيخنا رحمه الله في المسائل.
فتغيرت الأحوال، وآلت إلى هذه الغاية، فصارت عند الأكثر عبادة الرهبان هي أفضل الأعمال، ويسمونها ولاية، وعبادة الأحبار هي العلم والفقه، ثم تغيرت الحال إلى أن عبد من ليس من الصالحين، وعبد بالمعنى الثاني من هو من الجاهلين.
وأما طاعة الأمراء ومتابعتهم فيما يخالف ما شرعه الله ورسوله، فقد عمت بها البلوى قديمًا وحديثًا في أكثر الولاة بعد الخلفاء الراشدين وهلم جرا، وقد قال تعالى: { } ( ) (القصص - 50). وعن زياد بن حدير قال: قال لي عمر " هل تعرف ما يهدم الإسلام؟ قلت: لا، قال: يهدمه زلة العالم، وجدال المنافق بالقرآن، وحكم الأئمة المضلين " رواه الدارمى.
جعلنا الله وإياكم من الذين يهدون بالحق وبه يعدلون.
المسائل المستنبطة من هذا الباب
فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية النور.
الثانية: تفسير آية براءة.
الثالثة: التنبيه على معنى العبادة التي أنكرها عدي.
الرابعة: تمثيل ابن عباس بأبي بكر وعمر، وتمثيل أحمد بسفيان.
الخامسة: تغير الأحوال إلى هذه الغاية، حتى صار عند الأكثر عبادة الرهبان هي أفضل الأعمال، وتسمى الولاية، وعبادة الأحبار: هي العلم والفقه، ثم تغيرت الحال إلى أن عبد من دون الله من ليس من الصالحين، وعبد بالمعنى الثاني من هو من الجاهلين.
باب قول الله تعالى ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك...
قول الله تعالى: { } ( ) (النساء - 60 - 62).
وقوله: { } ( ) (البقرة - 11).
وقوله: { • • } ( ) (الأعراف -56).
وقوله: { • } ( ) (المائدة - 50).
عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: أن رسول الله قال: " { لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به } قال النووي: حديث صحيح، رويناه في كتاب الحجة بإسناد صحيح.
وقال الشعبي: " كان بين رجل من المنافقين ورجل من اليهود خصومة، فقال اليهودي: نتحاكم إلى محمد ـ لأنه عرف أنه لا يأخذ الرشوة ـ وقال المنافق: نتحاكم إلى اليهود ـ لعلمه أنهم يأخذون الرشوة - فاتفقا أن يأتيا كاهنا في جهينة فيتحاكما إليه، فنزلت: { } ( )... الآية (النساء - 60) ".
وقيل: " نزلت في رجلين اختصما، فقال أحدهما: نترافع إلى النبي وقال الآخر: إلى كعب بن الأشرف، ثم ترافعا إلى عمر، فذكر له أحدهما القصة. فقال للذي لم يرض برسول الله أكذلك؟ قال: نعم، فضربه بالسيف فقتله ".
" باب: قول الله تعالى: { } ( ) الآيات (النساء - 60 - 62):
قال العماد ابن كثير رحمه الله تعالى: والآية ذامة لمن عدل عن الكتاب والسنة وتحاكم إلى ما سواهما من الباطل، وهو المراد بالطاغوت هاهنا.
وتقدم ما ذكره ابن القيم رحمه الله في حده للطاغوت، وأنه كل ما تجاوز به العبد حده: من معبود أو متبوع أو مطاع، فكل من حاكم إلى غير كتاب الله وسنة رسوله فقد حاكم إلى الطاغوت الذي أمر الله تعالى عباده المؤمنين أن يكفروا به، فإن التحاكم ليس إلا إلى كتاب الله وسنة رسوله ومن كان يحكم بهما، فمن تحاكم إلى غيرهما فقد تجاوز به حده، وخرج عما شرعه الله ورسوله وأنزله منزلة لا يستحقها، وكذلك من عبد شيئًا دون الله فإنما عبد الطاغوت، فإن كان المعبود صالحًا صارت عبادة العابد له راجعة إلى الشيطان الذي أمره بها، كما قال تعالى: { • • • • • } ( ) (يونس - 28 - 30) وكقوله: { } ( ) (سبأ - 40 - 41) وإن كان ممن يدعو إلى عبادة نفسه، أو كان شجرًا، أو حجرًا، أو قبرًا، أوغير ذلك مما يتخذه المشركون أصنامًا على صور الصالحين والملائكة وغير ذلك، فهي من الطاغوت الذي أمر الله تعالى عباده أن يكفروا بعبادته، ويتبرءوا منه، ومن عبادة كل معبود سوى الله كائنًا من كان، وهذا كله من عمل الشيطان وتسويله، فهو الذي دعا إلى كل باطل وزينه لمن فعله، وهذا ينافي التوحيد الذي هو معنى شهادة أن لا إله إلا الله. فالتوحيد: هو الكفر بكل طاغوت عبده العابدون من دون الله، كما قال تعالى: { } ( ) (الممتحنة -40). وكل من عبد غير الله فقد جاوز به حده وأعطاه من العبادة ما لا يستحقه.
قال الإمام مالك رحمه الله " الطاغوت: ما عبد من دون الله ".
وكذلك من دعا إلى تحكيم غير الله ورسوله فقد ترك ما جاء به الرسول ورغب عنه، وجعل لله شريكًا في الطاعة، وخالف ما جاء به رسول الله فيما أمره الله تعالى به في قوله: { } ( ) (المائدة - 49) وقـوله تعـالى: { } ( ) (النساء - 65) فمن خالف ما أمر الله به ورسوله بأن حكم بين الناس بغير ما أنزل الله، أو طلب ذلك اتباعًا لما يهواه ويريده، فقد خلع ربقة الإسلام والإيمان من عنقه، وإن زعم أنه مؤمن، فإن الله تعالى أنكر على من أراد ذلك، وأكذبهم في زعمهم الإيمان لما في ضمن قوله: { } ( ) من نفى إيمانهم، فإن " يزعمون " إنما يقال غالبًا لمن ادعى دعوى هو فيها كاذب؛ لمخالفته لموجبها وعمله بما ينافيها، يحقق هذا قوله: { } ( )؛ لأن الكفر بالطاغوت ركن التوحيد، كما في آية البقرة، فإذا لم يحصل هذا الركن لم يكن موحدًا. والتوحيد هو أساس الإيمان الذي تصلح به جميع الأعمال وتفسد بعدمه. كما أن ذلك بين في قوله تعالى: { } ( ) (البقرة - 256) وذلك أن التحاكم إلى الطاغوت إيمان به.
وقوله: { } ( ) يبين تعالى في هذه الآية أن التحاكم إلى الطاغوت مما يأمر به الشيطان ويزينه لمن أطاعه، ويبين أن ذلك مما أضل به الشيطان من أضله، وأكده بالمصدر، ووصفه بالبعد، فدل على أن ذلك من أعظم الضلال وأبعده عن الهدى.
ففي هذه الآية أربعة أمور: الأول: أنه إرادة الشيطان. الثاني: إنه ضلال.
الثالث: تأكيده بالمصدر. الرابع: وصفه بالبعد عن سبيل الحق والهدى.
فسبحان الله !ما أعظم هذا القرآن وما أبلغه، وما أدله على أنه كلام رب العالمين، أوحاه إلى رسوله الكريم، وبلغه عبده الصادق الأمين. صلوات الله وسلامه عليه.
قوله: { } ( ) بين تعالى أن هذه صفة المنافقين، وأن من فعل ذلك أو طلبه - وإن زعم أنه مؤمن - فإنه في غاية البعد عن الإيمان.
قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى: هذا دليل على أن من دعي إلى تحكيم الكتاب والسنة فأبى أنه من المنافقين.
قوله: { } ( ) لازم، وهو بمعنى يعرضون؛ لأن مصدره " صدودًا " فما أكثر من اتصف بهذا الوصف، خصوصًا ممن يدعي العلم، فإنهم صدوا عما توجبه الأدلة من كتاب الله وسنة رسوله إلى أقوال من يخطئ كثيرًا ممن ينتسب إلى الأئمة الأربعة في تقليدهم من لا يجوز تقليده، واعتمادهم على قول من لا يجوز الاعتماد على قوله، ويجعلون قوله المخالف لنص الكتاب والسنة وقواعد الشريعة هو المعتمد عندهم الذي لا تصح الفتوى إلا به. فصار المتبع للرسول بين أولئك غريبًا، كما تقدم التنبيه على هذا في الباب الذي قبل هذا.
فتدبر هذه الآيات، وما بعدها يتبين لك ما وقع فيه غالب الناس من الإعراض عن الحق وترك العمل به في أكثر الوقائع، والله المستعان.
قوله: { } ( ) (البقرة - 11) قال أبو العالية في الآية: يعني لا تعصوا في الأرض؛ لأن من عصى الله في الأرض أو أمر بمعصية الله فقد أفسد في الأرض؛ لأن صلاح الأرض والسماء إنما هو بطاعة الله ورسوله. وقد أخبر تعالى عن إخوة يوسف عليه السلام في قوله تعالى: { } ( ) إلى قوله: { • • } ( ) (يوسف - 70 - 73) فدلت الآية على أن كل معصية فساد في الأرض.
ومناسبة الآية للترجمة: أن التحاكم إلى غير الله ورسوله من أعمال المنافقين، وهو الفساد في الأرض.
وفي الآية: التنبيه على عدم الاغترار بأقوال أهل الأهواء، وإن زخرفوها بالدعوى. وفيها التحذير من الاغترار بالرأي ما لم يقم على صحته دليل من كتاب الله وسنة رسوله فما أكثر من يصدق بالكذب ويكذب بالصدق إذا جاءه، وهذا من الفساد في الأرض، ويترتب عليه من الفساد أمور كثيرة، تخرج صاحبها عن الحق وتدخله في الباطل. نسأل الله العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة.
فتدبر تجد ذلك في حال الأكثر، إلا من عصمه الله ومن عليه بقوة داعي الإيمان، وأعطاه عقلًا كاملًا عند ورود الشهوات، وبصرًا نافذًا عند ورود الشبهات، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.
قوله: { } ( ) قال أبو بكر بن عياش في الآية: إن الله بعث محمدا إلى أهل الأرض وهم في فساد، فأصلحهم الله بمحمد فمن دعا إلى خلاف ما جاء به محمد فهو من المفسدين في الأرض.
وقال ابن القيم رحمه الله: قال أكثر المفسرين: لا تفسدوا فيها بالمعاصي والدعاء إلى غير طاعة الله بعد إصلاح الله لها ببعث الرسل، وبيان الشريعة والدعاء إلى طاعة الله، فإن عبادة غير الله والدعوة إلى غيره والشرك به هو أعظم فساد في الأرض، بل فساد الأرض في الحقيقة إنما هو بالشرك به ومخالفة أمره، فالشرك، والدعوة إلى غير الله، وإقامة معبود غيره، ومطاع متبع غير رسول الله - هو أعظم فساد في الأرض، ولا صلاح لها ولا لأهلها إلا بأن يكون الله وحده هو المطاع، والدعوة له لا لغيره، والطاعة والاتباع لرسوله ليس إلا، وغيره إنما تجب طاعته إذا أمر بطاعة الرسول فإذا أمر بمعصية وخلاف شريعته فلا سمع ولا طاعة.
ومن تدبر أحوال العالم وجد كل صلاح في الأرض فسببه توحيد الله وعبادته وطاعة رسوله، وكل شر في العالم وفتنة وبلاء وقحط وتسليط عدو وغير ذلك فسببه مخالفة رسوله والدعوة إلى غير الله ورسوله. ا هـ.
ووجه مطابقة هذه الآية للترجمة: أن التحاكم إلى غير الله ورسوله من أعظم ما يفسد الأرض من المعاصي، فلا صلاح لها إلا بتحكيم كتاب الله وسنة رسوله وهو سبيل المؤمنين، كما قال تعالى: { • • • } ( ) (النساء -115).
قوله: " وقول الله تعالى: { • } ( ) (المائدة - 50):
قال ابن كثير رحمه الله: ينكر تعالى على من خرج عن حكم الله تعالى المشتمل على كل خير، الناهي عن كل شر، وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله، كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الجهالات والضلالات، وكما يحكم به التتار من السياسات المأخوذة عن جنكيزخان الذي وضع لهم الياسق وهو عبارة عن كتاب أحكام قد اقتبسها من شرائع شتى من اليهودية والنصرانية والملة الإسلامية، وفيها كثير من الأحكام أخذها عن مجرد نظره وهواه. فصارت في بنيه شرعًا يقدمونها على الحكم بالكتاب والسنة.
فمن فعل ذلك فهو كافر، يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله، فلا يحكم بسواه في قليل ولا كثير.
قوله: { } ( ) استفهام إنكار، أي لا حكم أحسن من حكمه تعالى، وهذا من باب استعمال أفعل التفضيل فيما ليس له في الطرف الآخر مشارك، أي ومن أعدل من الله حكمًا لمن عقل عن الله شرعه، وآمن وأيقن أنه تعالى أحكم الحاكمين، وأرحم بعباده من الوالدة بولدها، العليم بمصالح عباده، القادر على كل شيء، الحكيم في أقواله وأفعاله وشرعه وقدره؟.
وفي الآية التحذير من حكم الجاهلية، واختياره على حكم الله ورسوله، فمن فعل ذلك فقد أعرض عن الأحسن - وهو الحق - إلى ضده من الباطل.
قوله: " عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله قال: { لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به } قال النووي: حديث صحيح، رويناه في كتاب الحجة بإسناد صحيح ":
هذا الحديث رواه الشيخ أبو الفتح نصر بن إبراهيم المقدسي الشافعي في كتاب " الحجة على تارك الحجة " بإسناد صحيح، كما قاله المصنف رحمه الله عن النووي. ورواه الطبراني وأبو بكر بن عاصم، والحافظ أبو نعيم في الأربعين التي شرط لها أن تكون في صحيح الأخبار، وشاهده في القرآن قوله تعالى: { } ( ) (النساء - 65) وقوله: { • } ( ) (الأحزاب - 36) وقوله: { } ( ) (القصص - 50) ونحو هذه الآيات.
قوله: " لا يؤمن أحدكم " أي لا يكون من أهل كمال الإيمان الواجب الذي وعد الله أهله عليه بدخول الجنة والنجاة من النار. وقد يكون في درجة أهل الإساءة والمعاصي من أهل الإسلام.
قوله: " حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به ". " الهوى " بالقصر، أي ما يهواه وتحبه نفسه وتميل إليه، فإن كان الذي تحبه وتميل إليه نفسه ويعمل به تابعًا لما جاء به رسول الله لا يخرج عنه إلى ما يخالفه، فهذه صفة أهل الإيمان المطلق، وإن كان بخلاف ذلك أو في بعض أحواله أو أكثرها انتفى عنه من الإيمان كماله الواجب، كما في حديث أبي هريرة: " { لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن } ( ) يعني أنه بالمعصية ينتفي عنه كمال الإيمان الواجب، وينزل عنه في درجة الإسلام، وينقص إيمانه، فلا يطلق عليه الإيمان إلا بقيد المعصية، أو الفسوق، فيقال: مؤمن عاص، أو يقال: مؤمن بإيمانه فاسق بمعصيته، فيكون معه مطلق الإيمان الذي لا يصح إسلامه إلا به، كما قال تعالى: { } ( ) (النساء -92)، والأدلة على ما عليه سلف الأمة وأئمتها: أن الإيمان قول وعمل ونية، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية: من كتاب الله تعالى وسنة رسوله أكثر من أن تحصى، فمن ذلك قوله تعالى: { } ( ) (البقرة - 143)، أي صلاتكم إلى بيت المقدس قبل تحويل القبلة، وقول النبي لوفد عبد القيس: { آمركم بالإيمان بالله وحده، أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟ شهادة أن لا إله إلا الله } ( ) الحديث، وهو في الصحيحين والسنن. والدليل على أن الإيمان يزيد، قوله تعالى: { } ( ) (المدثر - 31) الآية. وقوله: { • } ( ) (التوبة - 124). خلافًا لمن قال: إن الإيمان هو القول، وهم المرجئة، ولمن قال: إن الإيمان هو التصديق كالأشاعرة، ومن المعلوم عقلًا وشرعًا أن نية الحق تصديق، والعمل به تصديق، وقول الحق تصديق، وليس مع أهل البدع ما ينافي قول أهل السنة والجماعة، ولله الحمد والمنة.
قال الله تعالى: { } ( ) إلى قوله { } ( ) (البقرة - 177) أي فيما عملوا به في هذه الآية من الأعمال الظاهرة والباطنة، وشاهده في كلام العرب قولهم: " حملة صادقة ". وقد سمى الله تعالى " الهوى " المخالف لما جاء به الرسول إلهًا، فقال تعالى: { } ( ) (الجاثية -23) قال بعض المفسرين: لا يهوى شيئًا إلا ركبه.
قال ابن رجب رحمه الله: أما معنى الحديث: فهو أن الإنسان لا يكون مؤمنًا كامل الإيمان الواجب حتى تكون محبته تابعة لما جاء به الرسول من الأوامر والنواهي وغيرها، فيحب ما أمر به، ويكره ما نهى عنه، وقد ورد القرآن بمثل هذا المعنى في غير موضع، وذم سبحانه من كره ما أحبه الله، أو أحب ما كرهه الله، كما قال تعالى: { • } ( ) (محمد - 28) فالواجب على كل مؤمن أن يحب ما أحبه الله محبة توجب له الإتيان بما أوجب عليه منه، فإن زادت المحبة حتى أتى بما ندب إليه منه كان ذلك فضلًا، وأن يكره ما يكرهه الله كراهة توجب له الكف عما حرم عليه منه، فإن زادت الكراهة حتى أوجبت الكف عما كرهه تنزيهًا كان ذلك فضلًا. فمن أحب الله ورسوله محبة صادقة من قلبه أوجب ذلك له أن يحب بقلبه ما يحب الله ورسوله، ويكره ما يكرهه الله ورسوله، فيرضى ما يرضى به الله ورسوله، ويسخط ما يسخط الله ورسوله، ويعمل بجوارحه بمقتضى هذا الحب والبغض، فإن عمل بجوارحه شيئًا يخالف ذلك، بأن ارتكب بعض ما يكرهه الله، ورسوله وترك ما يحبه الله ورسوله مع وجوبه والقدرة عليه - دل ذلك على نقص محبته الواجبة، فعليه أن يتوب من ذلك ويرجع إلى تكميل المحبة الواجبة التي هي ركن العبادة إذا كملت، فجميع المعاصي تنشأ عن تقديم هوى النفس على محبة الله ورسوله، وقد وصف الله المشركين باتباع الهوى في مواضع من كتابه، فقال تعالى: { } ( ) (القصص - 50) وكذلك البدع إنما تنشأ من تقديم الهوى على الشرع، ولهذا سمي أهلها أهل الأهواء، وكذلك المعاصي إنما تنشأ من تقديم الهوى على محبة الله ومحبة ما يحبه، وكذلك حب الأشخاص، الواجب فيه أن يكون تبعًا لما جاء به الرسول فيجب على المؤمن محبة ما يحبه الله من الملائكة والرسل والأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين عمومًا، ولهذا كان من علامات وجود حلاوة الإيمان: أن يحب المرء لا يحبه إلا لله، فتحرم موالاة أعداء الله، ومن يكرهه الله عمومًا، وبهذا يكون الدين كله لله. ومن أحب لله وأبغض لله، وأعطى لله ومنع لله: فقد استكمل الإيمان، ومن كان حبه وبغضه وعطاؤه ومنعه لهوى نفسه كان ذلك نقصًا في إيمانه الواجب، فتجب التوبة من ذلك: انتهى ملخصًا.
ومناسبة الحديث للترجمة: بيان الفرق بين أهل الإيمان وأهل النفاق والمعاصي في أقوالهم وأفعالهم وإرادتهم.
قوله: " وقال الشعبي " هو عامر بن شراحيل الكوفي، عالم أهل زمانه، وكان حافظًا علامة، ذا فنون. كان يقول: ما كتبت سوداء في بيضاء. وأدرك خلقًا كثيرًا من الصحابة، وعاش بضعًا وثمانين سنة. قال الذهبي.
وفيما قاله الشعبي ما يبين أن المنافق يكون أشد كراهة لحكم الله ورسوله من اليهود والنصارى. ويكون أشد عداوة منهم لأهل الإيمان، كما هو الواقع في هذه الأزمنة وقبلها من إعانة المنافقين العدو على المسلمين، وحرصهم على إطفاء نور الإسلام والإيمان، ومن تدبر ما في التاريخ وما وقع منهم من الوقائع عرف أن هذا حال المنافقين قديمًا وحديثًا، وقد حذر الله نبيه من طاعتهم والقرب منهم، وحضه على جهادهم في مواضع من كتابه، قال تعالى: { • } ( ) (التوبة - 73). وفي قصة عمر وقتله المنافق الذي طلب التحاكم إلى كعب بن الأشرف اليهودي دليل على قتل من أظهر الكفر والنفاق. وكان كعب بن الأشرف هذا شديد العداوة للنبي والأذى له، والإظهار لعداوته، فانتقض به عهده، وحل به قتله. وروى مسلم في صحيحه عن عمر: سمعت جابرًا يقول: قال رسول الله { من لكعب ابن الأشرف؟ فإنه قد آذى الله ورسوله، قال محمد بن مسلمة: يا رسول الله، أتحب أن أقتله؟ قال: نعم. قال: ائذن لي فلأقل، قال: قل. فأتاه فقال له، وذكر ما بينهما، وقال: إن هذا الرجل قد أراد صدقة وقد عنانا. فلما سمعه قال: أيضًا والله لتملنه، قال: إنا قد اتبعناه الآن، ونكره أن ندعه حتى ننظر إلى أي شئ يصير أمره، قال: وقد أردت أن تسلفني سلفًا، قال: فما ترهنني؟ قال: ما تريده. قال: ترهنني نساءكم؟ قالت: أنت أجمل العرب، أنرهنك نساءنا؟ قال: ترهنوني أولادكم؟ قال: يسب ابن أحدنا فيقال: رهن في وسقين من تمر. ولكن نرهنك اللأمة - يعني السلاح - قال: فنعم، وواعده أن يأتيه بالحارث، وأبي عبس بن جبر، وعباد بن بشر. قال: فجاءوا فدعوه ليلًا، فنزل إليهم، قال سفيان: قال غير عمرو: قالت له امرأته: إني أسمع صوتًا كأنه صوت دم، قال: إنما هذا محمد بن مسلمة ورضيعه وأبو نائلة، إن الكريم لو دعى إلى طعنة ليلًا لأجاب. قال محمد: إني إذا جاء فسوف أمد يدي إلى رأسه، فإذا استمكنت منه فدونكم، قال: فلما نزل وهو متوشح قالوا: نجد منك ريح الطيب، قال: نعم، تحتى فلانة أعطر نساء العرب، قال: فتأذن لي أن أشتم منه؟ قال: نعم فشم، فتناول فشم، ثم قال: أتأذن لي أن أعود؟ قال: فاستمكن من رأسه. ثم قال: دونكم. قال: فقتلوه } ( ).
وفي قصة عمر: بيان أن المنافق المغموص بالنفاق إذا أظهر نفاقه قتل، كما في الصحيحين وغيرهما: أن النبي إنما ترك قتل من أظهر نفاقه منهم تأليفًا للناس، فإنه قال: { لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه } ( ). فصلوات الله وسلامه عليه.
المسائل المستنبطة من هذا الباب
وفيه مسائل:
الأولى: تفسير آية النساء وما فيها من الإعانة على فهم الطاغوت.
الثانية: تفسير آية البقرة: { } ( ) الآية.
الثالثة: تفسير آية الأعراف { } ( ).
الرابعة: تفسير: { • } ( ).
الخامسة: ما قاله الشعبي في سبب نزول الآية الأولى.
السادسة: تفسير الإيمان الصادق والكاذب.
السابعة: قصة عمر مع المنافق.
الثامنة: كون الإيمان لا يحصل لأحد حتى يكون هواه تبعا لما جاء به الرسول .
باب من جحد شيئا من الأسماء والصفات
وقول الله تعالى:... { } ( ) (الرعد -30).
وفي صحيح البخاري قال علي: " حدثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله؟ ".
وروى عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس: " أنه رأى رجلا انتفض ـ لما سمع حديثا عن النبي في الصفات، استنكارا لذلك ـ فقال: ما فرق هؤلاء؟ يجدون رقة عند محكمه، ويهلكون عند متشابهه " انتهى.
ولما سمعت قريش رسول الله يذكر: " الرحمن " أنكروا ذلك. فأنزل الله فيهم:... { } ( )... (الرعد - 30).
قوله: " باب من جحد شيئا من الأسماء والصفات
وقول الله تعالى: { } ( ) سبب نزول هذه الآية معلوم مذكور في كتب التفسير وغيرها، وهو أن مشركي قريش جحدوا اسم " الرحمن " عنادا، وقال تعالى: { • } ( ) (الإسراء - 110)، و " الرحمن " اسمه وصفته، دل هذا الاسم على أن الرحمة صفته سبحانه، وهي من صفات الكمال، فإن كان المشركون جحدوا اسما من أسمائه تعالى، وهو من الأسماء التي دلت على كماله سبحانه وبحمده، فجحود معنى هذا الاسم ونحوه من الأسماء يكون كذلك، فإن جهم بن صفوان ومن تبعه يزعمون أنها لا تدل على صفة قائمة بالله تعالى. وتبعهم على ذلك طوائف من المعتزلة والأشاعرة وغيرهم؛ فلهذا كفرهم كثيرون من أهل السنة. قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى:
عشـر مـن العلمـاء في البلـدان
ـهم بـل حكـاه قبلـه الطـبراني
ولقد تقلد كفرهم خمسون في
والـلالكـائي الإمـام حكـاه عنـ
فإن هؤلاء الجهمية ومن وافقهم على التعطيل جحدوا ما وصف به نفسه ووصفه به رسوله من صفات كماله ونعوت جلاله، وبنوا هذا التعطيل على أصل باطل أصلوه من عند أنفسهم، فقالوا: هذه هي صفات الأجسام، فيلزم من إثباتها أن يكون الله جسما، هذا منشأ ضلال عقولهم، لم يفهموا من صفات الله إلا ما فهموه من خصائص صفات المخلوقين، فشبهوا الله في ابتداء آرائهم الفاسدة بخلقه، ثم عطلوه من صفات كماله، وشبهوه بالناقصات والجمادات والمعدومات، فشبهوا أولا وعطلوا ثانيا، وشبهوه ثالثا بكل ناقص ومعدوم، فتركوا ما دل عليه الكتاب والسنة من إثبات ما وصف الله به نفسه ووصفه به رسوله على ما يليق بجلاله وعظمته. وهذا هو الذي عليه سلف الأمة وأئمتها، فإنهم أثبتوا لله ما أثبته لنفسه وأثبته له رسوله إثباتا بلا تمثيل، وتنزيها بلا تعطيل، فإن الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات يحتذي حذوه، فكما أن هؤلاء المعطلة يثبتون لله ذاتا لا تشبه الذوات، فأهل السنة يقولون ذلك، ويثبتون ما وصف الله به نفسه ووصفه به رسوله من صفات كماله ونعوت جلاله، لا تشبه صفاته صفات خلقه، فإنهم آمنوا بكتاب الله وسنة رسوله ولم يتناقضوا، وأولئك المعطلة كفروا بما في الكتاب والسنة من ذلك، وتناقضوا. فبطل قول المعطلين بالعقل والنقل، وإجماع أهل السنة من الصحابة والتابعين وتابعيهم وأئمة المسلمين، ولله الحمد والمنة.
وقد صنف العلماء رحمهم الله تعالى في الرد على الجهمية والمعطلة والمعتزلة والأشاعرة وغيرهم في إبطال هذه البدع وما فيها من التناقض والتهافت، كالإمام أحمد رحمه الله تعالى في رده المشهور، وكتاب السنة لابنه عبد الله، وصاحب الحيدة عبد العزيز الكناني في رده على بشر المريسي، وكتاب السنة لأبي عبد الله المروزي، ورد عثمان بن سعيد على الكافر العنيد، وهو بشر المريسي، وكتاب التوحيد لإمام الأئمة محمد بن خزيمة الشافعي، وكتاب السنة لأبي بكر الخلال، وأبي عثمان الصابوني الشافعي، وشيخ الإسلام الأنصاري، وأبي عمر بن عبد البر النمري، وخلق كثير من أصحاب الأئمة الأربعة وأتباعهم، وأهل الحديث ومن متأخريهم أبو محمد عبد الله بن أحمد بن قدامة، وشيخ الإسلام ابن تيمية وأصحابه وغيرهم، رحمهم الله تعالى. فلله الحمد والمنة على بقاء السنة وأهلها مع تفرق الأهواء وتشعب الآراء. والله أعلم.
قوله: " وفي صحيح البخاري عن علي حدثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله ".
" علي " هو أمير المؤمنين أبو الحسن علي بن أبي طالب، وأحد الخلفاء الراشدين، وسبب هذا القول - والله أعلم - ما حدث في خلافته من كثرة إقبال الناس على الحديث، وكثرة القصاص وأهل الوعظ. فيأتون في قصصهم بأحاديث لا تعرف من هذا القبيل، فربما استنكرها بعض الناس وردها، وقد يكون لبعضها أصل أو معنى صحيح، فيقع بعض المفاسد لذلك، فأرشدهم أمير المؤمنين إلى أنهم لا يحدثون عامة الناس إلا بما هو معروف ينفع الناس في أصل دينهم وأحكامه، من بيان الحلال من الحرام الذي كلفوا به علما وعملا، دون ما يشغل عن ذلك مما قد يؤدي إلى رد الحق وعدم قبوله، فيفضي بهم إلى التكذيب، ولا سيما مع اختلاف الناس في وقته، وكثرة خوضهم وجدلهم.
وقد كان شيخنا المصنف رحمه الله لا يحب أن يقرأ على الناس إلا ما ينفعهم في أصل دينهم وعباداتهم ومعاملاتهم الذي لا غنى لهم عن معرفته، وينهاهم عن القراءة في مثل كتب ابن الجوزي: كالمنعش، والمرعش، والتبصرة؛ لما في ذلك من الإعراض عما هو أوجب وأنفع، وفيها ما الله به أعلم مما لا ينبغي اعتقاده. والمعصوم من عصمه الله.
وقد كان أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان ينهى القصاص عن القصص، لما في قصصهم من الغرائب والتساهل في النقل وغير ذلك، ويقول: لا يقص إلا أمير أو مأمور. وكل هذا محافظة على لزوم الثبات على الصراط المستقيم علما وعملا ونية وقصدا، وترك كل ما كان وسيلة إلى الخروج عنه من البدع ووسائلها، والله الموفق للصواب، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
قوله: " وروى عبد الرزاق، عن معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس: أنه رأى رجلا انتفض لما سمع حديثا عن النبي في الصفات استنكارا لذلك، فقال: ما فرق هؤلاء؟ يجدون رقة عند محكمه، ويهلكون عند متشابهه ".
قوله: " وروى عبد الرزاق " هو ابن همام الصنعاني المحدث، محدث اليمن، صاحب التصانيف، أكثر الرواية عن معمر بن راشد صاحب الزهري. وهو شيخ عبد الرزاق، يروي عنه كثيرا.
ومعمر - بفتح الميمين وسكون العين - أبو عروة بن أبي عمرو راشد الأزدي الحراني ثم اليماني، أحد الأعلام من أصحاب محمد بن شهاب الزهري، يروي عنه كثيرا.
قوله: " عن ابن طاوس " هو عبد الله بن طاوس اليماني. قال معمر: كان من أعلم الناس بالعربية. وقال ابن عيينة: مات سنة اثنتين وثلاثين ومائة.
قوله: " عن أبيه " هو طاوس بن كيسان الجندي - بفتح الجيم والنون - الإمام العلم، قيل: اسمه ذكوان. قاله ابن الجوزي.
قلت: وهو من أئمة التفسير ومن أوعية العلم، قال في " تهذيب الكمال ": عن الوليد الموقري عن الزهري قال: قدمت على عبد الملك بن مروان، فقال: من أين قدمت يا زهري؟ قال: قلت: من مكة، قال: ومن خلفت يسودها وأهلها؟ قلت: عطاء بن أبي رباح، قال: فمن العرب أم من الموالي؟ قلت: من الموالي، قال: فبم سادهم؟ قال: قلت: بالديانة والرواية. قال: إن أهل الديانة والرواية لينبغي أن يسودوا. قال: فمن يسود أهل اليمن؟ قلت: طاوس بن كيسان، قال: فمن العرب أم من الموالي؟ قال: قلت: من الموالى، قال: فبم سادهم؟ قلت: بما ساد به عطاء. قال: إنه لينبغي ذلك. قال: فمن يسود أهل مصر؟ قلت: يزيد بن حبيب، قال: فمن العرب أم من الموالى؟ قال: قلت: من الموالى، قال: فمن يسود أهل الشام؟ قلت: مكحول، قال: فمن العرب أم من الموالي؟ قلت من الموالي، عبد نوبي أعتقته امرأة من هذيل. قال: فمن يسود أهل الجزيرة؟ قلت: ميمون بن مهران، قال: فمن العرب أم من الموالي، قال: قلت: من الموالي. قال فمن يسود أهل خراسان؟ قال: قلت: الضحاك بن مزاحم، قال: فمن العرب أم من الموالي؟ قال: قلت: من الموالي، قال: فمن يسود أهل البصرة؟ قال: قلت: الحسن البصري، قال فمن العرب أم من الموالي؟ قلت: من الموالي. قال: ويلك، ومن يسود أهل الكوفة؟ قال: قلت: إبراهيم النخعي، قال: فمن العرب أم من الموالي؟ قال: قلت: من العرب. قال: ويلك يا زهري، فرجت عني، والله لتسودن الموالي على العرب في هذا البلد حتى يخطب لها على المنابر والعرب تحتها. قال: قلت: يا أمير المؤمنين، إنما هو دين، من حفظه ساد، ومن ضيعه سقط.
قوله: " عن ابن عباس " قد تقدم، وهو حبر الأمة وترجمان القرآن، ودعا له النبي قال: { اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل } ( ). وروى عنه أصحابه أئمة التفسير، كمجاهد، وسعيد بن جبير، وعطاء بن أبي رباح، وطاوس، وغيرهم.
قوله: " ما فرق هؤلاء " يستفهم من أصحابه، يشير إلى أناس ممن يحضر مجلسه من عامة الناس، فإذا سمعوا شيئا من محكم القرآن ومعناه حصل معهم فرق أي خوف ورقة أي خشوع وتأثر، فإذا سمعوا شيئا من أحاديث الصفات انتفضوا كالمنكرين له، فلم يحصل منهم الإيمان الواجب الذي أوجبه الله تعالى على عباده المؤمنين، قال الذهبي: حدث وكيع عن إسرائيل بحديث: { إذا جلس الرب على الكرسي }. فاقشعر رجل عند وكيع، فغضب وكيع. وقال: أدركنا الأعمش وسفيان يحدثون بهذه الأحاديث ولا ينكرونها. أخرجه عبد الله بن أحمد في كتاب الرد على الجهمية. وربما حصل معهم من عدم تلقيه بالقبول ترك ما يوجب من الإيمان به، فشبه حالهم حال من قال الله فيهم: { } ( ) (البقرة - 85) فلا يسلم من الكفر إلا من عمـل بما يجب عليـه في ذلك، مـن الإيمان بكتاب الله كلـه واليقين، كمـا قال تعالى: { • • } ( ) (آل عمران - 7) فهؤلاء الذين ذكرهم ابن عباس تركوا ما وجب عليهم من الإيمان بما لم يعرفوا معناه من القرآن، وهو حق لا يرتاب فيه مؤمن، وبعضهم يفهم منه غير المراد من المعنى الذي أراد الله، فيحمله على غير معناه، كما جرى لأهل البدع، كالخوارج والرافضة والقدرية، ونحوهم ممن يتأول بعض آيات القرآن على بدعته. وقد وقع منهم الابتداع والخروج عن الصراط المستقيم، فإن الواقع من أهل البدع وتحريفهم لمعنى الآيات يبين معنى قول ابن عباس رضي الله عنهما.
وسبب هذه البدع جهل أهلها وقصورهم في الفهم، وعدم أخذ العلوم الشرعية على وجهها، وتلقيها من أهلها العارفين لمعناها الذين وفقهم الله تعالى لمعرفة المراد، والتوفيق بين النصوص، والقطع بأن بعضها لا يخالف بعضا، ورد المتشابه إلى المحكم، وهذه طريقة أهل السنة والجماعة في كل زمان ومكان، فلله الحمد لا نحصي ثناء عليه.
(ذكر ما ورد عن علماء السلف في المتشابه)
قال في " الدر المنثور ": أخرج الحاكم - وصححه - عن ابن مسعود، عن النبي قال: { كان الكتاب الأول ينزل من باب واحد على حرف واحد، فنزل القرآن من سبعة أبواب على سبعة أحرف: زجر، وأمر، وحلال، وحرام، ومحكم، ومتشابه، وأمثال، فأحلوا حلاله، وحرموا حرامه، وافعلوا ما أمرتم به، وانتهوا عما نهيتم عنه، واعتبروا بأمثاله، واعملوا بمحكمه، وآمنوا بمتشابهه، وقولوا: آمنا به كل من عند ربنا } ( ).
قال: وأخرج عبد بن حميد، عن قتادة في قوله تعالى: { • } ( ) (آل عمران - 7) قال: طلب القوم التأويل، فأخطأوا التأويل، وأصابوا الفتنة، وطلبوا ما تشابه منه، فهلكوا بين ذلك.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله: { } ( ) قـال: منهن قـوله تعـالى: { } ( ) إلى ثلاث آيات (الأنعام 151 - 153) ومنهن: { } ( ) إلى آخر الآيات (الإسراء - 23 - 39).
وأخرج ابن جرير، من طريق أبي مالك، عن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرة، عن ابن مسعود وناس من الصحابة رضي الله عنهم: المحكمات: الناسخات التي يعمل بهن، والمتشابهات المنسوخات.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، عن إسحاق بن سويد، أن يحيى بن يعمر وأبا فاختة تراجعا هذه الآية { } ( )، فقال أبو فاختة: هن فواتح السور، منها يستخرج القرآن: { } ( )، منها استخرجت البقرة، و { } ( )، منها استخرجت آل عمران. وقال يحيى: هن اللاتي فيهن الفرائض، والأمر، والنهي، والحلال، والحرام، والحدود، وعماد الدين.
وأخرج ابن جرير، عن محمد بن جعفر بن الزبير قال: المحكمات فيهن حجة الرب، وعصمة العباد، ودفع الخصوم والباطل، ليس فيها تصريف ولا تحريف عما وضعت عليه، { } ( ) في الصدق، لهن تصريف وتحريف وتأويل، ابتلى الله بهن العباد كما ابتلاهم بالحلال والحرام، لا يصرفن إلى الباطل ولا يحرفن عن الحق.
وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيان: إنما قال: { } ( )؛ لأنه ليس من أهل دين لا يرضى بهن: { } ( )، يعني فيما بلغنا الم، والمص، والمر.
قلت: وليس في هذه الآثار ونحوها ما يشعر بأن أسماء الله تعالى وصفاته من المتشابه، وما قال النفاة من أنها من المتشابه دعوى بلا برهان.
قوله: " ولما سمعت قريش رسول الله يذكر الرحمن، أنكروا ذلك، فأنزل الله فيهم: { } ( ) روى ابـن جريـر عـن قتادة { } ( ) ذكر لنا { أن نبي الله زمن الحديبية حين صالح قريشا كتب: هذا ما صالح عليه محمد رسول الله، فقال مشركو قريش: لئن كنت رسول الله ثم قاتلناك لقد ظلمناك، ولكن اكتب: هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله. فقال أصحاب رسول الله يا رسول الله دعنا نقاتلهم. فقال: لا، اكتبوا كما يريدون، إني محمد بن عبد الله، فلما كتب الكاتب " بسم الله الرحمن الرحيم " قالت قريش: أما الرحمن فلا نعرفه. وكان أهل الجاهلية يكتبون: باسمك اللهم. فقال أصحابه: دعنا نقاتلهم. قال: لا، ولكن اكتبوا كما يريدون. } ( )
وروي أيضا عن مجاهد قال: قوله: { • } ( ) (الرعد - 30) قال: { هـذا ما كاتب عليه رسول الله قريشا في الحديبيـة، كتب " بسم الله الرحمن الرحيم " قـالوا: لا تكتب الرحمن، ولا ندري مـا الرحمن، لا نكتب إلا باسمك اللهـم، قال تعالى: { } ( ) } الآية.
وروي أيضا عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: { كان رسول الله يدعو ساجدا: يا رحمن يا رحيم. فقال المشركون: هذا يزعم أنه يدعو واحدا وهو يدعو مثنى مـثنى. فـأنـزل الله: { • } ( ) } الآية (الإسراء - 110).
المسائل المستنبطة من هذا الباب
فيه مسائل:
الأولى: عدم الإيمان بجحد شيء من الأسماء والصفات.
الثانية: تفسير آية الرعد.
الثالثة: ترك التحديث بما لا يفهم السامع.
الرابعة: ذكر العلة أنه يفضي إلى تكذيب الله ورسوله، ولو لم يتعمد المنكر.
الخامسة: كلام ابن عباس لمن استنكر شيئا من ذلك، وأنه أهلكه.
باب قول الله تعالى يعرفون نعمت الله ثم ينكرونها وأكثرهم الكافرون
قول الله تعالى: { } ( ) (النحل - 83).
وقال مجاهد ما معناه " هو قول الرجل: هذا مالي، ورثته عن آبائي ".
وقال عون بن عبد الله: " يقولون: لولا فلان لم يكن كذا ".
وقال ابن قتيبة: " يقولون: هذا بشفاعة آلهتنا ".
وقال أبو العباس بعد حديث زيد بن خالد الذي فيه: { أن الله تعالى قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر } ( ) الحديث، وقد تقدم. وهذا كثير في الكتاب والسنة، يذم سبحانه من يضيف إنعامه إلى غيره، ويشرك به.
قال بعض السلف: هو كقولهم: كانت الريح طيبة، والملاح حاذقا، ونحو ذلك مما هو جار على ألسنة كثير.
قوله: " باب: قول الله تعالى: { } ( ) (النحل - 83).
ذكر المصنف رحمه الله ما ذكر بعض العلماء في معناها. وقال ابن جرير: فإن أهل التأويل اختلفوا في المعني بالنعمة؛ فذكر عن سفيان عن السدي: { } ( ) قال: محمد . وقال آخرون: بل معنى ذلك أنهم يعرفون أن ما عدد الله تعالى ذكره في هذه السورة من النعم من عند الله، وأن الله هو المنعم عليهم بذلك، ولكنهم ينكرون ذلك، فيزعمون أنهم ورثوه عن آبائهم.
وأخرج عن مجاهد: { } ( ) ، قال: هي المساكن والأنعام وما يرزقون منها، والسرابيل من الحديد والثياب، تعرف هذا كفار قريش، ثم تنكره بأن تقول: هذا كان لآبائنا فورثونا إياه. وقال آخرون: معنى ذلك أن الكفار إذا قيل لهم: من رزقكم؟ أقروا بأن الله هو الذي يرزقهم، ثم ينكرونه بقولهم: رزقنا ذلك شفاعة آلهتنا.
وذكر المصنف مثل هذا عن ابن قتيبة، وهو أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري، قاضي مصر النحوي اللغوي، صاحب المصنفات البديعة المفيدة المحتوية على علوم جمة، اشتغل ببغداد، وسمع الحديث على إسحاق بن راهويه وطبقته، توفي سنة ست وسبعين ومائتين.
وقال آخرون ما ذكره المصنف: " عن عون بن عبد الله بن مسعود الهذلي " أبو عبد الله الكوفي الزاهد، عن أبيه وعائشة وابن عباس، وعنه قتادة وأبو الزبير والزهري، وثقه أحمد وابن معين. قال البخاري: مات بعد العشرين ومائة { } ( ) قال: إنكارهم إياها أن يقول الرجل: لولا فلان ما كان كذا وكذا، ولولا فلان ما أصبت كذا وكذا.
واختار ابن جرير القول الأول، واختار غيره أن الآية تعم ما ذكره العلماء في معناها. وهو الصواب، والله أعلم.
قوله: " قال مجاهد " هو شيخ التفسير، الإمام الرباني، مجاهد بن جبر المكي، مولى بني مخزوم. قال الفضل بن ميمون: سمعت مجاهدا يقول: عرضت المصحف على ابن عباس مرات، أقفه عند كل آية وأسأله: فيم نزلت؟ وكيف نزلت؟ وكيف معناها؟ توفي سنة اثنتين ومائة، وله ثلاث وثمانون سنة، رحمه الله.
قوله: " وقال أبو العباس " هو شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية، الإمام الجليل رحمه الله " بعد حديث زيد بن خالد " وقد تقدم في باب ما جاء في الاستسقاء بالأنواء. قال: وهذا كثير في الكتاب والسنة، يذم سبحانه من يضيف إنعامه إلى غيره ويشرك به. قال بعض السلف: هو كقولهم: كانت الريح طيبة، والملاح حاذقا. نحو ذلك مما هو جار على ألسنة كثير. ا هـ.
وكلام شيخ الإسلام يدل على أن حكم هذه الآية عام فيمن نسب النعم إلى غير الله الذي أنعم بها، وأسند أسبابها إلى غيره، كما هو مذكور في كلام المفسرين المذكور بعضه هنا.
قال شيخنا رحمه الله: وفيه اجتماع الضدين في القلب، وتسمية هذا الكلام إنكارا للنعمة.
المسائل المستنبطة من هذا الباب
فيه مسائل:
الأولى: تفسير معرفة النعمة وإنكارها.
الثانية: معرفة أن هذا جار على ألسنة كثير.
الثالثة: تسمية هذا الكلام إنكارا للنعمة.
الرابعة: اجتماع الضدين في القلب.
باب قول الله تعالى: فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون
قول الله تعالى: { } ( ) (البقرة - 22).
قال ابن عباس في الآية: " الأنداد: هو الشرك أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ظلمة الليل؛ وهو أن تقول: والله، وحياتك يا فلان وحياتي، وتقول: لولا كليبة هذا لأتانا اللصوص، ولولا البط في الدار لأتانا اللصوص، وقول الرجل لصاحبه: ما شاء الله وشئت، وقول الرجل: لولا الله وفلان، لا تجعل فيها فلانا، هذا كله به شرك " رواه ابن أبي حاتم.
وعن عمر بن الخطاب أن رسول الله قال: " { من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك } ( ) رواه الترمذي وحسنه، وصححه الحاكم.
وقال ابن مسعود: " لأن أحلف بالله كاذبا أحب إلي من أن أحلف بغيره صادقا ".
وعن حذيفة عن النبي قال: { لا تقولوا: ما شاء الله وشاء فلان، ولكن قولوا: ما شاء الله ثم شاء فلان } ( ) رواه أبو داود بسند صحيح.
وجاء عن إبراهيم النخعي " أنه يكره أن يقول: أعوذ بالله وبك، ويجوز أن يقول: بالله ثم بك. قال: ويقول: لولا الله ثم فلان، ولا تقولوا: لولا الله وفلان ".
قوله: " باب قول الله تعالى: { } ( ) (البقرة - 22).
الند: المثل والنظير. وجعل الند لله: هو صرف أنواع العبادة أو شيء منها لغير الله، كحال عبدة الأوثان الذين يعتقدون فيمن دعوه ورجوه أنه ينفعهم ويدفع عنهم، ويشفع لهم. وهذه الآية في سياق قوله تعالى: { •• • } ( ) (البقرة - 21، 22). قال العماد ابن كثير رحمه الله في تفسيره: قال أبو العالية: لا تجعلوا لله أندادا أي عدلاء شركاء. وهكذا قال الربيع بن أنس وقتادة والسدي وأبو مالك وإسماعيل بن أبي خالد.
وقال ابن عباس: { } ( )، أي لا تشركون بالله شيئا من الأنداد التي لا تنفع ولا تضر، وأنتم تعلمون أنه ربكم لا رب لكم يرزقكم غيره، وقد علمتم أن الذي يدعوكم الرسول إليه من توحيده هو الحق الذي لا شك فيه. وكذلك قال قتادة. وعن مجاهد: " لا تجعلوا لله أندادا " قال: أكفاء من الرجال تطيعونهم في معصية الله، وقال ابن زيد: الأنداد هي الآلهة التي جعلوها معه، وجعلوا لها مثل ما جعلوا له. وعن ابن عباس: { } ( ): أشباها. وقال مجاهد: { } ( )، قال: تعلمون أنه إله واحد في التوراة والإنجيل، وذكر حديثا في معنى هذه الآية الكريمة، وهو ما في مسند أحمد عن الحارث الأشعري أن نبي الله قال: { إن الله أمر يحيى بن زكريا عليه السلام بخمس كلمات أن يعمل بهن، وأن يأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن، وأنه كاد أن يبطئ بها. فقال له عيسى عليه السلام: إن الله أمرك بخمس كلمات أن تعمل بهن، وتأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن، فإما أن تبلغهن وإما أن أبلغهن، فقال: يا أخي، إني أخشى إن سبقتني أن أعذب أو يخسف بي. قال: فجمع يحيى بن زكريا بني إسرائيل في بيت المقدس، حتى امتلأ المسجد، وقعد على الشرف، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إن الله أمرني بخمس كلمات أن أعمل بهن، وآمركم أن تعملوا بهن: أولاهن أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، فإن مثل ذلك مثل كمثل رجل اشترى عبدا من خالص ماله بذهب أو ورق، فجعل يعمل ويؤدي غلته إلى غير سيده، فأيكم يسره أن يكون عبده كذلك؟ وإن الله خلقكم ورزقكم، فاعبدوه ولا تشركوا به شيئا. وآمركم بالصلاة فإن الله ينصب وجهه لوجه عبده ما لم يلتفت، فإذا صليتم فلا تلتفتوا. وآمركم بالصيام، فإن مثل ذلك كمثل رجل معه صرة من مسك في عصابة، كلهم يجد ريح المسك، وإن خلوف فم الصائم أطيب عند الله من المسك. وآمركم بالصدقة، فإن مثل ذلك كمثل رجل أسره العدو، فشدوا يديه إلى عنقه، وقدموه ليضربوا عنقه، فقال لهم: هل لكم أن أفتدي نفسي منكم؟ فجعل يفتدى بالقليل والكثير حتى فك نفسه. وآمركم بذكر الله كثيرا، فإن مثل ذلك كمثل رجل طلبه العدو سراعا في أثره، فأتى حصنا حصينا فتحصن فيه، وإن العبد أحصن ما يكون من الشيطان إذا كان في ذكر الله. قال: وقال رسول الله وأنا آمركم بخمس الله أمرني بهن: الجماعة، والسمع والطاعة، والهجرة، والجهاد في سبيل الله. فإنه من خرج من الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه إلا أن يراجع، ومن دعا بدعوى الجاهلية فهو من جثي جهنم. قالوا: يا رسول الله، وإن صلى وصام؟ فقال: وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم، فادعوا المسلمين بأسمائهم التي سماهم الله المسلمين المؤمنين عباد الله } ( ).
وهذا حديث حسن، والشاهد منه على ما في هذه الآية قوله: { إن الله خلقكم ورزقكم فاعبدوه ولا تشركوا به شيئا } ( ) وهذه الآية دالة على توحيد الله تعالى بالعبادة وحده لا شريك له. وقد استدل بها كثير من المفسرين على وجود الصانع، وهي دالة على ذلك بطريق الأولى، والآيات الدالة على هذا المقام في القرآن كثيرة جدا. وسئل أبو نواس عن ذلك فأنشد:
إلى آثـار مـا صنـع المـليك
بأحـداق هـي الـذهب السبـيك
بأن اللـه ليـس لـه شـريـك
تأمـل في نبـات الأرض وانظـر
عيـون مـن لجيـن ناظـرات
عـلى قضـب الزبرجـد شاهدات
وقال ابن المعتز:
ـه أم كيـف يجـحـده الجـاحد
تـدل عـلى أنـه واحـــد
فيـا عجـبا كيـف يعـصى الإلـ
وفي كـل شـيء لـه آيـة
قوله: " وعن ابن عباس رضي الله عنهما في الآية: الأنداد هو الشرك، أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ظلمة الليل، وهو أن تقول: والله، وحياتك يا فلان، وحياتي، وتقول: لولا كليبة هذا لأتانا اللصوص، ولولا البط في الدار لأتانا اللصوص، وقول الرجل لصاحبه: ما شاء الله وشئت. وقول الرجل: لولا الله وفلان. لا تجعل فيها فلانا، هذا كله به شرك. رواه ابن أبي حاتم ". بين ابن عباس رضي الله عنهما أن هذا كله من الشرك، وهو الواقع اليوم على ألسن كثير ممن لا يعرف التوحيد ولا الشرك. فتنبه لهذه الأمور، فإنها من المنكر العظيم الذي يجب النهي عنه والتغليظ فيه؛ لكونه من أكبر الكبائر. وهذا من ابن عباس رضي الله عنهما تنبيه بالأدنى من الشرك على الأعلى.
قوله: " وعن عمر بن الخطاب أن رسول الله قال: { من حلف بغير الله فقد كفر، أو أشرك } ( ). رواه الترمذي وحسنه، وصححه الحاكم).
قوله: { فقد كفر أو أشرك } ( ) يحتمل لي أن يكون شكًّا من الراوي، ويحتمل أن تكون " أو " بمعنى الواو، فيكون قد كفر وأشرك. ويكون الكفر الذي هو دون الكفر الأكبر. كما هو من الشرك الأصغر. وورد مثل هذا عن ابن مسعود بهذا اللفظ.
قوله: " وقال ابن مسعود: لأن أحلف بالله كاذبا أحب إلي من أن أحلف بغيره صادقا ".
ومن المعلوم أن الحلف بالله كاذبا كبيرة من الكبائر، لكن الشرك أكبر من الكبائر، وإن كان أصغر كما تقدم بيان ذلك، فإذا كان هذا حال الشرك الأصغر، فكيف بالشرك الأكبر الموجب للخلود في النار، كدعوة غير الله والاستغاثة به، والرغبة إليه، وإنزال حوائجه به، كما هو حال الأكثر من هذه الأمة في هذه الأزمان وما قبلها: من تعظيم القبور، واتخاذهها أوثانا، والبناء عليها، واتخاذها مساجد، وبناء المشاهد باسم الميت لعبادة من بنيت باسمه وتعظيمه، والإقبال عليه بالقلوب والأقوال والأعمال. وقد عظمت البلوى بهذا الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله، وتركوا ما دل عليه القرآن العظيم من النهي عن هـذا الشرك ومـا يوصل إليه. قـال الله تعـالى: { • • • } ( ) (الأعراف - 37) كفرهم الله تعالى بدعوتهم من كانوا يدعونهم من دونه في دار الدنيا قال تعالى { • } ( ) (الجن -18) وقال تعالى: { } ( ) (الجن - 20، 21) وهؤلاء المشركون عكسوا الأمر، فخالفوا ما بلغه رسول الأمة وأخبر به عن نفسه فعاملوه بما نهاهم عنه من الشرك بالله والتعلق على غير الله حتى قال قائلهم:
سـواك عنـد حلـول الحادث العمم
فضـلا وإلا فقـل: يا زلـة القـدم
ومـن علـومك علـم اللوح والقلم
يا أكـرم الخلق مـا لي من ألوذ به
إن لم تكـن في معادي آخذا بيدي
فـإن مـن جـودك الدنيا وضرتها
فانظر إلى هذا الجهل العظيم، حيث اعتقد أنه لا نجاة له إلا بعياذه ولياذه بغير الله، وانظر إلى هذا الإطراء العظيم الذي تجاوز الحد في الإطراء الذي نهي عنه بقوله: { لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا عبد الله ورسوله } ( ). رواه مالك وغيره. وقد قال تعالى: { } ( ) (الأنعام - 50).
فانظر إلى هذه المعارضة العظيمة للكتاب والسنة، والمحادة لله ورسوله. وهذا الذي يقوله هذا الشاعر هو الذي في نفوس كثير، خصوصا ممن يدعون العلم والمعرفة. ورأوا لذلك قراءة هذه المنظومة ونحوها وتعظيمها من القربات، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
قوله: " وعن حذيفة عن النبي قال: { لا تقولوا ما شاء الله وشاء فلان، ولكن قولوا ما شاء الله، ثم شاء فلان } ( ). رواه أبو داود بسند صحيح ".
وذلك لأن المعطوف بالواو يكون مساويا للمعطوف عليه؛ لكونها إنما وضعت لمطلق الجمع، فلا تقتضي ترتيبا ولا تعقيبا. وتسوية المخلوق بالخالق شرك، إن كان في الأصغر مثل هذا فهو أصغر، وإن كان في الأكبر فهو أكبر. كما قال تعالى عنهم في الدار الآخرة: { • } ( ) (الشعراء97 - 98) بخلاف المعطوف بـ " ثم "، فإن المعطوف بها يكون متراخيا عن المعطوف عليه بمهلة. فلا محذور لكونه صار تابعا.
قوله: " وعن إبراهيم النخعي: أنه يكره أن يقول الرجل: أعوذ بالله وبك. ويجوز أن يقول: بالله ثم بك. قال ويقول: لولا الله ثم فلان. لا تقولوا: لولا الله وفلان ".
وقد تقدم الفرق بين ما يجوز وما لا يجوز من ذلك. وهذا إنما هو في الحي الحاضر الذي له قدرة وسبب في الشيء. وهو الذي يجري في حقه مثل ذلك. وأما في حق الأموات الذين لا إحساس لهم بمن يدعوهم، ولا قدرة لهم على نفع ولا ضر، فلا يقال في حقهم شيء من ذلك، فلا يجوز التعلق عليه بشيء ما بوجه من الوجوه، والقرآن يبين ذلك وينادي بأنه يجعلهم آلهة إذا سئلوا شيئا من ذلك، أو رغب إليهم أحد بقوله أو عمله الباطن أو الظاهر. فمن تدبر القرآن ورزق فهمه صار على بصيرة من دينه، وبالله التوفيق.
والعلم لا يؤخذ قسرا، وإنما يؤخذ بأسباب ذكرها بعضهم في قوله:
سـأنبيـك عـن تفـصيلها ببيـان
وإرشـاد أستـاذ وطـول زمـان
أخـي لـن تنـال العلـم إلا بستة
ذكـاء وحـرص واجتهـاد وبلغـة
وأعظم من هذه الستة من رزقه الله تعالى الفهم والحفظ، وأتعب نفسه في تحصيله، فالله هو الموفق لمن شاء من عباده، كما قال تعالى: { } ( ). (النساء - 113).
ولقد أحسن العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى من حيث قال:
أمــران في التـركيب متفـقـان
وطبـيـب ذاك العـالم الـربـاني
مـن رابـع والحـق ذو تبيـان
وكـذلـك الأسمـاء للـرحـمن
وجـزاؤه يــوم المعـاد الثـاني
جـاءت عـن المبعـوث بالقـرآن
بسـواهـمـا إلا مـن الهـذيان
والـجهـل داء قـاتـل وشفـاؤه
نــص مـن القـرآن أو مـن سنة
والعـلـم أقسـام ثـلاث مـا لها
عـلم بـأوصـاف الإلـه وفـعـله
والأمـر والنهي الـذي هـو ديـنه
والكـل في القـرآن والسنـن التي
والله مـا قـال امـرؤ متحـذلق
المسائل المستنبطة من هذا الباب
فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية البقرة في الأنداد.
الثانية: أن الصحابة رضي الله عنهم يفسرون الآية النازلة في الشرك الأكبر أنها تعم الأصغر.
الثالثة: أن الحلف بغير الله شرك.
الرابعة: أنه إذا حلف بغير الله صادقا، فهو أكبر من اليمين الغموس.
الخامسة: الفرق بين الواو وثم في اللفظ.
باب ما جاء فيمن لم يقنع بالحلف بالله
عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله قال: { لا تحلفوا بآبائكم، من حلف له بالله فليصدق، ومن حلف له بالله فليرض. ومن لم يرض فليس من الله } ( ) رواه ابن ماجه بسند حسن.
قوله: " باب ما جاء فيمن لم يقنع بالحلف بالله "
عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله قال: { لا تحلفوا بآبائكم، من حلف بالله فليصدق، ومن حلف له بالله فليرض، ومن لم يرض فليس من الله } ( ). رواه ابن ماجه بسند حسن.
قوله: { لا تحلفوا بآباكم } تقدم النهي عن الحلف بغير الله عموما.
قوله: { من حلف له بالله فليصدق } ( ) هذا مما أوجبه الله على عباده وحضهم عليـه في كتابـه ، قـال تعالى: { } ( ) (التوبة - 119)، وقـال: { } ( ) (الأحزاب - 35) وقـال: { } ( ) (محمد 21) وهـو حال أهـل البر، كما قال تعالى: { • } ( ) إلى قـوله : { } ( ) (البقرة - 177).
وقوله: { ومن حلف له فليرض، ومن لم يرض فليس من الله } ( ) أما إذا لم يكن له بحكم الشريعة على خصمه إلا اليمين فأحلفه، فلا ريب أنه يجب عليه الرضا. وأما إذا كان فيما يجري بين الناس مما قد يقع في الاعتذارات من بعضهم لبعض ونحو ذلك، فهذا من حق المسلم على المسلم، أن يقبل منه إذا حلف له معتذرا أو متبرئا من تهمة، ومن حقه عليه أن يحسن به الظن إذا لم يتبين خلافه، كما في الأثر عن عمر ولا تظنن بكلمة خرجت من مسلم شرا وأنت تجد لها في الخير محملا.
وفيه من التواضع والألفة والمحبة، وغير ذلك من المصالح التي يحبها الله ما لا يخفى على من له فهم. وذلك من أسباب اجتماع القلوب على طاعة الله، ثم إنه يدخل في حسن الخلق الذي هو أثقل ما يوضع في ميزان العبد، كما في الحديث وهو من مكارم الأخلاق.
فتأمل أيها الناصح لنفسه ما يصلحك مع الله تعالى من القيام بحقوقه وحقوق عباده، وإدخال السرور على المسلمين، وترك الانقباض عنهم والترفع عليهم، فإن فيه من الضرر ما لا يخطر بالبال ولا يدور بالخيال. وبسط هذه الأمور وذكر ما ورد فيها مذكور في كتب الأدب وغيرها. فمن رزق ذلك والعمل بما ينبغي العمل به منه، وترك ما يجب تركه من ذلك - دل على وفور دينه، وكمال عقله. والله الموفق والمعين لعبده الضعيف المسكين. والله أعلم.
المسائل المستنبطة من هذا الباب
فيه مسائل:
الأولى: النهي عن الحلف بالآباء.
الثانية: الأمر للمحلوف له بالله أن يرضى.
الثالثة: وعيد من لم يرض.
باب قول ما شاء الله وشئت
عن قتيلة: { أن يهوديا أتى النبي فقال: إنكم تشركون، تقولون: ما شاء الله وشئت، وتقولون: والكعبة، فأمرهم النبي إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا: ورب الكعبة، وأن يقولوا: ما شاء الله ثم شئت } ( ) رواه النسائي وصححه.
وله أيضا عن ابن عباس { أن رجلا قال للنبي ما شاء الله وشئت، فقال: أجعلتني لله ندا؟ بل ما شاء الله وحده } ( ).
ولابن ماجه: عن الطفيل - أخي عائشة لأمها - قال: { رأيت كأني أتيت على نفر من اليهود، فقلت: إنكم لأنتم القوم، لولا أنكم تقولون: عزير ابن الله. قالوا: وإنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: ما شاء الله وشاء محمد. ثم مررت بنفر من النصارى فقلت: إنكم لأنتم القوم، لولا أنكم تقولون: المسيح ابن الله، قالوا: وإنكم لأنتم القوم، لولا أنكم تقولون: ما شاء الله وشاء محمد. فلما أصبحت أخبرت بها من أخبرت، ثم أتيت النبي فأخبرته. قال: هل أخبرت بها أحدا؟ قلت: نعم. قال: فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد؛ فإن طفيلا رأى رؤيا، أخبر بها من أخبر منكم، وإنكم قلتم كلمة كان يمنعني كذا وكذا أن أنهاكم عنها. فلا تقولوا: ما شاء الله وشاء محمد، ولكن قولوا: ما شاء الله وحده } ( ).
قوله: باب " قول ما شاء الله وشئت "
عن قتيلة { أن يهوديًّا أتى النبي فقال: إنكم تشركون، تقولون: ما شاء الله وشئت، وتقولون: والكعبة. فأمرهم النبي إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا: ورب الكعبة، وأن يقولوا: ما شاء الله ثم شئت } ( ) رواه النسائي وصححه.
قوله: " عن قتيلة " - بمثناة مصغرة - بنت صيفي الأنصارية، صحابية مهاجرة، لها حديث في سنن النسائي، وهو المذكور في الباب. ورواه عنها عبد الله بن يسار الجعفي.
وفيه: قبول الحق مما جاء به كائنا من كان. وفيه: بيان النهي عن الحلف بالكعبة، مع أنها بيت الله التي حجها وقصدها بالحج والعمرة فريضة. وهذا يبين أن النهي عن الشرك بالله عام لا يصلح منه شيء، لا لملك مقرب، ولا لنبي مرسل، ولا للكعبة التي هي بيت الله في أرضه. وأنت ترى ما وقع من الناس اليوم من الحلف بالكعبة وسؤالها ما لا يقدر عليه إلا الله. ومن المعلوم أن الكعبة لا تضر ولا تنفع، وإنما شرع الله لعباده الطواف بها والعبادة عندها وجعلها للأمة قبلة، فالطواف بها مشروع، والحلف بها ودعاؤها ممنوع. فميز أيها المكلف بين ما يشرع وما يمنع، وإن خالفك من خالفك من جهلة الناس الذين هم كالأنعام، بل هم أضل سبيلا.
قوله: { إنكم تشركون، تقولون: ما شاء الله وشئت } ( )، والعبد وإن كانت له مشيئة فمشيئته تابعة لمشيئة الله، ولا قدرة له على أن يشاء شيئا إلا إذا كان الله قد شاءه، كما قال تعالى: { } ( ) (التكوير - 28، 29) وقوله: { • • } ( ) (الإنسان -29، 30).
وفي هذه الآيات والحديث: الرد على القدرية والمعتزلة نفاة القدر الذين يثبتون للعبد مشيئة تخالف ما أراده الله تعالى من العبد وشاءه، وسيأتي ما يبطل قولهم في: " باب ما جاء في منكري القدر " إن شاء الله تعالى، وأنهم مجوس هذه الأمة.
وأما أهل السنة والجماعة فتمسكوا بالكتاب والسنة في هذا الباب وغيره، واعتقدوا أن مشيئة العبد تابعة لمشيئة الله تعالى في كل شيء مما يوافق ما شرعه الله وما يخالفه، من أفعال العباد وأقوالهم. فالكل بمشيئة الله وإرادته، فما وافق ما شرعه رضيه وأحبه، وما خالفه كرهه من العبد، كما قال تعالى: { } ( ) (الزمر - 7).
وفيه: بيان أن الحلف بالكعبة شرك، فإن النبي أقر اليهودي على قوله: " إنكم تشركون ".
قوله: " وله أيضا عن ابن عباس رضي الله عنهما، { أن رجلا قال للنبي ما شاء الله وشئت، قال: أجعلتني لله ندا؟ بل ما شاء الله وحده } ( ) ". هذا يقرر ما تقدم من أن هذا شرك؛ لوجود التسوية في العطف بالواو.
وقوله: { أجعلتني لله ندا؟ } فيه بيان أن من سوى العبد بالله ولو في الشرك الأصغر فقد جعله ندا لله، شاء أم أبى، خلافا لما يقوله الجاهلون مما يختص بالله تعالى من عباده، وما يجب النهي عنه من الشرك بنوعيه. " ومن يرد الله به خيرا يفقهه في الدين ".
قوله: " ولابن ماجه عن الطفيل أخي عائشة لأمها قال: { رأيت فيما يرى النائم كأني أتيت على نفر من اليهود، فقلت: من أنتم؟ قالوا: نحن اليهود، قلت: إنكم لأنتم القوم، لولا أنكم تقولون عزير ابن الله. قالوا: وإنكم لأنتم القوم، لولا أنكم تقولون: ما شاء الله وشاء محمد. ثم مررت بنفر من النصارى، فقلت: من أنتم؟ قالوا نحن النصارى. قلت: إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: المسيح ابن الله، قالوا: وإنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: ما شاء الله وشاء محمد، فلما أصبحت أخبرت بها من أخبرت، ثم أتيت النبي فأخبرته، فقال: هل أخبرت بها أحدا؟ قلت: نعم. قال: فحمد الله وأثنى عليه. ثم قال: أما بعد، فإن طفيلا رأى رؤيا أخبر بها من أخبر منكم، وإنكم قلتم كلمة كان يمنعني كذا وكذا أن أنهاكم عنها، فلا تقولوا: ما شاء الله وشاء محمد، ولكن قولوا: ما شاء الله وحده } ( ).
قوله: " عن الطفيل أخي عائشة لأمها " هو الطفيل بن عبد الله بن سخبرة، أخو عائشة لأمها، صحابي له حديث عند ابن ماجه، وهو ما ذكره المصنف في الباب.
وهذه الرؤيا حق أقرها رسول الله وعمل بمقتضاها. فنهاهم أن يقولوا: ما شاء الله وشاء محمد، وأمرهم أن يقولوا: ما شاء الله وحده.
وهذا الحديث والذي قبله فيه أن يقولوا: " ما شاء الله وحده ". ولا ريب أن هذا أكمل في الإخلاص، وأبعد عن الشرك من أن يقولوا: " ثم شاء فلان "؛ لأن فيه التصريح بالتوحيد المنافي للتنديد في كل وجه. فالبصير يختار لنفسه أعلى مراتب الكمال في مقام التوحيد والإخلاص.
قوله: { كان يمنعني كذا وكذا أن أنهاكم عنها } ( ) ورد في بعض الطرق { أنه كان يمنعه الحياء منهم } ( )، وبعد هذا الحديث الذي حدثه به الطفيل عن رؤياه خطبهم فنهى عن ذلك نهيا بليغا، فما زال يبلغهم حتى أكمل الله له الدين، وأتم له به النعمة، وبلغ البلاغ المبين، صلوات الله وسلامهم عليه وعلى آله وصبحه أجمعين.
وفيه معنى قوله { الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة } ( ).
قلت: وإن كانت رؤيا منام فهي وحي يثبت بها ما يثبت بالوحي أمرا ونهيا ( ). والله أعلم.
المسائل المستنبطة من هذا الباب
فيه مسائل:
الأولى: معرفة اليهود بالشرك الأصغر.
الثانية: فهم الإنسان إذا كان له هوى.
الثالثة: قوله { أجعلتني لله ندا؟ } فكيف بمن قال:
ما لي من ألوذ به سواك
والبيتين بعده.
الرابعة: أن هذا ليس من الشرك الأكبر، لقوله: { يمنعني كذا وكذا }.
الخامسة: أن الرؤيا الصالحة من أقسام الوحي.
السادسة: أنها قد تكون سببا لشرع بعض الأحكام.
باب من سب الدهر فقد آذى الله
وقول الله تعالى: { } ( ) (الجاثية - 24).
في الصحيح عن أبي هريرة، عن النبي قال: { قال الله تعالى: يؤذيني ابن آدم، يسب الدهر، وأنا الدهر، أقلب الليل والنهار } ( ).
وفي رواية: { لا تسبوا الدهر، فإن الله هو الدهر } ( ).
قوله: " باب من سب الدهر فقد آذى الله "
وقول الله تعالى: { } ( ) الآية (الجاثية - 24).
قال العماد ابن كثير في تفسيره: " يخبر تعالى عن دهرية الكفار ومن وافقهم من مشركي العرب في إنكار المعاد: { } ( ): ما ثم إلا هذه الدار، يموت قوم ويعيش آخرون، وما ثم معاد ولا قيامة. وهذا يقوله مشركو العرب المنكرون للمعاد، ويقوله الفلاسفة الإلهيون منهم، وهم ينكرون البدأة والرجعة، وتقوله الفلاسفة الدهرية الدورية المنكرون للصانع، المعتقدون أن في كل ستة وثلاثين ألف سنة يعود كل شئ إلى ما كان عليه. وزعموا أن هذا قد تكرر مرات لا تتناهى، فكابروا المعقول وكذبوا المنقول؛ ولهذا قالوا: { } ( ). قال الله تعالى: { } ( )، أي يتوهمون ويتخيلون ". فأما الحديث الذي أخرجه صاحبا الصحيح، وأبو داود، والنسائي من رواية سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله { يقول الله تعالى: يؤذيني ابن آدم، يسب الدهر وأنا الدهر، بيدي الأمر، أقلب الليل والنهار } ( ). وفي رواية: { لا تسبوا الدهر، فإني أنا الدهر } ( ) وفي رواية: { لا يقل ابن آدم: يا خيبة الدهر، فإني أنا الدهر، أرسل الليل والنهار، فإذا شئت قبضتهما } ( ) ا هـ.
قال في شرح السنة: حديث متفق على صحته أخرجاه من طريق معمر من أوجه عن أبي هريرة قال: ومعناه أن العرب كان من شأنها ذم الدهر أي سبه عند النوازل؛ لأنهم كانوا ينسبون إليه ما يصيبهم من المصائب والمكاره، فيقولون: أصابتهم قوارع الدهر، وأبادهم الدهر، فإذا أضافوا إلى الدهر ما نالهم من الشدائد - سبوا فاعلها، فكان مرجع سبها إلى الله عز وجل؛ إذ هو الفاعل في الحقيقة للأمور التي يصنعونها، فنهوا عن سب الدهر. ا هـ باختصار.
وقد أورده ابن جرير بسياق غريب جدا بهذا الطريق، قال: كان أهل الجاهلية يقولون: إنما يهلكنا الليل والنهار، وهو الذي يهلكنا ويميتنا ويحيينا، فقال الله في كتابه: { } ( ). ويسبون الدهر. { فقال الله يؤذيني ابن آدم، يسب الدهر وأنا الدهر، بيدي الأمر، أقلب الليل والنهار } ( ).
وكذا رواه ابن أبي حاتم، عن أحمد بن منصور، عن سريج بن النعمان، عن ابن عيينة، مثله. ثم روى عن يونس، عن ابن وهب، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة: سمعت رسول الله يقول: { يقول الله تعالى: يسب ابن آدم الدهر وأنا الدهر، بيدي الليل والنهار } ( ). وأخرجه صاحب الصحيح، والنسائي من حديث يونس بن يزيد، به.
وقال محمد بن إسحاق، عن العلاء بن عبدالرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة، أن رسول الله قال: { يقول الله استقرضت عبدي فلم يعطني، ويسبني عبدي، يقول: وادهراه، وأنا الدهر } ( ).
قال الشافعي، وأبو عبيد، وغيرهما من الأئمة في تفسير قوله: { لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر } ( ) كانت العرب في جاهليتها إذا أصابهم شدة أو بلاء أو نكبة قالوا: يا خيبة الدهر، فيسندون تلك الأفعال إلى الدهر ويسبونه، وإنما فاعلها هو الله تعالى. فكأنما إنما سبوا الله سبحانه لأنه فاعل ذلك في الحقيقة؛ فلهذا نهى عن سب الدهر بهذا الاعتبار؛ لأن الله هو الدهر الذي يعنونه ويسندون إليه تلك الأفعال. هذا أحسن ما قيل في تفسيره، وهو المراد، والله أعلم.
وقد غلط ابن حزم ومن نحا نحوه من الظاهرة في عدهم " الدهر " من الأسماء الحسنى أخذا من هذا الحديث. ا هـ.
وقد بين معناه في الحديث بقوله: { أقلب الليل والنهار } ( )، وتقليبه تصرفه تعالى فيه بما يحبه الناس ويكرهونه.
وفي هذا الحديث زيادة لم يذكرها المصنف رحمه الله تعالى، وهي قوله: { بيدي الأمر } ( ).
قوله: " وفي رواية: { لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر } ( ).
معنى هذه الرواية هو ما صرح به في الحديث من قوله: { وأنا الدهر، أقلب الليل والنهار } ( ). يعني ما يجري فيه من خير وشر بإرادة الله وتدبيره، بعلم منه تعالى وحكمة، لا يشاركه في ذلك غيره، ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، فالواجب عند ذلك حمده في الحالتين، وحسن الظن به سبحانه وبحمده، والرجوع إليه بالتوبة والإنابة. كما قال الله تعالى: { } ( ) (الأعراف - 168) وقال تعالى: { } ( ) (الأنبياء - 35) ونسبة الفعل إلى الدهر ومسبته كثيرة، كما في أشعار المولدين، كابن المعتز والمتنبي وغيرهما. وليس منه وصف السنين بالشدة ونحو ذلك، كقوله تعالى: { } ( ) الآية (يوسف - 48). وقال بعض الشعراء:
تطـوى وتنـشر بينهـا الأعمـار
وطـوالـهن مـع السـرور قصـار
إن اللـيالي مـن الـزمـان مهـولة
فـقصـارهن مـع الهـمـوم طويلة
وقال أبو تمام:
ذكـر النـوى فكـأنـها أيـام
نحـوى أسـى فكـأنـها أعـوام
فـكـأنـها وكـأنـهـم أحـلام
أعـوام وصـل كـاد ينـسى طيبها
ثم انـبرت أيـام هـجر أعقبت
ثم انقضـت تلك السنون وأهلها
المسائل المستنبطة من هذا الباب
فيه مسائل:
الأولى: النهي عن سب الدهر.
الثانية: تسميته أذى لله.
الثالثة: التأمل في قوله: { فإن الله هو الدهر } ( ).
الرابعة: أنه قد يكون سابا ولو لم يقصده بقلبه.
باب التسمي بقاضي القضاة ونحوه
في الصحيح عن أبي هريرة عن النبي قال: { إن أخنع اسم عند الله رجل تسمى ملك الأملاك، لا مالك إلا الله } ( ).
قال سفيان: " مثل شاهان شاه ".
وفي رواية: { أغيظ رجل على الله يوم القيامة وأخبثه } ( ).
قوله: " أخنع " يعني: أوضع.
قوله: " باب التسمي بقاضي القضاة ونحوه "
ذكر المصنف رحمه الله هذه الترجمة إشارة إلى النهي عن التسمي بقاضي القضاة قياسا على ما في حديث الباب؛ لكونه شبهه في المعنى، فينهى عنه.
قوله: " في الصحيح عن أبي هريرة عن النبي قال: { إن أخنع اسم عند الله رجل تسمى ملك الأملاك، لا مالك إلا الله } ( ).
لأن هذا اللفظ إنما يصدق على الله تعالى؛ فهو ملك الأملاك، لا ملك أعظم ولا أكبر منه، مالك الملك ذو الجلال والإكرام. وكل ملك يؤتيه الله من يشاء من عباده فهو عارية يسرع ردها إلى المعير. وهو الله تعالى، ينزع الملك من ملكه تارة، وينزع الملك منه تارة، فيصير لا حقيقة له سوى اسم زال مسماه، وأما رب العالمين فملكه دائم كامل لا انتهاء له، بيده القسط يخفضه ويرفعه، ويحفظ على عباده أعمالهم بعلمه سبحانه وتعالى، وما تكتبه الحفظة عليهم، فيجازى كل عامل بعمله، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر. كما ورد في الحديث: { اللهم لك الحمد كله، ولك الملك كله، وبيدك الخير كله، وإليك يرجع الأمر كله، أسألك من الخير كله، وأعوذ بك من الشر كله } ( ).
قوله: " قال سفيان " يعني ابن عيينة " مثل شاهنشاه " عند العجم، عبارة عن ملك الأملاك؛ ولهذا مثل به سفيان؛ لأنه عبارة عنه بلغة العجم.
قوله: " وفي رواية: { أغيظ رجل على الله وأخبثه } ( ).
قوله: " أغيظ " من الغيظ، وهو مثل الغضب والبغض، فيكون بغيضا إلى الله مغضوبا عليه. والله أعلم.
قوله: " وأخبثه " وهو يدل أيضا على أن هذا خبيث عند الله، فاجتمعت في حقه هذه الأمور لتعاظمه في نفسه وتعظيم الناس له بهذه الكلمة التي هي من أعظم التعظيم، فتعظمه في نفسه، وتعظيم الناس له بما ليس له بأهل، وضعه عند الله يوم القيامة، فصار أخبث الخلق وأبغضهم إلى الله وأحقرهم؛ لأن الخبيث البغيض عند الله يكون يوم القيامة أحقر الخلق وأخبثهم، لتعاظمه في نفسه على خلق الله بنعم الله.
قوله: " أخنع: يعني أوضع " هذا هو معنى " أخنع " فيفيد ما ذكرنا في معنى " أغيظ " أنه يكون حقيرا بغيضا عند الله.
وفيه التحذير من كل ما فيه تعاظم، كما أخرج أبو داود عن أبي مجلز قال: خرج معاوية على ابن الزبير وابن عامر، فقام ابن عامر وجلس ابن الزبير، فقال معاوية لابن عامر: اجلس، فإني سمعت رسول الله يقول: { من أحب أن يتمثل له الرجال قياما فليتبوأ مقعده من النار } ( ) وأخرجه الترمذي أيضا، وقال حسن.
وعن أبي أمامة قال: { خرج علينا رسول الله متكئا على عصا، فقمنا إليه. فقال: لا تقوموا كما تقوم الأعاجم، يعظم بعضهم بعضا } ( ) رواه أبو داود.
قوله: " أغيظ رجل " هذا من الصفات التي تمر كما جاءت، وليس شيء مما ورد في الكتاب والسنة إلا ويجب اتباع الكتاب والسنة في ذلك وإثباته على وجه يليق بجلال الله وعظمته تعالى، إثباتا بلا تمثيل وتنزيها بلا تعطيل كما تقدم. والباب كله واحد، وهذا هو قول أهل السنة والجماعة من الصحابة والتابعين فمن بعدهم من الفرق الناجية من الثلاث والسبعين فرقة. وهذا التفرق والاختلاف إنما حدث في أواخر القرن الثالث وما بعده كما لا يخفى على من له معرفة بما وقع في الأمة من التفرق والاختلاف والخروج عن الصراط المستقيم، والله المستعان.
المسائل المستنبطة من هذا الباب
فيه مسائل:
الأولى: النهي عن التسمي بملك الأملاك.
الثانية: أن ما في معناه مثله، كما قال سفيان.
الثالثة: التفطن للتغليظ في هذا ونحوه، مع القطع بأن القلب لم يقصد معناه.
الرابعة: التفطن أن هذا لأجل الله سبحانه.
باب احترام أسماء الله تعالى وتغيير الاسم لأجل ذلك
عن أبي شريح: { أنه كان يكنى أبا الحكم، فقال له النبي إن الله هو الحكم، وإليه الحكم، فقال: إن قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني فحكمت بينهم، فرضي كلا الفريقين، فقال: ما أحسن هذا، فما لك من الولد؟ قلت: شريح، ومسلم، وعبد الله. قال: فمن أكبرهم؟ قلت: شريح، قال: فأنت أبو شريح } ( ) رواه أبو داود وغيره.
قوله: " باب احترام أسماء الله تعالى وتغيير الاسم لأجل ذلك "
عن أبي شريح { أنه كان يكنى أبا الحكم. فقال له النبي إن الله هو الحكم، وإليه الحكم، فقال: إن قومي إذا اختلفوا في شئ أتوني فحكمت بينهم فرضى كلا الفريقين. فقال: ما أحسن هذا، فما لك من الولد؟ قلت: شريح ومسلم وعبد الله. قال: فمن أكبرهم؟ قلت: شريح. قال: فأنت أبو شريح } ( ). رواه أبو داود وغيره.
قوله: " عن أبي شريح " قال في خلاصة التذهيب: هو أبو شريح الخزاعي، اسمه خويلد بن عمرو، أسلم يوم الفتح، له عشرون حديثا، اتفقا على حديثين وانفرد البخاري بحديث، وروى عنه أبو سعيد المقبري، ونافع بن جيير، وطائفة. قال ابن سعد: مات بالمدينة سنة ثمان وستين. وقال الشارح: اسمه هانئ بن يزيد الكندي، قاله الحافظ. وقيل: الحارث الضبابي. قاله المزي.
قوله: " يكنى " الكنية ما صدر بأب أو أم ونحو ذلك، واللقب ما ليس كذلك كزين العابدين ونحوه.
وقول النبي { إن الله هو الحكم وإليه الحكم } ( ). فهو سبحانه الحكم في الدنيا والآخرة، يحكم بين خلقه في الدنيا بوحيه الذي أنزل على أنبيائه ورسله، وما من قضية إلا ولله فيها حكم بما أنزل على نبيه من الكتاب والحكمة، وقد يسر الله معرفة ذلك لأكثر العلماء من هذه الأمة، فإنها لا تجتمع على ضلالة، فإن العلماء وإن اختلفوا في بعض الأحكام فلا بد أن يكون المصيب فيهم واحدا، فمن رزقه الله تعالى قوة الفهم وأعطاه ملكة يقتدر بها على فهم الصواب من أقوال العلماء - يسر له ذلك بفضله ومنه عليه وإحسانه إليه، فما أجلها من عطية، فنسأل الله من فضله.
قوله: { وإليه الحكم في الدنيا والآخرة } ( ) كما قال تعالى: { } ( ) (الشورى - 10)، وقال: { } ( ) (النساء - 59) فالحكم إلي الله هو الحكم إلى كتابه، والحكم إلى رسوله هو الحكم إليه في حياته، وإلى سنته بعد وفاته.
{ وقد قال لمعاذ لما بعثه إلى اليمن: بم تحكم؟ قال: بكتاب الله، قال: فإن لم تجد؟ قال: بسنة رسول الله . قال فإن لم تجد؟ قال: أجتهد رأيي. فقال: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله إلى ما يرضى رسول الله } ( ) فمعاذ من أجل علماء الصحابة بالأحكام ومعرفة الحلال من الحرام، ومعرفة أحكام الكتاب والسنة؛ ولهذا ساغ له الاجتهاد إذا لم يجد للقضية حكما في كتاب الله، ولا في سنة رسوله بخلاف ما يقع اليوم وقبله من أهل التفريط في الأحكام ممن يجهل حكم الله في كتابه وسنة رسوله، فيظن أن الاجتهاد يسوغ له مع الجهل بأحكام الكتاب والسنة، وهيهات.
وأما يوم القيامة فلا يحكم بين الخلق إلا الله إذا نزل لفصل القضاء بين العباد، فيحكم بين خلقه بعلمه. وهو الذي لا يخفى عليه خافية من أعمال خلقه: { • • } ( ) (النساء - 40) والحكم يوم القيامة إنما هو بالحسنات والسيئات، فيؤخذ للمظلوم من الظالم من حسناته بقدر ظلامته إن كان له حسنات، وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات المظلوم، فطرح على سيئات الظالم، لا يزيد على هذا مثقال ذرة، ولا ينقص هذا عن حقه بمثقال ذرة.
قوله: { فإن قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني، فحكمت بينهم فرضى كلا الفريقين، فقال: ما أحسن هذا } ( ). فالمعنى - والله أعلم - أن أبا شريح لما عرف منه قومه أنه صاحب إنصاف وتحر للعدل، بينهم ومعرفة ما يرضيهم من الجانبين صار عندهم مرضيا، وهذا هو الصلح؛ لأن مداره على الرضى، لا على الإلزام، ولا على الكهان وأهل الكتاب من اليهود والنصارى، ولا على الاستناد إلى أوضاع أهل الجاهلية من أحكام كبرائهم وأسلافهم التي تخالف حكم الكتاب والسنة، كما قد يقع اليوم كثيرا، كحال الطواغيت الذين لا يلتفتون إلى حكم الله ولا إلى حكم رسوله، وإنما المعتمد عندهم ما حكموا به بأهوائهم وآرائهم.
وقد يلتحق بهذا بعض المقلدة لمن لم يسغ تقليده، فيعتمد على قول من قلده ويترك ما هو الصواب الموافق لأصول الكتاب والسنة. والله المستعان.
وقول رسول الله فما لك من الولد؟ قال شريح ومسلم وعبد الله. قال: فمن أكبرهم؟ قلت: شريح. قال: فأنت أبو شريح. فيه تقديم الأكبر في الكنية وغيرها غالبا. وجاء هذا المعنى في غير ما حديث، والله أعلم.
المسائل المستنبطة من هذا الباب
فيه مسائل:
الأولى: احترام أسماء الله وصفاته.
الثانية: تغيير الاسم لأجل ذلك، ولو لم يقصد معناه.
الثالثة: اختيار أكبر الأبناء للكنية.
باب من هزل بشيء فيه ذكر الله أو القرآن أو الرسول
وقول الله تعالي: { • } ( ) (التوبة - 65).
عن ابن عمر، ومحمد بن كعب، وزيد بن أسلم، وقتادة - دخل حديث بعضهم في بعض - أنه { قال رجل في غزوة تبوك: " ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطونا، ولا أكذب ألسنا، ولا أجبن عند اللقاء ـ يعني رسول الله وأصحابه القراء ـ فقال له عوف بن مالك: كذبت، ولكنك منافق، لأخبرن رسول الله . فذهب عوف إلى رسول الله ليخبره، فوجد القرآن قد سبقه. فجاء ذلك الرجل إلى رسول الله وقد ارتحل وركب ناقته، فقال: يا رسول الله إنما كنا نخوض ونتحدث حديث الركب، نقطع به عنا الطريق. قال ابن عمر: كأني أنظر إليه متعلقا بنسـعة ناقة رســول الله وإن الحجارة تنكب رجليه وهو يقول: إنما كنا نخوض ونلعب، فيقول رسول الله { } ( ) ...} (التوبة - 65 - 66) ما يلتفت إليه وما يزيده عليه }.
قوله: (باب: من هزل بشيء فيه ذكر الله أو القرآن أو الرسول)
أي: فقد كفر.
قوله: " وقول الله تعالى: { • } ( ) (التوبة -65).
قال العماد ابن كثير - رحمه الله - في تفسيره: قال أبو معشر المدني عن محمد بن كعب القرظي وغيره: " قالوا: { قال رجل من المنافقين: ما أرى مثل قرائنا هؤلاء، أرغبنا بطونًا، وأكذبنا ألسنًا، وأجبننا عند اللقاء، فرفع ذلك إلى رسول الله وقد ارتحل وركب ناقته، فقال: يا رسول الله ! إنما كنا نخوض ونلعب، ونتحدث حديث الركب نقطع به عنا الطريق، فقال: { } ( ) (التوبة - 65، 66) وإن رجليه ليسفعان الحجارة، وما يلتفت إليه رسول الله وهو متعلق بنسعة ناقة رسول الله }. وقال عبد الله بن وهب: أخبرني هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن عبد الله بن عمر قال: { قال رجل في غزوة تبوك في مجلس: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطونًا، ولا أكذب ألسنًا، ولا أجبن عند اللقاء، فقال رجل في المجلس: كذبت، ولكنك منافق، لأخبرن رسول الله فبلغ ذلك رسول الله ونزل القرآن. قال عبد الله بن عمر: وأنا رأيته متعلقًا بحقب ناقة رسول الله تنكبه الحجارة، وهو يقول: يا رسول الله ! إنما كنا نخوض ونلعب، ورسول الله يقول: { } ( ) }. وقد رواه الليث عن هشام بن سعد بنحو هذا.
وقال ابن إسحاق: { وقد كان جماعة من المنافقين منهم وديعة بن ثابت أخو بني أمية بن زيد بن عمرو بن عوف، ورجل من أشجع حليف لبني سلمة يقال له: مخشي بن حمير، يشيرون إلى رسول الله وهو منطلق إلى تبوك، فقال بعضهم لبعض: أتحسبون جلاد بني الأصفر كقتال العرب بعضهم بعضًا؟ والله لكأنا بكم غدًا مقرنين في الحبال، إرجافًا وترهيبًا للمؤمنين. فقال مخشي بن حمير: والله لوددت أني أقاضي على أن يُضرب كل رجل منا مائة جلدة، وأنا نتفلت أن ينزل فينا قرآن لمقالتكم هذه، وقال رسول الله فيما بلغني - لعمار بن ياسر: أدرك القوم فإنهم قد احترقوا، فسلهم عما قالوا، فإن أنكروا فقل: بلى قلتم كذا وكذا وكذا، فانطلق إليهم عمار، فقال ذلك لهم، فأتوا رسول الله يعتذورن إليه، فقال وديعة بن ثابت - ورسول الله واقف على راحلته - فجعل يقول وهو آخذ بحقبها: يا رسول الله، إنما كنا نخوض ونلعب، فقال مخشي بن حمير: يا رسول الله قعد بي اسمي واسم أبي، فكأن الذي عناه أي: بقوله تعالى: { } ( ) في هذه الآية: مخشي بن حمير فسمي: عبد الرحمن، وسأل الله أن يقتل شهيدًا لا يعلم بمكانه، فقتل يوم اليمامة فلم يوجد له أثر ".
وقال عكرمة في تفسير هذه الآية: " كان رجل ممن إن شاء الله عفا عنه يقول: اللهم إني أسمع آية وأنا أعني بها تقشعر منها الجلود، وتجل منها القلوب. اللهم فاجعل وفاتي قتلا في سبيلك، لا يقول أحد أنا غسلت، أنا كفنت، أنا دفنت. قال: فأصيب يوم اليمامة، فما أحد من المسلمين إلا وقد وجد غيره ".
وقوله:... { } ( ).... أي: بهذه المقالة التي استهـزأتم بهـا { } ( ) أي مخشي بـن حمير { } ( ) أي: لا يعفى عن جميعكم ولا بد من عذاب بعضكم { • } ( ) أي: بهذه المقالة الفاجرة الخاطئة. انتهى.
قال شيخ الإسلام: وقد أمره الله تعالى أن يقول لهم: { } ( ) وقول من يقول: إنهم كفروا بعد إيمانهم بلسانهم مع كفرهم أولا بقلوبهم، لا يصح؛ لأن الإيمان باللسان مع كفر القلب قد قارنه الكفر، فلا يقال: قد كفرتم بعد إيمانكم، فإنهم لم يزالوا كافرين في نفس الأمر، وإن أريد أنكم أظهرتم الكفر بعد إظهاركم الإيمان، فهم لم يظهروا للناس إلا لخواصهم، وهم من خواصهم ما زالوا كذلك. ولا يدل اللفظ على أنهم ما زالوا منافقين.
وقال رحمه الله في موضع آخر: فقد أخبر أنهم كفروا بعد إيمانهم مع قولهم: إنما تكلمنا بالكفر من غير اعتقاد له، بل إنما كنا نخوض ونلعب. وبين أن الاستهزاء بآيات الله كفر، ولا يكون هذا إلا ممن شرح صدرًا بهذا الكلام، ولو كان الإيمان في قلبه لمنعه أن يتكلم بهذا الكلام، والقرآن يبين أن إيمان القـلب يستلزم العـمل الظاهر بحسبه. كقوله تعالى: { • } ( ) إلى قوله: { } ( ) (النور: 47-51) فنفى الإيمان عمن تولى عن طاعة الرسول، وأخبر أن المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم سمعوا وأطاعوا، فبين أن هذا من لوازم الإيمان، انتهى.
وفيه: بيان أن الإنسان قد يكفر بكلمة يتكلم بها أو عمل يعمل به وأشدها خطرًا إرادات القلوب، فهي كالبحر الذي لا ساحل له. ويفيد الخوف من النفاق الأكبر، فإن الله تعالى أثبت لهؤلاء إيمانًا قبل أن يقولوا ما قالوه، كما قال ابن أبي مليكة: " أدركت ثلاثين من أصحاب رسول الله كلهم يخاف النفاق على نفسه ". نسأل الله السلامة والعفو والعافية في الدنيا والآخرة.
المسائل المستنبطة من هذا الباب
فيه مسائل:
الأولى: وهي العظيمة أن من هزل بهذا فهو كافر.
الثانية: أن هذا هو تفسير الآية فيمن فعل ذلك كائنا من كان.
الثالثة: الفرق بين النميمة والنصيحة لله ورسوله.
الرابعة: الفرق بين العفو الذي يحبه الله وبين الغلظة على أعداء الله.
الخامسة: أن من الاعتذار ما لا ينبغي أن يقبل.
باب قول الله تعالى ولئن أذقناه رحمة منا من بعد ضراء مسته ليقولن هذا لي...
قول الله تعالى: { • • • • } ( ) (فصلت - 50).
قال مجاهد: " هذا بعملي وأنا محقوق به ".
وقال ابن عباس: " يريد من عندي ".
وقوله: { } ( )... (القصص - 78) قال قتادة: " على علم مني بوجوه المكاسب ".
وقال آخرون: " على علم من الله أني له أهل " وهذا معنى قول مجاهد: " أوتيته على شرف ".
وعن أبي هريرة أنه سمع رسول الله يقول: { إن ثلاثة من بني إسرائيل: أبرص، وأقرع، وأعمى. فأراد الله أن يبتليهم، فبعث إليهم ملكا، فأتى الأبرص، فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: لون حسن، وجلد حسن، ويذهب عني الذي قد قذرني الناس به قال: فمسحه، فذهب عنه قذره، فأعطي لونا حسنا وجلدا حسنا، قال: فأي المال أحب إليك؟ قال: الإبـل أو البقر ـ شك إسحاق ـ فأعطي ناقة عشراء، وقال: بارك الله لك فيها. قال: فأتى الأقرع، فقال أي شيء أحب إليك؟ قال: شعر حسن، ويذهب عني الذي قد قذرني الناس به فمسحه، فذهب عنه، وأعطي شعرا حسنا، فقال: أي المال أحب إليك؟ قال: البقر، أو الإبل، فأعطي بقرة حاملا، قال: بارك الله لك فيها. فأتى الأعمى، فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: أن يرد الله إلي بصري؛ فأبصر به الناس، فمسحه، فرد الله إليه بصره، قال: فأي المال أحب إليك؟ قال: الغنم، فأعطي شاة والدا؛ فأنتج هذان وولد هذا، فكان لهذا واد من الإبل، ولهذا واد من البقر، ولهذا واد من الغنم، قال: ثم إنه أتى الأبرص في صورته وهيئته. فقال: رجل مسكين، قد انقطعت بي الحبال في سفري، فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك، أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن، والجلد الحسن، والمال، بعيرا أتبلغ به في سفري، فقال: الحقوق كثيرة. فقال: كأني أعرفك، ألم تكن أبرص يقذرك الناس، فقيرا، فأعطاك الله المال؟ فقال: إنما ورثت هذا المال كابرا عن كابر، فقال: إن كنت كاذبا فصيرك الله إلى ما كنت، وأتى الأقرع في صورته، فقال له مثل ما قال لهذا، ورد عليه مثل ما رد عليه هذا، فقال: إن كنت كاذبا فصيرك الله إلى ما كنت. قال: وأتى الأعمى في صورته، فقال: رجل مسكين وابن سبيل، قد انقطعت بي الحبال في سفري، فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك. أسألك بالذي رد عليك بصرك شاة أتبلغ بها في سفري، فقال: قد كنت أعمى فرد الله إلي بصري، فخذ ما شئت ودع ما شئت، فوالله لا أجهدك اليوم بشيء أخذته لله، فقال: أمسك مالك، فإنما ابتليتم فقد رضي الله عنك، وسخط على صاحبيك } ( ) أخرجاه.
قوله: " باب: قول الله تعالى:
{ • } ( ) الآية " (فصلت - 50):
ذكر المصنف رحمه الله تعالى عن ابن عباس وغيره من المفسرين في معنى هذه الآية وما بعدها ما يكفي في المعنى ويشفي.
قوله: " قال مجاهد: هذا بعملي وأنا محقوق به ". وقال ابن عباس: يريد من عندي. وقوله: { } ( ) (القصص - 78)، قال قتادة: " على علم مني بوجوه المكاسب " ، وقال آخرون: " على علم من الله أني له أهل "، وهذا معنى قول مجاهد: " أوتيته على شرف ". وليس فيما ذكروه اختلاف وإنما هي أفراد المعنى.
قال العماد ابن كثير رحمه الله في معنى قوله تعالى: { • } ( )....... (الزمر - 49) يخبر أن الإنسان في حال الضـر يضرع إلى الله تعالى وينيب إليه ويدعوه، ثم إذا خوله نعـمة منه طغى وبغى و { } ( ) أي: لما يعلم الله من استحقاقي له، ولولا أني عند الله حظيظ لما خولني هذا. قال تعالى: { } ( ) أي: ليس الأمر كما زعم بل إنما أنعمنا عليه بهذه النعمة لنختبره فيما أنعمنا عليه أيطيع أم يعصى؟ مع علمنا المتقدم بذلك { } ( ) أي: اختبار... { } ( ) (الزمر- 49) فلهـذا يقـولون ما يقولون، ويدعون ما يدعون: { } ( ) (الزمر- 50) أي: قد قال هذه المقالة وزعم هذا الزعم، وادعى هذه الدعوى كثير ممن سلف من الأممم { • } ( ) أي: فما صح قولهم، ولا نفعهم جمعهم ومـا كانوا يكسبـون، كما قال تعالى مخبرًا عن قارون: { • • } ( ) وَلَا يُسَأْلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الَمُجْرِمُونَ " (القصص: 76 - 78) وقال تعالى: { } ( ) (سبأ - 35) ا هـ.
قوله: " وعن أبي هريرة أنه سمع رسول الله يقول: إن ثلاثة... الحديث):
" أخرجاه " أي: البخاري ومسلم، والناقة العشراء - بضم العين وفتح الشين وبالمد - هي الحامل.
قوله: (أنتج)، وفي رواية (فنتج) معناه: تولى نتاجها، والناتج للناقة كالقابلة للمرأة.
قوله: (ولد هذا) هو بتشديد اللام، أي: تولى ولادتها، وهو بمعنى (أنتج) في الناقة. فالمولد والناتج والقابلة بمعنى واحد، لكن هذا للحيوان، وذلك لغيره.
وقوله: (انقطعت بي الحبال) هو بالحاء المهملة والباء الموحدة: هي الأسباب.
قوله: (لا أجهدك) معناه: لا أشق عليك في رد شيء تأخذ، أو تطلبه من مالي، ذكره النووي.
وهذا حديث عظيم، وفيه معتبر: فإن الأولين جحدا نعمة الله، فما أقرا لله بنعمة، ولا نسبا النعمة إلى المنعم بها، ولا أديا حق الله فيها، فحل عليهما السخط. وأما الأعمى فاعترف بنعمة الله، ونسبها إلى من أنعم عليه بها، وأدى حق الله فيها، فاستحق الرضا من الله بقيامه بشكر النعمة لما أتى بأركان الشكر الثلاثة التي لا يقوم الشكر إلا بها، وهي الإقرار بالنعمة ونسبتها إلى المنعم، وبذلها فيما يحب.
قال العلامة ابن القيم رحمه الله: أصل الشكر هو الاعتراف بإنعام المنعم على وجه الخضوع له والذل والمحبة. فمن لم يعرف النعمة بل كان جاهلا بها لم يشكرها، ومن عرفها ولم يعرف بها لم يشكرها أيضا، ومن عرف النعمة والمنعم لكن جحدها كما يحجد المنكر لنعمة المنعم عليه بها فقد كفرها، ومن عرف النعمة والمنعم بها، وأقر بها ولم يجحدها، ولكن لم يخضع له ولم يحبه ويرض به وعنه، لم يشكره أيضًا، ومن عرفها وعرف المنعم بها وأقر بها، وخضع للمنعم بها، وأحبه ورضي به وعنه، واستعملها في محابّه وطاعته، فهذا هو الشاكر لها، فلا بد في الشكر من علم القلب، وعمل يتبع العلم، وهو الميل إلى المنعم ومحبته والخضوع له.
قوله: " قذرني الناس " بكراهة رؤيته وقربه منهم.
المسائل المستنبطة من هذا الباب
فيه مسائل:
الأولى: تفسير الآية.
الثانية: ما معنى:... { } ( )... (فصلت - 50).
الثالثة: ما معنى قوله: { } ( ) (القصص - 78).
الرابعة: ما في هذه القصة العجيبة من العبر العظيمة.
باب قول الله تعالى فلما آتاهما صالحا جعلا له شركاء فيما آتاهما فتعالى الله عما يشركون
قول الله تعالى: { } ( ) (الأعراف -190).
قال ابن حزم: اتفقوا على تحريم كل اسم معبد لغير الله؛ كعبد عمر، وعبد الكعبة، وما أشبه ذلك، حاشا عبد المطلب.
وعن ابن عباس في الآية " قال: لما تغشـاها آدم حمـلت، فأتاهما إبليس فقال: إني صاحبكما الذي أخرجتكما من الجنة لتطيعنني أو لأجعلن له قرني أيل، فيخرج من بطنك فيشقه، ولأفعلن ولأفعلن ـ يخوفهما ـ سمياه عبد الحارث، فأبيا أن يطيعاه، فخرج ميتا، ثم حملت، فأتاهما، فقال مثل قوله، فأبيا أن يطيعاه، فخرج ميتا، ثم حملت، فأتاهما، فذكر لهما فأدركهما حب الولد، فسمياه عبد الحارث فذلك قوله:... { } ( )... (الأعراف - 190) " رواه ابن أبي حاتم.
وله بسند صحيح عن قتادة قال: " شركاء في طاعته، ولم يكن في عبادته ".
وله بسند صحيح عن مجاهد في قوله:... { } ( )... (الأعراف - 189) قال: " أشفقا ألا يكون إنسانا " وذكر معناه عن الحسن وسعيد وغيرهما.
قوله: قول الله تعالى:
{ } ( ) (الأعراف - 190):
قال الإمام أحمد رحمه الله في معنى هذه الآية: حدثنا عبد الصمد حدثنا عمر بن إبراهيم حدثنا قتادة عن الحسن عن سمرة عن النبي قال: { لما ولدت حواء طاف بها إبليس وكان لا يعيش لها ولد فقال: سميه عبد الحارث؛ فإنه يعيش، فسمته عبد الحارث فعاش. وكان ذلك من وحي الشيطان وأمره } ( ). وهكذا رواه ابن جرير عن محمد بن بشار بندار عن عبد الصمد بن عبد الوارث به. ورواه الترمذي في تفسير هذه الآية عن محمد بن المثنى عن عبد الصمد به، وقال: هذا حديث حسن غريب، لا نعرفه إلا من حديث عمر بن إبراهيم، ورواه بعضهم عن عبد الصمد ولم يرفعه. ورواه الحاكم في مستدركه من حديث عبد الصمد مرفوعا، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه. ورواه الإمام أبو محمد بن أبي حاتم في تفسيره عن أبي زرعة الرازي عن هلال بن فياض عن عمر بن إبراهيم به مرفوعا.
وقال ابن جرير: حدثنا ابن وكيع، حـدثنا سهيل بن يوسف عن عمرو عن الحسن { } ( ) قال: " كان هذا في بعض أهل الملل ولم يكن بآدم ". وحدثنا بشر بن معاذ قال: حدثني يزيد، حدثنا سعيد عن قتادة قال: " كان الحسن يقول: هم اليهود والنصارى، رزقهم الله أولادًا فهودوا ونصروا " وهذا إسناد صحيح عن الحسن رحمه الله.
قال العماد ابن كثير في تفسيره: وأما الآثار: فقال: محمد بن إسحاق عن داود ابن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس قال: " كانت حواء تلد لآدم عليه السلام أولادًا فتعبدهم لله وتسميهم عبد الله وعبيد الله ونحو ذلك، فيصيبهم الموت؛ فأتاهما إبليس فقال: أما إنكما لو تسميانه بغير الذي تسميانه به لعاش، فولدت له رجلا فسماه عبد الحارث، ففيه أنزل الله: { } ( ).... (الأعراف - 189) ". وقال العوفي عن ابن عباس: " فأتاهما الشيطان فقال: هل تدريان ما يولد لكما؟ أم هل تدريان ما يكون: أبهيمة أم لا؟ وزين لهما الباطل؛ إنه لغوي مبين، وقد كانت قبل ذلك ولدت ولدين فماتا، فقال لهما الشيطان: إنكما إن لم تسمياه بي لم يخرج سويًا، ومات كما مات الأول، فسميا ولدهما عبد الحارث، فذلك قوله تعالى: { } ( ).
وذكر مثله عن سعيد بن جبير عن ابن عباس. ورواه ابن أبي حاتم. وقد تلقى هذا الأثر عن ابن عباس جماعة من أصحابه كمجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير، ومن الطبقة الثانية: قتادة والسدي وجماعة من الخلف، ومن المفسرين والمتأخرين جماعات لا يحصون كثرة. قال العماد ابن كثير: وكأن أصله - والله أعلم - مأخوذ من أهل الكتاب.
قلت: وهذا بعيد جدًّا.
قوله: " قال ابن حزم: اتفقوا على تحريم كل اسم معبد لغير الله، كعبد عمرو، وعبد الكعبة، وما أشبه ذلك، حاشا عبد المطلب ".
ابن حزم: هو عالم الأندلس، أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم القرطبي الظاهري. صاحب التصانيف، توفي سنة ست وخمسين وأربعمائة. وله اثنتان وسبعون سنة.
وعبد المطلب هذا: هو جد رسول الله - . وهو ابن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان، وما فوق عدنان مختلف فيه. ولا ريب أنهم من ذرية إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليهما السلام.
حكى رحمه الله اتفاق العلماء على تحريم كل ما عبد لغير الله؛ لأنه شرك في الربوبية والإلهية؛ لأن الخلق كلهم ملك لله وعبيد له، استعبدهم لعبادته وحده وتوحيده في ربوبيته وإلهيته، فمنهم من عبد الله ووحده في ربوبيته وإلهيته، ومنهم من أشرك به في إلهيته، وربوبيته، ومنهم من أشرك به في إلهيته وأقر له بربوبيته وأسمائه وصفاته، وأحكامه القدرية جارية عليهم ولا بد، كما قال تعالى: { } ( ) (مريم - 93) فهذه هي العبودية العامة. وأما العبودية الخاصة فإنها تختص بأهل الإخلاص والطاعة، كما قال تعالى: { } ( ) (الزمر - 36) ونحوها.
قوله: (حاشا عبد المطلب) هذا استثناء من العموم المستفاد من " كل " وذلك أن تسميته بهذا الاسم لا محذور فيها؛ لأن أصله من عبودية الرق، وذلك أن المطلب أخا هاشم قدم المدينة، وكان ابن أخيه " شيبة " هذا قد نشأ في أخواله بني النجار من الخزرج؛ لأن هاشمًا تزوج فيهم امرأة، فجاءت منه بهذا الابن، فلما شب في أخواله وبلغ سن التمييز سافر به عمه المطلب إلى مكة بلد أبيه وعشيرته فقدم به مكة وهو رديفه، فرآه أهل مكة وقد تغير لونه بالسفر، فحسبوه عبدًا للمطلب، فقالوا: هذا عبد المطلب، فعلق به هذا الاسم وركبه، فصار لا يذكر ولا يدعى إلا به. فلم يبق للأصل معنى مقصود، وقد قال النبي " أنا ابن عبد المطلب ". وقد صار معظمًا في قريش والعرب، فهو سيد قريش وأشرفهم في جاهليته، وهو الذي حفر زمزم وصارت له السقاية وفي ذريته من بعده. و " عبد الله " والد رسول الله أحد بني عبد المطلب، وتوفي في حياة أبيه. قال الحافظ صلاح الدين العلائي في كتاب الدرة السنية في مولد خير البرية: كان سن أبيه عبد الله حين حملت منه آمنة برسول الله نحو ثمانية عشر عاما، ثم ذهب إلى المدينة ليمتار منها تمرًا لأهله، فمات بها عند أخواله بني عدي بن النجار، والنبي - حمل على الصحيح. انتهى.
قلت: وصار النبي لما وضعته أمه في كفالة جده عبد المطلب. قال الحافظ الذهبي: وتوفي أبوه عبد الله وللنبي ثمانية وعشرون شهرا، وقيل أقل من ذلك، وقيل: وهو حمل. توفي بالمدينة، وكان قد قدمها ليمتار تمرا. وقيل: بل مرَّ بها راجعًا من الشام، وعاش خمسة وعشرين سنة. قال الواقدي: وذلك أثبت الأقاويل في سنه ووفاته. وتوفيت أمه آمنة بالأبواء، وهي راجعة به إلى مكة من زيارة أخوال أبيه بني عدي بن النجار، وهو يومئذ ابن ست سنين ومائة يوم. وقيل: ابن أربع سنين. فلما ماتت أمه حملته أم أيمن مولاته إلى جده، فكان في كفالته إلى أن توفي جده، وللنبي ثمان سنين فأوصى به إلى عمه أبي طالب ا هـ.
قوله: " وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - في الآية... " قد قدمنا نظيره عن ابن عباس في المعنى.
قوله: " وله بسند صحيح عن قتادة قال: " شركاء في طاعته، ولم يكن في عبادته ".
قال شيخنا رحمه الله: إن هذا الشرك في مجرد تسمية، لم يقصدا حقيقته التي يريدها إبليس، وهو محمل حسن يبين أن ما وقع من الأبوين من تسميتهما ابنهما عبد الحارث إنما هو مجرد تسمية لم يقصدا تعبيده لغير الله. وهذا معنى قول قتادة: " شركاء في طاعته ولم يكن في عبادته ".
المسائل المستنبطة من هذا الباب
فيه مسائل:
الأولى: تحريم كل اسم معبد لغير الله.
الثانية: تفسير الآية.
الثالثة: أن هذا الشرك في مجرد تسمية لم تقصد حقيقتها.
الرابعة: أن هبة الله للرجل البنت السوية من النعم.
الخامسة: ذكر السلف الفرق بين الشرك في الطاعة، والشرك في العبادة.
باب قول الله تعالى ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها...
قول الله تعالى: { } ( )... (الأعراف - 180).
ذكر ابن أبي حاتم عن ابن عباس:... { } ( )...: يشركون.
وعنه: " سموا اللات من الإله، والعزى من العزيز ".
قوله: باب " قول الله تعالى:
{ } ( ) (الأعراف - 180):
عن أبي هريرة أن رسول الله قال: " { إن لله تسعة وتسعين اسما، مائة إلا واحدا، من أحصاها دخل الجنة، وهو وتر يحب الوتر } ( ) أخرجاه في الصحيحين من حديث سفيان بن عيينة. ورواه البخاري عن أبي اليمان عن أبي الزناد عن الأعرج عنه. وأخرجه الجوزجاني عن صفوان بن صالح، عن الوليد بن مسلم عن شعيب بسنده مثله. وزاد بعد قوله: { يحب الوتر: هو الله الذي لا إله إلا هو، الرحمن، الرحيم، الملك، القدوس، السلام، المؤمن، المهيمن، العزيز، الجبار، المتكبر، الخالق، البارئ، المصور، الغفار، القهار، الوهاب، الرزاق، الفتاح، العليم، القابض، الباسط، الخافض، الرافع، المعز، المذل، السميع، البصير، الحكم، العدل، اللطيف، الخبير، الحليم، العظيم، الغفور، الشكور، العلي، الكبير، الحفيظ، المقيت، الحسيب، الجليل، الكريم، الرقيب، المجيب، الواسع، الحكيم، الودود، المجيد، الباعث، الشهيد، الحق، الوكيل، القوي، المتين، الولي، الحميد، المحصي، المبدئ، المعيد، المحيي، المميت، الحي، القيوم، الواجد، الماجد، الواحد، الأحد، الفرد، الصمد، القادر، المقتدر، المقدم، المؤخر، الأول، الآخر، الظاهر، الباطن، الوالي، المتعالي، البر، التواب، المنتقم، العفو، الرءوف، مالك الملك، ذو الجلال والإكرام، المقسط، الجامع، الغني، المغني، المعطي، المانع، الضار، النافع، النور، الهادي، البديع، الباقي، الوارث، الرشيد، الصبور } ( ). ثم قال الترمذي: هذا حديث غريب. وقد روي من غير وجه عن أبي هريرة، ولا نعلم في كثير من الروايات ذكر الأسماء إلا في هذا الحديث. والذي عول عليه جماعة من الحفاظ أن سرد الأسماء في هذا الحديث مدرج فيه، وإنما ذلك كما رواه الوليد بن مسلم وعبد الملك بن محمد الصنعاني عن زهير بن محمد أنه بلغه عن غير واحد من أهل العلم أنهم قالوا ذلك. أي: أنهم جمعوها من القرآن، كما روي عن جعفر بن محمد وسفيان وأبي زيد اللغوي، والله أعلم.
هذا ما ذكره العماد ابن كثير في تفسيره، ثم قال: ليعلم أن الأسماء الحسنى ليست منحصرة في تسعة وتسعين، بدليل ما رواه أحمد عن يزيد بن هارون عن فضيل بن مرزوق عن أبي سلمة الجهني، عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبيه عن عبد الله بن مسعود عن رسول الله قال: { ما أصاب أحدًا قط همٌ ولا حزنٌ فقال: اللهم إني عبدك ابن عبدك، ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض فيَّ حكمك، عدل فيَّ قضاؤك، أسألك اللهم بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدًا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك: أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي وغمى. إلا أذهب الله همه وحزنه، وأبدله مكانه فرحًا. فقيل: يا رسول الله: ألا نتعلمها؟ فقال: بلى: ينبغي لمن سمعها أن يتعلمها } ( )، وقد أخرجه أبو حاتم وابن حبان في صحيحه.
وقـال العوفي عـن ابن عباس في قـوله تعالى: { } ( ) قال: " إلحاد الملحدين: أن دعوا اللات في أسماء الله "، وقال ابن جريج عن مجاهد: { } ( ) قال: " اشتقوا اللات من الله، واشتقوا العزى من العزيز ".
وقال قتادة: " يلحدون: يشركون ". وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس " الإلحاد: التكذيب ".
وأصل الإلحاد في كلام العرب: العدول عن القصد، والميل والجور والانحراف. ومنه اللحد في القبر؛ لانحرافه إلى جهة القبلة عن سمت الحفر. قال ابن القيم رحمه الله تعالى:
ــراك والتعـطيـل والنـكـران
وحقيقـة الإلـحاد فيها الميل بالإشـ
وأسماء الرب تعالى كلها أسماء وأوصاف تعرف بها تعالى إلى عباده، ودلت على كماله جل وعلا.
وقال رحمه الله: فالإلحاد إما بجحدها وإنكارها، وإما بجحد معانيها وتعطيلها، وإما بتحريفها عن الصواب، وإخراجها عن الحق بالتأويلات، وإما أن يجعلها أسماء لهذه المخلوقات كإلحاد أهل الاتحاد. فإنهم جعلوها أسماء هذا الكون محمودها ومذمومها. حتى قال زعيمهم: هو المسمى بمعنى كل اسم ممدوح عقلا وشرعًا وعرفا. وبكل اسم مذموم عقلا وشرعًا وعرفا. تعالى عما يقولون علوًا كبيرًا، انتهى.
قتل: والذي عليه أهل السنة والجماعة قاطبة، متقدمهم ومتأخرهم: إثبات الصفات التي وصف الله بها نفسه، ووصفه بها رسول الله على ما يليق بجلال الله وعظمته إثباتًا بلا تمثيل، وتنزيهًا بلا تعطيل. كما قال تعالى: { } ( ) (الشورى - 11)، وأن الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات يحتذى حذوه ومثاله. فكما أنه يجب العلم بأن لله ذاتًا حقيقة لا تشبه شيئًا من ذوات المخلوقين، فله صفات حقيقة لا تشبه شيئًا من صفات المخلوقين، فمن جحد شيئًا مما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسوله، أو تـأوله على غير ما ظهر من معناه: فهو جهمي، قـد اتبـع غير سبيـل المؤمنـين. كما قـال تـعالى: { • • • } ( ) (النساء - 115).
وقال العلامة ابن القيم - رحمه الله - تعالى أيضا: فائدة جليلة
ما يجري صفة أو خبرًا على الرب تبارك وتعالى أقسام: أحدها: ما يرجع إلى نفس الذات، كقولك: ذات، وموجود.
الثاني: ما يرجع إلى صفاته ونعوته، كالعليم، والقدير، والسميع، والبصير.
الثالث: ما يرجع إلى أفعاله كالخالق، والرازق.
الرابع: التنزيه المحض، ولا بد من تضمنه ثبوتا؛ إذ لا كمال في العدم المحض، كالقدوس، والسلام.
الخامس: - ولم يذكره أكثر الناس - وهو الاسم الدال على جملة أوصاف عديدة لا تختص بصفة معينة، بل دال على معان، نحو المجيد، العظيم، الصمد؛ فإن المجيد: من اتصف بصفات متعددة من صفات الكمال، ولفظه يدل على هذا. فإنه موضوع للسعة والزيادة والكثرة، فمنـه " استمجد المرخ والعفار " وأمجد الناقة: علفها. ومنها { } ( ) (البروج - 15) صفة للعرش؛ لسعته وعظمته وشرفه. وتأمل كيف جاء هذا الاسم مقترنًا بطلب الصلاة من الله على رسوله كما علمناه صلى الله عليه وسلم؛ لأنه في مقام طلب المزيد والتعرض لسعة العطاء، وكثرته ودوامه، فأتى في هذا المطلوب باسم يقتضيه، كما تقول: اغفر لي وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم، فهو راجع إلى التوسل إليه بأسمائه وصفاته، وهو من أقرب الوسائل وأحبها إليه. ومنه الحديث الذي في الترمذي: { أَلِظُّوا بيا ذا الجلال والإكرام } ( )، ومنه: { اللهم إني أسألك بأن لك الحمد، لا إله إلا أنت المنان، بديع السماوات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام } ( ) فهذا سؤال له، وتوسل إليه بحمده، وأنه: لا إله إلا هو المنان، فهو توسل إليه بأسمائه وصفاته، وما أحق ذلك بالإجابة، وأعظمه موقعًا عند المسؤول. وهذا باب عظيم من أبواب التوحيد.
السادس: صفة تحصل من اقتران أحد الاسمين والوصفين بالآخر، وذلك قدر زائد على مفرديهما نحو الغني الحميد، الغفور القدير، الحميد المجيد، وهكذا عامة الصفات المقترنة والأسماء المزدوجة في القرآن. فإن " الغني " صفة كمال، و" الحمد " كذلك، واجتماع " الغني " مع " الحمد " كمال آخر، فله ثناء من غناه، وثناء من حمده، وثناء من اجتماعهما، وكذلك الغفور القدير، والحميد المجيد، والعزيز الحكيم، فتأمله؛ فإنه من أشرف المعارف.
المسائل المستنبطة من هذا الباب
فيه مسائل:
الأولى: إثبات الأسماء.
الثانية: كونها حسنى.
الثالثة: الأمر بدعائه بها.
الرابعة: ترك من عارض من الجاهلين الملحدين.
الخامسة: تفسير الإلحاد فيها.
السادسة: وعيد من ألحد.
باب لا يقال السلام على الله
في الصحيح عن ابن مسعود قال: { كنا إذا كنا مع النبي في الصلاة قلنا: السلام على الله من عباده، السلام على فلان وفلان، فقال النبي لا تقولوا: السلام على الله، فإن الله هو السلام } ( ).
قوله: باب " لا يقال: السلام على الله "
قوله: " في الصحيح عن ابن مسعود إلخ). وهذا الحديث رواه البخاري ومسلم، وأبو داود والنسائي وابن ماجه، من حديث شقيق بن سلمة عن عبد الله بن مسعود قال: " { كنا إذا جلسنا مع رسول الله في الصلاة قلنا: السلام على الله قبل عباده، السلام على فلان وفلان } ( ) - الحديث، وفي آخره ذكر التشهد الأخير ". رواه الترمذي من حديث الأسود بن يزيد عن ابن مسعود، وذكر في الحديث سبب النهي عن ذلك بقوله: { فإن الله هو السلام ومنه السلام } ( ). وقد كان النبي إذا انصرف من الصلاة المكتوبة يستغفر ثلاثًا ويقول: { اللهم أنت السلام ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام } ( )، وفي الحديث: { إن هذا هو تحية أهل الجنة لربهم تبارك وتعالى }. وفي التنزيل ما يدل على أن الرب تبارك وتعالى يسلم عليهم في الجنة، كما قال تعالى: { } ( ) (يس - 58).
ومعنى قوله: " إن الله هو السلام ": أن الله سالم من كل نقص، ومن كل تمثيل، فهو الموصوف بكل كمال، المنزه عن كل عيب ونقص.
قال العلامة ابن القيم في بدائع الفوائد: السلام اسم مصدر، وهو من ألفاظ الدعاء، يتضمن الإنشاء والإخبار، فجهة الخبرية فيه لا تناقض الجهة الإنشائية. وهو معنى السلام المطلوب عند التحية، وفيه قولان مشهوران:
الأول: أن السلام هنا هو الله ومعنى الكلام: نزلت بركته عليكم ونحو ذلك. فاختير في هذا المعنى من أسمائه اسم " السلام " دون غيره من الأسماء.
الثاني: أن السلام مصدر بمعنى السلامة، وهو المطلوب المدعو به عند التحية، ومن حجة أصحاب هذا القول: أنه يأتي مُنَكَّرًا، فيقول المسلم: " سلام عليكم " ولو كان اسمًا من أسماء الله لم يستعمل كذلك، ومن حجتهم أنه ليس المقصود من السلام هذا المعنى، وإنما المقصود منه الإيذان بالسلامة خبرًا ودعاء.
قال العلامة ابن القيم رحمه الله: وفصل الخطاب أن يقال: الحق في مجموع القولين، فكل منهما بعض الحق، والصواب في مجموعهما، وإنما يتبين ذلك بقاعدة، وهي: أن حق من دعا الله بأسمائه الحسنى أن يسأل في كل مطلوب، ويتوسل بالاسم المقتضي لذلك المطلوب، المناسب لحصوله، حتى إن الداعي متشفع إلى الله تعالى متوسل به إليه. فإذا قال: رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الغفور. فقد سأله أمرين وتوسل إليه باسمين من أسمائه مقتضيين لحصول مطلوبه. وقال لأبي بكر وقد سأله ما يدعو به { قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرا، ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم } ( ). فالمقام لما كان مقام طلب السلامة التي هي أهم عند الرجل، أتى في طلبها بصيغة اسم من أسماء الله تعالى وهو " السلام " الذي تطلب منه السلامة. فتضمن لفظ السلام معنين: أحدهما: ذكر الله، والثاني: طلب السلامة وهو مقصود المسلم. فقد تضمن " سلام عليكم " اسمًا من أسماء الله وطلب السلامة منه. فتأمل هذه الفائدة. وحقيقته: البراءة والخلاص والنجاة من الشر والعيوب. وعلى هذا المعنى تدور تصاريفه، فمن ذلك قولهم: سلمك الله، ومنه دعاء المؤمنين على الصراط " رب سلم سلم " ومنه سلم الشيء لفلان، أي: خلص له وحده. قال تعالى: { } ( )... (الزمر - 29) أي: خالصًا له وحده لا يملكه معه غيره. ومنه السلم ضد الحرب؛ لأن كل واحد من المتحاربين يخلص ويسلم من أذى الآخر، ولهذا بني فيه على المفاعلة، فقيل: المسالمة مثل المشاركة. ومنه القلب السليم وهو النقي من الدغل والعيب. وحقيقته: الذي قد سلم لله وحده، فخلص من دغل الشرك وغله، ودغل الذنوب والمخالفات، فهو مستقيم على صدق حبه وحسن معاملته. وهذا هو الذي ضمن له النجاة من عذاب الله والفوز بكرامته. ومنه أخذ الإسلام، فإنه من هذه المادة، لأنه الاستسلام والانقياد لله، والتخلص من شوائب الشرك، فسلم لربه وخلص له، كالعبد الذي سلم لمولاه ليس له فيه شركاء متشاكسون. ولهذا ضرب سبحانه هذين المثلين للمسلم الخالص لربه وللمشرك به.
المسائل المستنبطة من هذا الباب
فيه مسائل:
الأولى: تفسير السلام.
الثانية: أنه تحية.
الثالثة: أنها لا تصلح لله.
الرابعة: العلة في ذلك.
الخامسة: تعليمهم التحية التي تصلح لله.
باب قول اللهم اغفر لي إن شئت
في الصحيح عن أبي هريرة: أن رسول الله قال: { لا يقل أحدكم: اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت، ليعزم المسألة، فإن الله لا مكره له } ( ).
ولمسلم: { وليعظم الرغبة، فإن الله لا يتعاظمه شيء أعطاه } ( ).
قوله: باب " قول: اللهم اغفر لي إن شئت "
يعني أن ذلك لا يجوز لورود النهي عنه في حديث الباب.
قوله: " في الصحيح عن أبي هريرة أن رسول الله قال: { لا يقل أحدكم: اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت، ليعزم المسألة؛ فإن الله لا مُكره له } ( ) بخلاف العبد، فإنه قد يعطي السائل مسألته لحاجته إليه، أو لخوفه أو رجائه، فيعطيه مسألته وهو كاره. فاللائق بالسائل للمخلوق أن يعلق حصول حاجته على مشيئة المسؤول، مخافة أن يعطيه وهو كاره، بخلاف رب العالمين، فإنه تعالى لا يليق به ذلك لكمال غناه عن جميع خلقه، وكمال جوده وكرمه، وكلهم فقير إليه، محتاج لا يستغني عن ربه طرفة عين، وعطاؤه كلام [يقول: كن فيكون]. وفي الحديث: { يَمِينُ اللَّهِ مَلْأَى لَا يَغِيضُهَا نَفَقَةٌ، سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ؛ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ؟ فَإِنَّه لَمْ يَغِضْ مَا فِي يَمِينِهِ، وَفِي يَدِهِ الْأُخْرَى الْقِسْطُ يَخْفِضُهُ وَيَرْفَعُهُ } ( ) يعطي تعالى لحكمة، ويمنع لحكمة، وهو الحكيم الخبير. فاللائق بمن سأل الله أن يعزم المسألة، فإنه لا يعطي عبده شيئًا عن كراهة، ولا يمنعه عن عظم مسألة.
وقد قال بعض الشعراء فيمن يمدحه:
ويصغـر في عـين العظيـم العظائم
ويعظـم في عـين الصغـير صغـارها
وهذا بالنسبة إلى ما في نفوس أرباب الدنيا، وإلا فإن العبد يعطي تارة ويمنع أكثر، ويعطي كرها، والبخل عليه أغلب. وبالنسبة إلى حاله هذه فليس عطاؤه بعظيم، وأما ما يعطيه الله تعالى عباده فهو دائم مستمر، يجود بالنوال قبل السؤال من حين وضعت النطفة في الرحم. فنعمه على الجنين في بطن أمه دارَّة، يربيه أحسن تربية، فإذا وضعته أمه عطف عليه والديه ورباه بنعمه حتى يبلغ أشده، يتقلب في نعم الله مدة حياته، فإن كانت حياته على الإيمان والتقوى ازدادت نِعَمُ الله تعالى عليه إذا توفاه أضعاف أضعاف ما كان عليه في الدنيا من النعم التي لا يقدر قدرها إلا الله، مما أعده الله تعالى لعباده المؤمنين المتقين. وكل ما يناله العبد في الدنيا من النعم وإن كان بعضها على يد مخلوق، فهو بإذن الله وإرادته وإحسانه إلى عبده، فالله تعالى هو المحمود على النعم كلها، فهو الذي شاءها وقدرها، وأجراها عن كرمه وفضله. فله النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن. قال تعالى: { } ( ) (النحل - 53)، وقد يمنع سبحانه عبده إذا سأله لحكمة وعلم بما يصلح عبده من العطاء والمنع، وقد يؤخر ما سأله عبدُهُ لوقته المقدر، أو ليعطيَهُ أكثر. فتبارك الله رب العالمين.
وقوله: " ولمسلم: وليعظم الرغبة... " أي: في سؤاله ربه حاجته، فإنه يعطي العظائم كرمًا وجودًا وإحسانا. فالله تعالى لا يتعاظمه شيء أعطاه، أي: ليس شيء عنده يعظم، وإن عظم في نفس المخلوق؛ لأن سائل المخلوق لا يسأله إلا ما يهون عليه بذله، بخلاف رب العـالمين، فـإن عـطاءه كـلام: { } ( ) (يس - 82) فسبحان من لا يقدر الخلق قدره، لا إله غيره، ولا رب سواه.
المسائل المستنبطة من هذا الباب
فيه مسائل:
الأولى: النهي عن الاستثناء في الدعاء.
الثانية: بيان العلة في ذلك.
الثالثة: قوله: " ليعزم المسألة ".
الرابعة: إعظام الرغبة.
الخامسة: التعليل لهذا الأمر.
باب لا يقول عبدي وأمتي
في الصحيح عن أبي هريرة أن رسول الله قال: " { لا يقل أحدكم: أطعم ربك، وضئ ربك، وليقل: سيدي ومولاي، ولا يقل أحدكم: عبدي وأمتي، وليقل: فتاي وفتاتي، وغلامي } ( ).
قوله: باب (لا يقول: عبدي وأمتي)
ذكر الحديث الذي في الصحيح عن أبي هريرة أن رسول الله قال: { لا يقولن أحدُكُم أَطْعِم رَبَّك، وَضِّئ ربَّك، وَلْيَقُلْ سَيِّدِي وَمَوْلايَ، ولا يقل أحدُكُم: عبدي وأمتي، وَلْيَقُل: فَتَايَ وَفَتَاتِي وَغُلامِي } ( ).
هذه الألفاظ المنهي عنها، وإن كانت تطلق لغة، فالنبي نهى عنها تحقيقًا للتوحيد، وسدًّا لذرائع الشرك لما فيها من التشريك في اللفظ؛ لأن الله تعالى هو رب العباد جميعهم. فإذا أطلق على غيره شاركه في الاسم، فينهى عنه لذلك. وإن لم يقصد بذلك التشريك في الربوبية التي هي وصف الله تعالى. وإنما المعنى أن هذا مالك له، فيطلق عليه هذا اللفظ بهذا الاعتبار. فالنهي عنه حسمًا لمادة التشريك بين الخالق والمخلوق، وتحقيقًا للتوحيد، وبعدًا عن الشرك حتى في اللفظ. وهذا من أحسن مقاصد الشريعة، لما فيه من تعظيم الرب تعالى، وبعده عن مشابهة المخلوقين، فأرشدهم إلى ما يقوم مقام هذه الألفاظ. وهو قوله " سيدي ومولاي " وكذا قوله: "ولا يقل أحدكم: عبدي وأمتي "؛ لأن العبيد عبيدُ الله، والإماء إماء الله. قال الله تعالى: { } ( ) (مريم - 93) ففي إطلاق هاتين الكلمتين في حق غير الله تشريك في اللفظ، فنهاهم عن ذلك تعظيمًا لله تعالى، وأدبًا وبُعْدًا عن الشرك وتحقيقًا للتوحيد، وأرشدهم إلى أن يقولوا: " فتاي وفتاتي وغلامي " وهذا من باب حماية المصطفى جناب التوحيد، فقد بلغ أمته كل ما فيه لهم نفع، ونهاهم عن كل ما فيه نقص في الدين. فلا خير إلا دلهم عليه، خصوصًا في تحقيق التوحيد، ولا شر إلا حذرهم منه، خصوصًا ما يقرب من الشرك لفظًا وإن لم يقصد به. وبالله التوفيق.
المسائل المستنبطة من هذا الباب
فيه مسائل:
الأولى: النهي عن قول: عبدي وأمتي.
الثانية: لا يقول العبد: ربي، ولا يقال له: أطعم ربك.
الثالثة: تعليم الأول قول: فتاي وفتاتي وغلامي.
الرابعة: تعليم الثاني قول: سيدي ومولاي.
الخامسة: التنبيه للمراد، وهو تحقيق التوحيد حتى في الألفاظ.
باب لا يرد من سأل بالله
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله { من سأل بالله فأعطوه، ومن استعاذ بالله فأعيذوه، ومن دعاكم فأجيبوه، ومن صنع إليكم معروفا فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا له، حتى تروا أنكم قد كافأتموه } ( ) " رواه أبو داود والنسائي بسند صحيح.
قوله: باب " لا يرد من سأل بالله "
ظاهر الحديث النهي عن رد السائل إذا سأل بالله. لكن هذا العموم يحتاج إلى تفصيل بحسب ما ورد في الكتاب والسنة، فيجب إذا سأل السائل ما له فيه حق كبيت المال أن يجاب فيعطى منه على قدر حاجته وما يستحقه وجوبا، وكذلك إذا سأل من لا فضل عنده، فيستحب أن يعطيَهُ على قدر حال المسئول ما لا يضر به ولا يضر عائلته، وإن كان مضطرًا وجب أن يعطيَهُ ما يدفع ضرورته.
ومقام الإنفاق من أشرف مقامات الدين، وتفاوت الناس فيه بحسب ما جبلوا عليه من الكرم والجود، وضدهما من البخل والشح. فالأول: محمود في الكتاب والسنة. والثاني: مذموم فيهما. وقد حث الله تعالى عباده على الإنفاق؛ لعظم نفعه وتعديه وكثرة ثوابه. قال الله تعالى: { • • } ( ) (البقرة - 267، 268) وقال تعالى: { } ( )... (الحديد - 7)، وذلك الإنفاق من خصال البر المذكورة في قوله: { • } ( )... الآية) (البقرة - 177) فذكره بعد ذكر أصول الإيمان وقبل ذكر الصلاة، وذلك - والله أعلم - لتعدي نفعه. وذكره تعالى في الأعمال التي أمر الله بها عباده. وتعبدهم بها ووعدهم عليها الأجر العظيم. قال تعالى: { • • • } ( ) (الأحزاب - 35).
وكان النبي يحث أصحابه على الصدقة حتى النساء؛ نصحًا للأمة وحثًّا لهم على ما ينفعهم عاجلا وآجلا. وقد أثنى الله سبحانه على الأنصار - رضي الله عنهم - بالإيثار، فقال تعالى:... { } ( ) (الحشر - 9). والإيثار من أفضل خصائص المؤمن كما تفيده هذه الآية الكريمة، وقد قال تعالى: { • • } ( ) (الإنسان - 8، 9).
والآيات والأحاديث في فضل الصدقة كثيرة جدًّا، ومن كان سعيه للآخرة رغب في هذا ورغَّب، وبالله التوفيق.
قوله: " من دعاكم فأجيبوه " هذا من حقوق المسلمين بعضهم على بعض: إجابة دعوة المسلم، وتلك من أسباب الألفة والمحبة بين المسلمين.
قوله: " ومن صنع إليكم معروفًا فكافئوه " ندبهم إلى المكافأة على المعروف، فإن المكافأة على المعروف من المروءة التي يحبها الله ورسوله، كما دل عليه هذا الحديث، ولا يهمل المكافأة على المعروف إلا اللئامُ من الناس، وبعض اللئام يكافئ على الإحسان بالإساءة، كما يقع كثيرًا من بعضهم. نسأل الله العفو والعافية في الدنيا والآخرة، بخلاف حـال أهـل التقوى والإيمان، فإنهم يدفعون السيئة بالحسنـة؛ طاعـة لله ومحبـة لما يحبه لهم ويـرضاه، كما قـال تعـال ى: { } ( ) (المؤمنـون - 96- 98) وقـال تـعالى : { } ( ) (فصلت - 34، 35). وهم الذين سبقت لهم من الله تعالى السعادةُ.
قوله: " فإن لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا له " أرشدهم إلى أن الدعاءَ في حق من لم يجد المكافأة: مكافأةٌ للمعروف، فيدعو له على حسب معرفته.
قوله: " تُروا -بضم التاء- تظنوا أنكم قد كافأتموه " ويحتمل أنها مفتوحة بمعنى: تعلموا. ويؤيده ما في سنن أبي داود من حديث ابن عمر: " حتى تعلموا " فتعين الثاني للتصريح به. وفيه: { من سألكم بالله فأجيبوه } ( ) أي: إلى ما سأل. فيكون بمعنى أعطوه، وعند أبي داود في رواية أبي نهيك عن ابن عباس: { من سألكم بوجه الله فأعطوه } ( ) وفي رواية عبيد الله القواريري لهذا الحديث { ومن سألكم بالله } ( ) كما في حديث ابن عمر.
المسائل المستنبطة من هذا الباب
فيه مسائل:
الأولى: إعاذة من استعاذ بالله.
الثانية: إعطاء من سأل بالله.
الثالثة: إجابة الدعوة.
الرابعة: المكافأة في الصنيعة.
الخامسة: أن الدعاء مكافأة لمن لم يقدر إلا عليه.
السادسة: قوله: حتى تروا أنكم قد كافأتموه.
باب لا يسأل بوجه الله إلا الجنة
عن جابر قال: قال رسول الله { لا يسأل بوجه الله إلا الجنة } ( ) رواه أبو داود.
قوله: باب " لا يسأل بوجه الله إلا الجنة "
ذكر فيه حديث جابر - رواه أبو داود عن جابر - قال: قال رسول الله { لا يُسْأل بوجه الله إلا الجنة } ( ).
وهنا سؤال: وهو أنه قد ورد في دعاء النبي عند مُنْصَرفه من الطائف حين كذَّبه أهل الطائف ومن في الطائف من أهل مكة، فدعا النبي بالدعاء المأثور: { اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس. أنت رب المستضعفين وأنت ربي، إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني، أو إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي، غير أن عافيتك هي أوسع لي } وفي آخره: " { أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة: أن يحل علي غضبك، أو ينزل بي سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بالله } والحديث المروي في الأذكار: { اللهم أنت أحق من ذُكر، وأحق من عُبد } - وفي آخره - { أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له السماوات والأرض }، وفي حديث آخر: { أعوذ بوجه الله الكريم، وباسم الله العظيم وبكلماته التامة من شر السامة واللامة، ومن شر ما خلقت أي رب، ومن شر هذا اليوم ومن شر ما بعده، ومن شر الدنيا والآخرة }. وأمثال ذلك في الأحاديث المرفوعة بالأسانيد الصحيحة أو الحسان.
فالجواب: أن ما ورد من ذلك فهو في سؤال ما يُقرب إلى الجنة أو الاستعاذة من الأعمال التي تمنعه من الجنة، فيكون قد سأل بوجه الله وبنور وجهه ما يقرب إلى الجنة كما في الحديث الصحيح: " { اللهم إني أسألك الجنة وما يُقرب إليها من قول وعمل، وأعوذ بك من النار وما يقرب إليها من قول وعمل } بخلاف ما يختص بالدنيا كسؤال المال والرزق والسعة في المعيشة رغبة في الدنيا، مع قطع النظر عن كونه أراد بذلك ما يعينه على عمل الآخرة. فلا ريب أن الحديث يدل على المنع من أن يسأل حوائج دنياه بوجه الله.
وعلى هذا فلا تعارض بين الأحاديث. كما لا يخفى، والله أعلم.
وحديث الباب من جملة الأدلة المتواترة في الكتاب والسنة على إثبات الوجه لله تعالى فإنه صفة كمال، وسلبه غاية النقص والتشبيه بالناقصات، كسلبهم جميع الصفات أو بعضها، فوقعوا في أعظم مما فروا منه. تعالى الله عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا.
وطريقة أهل السنة والجماعة سلفًا وخلفًا: الإيمان بما وصف الله به نفسه في كتابه ووصفه به رسول الله في سنته على ما يليق بجلال الله وعظمته، فيثبتون له ما أثبته لنفسه في كتابه وأثبته له رسوله وينفون عنه مشابهة المخلوق، فكما أن ذات الله لا تشبه الذوات، فصفاته كذلك لا تشبه الصفات، فمن نفاها فقد سلبه الكمال.
المسائل المستنبطة من هذا الباب
فيه مسائل:
الأولى: النهي أن يسأل بوجه الله إلا غاية المطالب.
الثانية: إثبات صفة الوجه.
باب ما جاء في اللو
وقول الله تعالى:... { • } ( ) ... (آل عمران - 154).
وقوله: { } ( )... (آل عمران - 168).
في الصحيح عن أبي هريرة أن رسول الله قال: " { احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجزن، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أنني فعلت كذا لكان كذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان } ( ).
قوله: باب " ما جاء في اللَّوّ "
أي: من الوعيد والنهي عنه عند الأمور المكروهة، كالمصائب إذا جرى بها القدر، لما فيه من الإشعار بعدم الصبر والأسى على ما فات، مما لا يمكن استدراكه، فالواجب التسليم للقدر، والقيام بالعبودية الواجبة، وهو الصبر على ما أصاب العبد مما يكره. والإيمان بالقدر أصل من أصول الإيمان الستة. وأدخل المصنف رحمه الله أداة التعريف على " لو " وهذه في هذا المقام لا تفيد تعريفًا كنظائرها؛ لأن المراد هذا اللفظ كما قال الشاعر: أي: من الوعيد والنهي عنه عند الأمور المكروهة، كالمصائب إذا جرى بها القدر، لما فيه من الإشعار بعدم الصبر والأسى على ما فات، مما لا يمكن استدراكه، فالواجب التسليم للقدر، والقيام بالعبودية الواجبة، وهو الصبر على ما أصاب العبد مما يكره. والإيمان بالقدر أصل من أصول الإيمان الستة. وأدخل المصنف رحمه الله أداة التعريف على " لو " وهذه في هذا المقام لا تفيد تعريفًا كنظائرها؛ لأن المراد هذا اللفظ كما قال الشاعر:
شـديدًا بـأعبـاء الخـلافـة كاهله
رأيـت الـوليد بن اليزيـد مباركًا
وقوله: " وقول الله { • } ( )
قاله بعض المنافقين يوم أحد؛ لخوفهم وجزعهم وخورهم.
قال ابن إسحاق: فحدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عن عبد الله بن الزبير قال: قال الزبير: " لقد رأيتني مع رسول الله حين اشتد الخوف علينا أرسل الله علينا النوم. فما منا رجل إلا ذقنه في صدره، قال: فوالله إني لأسمع قول معتب بن قشير ما أسمعه إلا كالحلم: لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ها هنا، فحفظتها منه. وفي ذلك أنزل الله { • } ( ) لقول معتب " رواه ابن أبي حاتم. قال الله تعالى: { } ( )... (آل عمران - 154) أي: هذا قدر مقدر من الله وحكم حتم لازم لا محيد عنه ولا مناص منه.
وقوله: { } ( ) الآية (آل عمران - 168).
قال العماد ابن كثير: { } ( ) أي: لو سمعوا مشورتنا عليهم بالقعود وعدم الخروج ما قتلوا مع من قتل. قال الله تعالى: { } ( ) (آل عمران - 168) أي: إذا كان القعود يسلم به الشخص من القتل والموت، فينبغي لكم أن لا تموتوا، والموت لا بد آت إليكم، ولو كنتم في بروج مشيدة، فادفعوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين. قال مجاهد عن جابر بن عبد الله: " نزلت الآية في عبد الله بن أبي وأصحابه " يعني أنه هو الذي قال ذلك. وأخرج البيهقي عن أنس: أن أبا طلحة قال: " غشينا النعاس ونحن في مصافنا يوم أحد، فجعل يسقط سيفي وآخذه، ويسقط وآخذه، قال: والطائفة الأخرى -المنافقون- ليس لها همّ إلا أنفسهم، أجبن قوم، وأرعبه، وأخذله للحق { } ( )... (آل عمران - 154) إنما هم أهل ريب وشك بالله ".
قوله: { } ( ) يعني لا يغشاهم النعاس من القلق والجزع والخوف: { } ( ).
قال شيخ الإسلام رحمه الله: لما ذكر ما وقع من عبد الله بن أُبي في غزوة أحد قال: فلما انخذل يوم أحد وقال: " يدع رأيي ورأيه ويأخذ برأي الصبيان؟ " أو كما قال - انخذل معه خلق كثير، كان كثير منهم لم ينافق قبل ذلك. فأولئك كانوا مسلمين وكان معهم إيمان، هو الضوء الذي ضرب الله به المثل. فلو ماتوا قبل المحنة والنفاق لماتوا على الإسلام، ولم يكونوا من المؤمنين حقًّا الذين امتحنوا فثبتوا على المحنة، ولا من المنافقين حقًّا، الذين ارتدوا عن الإيمان بالمحنة. وهذا حال كثير من المسلمين في زماننا أو أكثرهم، إذا ابتلوا بالمحنة التي يتضعضع فيها أهل الإيمان ينقص إيمانهم كثيرًا، وينافق كثير منهم. ومنهم من يظهر الردة إذا كان العدو غالبًا، وقد رأينا - ورأى غيرنا - من هذا ما فيه عبرة. وإذا كانت العافية، أو كان المسلمون ظاهرين على عدوهم كانوا مسلمين، وهم مؤمنون بالرسل باطنًا وظاهرًا، لكنه إيمان لا يثبت على المحنة، ولهذا يكثر في هؤلاء ترك الفرائض وانتهاك المحارم، وهؤلاء من الذين قالوا: آمنا، فقيل لهم: { } ( ) (الحجرات - 14) أي: الإيمان المطلق الذي أهله هم المؤمنون حقًّا؛ فإن هذا هو الإيمان إذا أطلق في كتاب الله تعالى، كما دل عليه الكتاب والسنة، فلم يحصل لهم ريب عند المحن التي تقلقل الإيمان في القلوب، انتهى.
قوله: وقد رأينا - ورأى غيرنا - من هذا ما فيه عبرة.
قلت: ونحن كذلك رأينا من ذلك ما فيه عبرة عند غلبة العدو، من إعانتهم العدو على المسلمين، والطعن في الدين، وإظهار العداوة والشماتة، وبذل الجهد في إطفاء نور الإسلام، وذهاب أهله، وغير ذلك مما يطول ذكره. والله المستعان.
قوله: " في الصحيح أي: صحيح مسلم - عن أبي هريرة أن رسول الله قال: احرص - الحديث).
اختصر المصنف رحمه الله هذا الحديث، وتمامه: عن النبي أنه قال: " { المؤمن القويّ خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير. احرص على ما ينفعك } ( ) أي: في معاشك ومعادك. والمراد الحرص على فعل الأسباب التي تنفع العبد في دنياه وأخراه مما شرعه الله تعالى لعباده من الأسباب الواجبة والمستحبة والمباحة، ويكون العبد في حال فعله السبب مستعينًا بالله وحده دون كل ما سواه؛ ليتم له سببه وينفعه، ويكون اعتماده على الله تعالى في ذلك؛ لأن الله تعالى هو الذي خلق السبب والمسبب، ولا ينفعه سبب إلا إذا نفعه الله به، فيكون اعتماده في فعل السبب على الله تعالى. ففعل السبب سنة، والتوكل على الله توحيد. فإذا جمع بينهما تم له مراده بإذن الله.
قوله: " ولا تعجزن " النون نون التأكيد الخفيفة، نهاه عن العجز وذمه، والعجز مذموم شرعًا وعقلا، وفي الحديث: { الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجر من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني } ( ) فأرشده في هذا الحديث إذا أصابه ما يكره أن لا يقول: { لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا. ولكن يقول: قدر الله وما شاء فعل } ( )، أي: هذا قدر الله، والواجب التسليم للقدر، والرضا به، واحتساب الثواب عليه.
قوله: { فإن " لو " تفتح عمل الشيطان } ( ) أي: لما فيها من التأسف على ما فات والتحسر ولوم القدر، وذلك ينافي الصبر والرضا، والصبر واجب، والإيمان بالقدر فرض، قال تعالى: { • • } ( ) (الحديد - 22، 23).
قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب " الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد "، وقال الإمام أحمد: " ذكر الله الصبر في تسعين موضعًا من القرآن.
قال شيخ الإسلام رحمه الله - وذكر حديث الباب بتمامه - ثم قال في معناه: لا تعجز عن مأمور، ولا تجزع عن مقدور، ومن الناس من يجمع كلا الشرين، فأمر النبي بالحرص على النافع والاستعانة بالله، والأمر يقتضي الوجوب، وإلا فالاستحباب، ونهى عن العجز وقال: { إن الله يلوم على العجز } ( ) والعاجز ضد: { } ( )، فالأمر بالصبر والنهي عن العجز مأمور به في مواضع كثيرة؛ وذلك لأن الإنسان بين أمرين: أَمْرٍ أُمِرَ بفعله، فعليه أن يفعله ويحرص عليه، ويستعين الله ولا يعجز، وأمْرٍ أُصِيبَ به من غير فعله. فعليه أن يصبر عليه ولا يجزع منه، ولهذا قال بعض العقلاء - ابن المقفع أو غيره - الأمور أمران: أمر فيه حيلة فلا تعجز عنه، وأمر لا حيلة فيه فلا تجزع منه. وهذا في جميع الأمور، لكن عند المؤمن: الذي فيه حيلة هو ما أمره الله به، وأحبه له. فإن الله لم يأمره إلا بما فيه حيلة له، إذ لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، وقد أمره بكل خير له فيه حيلة. وما لا حيلة له فيه هو ما أصيب به من غير فعله. واسم الحسنات والسيئات يتناول قسمين: الأول: الأفعال مثل قوله تعالى: { } ( ).. (الأنعام- 160) ومثل قوله تعالى: { } ( ) (الإسراء - 7) ومثل قوله تعالى: { } ( ) (الشورى - 40) ومثلها قوله تعالى: { } ( )... (البقرة - 81) إلى آيات كثيرة من هذا الجنس، والله أعلم.
والقسم الثاني: ما يجري على العبد بغير فعله مـن النعم والمصائب. كما قال تعالى: {• } ( ) (النساء - 79) والآية قبلها، فالحسنة في هاتين الآيتين: النعم، والسيئة: المصائب، هذا هو الثاني من القسمين.
وأظن شيخ الإسلام رحمه الله ذكره في هذا الموضع، ولعل الناسخ أسقطه، والله أعلم. ثم قال رحمه الله: فإن الإنسان ليس مأمورًا أن ينظر إلى القدر عندما يؤمر به من الأفعال، ولكن عندما يجري عليه المصائب التي لا حيلة له في دفعها، فما أصابك بفعل الآدميين أو بغير فعلهم فاصبر عليه وارض وسلم، قال تعالى: { } ( ) (التغابن - 11) ولهذا { قال آدم لموسى: " أتلومني على أمر قدره الله علي قبل أن أخلق بأربعين سنة؟ فحجَّ آدمُ موسَى } ( )؛ لأن موسى قال له: " لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة " فلامه على المصيبة التي حصلت بسبب فعله، لا لأجل كونها ذنبا، وأما كونها لأجل الذنب - كما يظنه طوائف من الناس - فليس مرادًا بالحديث، فإن آدم عليه السلام كان قد تاب من الذنب، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له. ولا يجوز لوم التائب باتفاق الناس، انتهى.
قال العلامة ابن القيم رحمه الله: فتضمن هذا الحديث أصولا عظيمة من أصول الإيمان. أحدها: أن الله سبحانه موصوف بالمحبة وأنه يحب حقيقة.
الثاني: أنه يحب مقتضى أسمائه وصفاته وما يوافقها، فهو القوي، ويحب المؤمن القوي، وهو وتر يحب الوتر، وجميل يحب الجمال، وعليم يحب العلماء، ونظيف يحب النظافة، ومؤمن يحب المؤمنين، ومحسن يحب المحسنين، وصابر يحب الصابرين، وشاكر يحب الشاكرين.
ومنها أن محبته للمؤمنين تتفاضل، فيحب بعضهم أكثر من بعض.
ومنها: أن سعادة الإنسان في حرصه على ما ينفعه في معاشه ومعاده، والحرص هو بذل الجهد واستفراغ الوسع، فإذا صادف ما ينتفع به الحريص كان حرصه محمودًا. وكماله كله في مجموع هذين الأمرين: أن يكون حريصًا، وأن يكون حرصه على ما ينتفع به، فإن حرص على ما لا ينفعه، أو فعل ما ينفعه من غير حرص، فاته من الكمال بقدر ما فاته من ذلك، فالخير كله في الحرص على ما ينفع.
ولما كان حرص الإنسان وفعله إنما هو بمعونة الله ومشيئته وتوفيقه: أمره أن يستعين بالله ليجتمع له مقام: { } ( ) فإن حرصه على ما ينفعه عبادة لله تعالى. ولا يتم إلا بمعونته، فأمره أن يعبده وأن يستعين به. فالحريص على ما ينفعه، المستعين بالله ضد العاجز، فهذا إرشاد له قبل وقوع المقدور إلى ما هو أعظم أسباب حصوله، وهو الحرص عليه مع الاستعانة بمن أَزِمَّة الأمور بيده ومصدرها منه ومَرَدّها إليه.
فإن فاته ما لم يقدر له فله حالتان: عجز. وهو مفتاح عمل الشيطان، فيلقيه العجز إلى " لو "، ولا فائدة من " لو " ها هنا، بل هي مفتاح اللوم والعجز والسخط والأسف والحزن، وذلك كله من عمل الشيطان، فنهاه عن افتتاح عمله بهذا الافتتاح، وأمره بالحالة الثانية، وهي النظر إلى القدر وملاحظته، ولو أنه قدر له لم يفته ولم يغلبه عليه أحد، فلم يبق له ها هنا أنفع من شهود القدر، ومشيئة الرب النافذة التي توجب وجوب المقدور، وإن انتفت امتنع وجوده.
ولهذا قال: { فإن غلبك أمر فلا تقل: لو أني فعلت كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل } ( ) فأرشده إلى ما ينفعه في الحالتين: حال حصول المطلوب، وحالة فواته، فلهذا كان هذا الحديث مما لا يستغني عنه العبد أبدًا، بل هو أشد إليه ضرورة، وهو يتضمن إثبات القدر والكسب والاختيار، والقيام بالعبودية ظاهرًا وباطنًا في حالتي المطلوب وعدمه، وبالله التوفيق.
المسائل المستنبطة من هذا الباب
فيه مسائل:
الأولى: تفسير الآيتين في آل عمران.
الثانية: النهي الصريح عن قول: " لو " إذا أصابك شيء.
الثالثة: تعليل المسألة بأن ذلك يفتح عمل الشيطان.
الرابعة: الإرشاد إلى الكلام الحسن.
الخامسة: الأمر بالحرص على ما ينفع، مع الاستعانة بالله.
السادسة: النهي عن ضد ذلك، وهو العجز.
باب النهي عن سب الريح
عن أبي بن كعب أن رسول الله قال: { لا تسبوا الريح، فإذا رأيتم ما تكرهون فقولوا: اللهم إنا نسألك من خير هذه الريح، وخير ما فيها، وخير ما أمرت به، ونعوذ بك من شر هذه الريح، وشر ما فيها، وشر ما أمرت به } ( ) صححه الترمذي.
قوله: باب (النهي عن سب الريح)
عن أبي بن كعب أن رسول الله قال: { لا تسبوا الريح فإذا رأيتم ما تكرهون فقولوا: اللهم إنا نسألك من خير هذه الريح وخير ما فيها، وخير ما أمرت به، ونعوذ بك من شر هذه الريح وشر ما فيها وشر ما أمرت به } ( ). صححه الترمذي.
لأنها - أي الريح - إنما تهب عن إيجاد الله تعالى وخلقه لها وأمره؛ لأنه هو الذي أوجدها وأمرها، فمسبتها مسبة للفاعل، وهو الله سبحانه. كما تقدم في النهي عن سب الدهر، وهذا يشبهه، ولا يفعله إلا أهل الجهل بالله ودينه وبما شرعه لعباده، فنهى أهل الإيمان عما يقوله أهل الجهل والجفاء، وأرشدهم إلى ما يجب أن يقال عند هبوب الرياح، فقال: { إذا رأيتم ما تكرهون فقولوا: اللهم إنا نسألك من خير هذه الريح وخير ما فيها وخير ما أمرت به } ( ) يعني إذا رأيتم ما تكرهون من الريح إذا هبت، فارجعوا إلى ربكم بالتوحيد وقولوا: { اللهم إنا نسألك من خير هذه الريح وخير ما فيها، وخير ما أمرت به، ونعوذ بك من شر هذه الريح وشر ما فيها وشر ما أمرت به } ( ) ففي هذا عبودية لله وطاعة له ولرسوله، واستدفاع للشرور به، وتعرض لفضله ونعمته، وهذه حال أهل التوحيد والإيمان، خلافًا لحال أهل الفسوق والعصيان الذين حرموا ذوق طعم التوحيد الذي هو حقيقة الإيمان.
المسائل المستنبطة من هذا الباب
فيه مسائل:
الأولى: النهي عن سب الريح.
الثانية: الإرشاد إلى الكلام النافع إذا رأى الإنسان ما يكره.
الثالثة: الإرشاد إلى أنها مأمورة.
الرابعة: أنها قد تؤمر بخير وقد تؤمر بشر.
باب قول الله تعالى... يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ...
{ • • • } ( ) (آل عمران - 154).
وقوله:... { } ( ) (الفتح -6).
قال ابن القيم في الآية الأولى: فسر هذا الظن بأنه سبحانه لا ينصر رسوله، وأن أمره سيضمحل، وفسر بأن ما أصابه لم يكن بقدر الله وحكمته، ففسر بإنكار الحكمة، وإنكار القدر، وإنكار أن يتم أمر رسوله، وأن يظهره الله على الدين كله. وهذا هو الظن السوء الذي ظن المنافقون والمشركون في سورة الفتح.
وإنما كان هذا ظن السوء؛ لأنه ظن غير ما يليق به سبحانه، وما يليق بحكمته وحمده ووعده الصادق، فمن ظن أنه يديل الباطل على الحق إدالة مستقرة يضمحل معها الحق، أو أنكر أن يكون ما جرى بقضائه وقدره أو أنكر أن يكون قدره لحكمة بالغة يستحق عليها الحمد، بل زعم أن ذلك لمشيئة مجردة، فذلك ظن الذين كفروا، فويل للذين كفروا من النار.
وأكثر الناس يظنون بالله ظن السوء فيما يختص بهم، وفيما يفعله بغيرهم، ولا يسلم من ذلك إلا من عرف الله وأسماءه وصفاته، وموجب حكمته وحمده.
فليعتن اللبيب الناصح لنفسه بهذا، وليتب إلى الله وليستغفره من ظنه بربه ظن السوء، ولو فتشت من فتشت لرأيت عنده تعنتا على القدر وملامة له، وأنه كان ينبغي أن يكون كذا وكذا، فمستقل ومستكثر، وفتش نفسك: هل أنت سالم؟
وإلا فـإني لا إخـالـك نـاجـيا
فإن تنج منها تنج من ذي عظيمة
قوله: باب " قول الله تعالى ":...
{ } ( ) .. الآية: وهذه الآية ذكرها الله في سياق قوله تعالى في ذكر وقعة أحد: { } ( ) يعني أهل الإيمان والثبات والتوكل الصادق، وهم الجازمون بأن الله تعالـى ينصر رسوله وينجز له مأموله، ولهذا قال: { } ( ) يعني لا يغشاهم النعاس من الجزع والقلق والخوف { } ( ) كما قال تعالى: { } ( ) (الفتح - 12)، وهكذا هؤلاء اعتقدوا أن المشركين لما ظهروا تلك الساعة ظنوا أنها الفيصلة، وأن الإسلام قد باد وأهله، وهذا شأن أهل الريب والشك إذا حصل أمر من الأمور الشنيعة.
عن ابن جريج قال: قيل لعبد الله بن أبي: " قتل بنو الخزرج اليوم؟ قال: وهل لنا من الأمور من شيء؟ ".
قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى: في الكلام على ما تضمنته وقعة أحد: وقد فسر هذا الظن الذي لا يليق بالله سبحانه بأنه لا ينصر رسوله، وأن أمره سيضمحل وأنه يسلمه للقتل، وفسر بظنهم أن ما أصابهم لم يكن بقضاء الله وقدره، ولا حكمة له فيه. ففسر بإنكار الحكمة، وإنكار القدر، وإنكار أن يتم أمر رسول الله وأن يظهره على الدين كله. وهذا هو ظن السوء الذي ظنه المنافقون والمشركون في سورة الفتح؛ حيث يقول: { • } ( ) (الفتح - 6)، وإنما كان هذا هو ظن السوء وظن الجاهلية - وهو المنسوب إلى أهل الجهل - وظن غير الحق، لأنه ظن غير ما يليق بأسمائه الحسنى وصفاته العليا وذاته المبرأة من كل عيب وسوء، وخلاف ما يليق بحكمته وحمده وتفرده بالربوبية والإلهية، وما يليق بوعده الصادق الذي لا يخلفه، وبكلمته التي سبقت لرسله أنه ينصرهم ولا يخذلهم. ولجنده بأنهم هم الغالبون. فمن ظن به أنه لا ينصر رسله ولا يتم أمره، ولا يؤيده ويؤيد حزبه ويعليهم ويظفرهم بأعدائهم ويظهرهم، وأنه لا ينصر دينه وكتابه، وأنه يُديل الشرك على التوحيد، والباطل على الحق إدالة مستقرة، يضمحل معها التوحيد والحق اضمحلالا لا يقوم بعده أبدا. فقد ظن بالله ظن السوء، ونسبه إلى خلاف ما يليق بجلاله وكماله وصفاته ونعوته، فإن حمده وعزته وحكمته وإلهيته تأبى ذلك، وتأبى أن يذل حزبه وجنده، وأن تكون النصرة المستقرة والظفر الدائم لأعدائه المشركين به العادلين به، فمن ظن به ذلك فما عرفه ولا عرف أسماءه ولا عرف صفاته وكماله، وكذلك من أنكر أن يكون ذلك بقضائه وقدره، فما عرفه ولا عرف ربوبيته وملكه وعظمته، وكذلك من أنكر أن يكون قدر ما قدره من ذلك وغيره لحكمة بالغة وغاية محمودة يستحق الحمد عليها، وأن ذلك إنما صدر عن مشيئة مجردة لما يحبه، وغاية مطلوبة هي أحب إليه من فواتها، وأن تلك الأسباب المكروهة له المفضية إليها لا يخرج تقديرها عن الحكمة لإفضائها إلى ما يحب وإن كانت مكروهة له، فما قدرها سدى ولا شاءها عبثًا ولا خلقها باطلا: { • } ( ) (ص - 27).
وأكثر الناس يظنون بالله غير الحق ظن السوء فيما يختص بهم، وفيما يفعله بغيره، ولا يسلم من ذلك إلا من عرف الله وعرف أسماءه وصفاته، وعرف موجب حكمته وحمده. فمن قنط من رحمته وأيس من روحه فقد ظن به ظن السوء، ومن جوز عليه أن يعذب أولياءه مع إحسانهم وإخلاصهم، ويسوي بينهم وبين أعدائه، فقد ظن به ظن السوء. ومن ظن أن يترك خلقه سدى معطلين عن الأمر والنهي، لا يرسل إليهم رسله ولا ينزل عليهم كتبه، بل يتركهم هملا كالأنعام، فقد ظن به ظن السوء. ومن ظن أنه لن يجمع عبيده بعد موتهم للثواب والعقاب في دار يجازي المحسن فيها بإحسانه والمسيء بإساءته، ويبين لخلقه حقيقة ما اختلفوا فيه ويظهر للعالمين كلهم صدقه وصدق رسله، وأن أعداءه كانوا هم الكاذبين، فقد ظن به ظن السوء. ومن ظن أنه يضيع عليه عمله الصالح الذي عمله خالصًا لوجهه على امتثال أمره، ويبطله عليه بلا سبب من العبد، وأنه يعاقبه بما لا صنع له فيه ولا اختيار له ولا قدرة ولا إرادة له في حصوله، بل يعاقبه على فعله هو سبحانه به، أو ظن به أنه يجوز عليه أن يؤيد أعداءه الكاذبين عليه بالمعجزات التي يؤيد بها أنبياءه ورسله، ويجريها على أيديهم ليضلوا بها عباده، وأنه يحسن منه كل شيء حتى تعذيب من أفنى عمره في طاعته، فيخلده في الجحيم في أسفل السافلين، ويُنَعم من استنفذ عمره في عداوته وعداوة رسله ودينه فيرفعه إلى أعلى عليين، وكلا الأمرين في الحسن عنده سواء، ولا يعرف امتناع أحدهما ووقوع الآخر إلا بخبر صادق، وإلا فالعقل لا يقضي بقبح أحدهما وحسن الآخر. فقد ظن به ظن السوء.
ومن ظن أنه أخبر عن نفسه وصفاته وأفعاله بما ظاهره باطل وتشبيه وتمثيل، وترك الحق لم يخبر به وإنما رمز إليه رموزًا بعيدة، وأشار إليه إشارات ملغزة ولم يصرح به وصرح دائمًا بالتشبيه والتمثيل والباطل، وأراد من خلقه أن يتعبوا أذهانهم وقواهم وأفكارهم في تحريف كلامه عن مواضعه، وتأويله على غير تأويله، ويتطلبوا له وجوه الاحتمالات المستكرهة والتأويلات التي هي بالألغاز والأحاجي أشبه منها بالكشف والبيان، وأحالهم في معرفة أسمائه وصفاته على عقولهم وآرائهم لا على كتابه، بل أراد منهم أن يحملوا كلامه على ما يعرفونه من خطابهم ولغتهم، مع قدرته على أن يصرح لهم بالحق الذي ينبغي التصريح به، ويريحهم من الألفاظ التي توقعهم في اعتقاد الباطل فلم يفعل، بل سلك بهم خلاف طريق الهدى والبيان. فقد ظن به ظن السوء، فإنه إن قال: إنه غير قادر على التعبير عن الحق باللفظ الصريح الذي عبر به هو وسلفه، فقد ظن بقدرته العجز، وإن قال إنه قادر ولم يبين، وعدل عن البيان وعن التصريح بالحق إلى ما يوهم، بل يوقع في الباطل المحال، والاعتقاد الفاسد. فقد ظن بحكمته ورحمته ظن السوء.
ومن ظن أنه هو وسلفه عبروا عن الحق بصريحه دون الله ورسوله، وأن الهدى والحق في كلامهم وعباراتهم وأما كلام الله فإنما يؤخذ من ظاهره التشبيه والتمثيل والضلال، وظاهر كلام المتهوكين والحيارى هو الهدى والحق، فهذا أسوأ الظن بالله.
فكل هؤلاء من الظانين بالله ظن السوء، ومن الظانين بالله غير الحق ظن الجاهلية ومن ظن به أن يكون في ملكه ما لا يشاء ولا يقدر على إيجاده وتكوينه، فقد ظن بالله ظن السوء.
ومن ظن أنه كان مُعطلا من الأزل إلى الأبد عن أن يفعل، ولا يوصف حينئذ بالقدرة على الفعل، ثم صار قادرًا عليه بعد أن لم يكن قادرا، فقد ظن به ظن السوء.
ومن ظن أنه لا يسمع ولا يبصر ولا يعلم الموجودات، ولا عدد السماوات ولا النجوم، ولا بني آدم وحركاتهم وأفعالهم، ولا يعلم شيئًا من الموجودات في الأعيان، فقد ظن بهم ظن السوء. ومن ظن به أنه لا سمع له ولا بصر، ولا علم ولا إرادة، ولا كلام يقوم به، وأنه لا يكلم أحدًا من الخلق ولا يتكلم أبدا، ولا قال، ولا يقول، ولا له أمر ولا نهي يقوم به، فقد ظن به ظن السوء.
ومن ظن به أنه ليس فوق سمواته على عرشه بائن من خلقه، وأن نسبة ذاته إلى عرشه كنسبتها إلى أسفل سافلين، وإلى الأمكنة التي يرغب عن ذكرها، وأنه أسفل كما أنه أعلى، وأن من قال: سبحان ربي الأسفل كان كمن قال: سبحان ربي الأعلى. فقد ظن به أقبح الظن وأسوأه.
ومن ظن أنه يحب الكفر والفسوق والعصيان، ويحب الفساد كما يحب الإيمان والبر والطاعة والإصلاح: فقد ظن به ظن السوء.
ومن ظن به أنه لا يحب ولا يرضى، ولا يغضب ولا يسخط، ولا يوالي ولا يعادي، ولا يقرب من أحد من خلقه، ولا يقرب منه أحد، وأن ذوات الشياطين في القرب من ذاته كذوات الملائكة المقربين وأوليائه المفلحين، فقد ظن به ظن السوء.
ومن ظن به أنه يسوي بين المتضادين، أو يفرق بين المتساويين من كل وجه، أو يحبط طاعات العمر المديد الخالصة الصواب بكبيرة واحدة تكون بعدها، فيخلد فاعل تلك الطاعات في الجحيم أبد الآبدين بتلك الكبيرة، ويحبط بها جميع طاعاته ويخلد في العذاب كما يخلد من لم يؤمن به طرفة عين، واستنفذ ساعات عمره في مساخطه ومعاداة رسله ودينه، فقد ظن به ظن السوء.
ومن ظن به أن له ولدًا أو شريكا، أو أن أحدًا يشفع عنده بدون إذنه، أو أن بينه وبين خلقه وسائط يرفعون حوائجهم إليه، وأنه نصب لعباده أولياء من دونه يتقربون بهم إليه، ويتوصلون بهم إليه، ويجعلونهم وسائط بينه وبينهم، فيدعونهم ويخافونهم ويرجونهم، فقد ظن به أقبح الظن وأسوأه.
ومن ظن به أنه ينال ما عنده بمعصيته ومخالفته، كما يناله بطاعته والتقرب إليه، فقد ظن به خلاف حكمته وخلاف موجب أسمائه وصفاته، وهو من ظن السوء.
ومن ظن به أنه إذا ترك شيئًا من أجله لم يعوضه خيرًا منه، أو من فعل شيئًا لأجله لم يعطه أفضل منه، فقد ظن به ظن السوء.
ومن ظن به أنه يغضب على عبده ويعاقبه ويحرمه بغير جرم ولا سبب من العبد، إلا بمجرد المشيئة ومحض الإرادة، فقد ظن به ظن السوء.
ومن ظن به أنه إذا صدقه في الرغبة والرهبة، وتضرع إليه وسأله، واستعان به وتوكل عليه أنه يخيبه ولا يعطيه ما سأله، فقد ظن به ظن السوء، وظن به خلاف ما هو أهله.
ومن ظن أنه يثيبه إذا عصاه كما يثيبه إذا أطاعه، وسأله ذلك في دعائه، فقد ظن به خلاف ما تقتضيه حكمته وحمده، وخلاف ما هو أهله وما لا يفعله.
ومن ظن به أنه إذا أغضبه وأسخطه وأوضع في معاصيه، ثم اتخذ من دونه أولياء، ودعا من دونه ملكًا أو بشرًا حيًّا أو ميتًا يرجو بذلك أن ينفعه عند ربه، ويخلصه من عذابه، فقد ظن به ظن السوء.
فأكثر الخلق بل كلهم - إلا من شاء الله - يظنون بالله غير الحق وظن السوء، فإن غالب بني آدم يعتقد أنه مبخوس الحق ناقص الحظ، وأنه يستحق فوق ما شاءه الله وأعطاه. ولسان حاله يقول: ظلمني ربي ومنعني ما أستحقه، ونفسه تشهد عليه بذلك، وهو بلسانه ينكره ولا يتجاسر على التصريح به. ومن فتش نفسه وتغلغل في معرفة طواياها رأى ذلك فيها كامنًا كمون النار في الزناد، فاقدح زناد من شئت ينبئك شراره عما في زناده، ولو فتشت من فتشت لرأيت عنده تعنتًا (وتعتبًا) على القدر وملامة له، واقتراحًا عليه خلاف ما جرى به، وإنه كان ينبغي أن يكون كذا وكذا. فمستقل ومستكثر، وفتش نفسك هل أنت سالم من ذلك؟
وإلا فـإني لا إخـالـك ناجـيا
فإن تنج منها تنج من ذي عظيمة
فليعتن اللبيب الناصح لنفسه بهذا الموضع، وليتب إلى الله ويستغفره في كل وقت من ظنه بربه ظن السوء، وليظن السوء بنفسه التي هي مادة كل سوء ومنبع كل شر، المركبة على الجهل والظلم. فهي أولى بظن السوء من أحكم الحاكمين، وأعدل العادلين، وأرحم الراحمين الغني الحميد، الذي له الغنى التام، والحمد التام، والحكمة التامة، المنزه عن كل سوء في ذاته وصفاته، وأفعاله وأسمائه، فذاته لها الكمال المطلق من كل وجه، وصفاته كذلك، وأفعاله كلها حكمة ومصلحة، ورحمة وعدل، وأسماؤه كلها حسنى.
فـإن اللـه أولى بـالجـميـل
فـكيـف بظـالـم جـان جهول
أتـرجـو الخيـر مـن ميت بخيل؟
كـذاك، وخـيرهـا كـالـمستحيل
فتـلك مـواهب الـرب الجـليل
مـن الـرحمن، فاشكـر للـدليـل
فـلا تـظنـن بربك ظـن سـوء
ولا تـظنـن بنفسك قـط خـيرًا
وقـل: يـا نـفس مـأوى كل سوء
وظـن بنـفسـك السـوأى تجـدها
ومـا بـك مـن تـقى فيهـا وخير
وليـس لهـا ولا منهـا، ولـكـن
أ. هـ
قـوله: { } ( ) قـال ابـن جـريـر في تفسـيره { } ( ) . الظانين بالله أنه لن ينصرك وأهل الإيمان بك على أعدائك، ولن يظهر كلمته، فيجعلها العليا على كلمة الكافرين به. وذلك كان السوء من ظنونهم حتى ذكرها الله في هذا الموضع. يقول تعالى ذكره: على المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الذين ظنوا هذا الظن دائرة السوء. يعني دائرة العذاب تدور عليهم به. واختلف القراء في قراءة ذلك: فقرأته عامة قراء الكوفة (دائرة السوء) بفتح السين. وقرأ بعض قراء البصر (دائرة السوء) بالضم، وكان الفراء يقول: الفتح أفشى في السين. وقل ما تقول العرب (دائرة السوء) بضم السين.
وقوله: { } ( ) يعني ونالهم الله بغضب منه ولعنهم. يقول: وأبعدهم فأقصاهم من رحمته { • } ( ) يقول: وأعد لهم جهنم يصلونها يوم القيامة { } ( ) يقول: وساءت جهنم منزلا يصير إليه هؤلاء المنافقون والمنافقات والمشركون والمشركات.
وقال العماد ابن كثير رحمه الله تعالى: { } ( ) أي: يتهمون الله في حكمه، ويظنون بالرسول وأصحابه أن يقتلوا ويذهبوا بالكلية. ولـهذا قال تعالى: { } ( ) وذكر في معنى الآية الآخرة نحوًا مما ذكره ابن جرير رحمهما الله تعالى.
قوله: " قال ابن القيم رحمه الله تعالى... " الذي ذكره المصنف في المتن قدمته لاندراجه في كلامه الذي سقته من أوله إلى آخره.
المسائل المستنبطة من هذا الباب
فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية آل عمران.
الثانية: تفسير آية الفتح.
الثالثة: الإخبار بأن ذلك أنواع لا تحصر.
الرابعة: أنه لا يسلم من ذلك إلا من عرف الأسماء والصفات وعرف نفسه.
باب ما جاء في منكري القدر
وقال ابن عمر: { والذي نفس ابن عمر بيده، لو كان لأحدهم مثل أحد ذهبا، ثم أنفقه في سبيل الله ما قبله الله منه، حتى يؤمن بالقدر. ثم استدل بقول النبي الإيمان: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره } ( ) رواه مسلم.
{ وعن عبادة بن الصامت أنه قال لابنه: " يا بني، إنك لن تجد طعم الإيمان حتى تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، سمعت رسول الله يقول: إن أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب، فقال: رب، وماذا أكتب؟ قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة، يا بني سمعت رسول الله يقول: من مات على غير هذا فليس مني } ( ).
وفي رواية لأحمد: { إن أول ما خلق الله تعالى القلم. فقال: اكتب، فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة } ( ).
وفي رواية لابن وهب: قال رسول الله { فمن لم يؤمن بالقدر خيره وشره أحرقه الله بالنار }.
وفي المسند والسنن { عن ابن الديلمي قال: " أتيت أبي بن كعب، فقلت: في نفسي شيء من القدر، فحدثني بشيء لعل الله يذهبه من قلبي، فقال: لو أنفقت مثل أحد ذهبا ما قبله الله منك حتى تؤمن بالقدر، وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، ولو مت على غير هذا لكنت من أهل النار. قال: فأتيت عبد الله بن مسعود، وحذيفة بن اليمان، وزيد بن ثابت، فكلهم حدثني بمثل ذلك عن النبي } ( ) حديث صحيح رواه الحاكم في صحيحه.
قوله: باب " ما جاء في منكري القدر "
أي: من الوعيد الشديد ونحو ذلك.
أخرج أبو داود عن عبد العزيز بن أبي حازم عن أبيه عن ابن عمر -رضي الله عنهما- عن النبي قال: { القدرية مجوس هذه الأمة، إن مرضوا فلا تعودوهم، وإن ماتوا فلا تشهدوهم } ( ).
وعن عمر مولى غفرة عن رجل من الأنصار عن حذيفة - وهو ابن اليمان - رضي الله عنهما قال: قال رسول الله { لكل أمة مجوس، ومجوس هذه الأمة الذين يقولون: لا قدر، من مات منهم فلا تشهدوا جنازته ومن مرض منهم فلا تعودوه، وهم شيعة الدجال، وحق على الله أن يلحقهم بالدجال } ( ).
قوله: " وقال ابن عمر: والذي نفسي بيده... إلخ " حديث ابن عمر هذا أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه { عن يحيى بن يعمر قال: " كان أول من تكلم في القدر بالبصرة معبد الجهني، فانطلقت أنا وحميد بن عبد الرحمن الحميري حاجين، أو معتمرين، فقلنا: لو لقينا أحدًا من أصحاب رسول الله فسألناه عما يقول هؤلاء في القدر؟ فوفَّق الله تعالى لنا عبد الله بن عمر داخلا في المسجد، فاكتنفته أنا وصاحبي، فظننت أن صاحبي سيكل الكلام إليَّ، فقلت: أبا عبد الرحمن، إنه قد ظهر قِبَلنا أناس يقرءون القرآن، ويتقفرون العلم يزعمون أن لا قدر، وأن الأمر أنف، فقال: إذا لقيت أولئك فأخبرهم أني منهم بريء، وأنهم مني برآء. والذي يحلف به عبد الله بن عمر لو أن لأحدهم مثل أحد ذهبًا فأنفقه في سبيل الله ما قبله الله منه، حتى يؤمن بالقدر، ثم قال حدثني عمر بن الخطاب قال: " بينما نحن جلوس عند رسول الله إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد. حتى جلس إلى النبي فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه. وقال: يا محمد أخبرني عن الإسلام. قال رسول الله الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا. قال: صدقت. فعجبنا له يسأله ويصدقه. قال: فأخبرني عن الإيمان. قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره، قال: صدقت. قال: فأخبرني عن الإحسان، قال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك. قال: فأخبرني عن الساعة، قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل. قال: فأخبرني عن أمارتها قال: أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان. قال فانطلق. فلبث ثلاثا، وفي رواية مَلِيًّا، ثم قال يا عمر أتدري من السائل؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإنه جبريل أتاكم يعلكم دينكم } ( ).
ففي هذا الحديث أن الإيمان بالقدر من أصول الإيمان الستة المذكورة، فمن لم يؤمن بالقدر خيره وشره فقد ترك أصلا مـن أصول الدين وجحده، فيشبه من قال الله فيهم: { } ( )....... الآية) (البقرة- 85).
قوله: " وعن عبادة... " قد تقدم ذكره في باب فضل التوحيد، وحديثه هذا رواه أبو داود ورواه الإمام أحمد بكماله قال: حدثنا الحسن بن سوار حدثنا ليث عن معاوية عن أيوب بن زياد، حدثني عبادة بن الوليد بن عبادة حدثنى أبي قال: { دخلت على عبادة وهو مريض أتخايل فيه الموت، فقلت: يا أبتاه أوصني واجتهد لي، فقال: أجلسوني. قال: يا بني إنك لن تجد طعم الإيمان، ولن تبلغ حقيقة العلم بالله حتى تؤمن بالقدر خيره وشره، قلت: يا أبتاه فكيف لي أن أعلم ما خير القدر وشره؟ قال: تعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك، يا بني سمعت رسول الله يقول: " إن أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب، فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة. يا بني، إن مت ولست على ذلك دخلت النار } ( ). ورواه الترمذي بسنده المتصل إلى عطاء بن أبي رباح عن الوليد بن عبادة عن أبيه، وقال: حسن صحيح غريب.
وفي هذا الحديث ونحوه: بيان شمول علم الله تعالى وإحاطته بما كان وما يكون في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: { • • • } ( ) (الطلاق - 12).
وقد قال الإمام أحمد رحمه الله لما سئل عن القدر، قال: " القدر قدرة الرحمن "، واستحسن ابن عقيل هذا من أحمد رحمه الله.
والمعنى: أنه لا يمنع عن قدرة الله شيء. ونفاة القدر قد جحدوا كمال قدرة الله تعالى فضلوا سواء السبيل، وقد قال بعض السلف: ناظروهم بالعلم، فإن أقروا به خُصموا، وإن جحدوه كفروا.
قوله: " وفي المسند وسنن أبي داود عن ابن الديلمي... " وهو أبو بسر - بالسين المهملة، وبالباء المضمومة - ويقال: أبو بشر - بالشين المعجمة وكسر الباء - وبعضهم صحح الأول. واسمه عبد الله بن فيروز. ولفظ أبي داود قال: { لو أن الله عذب أهل سمواته وأهل أرضه، عذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته خيرًا لهم من أعمالهم، ولو أنفقت مثل أحد ذهبًا ما قبله الله منك حتى تؤمن بالقدر، وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك، ولو مت على غير هذا لكنت من أهل النار. قال: فأتيت عبد الله بن مسعود فقال مثل ذلك، ثم أتيت حذيفة بن اليمان فقال مثل ذلك، قال: ثم أتيت زيد بن ثابت، قال: فحدثني عن النبي مثل ذلك } ( ) وأخرجه ابن ماجه.
وقال العماد ابن كثير رحمه الله: عن سفيان عن منصور عن ربعي بن حراش عن رجل، عن علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله { لا يؤمن عبد حتى يؤمن بأربع: يشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله بعثني بالحق، ويؤمن بالبعث بعد الموت، ويؤمن بالقدر خيره وشره } ( ) وكذا رواه الترمذي عن النضر بن شميل عن شعبة عن منصور به. ورواه من حديث أبي داود الطيالسي عن شعبة عن ربعي عن علي فذكره.
وقد ثبت في صحيح مسلم من رواية عبد الله بن وهب وغيره عن أبي هانئ الخولاني، عن أبي عبد الرحمن الْحُبُلي عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله { إن الله كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة - زاد ابن وهب: وكان عرشه على الماء } ( ) رواه الترمذي وقال: حديث حسن غريب.
وكل هذه الأحاديث وما في معناها فيها الوعيد الشديد على عدم الإيمان بالقدر، وهي الحجة على نفاة القدر من المعتزلة وغيرهم. ومن مذهبهم تخليد أهل المعاصي في النار. وهذا الذي اعتقدوه من أكبر الكبائر وأعظم المعاصي.
وفي الحقيقة إذا اعتبرنا إقامة الحجة عليهم بما تواترت به نصوص الكتاب والسنة من إثبات القدر، فقد حكموا على أنفسهم بالخلود في النار إن لم يتوبوا. وهذا لازم لهم على مذهبهم هذا، وقد خالفوا ما تواترت به أدلة الكتاب والسنة من إثبات القدر، وعدم تخليد أهل الكبائر من الموحدين في النار.
المسائل المستنبطة من هذا الباب
فيه مسائل:
الأولى: بيان كيفية الإيمان بالقدر.
الثانية: بيان كيفية الإيمان.
الثالثة: إحباط عمل من لم يؤمن به.
الرابعة: الإخبار أن أحدا لا يجد طعم الإيمان حتى يؤمن به.
الخامسة: ذكر أول ما خلق الله.
السادسة: أنه جرى بالمقادير في تلك الساعة إلى قيام الساعة.
السابعة: براءته ممن لم يؤمن به.
الثامنة: عادة السلف في إزالة الشبهة بسؤال العلماء.
التاسعة: أن العلماء أجابوه بما يزيل شبهته، وذلك أنهم نسبوا الكلام إلى رسول الله فقط.
باب ما جاء في المصورين
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله قال الله تعالى: { ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي، فليخلقوا ذرة، أو ليخلقوا حبة، أو ليخلقوا شعيرة } ( ) أخرجاه.
ولهما عن عائشة رضي الله عنها، أن رسول الله قال: { أشد الناس عذابا يوم القيامة الذين يضاهئون بخلق الله } ( ).
ولهما عن ابن عباس: سمعت رسول الله يقول: { كل مصور في النار، يجعل له بكل صورة صورها نفس يعذب بها في جهنم } ( ).
ولهما عنه مرفوعا: { من صور صورة في الدنيا كلف أن ينفخ فيها الروح، وليس بنافخ } ( ).
ولمسلم عن أبي الهياج قال: { قال لي علي: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله ؟ ألا تدع صورة إلا طمستها، ولا قبرا مشرفا إلا سويته } ( ).
قوله: باب " ما جاء في المصورين "
أي: من عظيم عقوبة الله لهم وعذابه. وقد ذكر النبي - -العلة: وهي المضاهاة بخلق الله؛ لأن الله تعالى له الخلق والأمر، فهو رب كل شيء ومليكه، وهو خالق كل شيء، وهو الذي صوَّر جميع المخلوقات، وجعل فيها الأرواح التي تحصل بها الحياة، كما قال تعالى: { • • • • } ( ) (السجدة - 7 - 9)، فالمصور لما صور الصورة على شكل ما خلقه الله تعالى من إنسان وبهيمة صار مضاهئًا لخلق الله. فصار ما صوره عذابًا له يوم القيامة، وكلف أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ. فكان أشد الناس عذابا؛ لأن ذنبه من أكبر الذنوب.
فإن كان هذا فيمن صور صورة على مثال ما خلقه الله تعالى من الحيوان، فكيف بحال من سوى المخلوق برب العالمين، وشبهه بخلقه، وصرف له شيئًا من العبادة التي ما خلق الله الخلق إلا ليعبدوه وحده بما لا يستحقه غيره من كل عمل يحبه الله من العبد ويرضاه. فتسوية المخلوق بالخالق بصرف حقه لمن لا يستحقه من خلقه، وجعله شريكًا له فيما اختص به تعالى وتقدس، هو أعظم ذنب عصي الله تعالى به. ولهذا أرسل رسله، وأنزل كتبه؛ لبيان هذا الشرك والنهي عنه، وإخلاص العبادة بجميع أنواعها لله تعالى. فنَجَّى الله تعالى رسله ومن أطاعهم، وأهلك من جحد التوحيد، واستمر على الشرك والتنديد، فما أعظمه من ذنب: { • } ( ) (النساء - 48)، { } ( ) (الحج - 31).
قوله: " ولمسلم عن أبي الهياج الأسدي - حيان بن حصين - قال: قال لي علي رضي الله عنه... "، هو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
قوله: { ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله - ؟ أن لا تدع صورة إلا طمستها ولا قبرًا مشرفًا إلا سويته } ( ).
فيه تصريح بأن النبي بعث عليًّا لذلك. أما الصور فلِمُضَاهاتها لخلق الله. وأما تسوية القبور فلما في تَعْليتها من الفتنة بأربابها وتعظيمها، وهو من ذرائع الشرك ووسائله. فصرف الهمم إلى هذا وأمثاله من مصالح الدين ومقاصده وواجباته. ولما وقع التساهل في هذه الأمور وقع المحذور، وعظمت الفتنة بأرباب القبور، وصارت محطًّا لرحال العابدين المعظمين لها فصرفوا لها جُل العبادة: من الدعاء والاستعانة والاستغاثة، والتضرع لها، والذبح لها، والنذور، وغير ذلك من كل شرك محظور.
قال العلامة ابن القيم رحمه الله: ومن جمَع بين سنة رسول الله في القبور، وما أمَر به ونهى عنه وما كان عليه أصحابه، وبين ما عليه أكثر الناس اليوم. رأى أحدهما مُضادًا للآخر، مُناقضًا له بحيث لا يجتمعان أبدًا. فنهى رسول الله عن الصلاة إلى القبور، وهؤلاء يصلون عندها وإليها، ونهى عن اتخاذها مساجد، وهؤلاء يبنون عليها المساجد، ويسمونها مشاهد مضاهاة لبيوت الله. ونهى عن إيقاد السرج عليها، وهؤلاء يوقفون الوقوف على إيقاد القناديل عليها. ونهى عن أن تُتخذ عيدًا، وهؤلاء يتخذونها أعيادًا ومناسك، ويجتمعون لها كاجتماعهم للعيد أو أكثر. وأمر بتسويتها، كما روى مسلم في صحيحه عن أبي الهياج الأسدي - فذكر حديث الباب - وحديث ثُمَامة بن شُفَيّ وهو عند مسلم أيضًا قال: { كنا مع فضالة بن عبيد بأرض الروم برودس، فتوفي صاحب لنا، فأمر فضالة بقبره فسُوِّيَ، ثم قال: سمعت رسول الله - يأمر بتسويتها } ( ) وهؤلاء يبالغون في مخالفة هذين الحديثين، ويرفعونها عن الأرض كالبيت، ويعقدون عليها القباب. ونهى عن تجصيص القبر والبناء عليه. كما روى مسلم في صحيحه عن جابر قال: { نهى رسول الله عن تجصيص القبر، وأن يُقْعَد عليه، وأن يُبْنَى عليه } ( ). ونهى عن الكتابة عليها، كما روى أبو داود في سننه عن جابر أن رسول الله { نهى عن تجصيص القبور، وأن يكتب عليها } ( ) قال الترمذي: حديث حسن صحيح، وهؤلاء يتخذون عليها الألواح، ويكتبون عليها القرآن وغيره، ونهى أن يزاد عليها غير ترابها. كما روى أبو داود عن جابر أيضًا أن رسول الله - { نهى أن يجصص القبر، أو يكتب عليه، أو يزاد عليه } ( ) وهؤلاء يزيدون عليه الآجُرّ والجص والأحجار، قال إبراهيم النخعي: كانوا يكرهون الآجُرّ على قبورهم.
والمقصود: أن هؤلاء المُعظمين للقبور المتخذين إياها أعيادًا، الموقدين عليها السُّرُج، الذين يبنون عليها المساجد والقباب مناقضون لما أمر به رسول الله محادون لما جاء به، وأعظم ذلك اتخاذها مساجد، وإيقاد السرج عليها. وهو من الكبائر. وقد صرح الفقهاء من أصحاب أحمد وغيرهم بتحريمه.
قال أبو محمد المقدسي: ولو أبيح اتخاذ السرج عليها لم يلعن من فعله؛ ولأن فيه تضييعًا للمال في غير فائدة، وإفراطًا في تعظيم القبور أشبه تعظيم الأصنام. قال: ولا يجوز اتخاذ المساجد على القبور لهذا الخبر؛ ولأن النبي قال: { لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد. يحذر ما صنعوا } ( ) متفق عليه. ولأن تخصيص القبور بالصلاة عندها يشبه تعظيم الأصنام بالسجود لها والتقرب إليها، وقد روينا أن ابتداء عبادة الأصنام تعظيم الأموات باتخاذ صورهم، والتمسح بها والصلاة عندها. انتهى.
وقد آل الأمر بهؤلاء الضُّلال المشركين إلى أن شرعوا للقبور حجًّا، ووضعوا لها مناسك حتى صنف بعض غلاتهم في ذلك كتابًا وسماه مناسك حج المشاهد، مضاهاة منه للقبور بالبيت الحرام، ولا يخفى أن هذا مفارقة لدين الإسلام، ودخول في دين عباد الأصنام، فانظر إلى هذا التباين العظيم بين ما شرعه رسول الله وقصده، من النهي عما تقدم ذكره في القبور، وبين ما شرعه هؤلاء وقصدوه، ولا ريب أن في ذلك من المفاسد ما يعجز عن حصره.
فمنها: تعظيم المُوقع في الافتتان بها. ومنها: اتخاذها أعيادًا، ومنها السفر إليها. ومنها: مشابهة عباد الأصنام بما يفعل عندها من العكوف عليها والمجاورة عندها وتعليق الستور عليها وسدانتها، وعبادها يرجحون المُجاورة عندها على المجاورة عند المسجد الحرام، ويرون سدانتها أفضل من خدمة المساجد، والويل عندهم لقيمها ليلة يطفئ القنديل المعلق عليها. ومنها: النذر لها ولسدنتها. ومنها: اعتقاد المشركين فيها أن بها يكشف البلاء وينصر على الأعداء، ويستنزل غيث السماء، وتفرج الكروب، وتقضى الحوائج، وينصر المظلوم، ويجار الخائف إلى غير ذلك. ومنها: الدخول في لعنة الله ورسوله باتخاذ المساجد عليها، وإيقاد السرج عليها. ومنها: الشرك الأكبر الذي يفعل عندها.
ومنها: إيذاء أصحابها بما يفعله المشركون بقبورهم، فإنهم يؤذيهم ما يفعل عند قبورهم، ويكرهونه غاية الكراهية، كما أن المسيح عليه السلام يكره ما يفعله النصارى، وكذلك غيره من الأنبياء والأولياء والمشايخ يؤذيهم ما يفعله أشباه النصارى عند قبورهم. ويـوم القيامة يتبرءون منهم، كما قال تعالى: { • } ( ) (الفرقان - 17-18) قال الله تعالى للمشركين: { } ( ) (الفرقان - 19) وقال تعالى: { •• } ( ) (المائدة - 116)، وقال تعالى: { } ( ) (سبأ - 40، 41).
ومنها: إماتة السنن وإحياء البدع.
ومنها: تفضيلها على خير البقاع وأحبها إلى الله، فإن عباد القبور يقصدونها مع التعظيم والاحترام والخشوع ورقة القلب، والعكوف بالهمة على الموتى بما لا يفعلونه في المساجد ولا يحصل لهم فيها نظيره ولا قريب منه.
ومنها: أن الذي شرعه الرسول عند زيارة القبور إنما هو تذكر الآخرة، والإحسان إلى المزور بالدعاء له والترحم عليه، والاستغفار له، وسؤال العافية له؛ فيكون الزائر محسنًا إلى نفسه وإلى الميت، فقلَب هؤلاء المشركون الأمر وعكسوا الدين، وجعلوا المقصود بالزيارة الشرك بالميت، ودعاءه والدعاء به، وسؤاله حوائجهم، واستنزال البركة منه، ونصره لهم على الأعداء، ونحو ذلك فصاروا مسيئين إلى أنفسهم وإلى الميت.
وكان رسول الله قد نهى الرجال عن زيادة القبور سدًّا للذريعة، فلما تمكن التوحيد في قلوبهم أذن لهم في زيارتها على الوجه الذي شرعه، ونهاهم أن يقولوا هُجْرًا، ومن أعظم الهجر، الشرك عندها قولا وفعلا.
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله { زوروا القبور، فإنها تذكر الموت } ( ) وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: مر رسول الله بقبور المدينة، فأقبل عليهم بوجهه، فقال: { السلام عليكم يا أهل القبور، يغفر الله لنا ولكم، أنتم سلفنا ونحن بالأثر } ( ) رواه أحمد والترمذي وحسنه.
فهذه الزيارة التي شرعها رسول الله لأمته، وعلمهم إياها، هل تجد فيها شيئًا مما يعتمده أهل الشرك والبدع؟ أم تجدها مضادة لما هم عليه من كل وجه؟ وما أحسن ما قال مالك بن أنس رحمه الله: " لن يُصلح آخرَ هذه الأمة إلا ما أصلح أولها ". ولكن كلما ضعف تمسك الأمم بعهود أنبيائهم ونقص إيمانهم عُوِّضُوا عن ذلك بما أحدثوه من البدع والشرك.
ولقد جرَّد السلف الصالح التوحيد وحموْا جانبه، حتى كان أحدهم إذا سلم على النبي ثم أراد الدعاء استقبل القبلة، وجعل ظهره إلى جدار القبر، ثم دعا ونص على ذلك الأئمة الأربعة: أنه يستقبل القبلة وقت الدعاء، حتى لا يدعو عند القبر، فإن الدعاء عبادة، وفي الترمذي وغيره: { الدعاء هو العبادة } ( )، فجرد السلف العبادة لله ولم يفعلوا عند القبور منها إلا ما أذن فيه رسول الله من الدعاء لأصحابها والاستغفار لهم والترحم عليهم، وأخرج أبو داود عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - { لا تجعلوا بيوتكم قبورًا، ولا تجعلوا قبري عيدًا، وصلوا عليَّ فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم } ( ) وإسناده جيد ورواته ثقات مشاهير.
وقوله: { لا تجعلوا بيوتكم قبورا } ( ) أي: لا تعطلوها عن الصلاة فيها والدعاء والقراءة فتكون بمنزلة القبور، فأمر بتحري النافلة في البيوت، ونهى عن تحري النافلة عند القبور، وهذا ضد ما عليه المشركون من النصارى وأشباههم.
ثم إن في تعظيم القبور واتخاذها أعيادًا من المفاسد العظيمة التي لا يعلمها إلا الله ما يغضب لأجله كل من في قلبه وقار لله وغيرة على التوحيد، وتهجين وتقبيح للشرك، ولكن ما لجرح بميت إيلام.
فمن المفاسد: اتخاذها أعيادًا والصلاة إليها والطواف بها، وتقبيلها واستلامها، وتعفير الخدود على ترابها، وعبادة أصحابها، والاستغاثة بهم، وسؤالهم النصر والرزق والعافية، وقضاء الدَّيْن، وتفريج الكربات، وإغاثة اللهفات، وغير ذلك من أنواع الطلبات، التي كان عباد الأوثان يسألونها أوثانهم. فلو رأيت غلاة المتخذين لها عيدًا، وقد نزلوا عن الأكوار والدواب إذا رأوها من مكان بعيد، فوضعوا لها الجباه، وقبَّلوا الأرض، وكشفوا الرؤوس، وارتفعت أصواتهم بالضجيج وتباكوا حتى تسمع لهم النشيج، ورأوا أنهم قد أربوا في الربح على الحجيج، فاستغاثوا بمن لا يبدئ ولا يعيد، ونادوا ولكن من مكان بعيد، حتى إذا دنوا منها صلوا عند القبر ركعتين، ورأوا أنهم قد أحرزوا من الأجر ما لا يبلغه أجر من صلى إلى القبلتين، فتراهم حول القبر رُكعًا سُجدًا يبتغون فضلا من الميت ورضوانًا، وقد ملأوا أكفهم خيبة وخسرانًا.
فلغير الله - بل للشيطان - ما يُراق هناك من العبرات، ويرتفع من الأصوات، ويُطلب من الميت من الحاجات، ويُسأل من تفريج الكربات، وإغاثة اللهفات، وإغناء ذوي الفاقات، ومعافاة ذوي العاهات والبليات، ثم انثنوا بعد ذلك حول القبر طائفين، تشبيهًا له بالبيت الحرام الذي جعله الله مباركًا وهدى للعالمين. ثم أخذوا في التقبيل والاستلام. أرأيت الحجر الأسود وما يفعل به وفد البيت الحرام؟ ثم عفروا لديه تلك الجباه والخدود، التي يعلم الله أنها لم تعفر كذلك بين يديه في السجود، ثم كملوا مناسك حج القبر بالتقصير هناك والحلاق، واستمتعوا بخلاقهم من ذلك الوثن؛ إذ لم يكن لهم عند الله من خلاق، وقد قربوا لذلك الوثن القرابين، وكانت صلاتهم ونسكهم وقربانهم لغير الله رب العالمين، فلو رأيتهم يهنئ بعضهم بعضًا ويقول: أجزل الله لنا ولكم أجرًا وافرًا وحظًّا، فإذا رجعوا سألهم غلاة المتخلفين أن يبيع أحدهم ثواب حجة القبر بحجة المتخلف إلى البيت الحرام، فيقول: لا، ولا بحجك كل عام.
هذا، ولم نتجاوز فيما حكيناه عنهم، ولا استقصينا جميع بدعهم وضلالهم؛ إذ هي فوق ما يخطر بالبال، ويدور في الخيال، وهذا مبدأ عبادة الأصنام في قوم نوح كما تقدم. وكل مَن شم أدنى رائحة من العلم والفقه يعلم أن من أهم الأمور سد الذريعة إلى هذا المحظور. وأن صاحب الشرع أعلم بعاقبة ما نهى عنه وما يؤول إليه، وأحكم في نهيه عنه وتوعده عليه، وأن الخير والهدى في اتباعه وطاعته، والشر والضلال في معصيته ومخالفته. ا هـ كلامه رحمه الله تعالى.
المسائل المستنبطة من هذا الباب
فيه مسائل:
الأولى: التغليظ الشديد في المصورين.
الثانية: التنبيه على العلة، وهو ترك الأدب مع الله، لقوله: { ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي } ( ).
الثالثة: التنبيه على قدرته وعجزهم، لقوله: {فليخلقوا ذرة أو حبة أو شعيرة } ( ).
الرابعة: التصريح بأنهم أشد الناس عذابا.
الخامسة: أن الله يخلق بعدد كل صورة نفسا يعذب بها المصور في جهنم.
السادسة: أنه يكلف أن ينفخ فيها الروح.
السابعة: الأمر بطمسها إذا وجدت.
باب ما جاء في كثرة الحلف
وقول الله تعالى:... { } ( )... (المائدة - 89).
عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله يقول: " { الحلف منفقة للسلعة، ممحقة للكسب } ( ) أخرجاه.
وعن سلمان: أن رسول الله قال: { ثلاثة لا يكلمهم الله ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: أشيمط زان، وعائل مستكبر، ورجل جعل (الله) بضاعته، لا يشتري إلا بيمينه، ولا يبيع إلا بيمينه } ( ) رواه الطبراني بسند صحيح.
وفي الصحيح عن عمران بن حصين قال: قال رسول الله { خير أمتي قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، قال عمران: فلا أدري أذكر بعد قرنه مرتين أو ثلاثا؟ ثم إن بعدكم قوما يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يوفون، ويظهر فيهم السمن } ( ).
وفيه عن ابن مسعود: أن النبي قال: { خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته } ( ).
قال إبراهيم: " كانوا يضربوننا على الشهادة والعهد ونحن صغار ".
قوله: باب " ما جاء في كثرة الحلف "
أي: من النهي عنه والوعيد. " وقول الله تعالى: { } ( ) (المائدة - 89).
قال ابن جرير: لا تتركوها بغير تكفير. وذكر غيره من المفسرين عن ابن عباس " يريد لا تحلفوا ". وقال آخرون: احفظوا أيمانكم عن الحنث فلا تحنثوا.
والمصنف أراد من الآية المعنى الذي ذكره ابن عباس؛ فإن القولين متلازمان، فيلزم من كثرة الحلف كثرة الحنث مع ما يدل عليه من الاستخفاف، وعدم التعظيم لله، وغير ذلك مما ينافي كمال التوحيد الواجب أو عدمه.
قوله: " عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله يقول: { الحلف منفقة للسلعة ممحقة للكسب } ( ) أخرجاه. أي: البخاري ومسلم. وأخرجه أبو داود والنسائي.
والمعنى: أنه إذا حلف على سلعته أنه أُعْطِيَ فيها كذا وكذا، أو أنه اشتراها بكذا وكذا، وقد يظنه المشتري صادقًا فيما حلف عليه، فيأخذها بزيادة على قيمتها، والبائع كذاب، وحلف طمعًا في الزيادة، فيكون قد عصى الله تعالى، فيعاقب بمحق البركة، فإذا ذهبت بركة كسبه دخل عليه من النقص أعظم من تلك الزيادة التي دخلت عليه بسبب حلفه، وربما ذهب ثمن تلك السلعة رأسًا. وما عند الله لا يُنَال إلا بطاعته. وإن تزخرفت الدنيا للعاصي فعاقبتُها اضمحلال وذهاب وعقاب.
قوله: " وعن سلمان أن رسول الله قال: { ثلاثة لا يكلمهم الله ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: أُشَيْمِط زانٍ، وعائل مستكبر، ورجل جعل الله بضاعته، لا يشتري إلا بيمينه، ولا يبيع إلا بيمينه } رواه الطبراني بسند صحيح.
و " سلمان " لعله سلمان الفارسي أبو عبد الله، أسلم مقدم النبي المدينة، وشهد الخندق، روى عنه أبو عثمان النهدي وشرحبيل بـن السمط وغيرهما. قال النبـي { سلمان منا أهل البيت، إن الله يحب من أصحابي أربعة: عليًّا، وأبا ذر، وسلمان، والمقداد } ( ) أخرجه الترمذي وابن ماجه. قال الحسن: كان سلمان أميرًا على ثلاثين ألفًا يخطب بهم في عباءة يفترش نصفها ويلبس نصفها. توفي في خلافة عثمان رضي الله عنه. قال أبو عبيدة سنة ست وثلاثين عن ثلاثمائة وخمسين سنة. ويحتمل أنه سلمان بن عامر بن أوس الضبي.
قوله: " ثلاثة لا يكلمهم الله، نفي كلام الرب - تعالى وتقدس - عن هؤلاء العصاة دليل على أنه يكلم مَن أطاعه. وأن الكلام صفة من صفات كماله. والأدلة على ذلك من الكتاب والسنة أظهر شيء وأبينه. وهذا هو الذي عليه أهل السنة والجماعة من المحققين: قيام الأفعال بالله سبحانه، وأن الفعل يقع بمشيئته تعالى وقدرته شيئًا فشيئًا ولم يزل مُتصفًا به. فهو حادث الآحاد قديم النوع، كما يقول ذلك أئمة أصحاب الحديث وغيرهم من أصحاب الشافعي وأحمد وسائر الطوائف، كما قال تعالى: { } ( ) (يس - 82)، فأتى بالحروف الدالة على الحال والاستقبال أيضًا. وذلك في القرآن كثير.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: فإذا قالوا لنا - يعني النفاة - فهذا يلزمه أن تكون الحوادث قائمة به. قلنا: ومن أنكر هذا قبلكم من السلف والأئمة؟ ونصوص القرآن والسنة تتضمن ذلك مع صريح العقل. ولفظ الحوادث مجمل، فقد يراد به الأعراض والنقائص، والله تعالى مُنَزَّه عن ذلك، ولكن يقوم به ما يشاء من كلامه وأفعاله ونحو ذلك، مما دل عليه الكتاب والسنة. والقول الصحيح: هو قول أهل العلم والحديث الذين يقولون لم يزل الله متكلمًا إذا شاء، كما قال ابن المبارك وأحمد بن حنبل وغيرهما من أئمة السنة، ا هـ.
قلت: ومعنى قيام الحوادث به تعالى: قدرته عليها، وإيجاده لها بمشيئته وأمره. والله أعلم.
قوله: " ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم " لما عظم ذنبهم عظمت عقوبتهم، فعوقبوا بهذه الثلاث التي هي أعظم العقوبات.
قوله: " أشيمط زان " صغِّر تحقيرًا له وذلك لأن داعي المعصية ضعف في حقه، فدل على أن الحامل له على الزنا: محبة المعصية والفجور، وعدم خوفه من الله. وضعف الداعي إلى المعصية مع فعلها يوجب تغليظ العقوبة عليه، بخلاف الشاب، فإن قوة داعي الشهوة منه قد تغلبه مع خوفه من الله، وقد يرجع على نفسه بالندم، ولومها على المعصية، فينتهي ويراجع.
وكذا العائل المستكبر ليس له ما يدعوه إلى الكبر؛ لأن الداعي إلى الكبر في الغالب كثرة المال والنعم والرياسة. و" العائل " الفقير لا داعيَ له إلى أن يستكبر، فاستكباره مع عدم الداعي إليه يدل على أن الكبر طبيعة له، كامن في قلبه، فعظمت عقوبته؛ لعدم الداعي إلى هذا الخلق الذميم، الذي هو من أكبر المعاصي.
قوله: " ورجل جعل اللهَ بضاعته " بنصب الاسم الشريف، أي: الحلف به، جعله بضاعته، لملازمته له وغلبته عليه. وهذه أعمال تدل على أن صاحبها إن كان مُوَحِّدًا فتوحيده ضعيف، وأعماله ضعيفة بحسب ما قام بقلبه وظهر على لسانه وعمله من تلك المعاصي العظيمة على قلة الداعي إليها. نسأل الله السلامة والعافية، ونعوذ بالله من كل عمل لا يحبه ربنا ولا يرضاه.
قوله: " وفي الصحيح " أي: صحيح مسلم. وأخرجه أبو داود والترمذي، ورواه البخاري بلفظ " خيركم ".
قوله: " عن عمران بن حصين قال: قال رسول الله { خير أمتي قرني ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم - قال عمران: فلا أدري أذكر بعد قرنيه مرتين أو ثلاثًا؟ - ثم إن بعدكم قومًا يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يوفون، ويظهر فيهم السِّمَن } ( ).
قوله: " خير أمتي قرني " لفضيلة أهل ذلك القرن في العلم والإيمان، والأعمال الصالحة التي يتنافس فيها المتنافسون، ويتفاضل فيها العاملون، فغلب الخير فيها وكثر أهله، وقلَّ الشرّ فيها وأهله، واعتز فيها الإسلام والإيمان، وكثر فيها العلم والعلماء (ثم الذين يلونهم) فُضِّلُوا على من بعدهم لظهور الإسلام فيهم وكثرة الداعي إليه، والراغب فيه والقائم به. وما ظهر فيه من البدع أنكر واستُعْظِمَ وأُزِيلَ، كبدعة الخوارج والقدرية والرافضة، فهذه البدع وإن كانت قد ظهرت، فأهلها في غاية الذل والمقت والهوان والقتل فيمن عانَد منهم ولم يتب.
قوله: " فلا أدري أذكر بعد قرنه مرتين أو ثلاثًا؟ " هذا شك من راوي الحديث عمران بن حصين رضي الله عنه. والمشهور في الروايات: أن القرون المفضلة ثلاثة، الثالث دون الأولين في الفضل؛ لكثرة البدع فيه، لكن العلماء متوافرون، والإسلام فيه ظاهر والجهاد فيه قائم، ثم ذكر ما وقع بعد القرون الثلاثة من الجفاء في الدين، وكثرة الأهواء.
فقال: " ثم إن بعدكم قومًا يشهدون ولا يستشهدون " لاستخفافهم بأمر الشهادة وعدم تحريهم الصدق، وذلك لقلة دينهم، وضعف إسلامهم.
قوله: " ويخونون ولا يؤتمنون " يدل على أن الخيانة قد غلبت على كثير منهم أو أكثرهم.
قوله: " وينذرون ولا يوفون " أي: لا يؤدون ما وجب عليهم، فظهور هذه الأعمال الذميمة يدل على ضعف إسلامهم وعدم إيمانهم.
قوله: " ويظهر فيهم السمن " لرغبتهم في الدنيا، ونيل شهواتهم والتنعم بها، وغفلتهم عن الدار الآخرة والعمل لها. وفي حديث أنس: { لا يأتي على الناس زمان إلا والذي بعده شرٌّ منه حتى تلقوا ربكم } ( ). قال أنس: سمعته من نبيكم فما زال الشر يزيد في الأمة، حتى ظهر الشرك والبدع في كثير منهم، حتى فيمن ينتسب إلى العلم ويتصدر للتعليم والتصنيف.
قلت: بل قد دعوا إلى الشرك والضلال والبدع، وصنفوا في ذلك نظمًا ونثرًا فنعوذ بالله من موجبات غضبه.
قوله: وفيه عن ابن مسعود أن النبي قال: { خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء قوم تسبق شهادةُ أحدهم يمينَه، ويمينُه شهادتَه } ( ).
قلت: وهذه حال من صرف رغبته إلى الدنيا ونسي المعاد، فخف أمر الشهادة واليمين عنده تحملا وأداء؛ لقلة خوفه من الله وعدم مبالاته بذلك، وهذا هو الغالب على الأكثر. والله المستعان. فإذا كان هذا قد وقع في صدر الإسلام الأول فما بعده أكثر بأضعاف. فكن من الناس على حذر.
قوله: " قال إبراهيم - هو النخعي - كانوا يضربوننا على الشهادة والعهد ونحن صغار ". وذلك لكثرة علم التابعين، وقوة إيمانهم ومعرفتهم بربهم، وقيامهم بوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأنه من أفضل الجهاد، ولا يقوم الدين إلا به. وفي هذا رغبة في تمرين الصغار على طاعة ربهم ونهيهم عما يضرهم. ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.
المسائل المستنبطة من هذا الباب
فيه مسائل:
الأولى: الوصية بحفظ الأيمان.
الثانية: الإخبار بأن الحلف منفقة للسلعة، ممحقة للبركة.
الثالثة: الوعيد الشديد فيمن لا يبيع ولا يشتري إلا بيمينه.
الرابعة: التنبيه على أن الذنب يعظم مع قلة الداعي.
الخامسة: ذم الذين يحلفون ولا يستحلفون.
السادسة: ثناؤه على القرون الثلاثة، أو الأربعة، وذكر ما يحدث.
السابعة: ذم الذين يشهدون ولا يستشهدون.
الثامنة: كون السلف يضربون الصغار على الشهادة والعهد.
باب ما جاء في ذمة الله وذمة نبيه
وقوله: { • } ( ) (النحل - 91).
وعن بريدة قال: { كان رسول الله صلى الله عليه وسل إذا أمر أميرا على جيش أو سرية أوصاه بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرا، فقال: اغزوا بسم الله، في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليدا، وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال ـ أو خلال ـ فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، ثم ادعهم إلى الإسلام فإن أجابوك فاقبل منهم، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين، وعليهم ما على المهاجرين، فإن أبوا أن يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين، يجري عليهم حكم الله تعالى، ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء إلا أن يجاهدوا مع المسلمين، فإن هم أبوا فاسألهم الجزية، فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم. وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه، فلا تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه، ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك، فإنكم إن تخفروا ذممكم وذمة أصحابكم أهون من أن تخفروا ذمة الله وذمة نبيه، وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله، فلا تنزلهم، ولكن أنزلهم على حكمك. فإنك لا تدري: أتصيب فيهم حكم الله أم لا؟ } ( ) رواه مسلم.
قوله: باب " ما جاء في ذمة الله وذمة رسوله "
وقول الله تعالى: { } ( ) (النحل -91).
قال العماد ابن كثير: وهذا مما يأمر الله تعالى به، وهو الوفاء بالعهود والمواثيق، والمحافظة على الأيمان المؤكدة. ولهذا قال: { } ( ) ولا تعارُضَ بين هذا وقوله: { } ( ) (البقرة: 224) وبين قوله: { } ( ) (المائدة: 89) أي: لا تتركوها بلا تكفير. وبين قوله في الصحيحين: { إني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرًا منها إلا أتيت الذي هو خير منها وتحللتها - وفي رواية - وكفرت عن يميني } ( ) لا تعارض بين هـذا كله وبين الآية المذكورة هنا، وهـي { } ( )؛ لأن هذه الأيمان المراد بها الداخلة في العهود والمواثيق، لا الأيمان الواردة على حث أو منع، ولهذا قال مجاهد في هذه الآية: يعني الحلف أي: حلف الجاهلية، ويؤيده ما رواه الإمام أحمد عن جبير بن مطعم قال: قال رسول الله { لا حلف في الإسلام، وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة } ( ) وكذا رواه مسلم، ومعناه أن الإسلام لا يحتاج معه إلى الحلف الذي كان أهل الجاهلية يفعلونه، فإن في التمسك بالإسلام كفاية عما كانوا فيه.
وقوله تعالى: { • } ( ) تهديد ووعيد لمن نقض الأيمان بعد توكيدها.
قوله: " عن بريدة " هو ابن الحصيب الأسلمي. وهذا الحديث من رواية ابنه سليمان عنه. قاله في المفهم.
قوله: " قال: كان رسول الله إذا أمَّر أميرًا على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله تعالى " فيه من الفقه تأمير الأمراء ووصيتهم.
قال الحربي: السرية: الخيل تبلغ أربعمائة ونحوها. والجيش ما كان أكثر من ذلك. وتقوى الله: التحرز بطاعته من عقوبته.
قلت: وذلك بالعمل بما أمر الله به والانتهاء عما نهى عنه.
قوله: { ومن معه من المسلمين خيرًا } ( ) أي ووصاه بمن معه أن يفعل معهم خيرًا: من الرفق بهم، والإحسان إليهم، وخفض الجناح لهم، وترك التعاظم عليهم.
قوله: { اغزوا بسم الله } ( ) هذا أي: اشرعوا في فعل الغزو مستعينين بالله مخلصين له. قلت: فتكون الباء في بسم الله هنا للاستعانة والتوكل على الله.
قوله: { قَاتِلوا مَن كفر بالله } ( ) هذا العموم يشمل جميع أهل الكفر المُحاربين وغيرهم. وقد خصص منهم من له عهد والرهبان والنسوان، ومن لم يبلغ الحلم، وقد قال متصلا به: { ولا تقتلوا وليدًا } ( )، وإنما نهى عن قتل الرهبان والنسوان؛ لأنه لا يكون منهم قتال غالبًا. وإن كان منهم قتال أو تدبير قتلوا.
قلت: وكذلك الذراري والأولاد.
قوله: { ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا } ( ) الغلول: الأخذ من الغنيمة من غير قسمتها. والغدر نقض العهد، والتمثيل هنا: التشويه بالقتيل، كقطع أنفه وأذنه والعبث به. ولا خلاف في تحريم الغلول والغدر. وفي كراهية المثلة.
قوله: { وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خلال أو خصال } ( ) الرواية بالشك وهو من بعض الرواة. ومعنى الخلال والخصال واحد.
قوله: { فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكُف عنهم } ( )، قيدناه عمن يوثق بعلمه وتقييده بنصب " أيتهن " على أن يعمل فيها " أجابوك " لا على إسقاط حرف الجر. و" ما " زائدة. ويكون تقدير الكلام: فإلى أيتهن أجابوك فاقبل منهم. كما تقول: جئتك إلى كذا وفي كذا. فيعدى إلى الثاني بحرف جر.
قلت: فيكون في ناصب " أيتهن " وجهان: ذكرهما الشارح. الأول: منصوب على الاشتغال. والثاني: على نزع الخافض.
قوله: { ثم ادعهم إلى الإسلام } ( ) كذا وقعت الرواية في جميع نُسَخ كتاب مسلم " ثم ادعهم " بزيادة " ثم " والصواب إسقاطها. كما روي في غير كتاب مسلم، كمصنف أبي داود، وكتاب الأموال لأبي عبيد؛ لأن ذلك هو ابتداء تفسير الثلاث خصال.
وقوله: " ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المُهَاجرين " يعني المدينة. وكان في أول الأمر وجوب الهجرة إلى المدينة على كل من دخل في الإسلام. وهذا يدل على أن الهجرة واجبة على كل من آمن من أهل مكة وغيرهم.
قوله: { فإن أبوا أن يتحولوا } ( ) يعني: أن من أسلم ولم يهاجر ولم يجاهد لا يُعْطَى من الخمس ولا من الفيء شيئا. وقد أخذ { الشافعي } رحمه الله بالحديث في الأعراب، فلم ير لهم من الفيء شيئا. إنما لهم الصدقة المأخوذة من أغنيائهم فتُرد على فقرائهم. كما أن أهل الجهاد وأجناد المسلمين لا حق لهم في الصدقة عنده، ومصرف كل مال في أهله. وسوَّى مالك رحمه الله وأبو حنيفة رحمه الله بين المالين، وجوَّزَا صرفهما للضعيف.
قوله: { فإن هم أبوا فاسألهم الجزية } ( ) فيه حجة لمالك وأصحابه، والأوزاعي في أخذ الجزية من كل كافر: عربيًّا كان أو غيره، كتابيًّا كان أو غيره. وذهب أبو حنيفة رحمه الله إلى أن تؤخذ من الجميع، إلا من مشركي العرب ومجوسهم. وقال الشافعي: لا تؤخذ إلا من أهل الكتاب عربًا كانوا أو عجمًا. وهو قول الإمام أحمد في ظاهر مذهبه، وتؤخذ من المجوس.
قلت: لأن النبي أخذها منهم. وقال: { سُنُّوا بهم سنة أهل الكتاب } ( ).
وقد اختلفوا في القدر المفروض من الجزية: فقال مالك: أربعة دنانير على أهل الذهب، وأربعون درهمًا على أهل الورق. وهل ينقص منها الضعيف أو لا؟ قولان. قال الشافعي: فيه دينار على الغني والفقير. وقال أبو حنيفة رحمه الله، والكوفيون: على الغني ثمانية وأربعون درهمًا، والوسط أربعة وعشرون درهمًا، والفقير اثنا عشر درهمًا. وهو قول أحمد بن حنبل رحمه الله.
قال يحيى بن يوسف الصرصري الحنبلي رحمه الله:
ـوس، فإن هـم سلموا الجزية اصدد
وأربعـة مـن بعـد عشرين زَيِّد
ثمـانيـة مـع أربعيـن لِتُنْقـَد
وشيـخ لهـم فـانٍ وأعمى ومقعد
ومـن وجـبت منهـم عليه فيهتدي
وقاتل يهودا والنصارى وعصبة المجـ
على الأدون اثني عشر درهمًا افرضن
لأوسطهم حـالا، ومـن كـان موسرا
وتسقـط عـن صبيـانهم ونسـائهم
وذي الفقـر والمـجنون أو عبد مسلم
وعند مالك وكافة العلماء: على الرجال الأحرار البالغين العقلاء دون غيرهم، وإنما تؤخذ ممن كان تحت قهر المسلمين، لا ممن نأى بداره، ويجب تحويلهم إلى بلاد المسلمين أو حربهم.
قوله: { وإذا حاصرت أهل حصن } ( ) الكلام إلى آخره فيه حجة لمن يقول من الفقهاء وأهل الأصول: إن المصيب في مسائل الاجتهاد واحد. وهو المعروف من مذهب مالك وغيره ووجه الاستدلال به أنه قد نص على أن الله تعالى قد حَكَمَ حُكْمًا مُعَيَّنًا في المجتهدات. فمن وافقه فهو المصيب، ومن لم يوافقه فهو المخطئ.
قوله: { وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه } ( )، الحديث ". الذمة: العهد، وتخفر: تنقض، يقال: أخفرت الرجل: إذا نقضت عهده، وخفرته: أجرته، ومعناه: أنه خاف من نقض من لم يعرف حق الوفاء للعهد، كجملة الأعراب، فكأنه يقول: إن وقع نقض من مُتَعَدٍّ مُعْتَدٍ كان نقض عهد الخلق أهون من نقض عهد الله تعالى. والله أعلم.
قوله: " وقول نافع وقد سُئِلَ عن الدعوة قبل القتال "، ذكر فيه أن مذهب مالك يجمع بين الأحاديث في الدعوة قبل القتال، قال وهو أن مالكًا قال: لا يقاتل الكفار قبل أن يُدْعَوْا، ولا تُلْتَمَس غِرَّتُهُمْ إلا أن يكونوا قد بلغتهم الدعوة، فيجوز أن تُلْتَمَس غِرَّتُهُمْ. وهذا الذي صار إليه مالك هو الصحيح؛ لأن فائدة الدعوة أن يعرف العدو أن المسلمين لا يقاتلون للدنيا ولا للعصبية، وإنما يقاتلون للدين، فإذا علموا بذلك أمكن أن يكون ذلك سببًا مُمِيلا لهم إلى الانقياد إلى الحق، بخلاف ما إذا جهلوا مقصود المسلمين. فقد يظنون أنهم يقاتلون للملك وللدنيا فيزدادون عُتُوًّا وبُغْضًا. والله أعلم.
المسائل المستنبطة من هذا الباب
فيه مسائل:
الأولى: الفرق بين ذمة الله وذمة نبيه، وذمة المسلمين.
الثانية: الإرشاد إلى أقل الأمرين خطرا.
الثالثة: قوله: " اغزوا بسم الله في سبيل الله ".
الرابعة: قوله: " قاتلوا من كفر بالله ".
الخامسة: قوله: " استعن بالله وقاتلهم ".
السادسة: الفرق بين حكم الله وحكم العلماء.
السابعة: في كون الصحابي يحكم عند الحاجة بحكم لا يدري: أيوافق حكم الله أم لا؟.
باب ما جاء في الإقسام على الله
عن جندب بن عبد الله قال: قال رسول الله " { قال رجل: والله لا يغفر الله لفلان، فقال الله من ذا الذي يتألى علي أن لا أغفر لفلان؟ إني قد غفرت له وأحبطت عملك } ( ) رواه مسلم.
وفي حديث أبي هريرة " أن القائل رجل عابد، قال أبو هريرة: تكلم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته ".
قوله: باب " ما جاء في الإقسام على الله "
ذكر المصنف فيه حديث جندب بن عبد الله قال: قال رسول الله - { قال رجل: والله لا يغفر الله لفلان. قال الله من ذا الذي يتألى عليَّ أن لا أغفر لفلان؟ إني قد غفرت له وأحبطت عملك } ( ) رواه مسلم.
قوله: " يتألى " أي: يحلف. والأَلِيَّة بالتشديد الحلف. وصح من حديث أبي هريرة. قال البغوي في شرح السنة - وساق بالسند إلى عكرمة بن عمار - قال: " { دخلت مسجد المدينة فناداني شيخ قال: يا يمامي، تعال، وما أعرفه، قال: لا تقولن لرجل: والله لا يغفر الله لك أبدًا ولا يدخلك الجنة. قلت: ومن أنت يرحمك الله؟ قال: أبو هريرة، فقلت: إن هذه كلمة يقولها أحدنا لبعض أهله إذا غضب، أو لزوجته أو لخادمه، قال، فإني سمعت رسول الله يقول: " إن رجلين كانا في بني إسرائيل متحابين، أحدهما مجتهد في العبادة، والآخر كأنه يقول مذنب، فجعل يقول: أقصر عما أنت فيه. قال فيقول: خَلِّنِي وربي، قال: فوجده يومًا على ذنب استعظمه فقال: أَقْصِرْ، فقال: خَلِّنِي وربي، أبعثتَ عليَّ رقيبًا، فقال: والله لا يغفر الله لك ولا يدخلك الجنة أبدًا. قال: فبعث الله إليهما ملكًا، فقبض أرواحهما، فاجتمعا عنده، فقال للمذنب: ادخل الجنة برحمتي، وقال للآخر: أتستطيع أن تحظر على عبدي رحمتي؟ قال: لا يا رب، قال: اذهبوا به إلى النار } ( ). قال أبو هريرة: والذي نفسي بيده لتكلم بكلمة أَوْبَقَتْ دنياه وآخرته ". ورواه أبو داود في سننه، وهذا لفظه عن أبي هريرة يقول: { كان رجلان في بني إسرائيل متآخيين فكان أحدهما يذنب، والآخر مجتهد في العبادة. فكان لا يزال المجتهد يرى الآخر على الذنب فيقول: أقصر، فوجده يومًا على ذنب فقال له: أقصر، فقال: خلني وربي أبعثت عليَّ رقيبًا؟ قال: والله لا يغفر الله لك ولا يدخلك الجنة، فقبضت أرواحهما، فاجتمعا عند رب العالمين، فقال لهذا المجتهد: أكنت بي عالِمًا؟ أو كنت على ما في يدي قادرًا؟ فقال للمذنب: اذهب فادخل الجنة، وقال للآخر: اذهبوا به إلى النار } ( ).
قوله: " وفي حديث أبي هريرة أن القائل رجل عابد ": يشير إلى قوله في هذا الحديث: " أحدهما مجتهد في العبادة ". وفي هذه الأحاديث بيان خطر اللسان، وذلك يفيد التحرز من الكلام، كما في حديث معاذ { قلت: يا رسول الله، وإِنَّا لَمُؤَاخذون بما نتكلم به؟ قال: ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على وجوههم - أو قال على مناخرهم - إلا حصائد ألسنتهم؟ } ( ). والله أعلم.
المسائل المستنبطة من هذا الباب
فيه مسائل:
الأولى: التحذير من التألي على الله.
الثانية: كون النار أقرب إلى أحدنا من شراك نعله.
الثالثة: أن الجنة مثل ذلك.
الرابعة: فيه شاهد لقوله: " إن الرجل ليتكلم بالكلمة " إلخ..
الخامسة: أن الرجل قد يغفر له بسبب هو من أكره الأمور إليه.
باب لا يستشفع بالله على خلقه
عن جبير بن مطعم قال: { جاء أعرابي إلى النبي فقال: يا رسول الله: نهكت الأنفس، وجاع العيال، وهلكت الأموال، فاستسق لنا ربك، فإنا نستشفع بالله عليك، وبك على الله، فقال النبي سبحان الله! سبحان الله! فما زال يسبح حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه؛ ثم قال: ويحك، أتدري ما الله؟ إن شأن الله أعظم من ذلك، إنه لا يستشفع بالله على أحد } ( ). وذكر الحديث، رواه أبو داود.
قوله: باب " لا يستشفع بالله على خلقه "
وذكر الحديث وسياق أبي داود في سننه أتم مما ذكره المصنف رحمه الله، ولفظه: عن جبير بن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه عن جده قال: { أتى رسول الله أعرابي فقال: يا رسول الله، جهدت الأنفس، وضاعت العيال، ونهكت الأموال، وهلكت الأنعام، فاستسقِ الله لنا، فإنا نستشفع بك على الله، ونستشفع بالله عليك، قال رسول الله - ويحك، أتدري ما تقول؟ وسبح رسول الله فما زال يسبح حتى عُرِفَ ذلك في وجوه أصحابه، ثم قال: ويحك، إنه لا يستشفع بالله على أحد من خلقه، شأن الله أعظم من ذلك، ويحك أتدري ما الله؟ إن عرشه على سمواته لهكذا - وقال بأصابعه مثل القبة عليه - وإنه ليئط به أطيط الرحل بالراكب } ( ) .
قال ابن بشار في حديث: { إن الله فوق عرشه، وعرشه فوق سماواته } ( ).
قال الحافظ الذهبي: رواه أبو داود بإسناد حسن عنده في الرد على الجهمية من حديث محمد بن إسحاق بن يسار.
قوله: { ويحك إنه لا يستشفع بالله على أحد من خلقه } ( ) فإنه تعالى رب كل شيء ومليكه، والخير كله بيده، لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع، ولا رادَّ لما قضى، وما كان الله ليعجزه من شيء في السماوات ولا في الأرض، إنه كان عليمًا قديرًا. " إنما أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له كن فيكون ". والخلق وما في أيديهم ملكه يتصرف فيهم كيف يشاء، وهو الذي يشفع الشافع إليه، ولهذا أنكر على الأعرابي.
قوله: " وسبح لله كثيرًا وعظَّمه "؛ لأن هذا القول لا يليق بالخالق سبحانه وبحمده " إن شأن الله أعظم من ذلك".
وفي هذا الحديث: إثبات علو الله على خلقه، وأن عرشه فوق سماواته. وفيه تفسير الاستواء بالعلو كما فسره الصحابة والتابعون والأئمة، خلافًا للمعطلة والجهمية والمعتزلة ومن أخذ عنهم، كالأشاعرة ونحوهم ممن ألحد في أسماء الله وصفاته وصرفها عن المعنى الذي وضعت له ودلت عليه من إثبات صفات الله تعالى التي دلت على كماله جل وعلا، كما عليه السلف الصالح والأئمة ومن تبعهم ممن تمسك بالسنة، فإنهم أثبتوا ما أثبته الله لنفسه وأثبته له رسوله من صفات كماله على ما يليق بجلاله وعظمته إثباتًا بلا تمثيل، وتنزيهًا بلا تعطيل.
قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى: في مفتاح دار السعادة - بعد كلام سبق فيما يعرف العبد بنفسه وبربه من عجائب مخلوقاته - قال بعد ذلك:
والثاني: أن يتجاوز هذا إلى النظر بالبصيرة الباطنة فتفتح له أبواب السماء، فيجول في أقطارها وملكوتها وبين ملائكتها، ثم يفتح له باب بعد باب حتى ينتهي به سير القلب إلى عرش الرحمن، فينظر سعته وعظمته وجلاله ومجده ورفعته، ويرى السماوات السبع والأرضين السبع بالنسة إليه كحلقة ملقاة بأرض فلاة، ويرى الملائكة حافين من حول العرش لهم زجل بالتسبيح والتحميد، والتقديس والتكبير، والأمر ينزل من فوقه بتدبير الممالك والجنود التي لا يعلمها إلا ربها ومليكها، فينزل الأمر بإحياء قوم وإماتة آخرين، وإعزاز قوم، وإذلال آخرين، وإنشاء ملك وسلب ملك، وتحويل نعمة من محل إلى محل، وقضاء الحاجات على اختلافها وتباينها وكثرتها: من جبر كسير، وإغناء فقير، وشفاء مريض، وتفريج كرب، ومغفرة ذنب، وكشف ضر، ونصر مظلوم، وهداية حيران، وتعليم جاهل، ورد آبق، وأمان خائف، وإجارة مستجير، ومدد لضعيف، وإغاثة لملهوف، وإعانة لعاجز، وانتقام من ظالم، وكف لعدوان، فهي مراسيم دائرة بين العدل والفضل، والحكمة والرحمة، تنفذ في أقطار العوالم، لا يشغله سمع شيء منها عن سمع غيره، ولا تغلطه كثرة المسائل والحوائج على اختلاف لغاتها وتباينها واتحاد وقتها، ولا يتبرم بإلحاح الملحين، ولا تنقص ذرة من خزائنه، لا إله إلا هو العزيز الحكيم. فحينئذ يقوم القلب بين يدي الرحمن مطرقًا لهيئته خاشعًا لعظمته عانيًا لعزته، فيسجد بين يدي الملك الحق المبين، سجدة لا يرفع رأسه منها إلى يوم المزيد، فهذا سفر القلب، وهو في وطنه وداره ومحل ملكه، وهذا من أعظم آيات الله وعجائب صنعه، فيا له من سفر ما أبركه وأروحه، وأعظم ثمرته وربحه، وأجل منفعته وأحسن عاقبته، سفر هو حياة الأرواح، ومفتاح السعادة، وغنيمة العقول والألباب، لا كالسفر الذي هو قطعة من العذاب. ا هـ كلامه رحمه الله.
وأما الاستشفاع بالرسول في حياته، فالمراد به استجلاب دعائه، وليس خاصًّا به بل كل حي يُرْجَى أن يستجاب له، فلا بأس أن يطلب منه أن يدعو للسائل بالمطالب الخاصة والعامة، كما قال النبي لعمر لما أراد أن يعتمر من المدينة { لا تنسنا يا أخي من صالح دعائك } ( ) وأما الميت فإنما يشرع في حقه الدعاء له على جنازته وعلى قبره وفي غير ذلك. وهذا هو الذي شرع في حق الميت، وأما دعاؤه فلم يشرع، بل قد دل الكتاب والسنة على النهي عنه والوعيد عليه، كما قال تعالى: { } ( )... (فاطر: 13-14) فبين الله تعالى أن دعاء من لا يسمع ولا يستجيب شرك يكفر به المدعو يوم القيامة أي: ينكره ويعادي من فعله، كما في آية الأحقاف: { •• } ( ) (الأحقاف: 6) فكل ميت أو غائب لا يسمع ولا يستجيب ولا ينفع ولا يضر. والصحابة رضي الله عنهم، لا سيما أهل السوابق منهم كالخلفاء الراشدين، لم ينقل عن أحد منهم ولا عن غيرهم أنهم أنزلوا حاجتهم بالنبي بعد وفاته، حتى في أوقات الجَدْب، كما وقع لعمر لما خرج ليستسقي بالناس خرج بالعباس عم النبي فأمره أن يستسقي لأنه حي حاضر يدعو ربه، فلو جاز أن يستسقي بأحد بعد وفاته لاستسقى عمر والسابقون الأولون بالنبي .
وبهذا يظهر الفرق بين الحي والميت؛ لأن المقصود من الحي دعاؤه إذا كان حاضرًا. فإنهم في الحقيقة إنما تَوَجَّهُوا إلى الله بطلب دعاء من يدعوه ويتضرع إليه، وهم كذلك يدعون ربهم، فمن تعدى المشروع إلى ما لا يُشرع ضل وأضل. ولو كان دعاء الميت خيرًا لكان الصحابة إليه أسبق وعليه أحرص، وبهم أليق، وبحقه أعلم وأقوم. فمن تمسك بكتاب الله نجا، ومن تركه واعتمد على عقله هلك، وبالله التوفيق.
المسائل المستنبطة من هذا الباب
فيه مسائل:
الأولى: إنكاره على من قال: نستشفع بالله عليك.
الثانية: تغيره تغيرا عرف في وجوه أصحابه من هذه الكلمة.
الثالثة: أنه لم ينكر عليه قوله: " نستشفع بك على الله ".
الرابعة: التنبيه على تفسير سبحان الله.
الخامسة: أن المسلمين يسألونه الاستسقاء.
باب ما جاء في حماية النبي حمى التوحيد وسده طرق الشرك
عن عبد الله بن الشخير قال: { انطلقت في وفد بني عامر إلى رسول الله فقلنا: أنت سيدنا، فقال: السيد الله تبارك وتعالى. قلنا: وأفضلنا فضلا، وأعظمنا طولا، فقال: قولوا بقولكم، أو بعض قولكم، ولا يستجرينكم الشيطان } ( ) رواه أبو داود بسند جيد.
وعن أنس { أن ناسا قالوا: يا رسول الله: يا خيرنا وابن خيرنا، وسيدنا وابن سيدنا، فقال: يا أيها الناس، قولوا بقولكم، ولا يستهوينكم الشيطان، أنا محمد، عبد الله ورسوله، ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله } ( ) رواه النسائي بسند جيد.
قوله: باب " ما جاء في حماية النبي حمى التوحيد، وسده طرق الشرك)
حمايته حمى التوحيد عما يشوبه من الأقوال والأعمال التي يضمحل معها التوحيد أو ينقص وهذا كثير في السنة الثابتة عنه كقوله: { لا تُطْروني كما أطرت النصارى ابن مريم إنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله } ( )، وتقدم قوله: { إنه لا يُستغاث بي، وإنما يُستغاث بالله } ونحو ذلك. ونهى عن التمادح وشدد القول فيه، كقوله لمن مدح إنسانًا: { ويلك قطعت عنق صاحبك } ( )... الحديث، أخرجه أبو داود عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه: { أن رجلا أثنى على رجل عند النبي فقال له: قطعت عنق صاحبك - ثلاثًا } ( )، وقال: " { إذا لقيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب } ( ) أخرجه مسلم والترمذي وابن ماجه عن المقداد بن الأسود.
وفي هذا الحديث { نهى عن أن يقولوا أنت سيدنا وقال: السيد الله تبارك وتعالى } ( ) ونهاهم أن يقولوا: { وأفضلنا فضلا وأعظمنا طولا } ( ) " وقال: { لا يستجرينكم الشيطان } ( ).
وكذلك قوله في حديث أنس: " أن ناسًا قالوا: { يا رسول الله يا خيرنا وابن خيرنا } ( ) إلخ. كره أن يواجهوه بالمدح فيفضي بهم إلى الغلو. وأخبر أن مواجهة المادح للمدوح بمدحه - ولو بما هو فيه - من عمل الشيطان؛ لما تُفْضي محبة المدح إليه من تعاظم الممدوح في نفسه وذلك ينافي كمال التوحيد؛ فإن العبادة لا تقوم إلا بقطب رحاها الذي لا تدور إلا عليه، وذلك غاية الذل في غاية المحبة، وكمال الذل يقتضي الخضوع والخشية والاستكانة لله تعالى، وأن لا يرى نفسه إلا في مقام الذم لها والمعاتبة لها في حق ربه، وكذلك الحب لا تحصل غايته إلا إذا كان يحب ما يحبه الله، ويكره ما يكرهه الله من الأقوال والأعمال والإرادات، ومحبة المدح من العبد لنفسه تخالف ما يحبه الله منه، والمادح يغره من نفسه فيكون آثمًا، فمقام العبودية يقتضي كراهة المدح رأسًا، والنهي عنه صيانة لهذا المقام، فمتى أخلص العبد الذل لله والمحبة له خلصت أعماله وصحت، ومتى أدخل عليها ما يشوبها من هذه الشوائب دخل على مقام العبودية بالنقص أو الفساد، وإذا أداه المدح إلى التعاظم في نفسه والإعجاب بها، وقع في أمر عظيم ينافي العبودية الخالصة، كما في الحديث: { الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني شيئًا منهما عذبته } ( ): وفي الحديث: { لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر } ( ). وهذه الآفات قد تكون محبة المدح سببًا لها وسُلَّمًا إليها، والعُجْب يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب، وأما المادح فقد يفضي به المدح إلى أن ينزل الممدوح منزلة لا يستحقها، كما يوجد كثيرًا في أشعارهم من الغلو الذي نهى عنه رسول الله وحذر أمته أن يقع منهم، فقد وقع الكثير منه حتى صرحوا فيه بالشرك في الربوبية والإلهية والملك، كما تقدمت الإشارة إلى شيء من ذلك. والنبي لما أكمل الله له مقام العبودية صار يكره أن يمدح، صيانة لهذا المقام، وأرشد الأمة إلى ترك ذلك نُصحًا لهم، وحماية لمقام التوحيد عن أن يدخله ما يفسده، أو يضعفه من الشرك ووسائله: { } ( )... (البقرة - 59) ورأوا أن فعل ما نهاهم عن فعله قربة من أفضل القربات، وحسنة من أعظم الحسنات.
وأما تسمية العبد بالسيد فاختلف العلماء في ذلك.
قال العلامة ابن القيم في بدائع الفوائد: اختلف الناس في جواز إطلاق السيد على البشر. فمنعه قوم، ونقل عن مالك، واحتجوا بقول النبي لما قيل له: يا سيدنا قال: { السيد الله تبارك وتعالى } ( ) وجوَّزه قوم، واحتجوا بقول النبي للأنصار: { قوموا إلى سيدكم } ( )، وهذا أصح من الحديث الأول. قال هؤلاء: السيد أحد ما يضاف إليه، فلا يقال للتميمي سيد كندة، ولا يقال الملك سيد البشر. قال: وعلى هذا فلا يجوز أن يطلق على الله هذا الاسم، وفي هذا نظر، فإن السيد إذا أطلق عليه تعالى فهو في منزلة المالك، والمولى والرب، لا بمعنى الذي يطلق على المخلوق. انتهى.
قلت: فقد صح عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال في معنى قول الله تعالى: { } ( )... (الأنعام - 164) أي: "إلهًا وسيدًا" وقال في قول الله تعالى: { } ( ) أنه السيد الذي كمل في جميع أنواع السؤدد ": وقال أبو وائل: " هو السيد الذي انتهى سؤدده ". وأما استدلالهم بقول النبي للأنصار: { قوموا إلى سيدكم } ( ) ، فالظاهر أن النبي لم يواجه سعدًا به، فيكون في هذا المقام تفصيل، والله أعلم.
المسائل المستنبطة من هذا الباب
فيه مسائل:
الأولى: تحذير الناس من الغلو.
الثانية: ما ينبغي أن يقول من قيل له: أنت سيدنا.
الثالثة: قوله: { لا يستجرينكم الشيطان } ( ) مع أنهم لم يقولوا إلا الحق.
الرابعة: قوله: { ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي } ( ).
باب ما جاء في قول الله تعالى وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة...
ما جاء في قول الله تعالى: { • } ( ) (الزمر - 67).
عن ابن مسعود قال: { جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله فقال: يا محمد ! إنا نجد أن الله يجعل السماوات على إصبع، والأرضين على إصبع، والشجر على إصبع، والماء على إصبع، والثرى على إصبع، وسائر الخلق على إصبع، فيقول: أنا الملك. فضحك النبي حتى بدت نواجذه، تصديقا لقول الحبر، ثم قرأ: { • } ( ) }....
وفي رواية لمسلم: { والجبال والشجر على إصبع، ثم يهزهن فيقول: أنا الملك، أنا الله } ( ).
وفي رواية للبخاري: { يجعل السماوات على إصبع، والماء والثرى على إصبع، وسائر الخلق على إصبع } ( ) أخرجاه.
ولمسلم عن ابن عمر مرفوعا: { يطوي الله السماوات يوم القيامة، ثم يأخذهن بيده اليمنى، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ثم يطوي الأرضين السبع، ثم يأخذهن بشماله، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ } ( ).
وروي عن ابن عباس، قال: " ما السماوات السبع والأرضون السبع في كف الرحمن إلا كخردلة في يد أحدكم ".
وقال ابن جرير: حدثني يونس، أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: حدثني أبي، قال: قال رسول الله { ما السماوات السبع في الكرسي إلا كدراهم سبعة ألقيت في ترس }.
قال: وقال أبو ذر سمعت رسول الله يقول: " { ما الكرسي في العرش إلا كحلقة من حديد ألقيت بين ظهري فلاة من الأرض }.
وعن ابن مسعود قال: { بين السماء الدنيا والتي تليها خمسمائة عام، وبين كل سماء خمسمائة عام، وبين السماء السابعة والكرسي خمسمائة عام، وبين الكرسي والماء خمسمائة عام، والعرش فوق الماء، والله فوق العرش، لا يخفى عليه شيء من أعمالكم } " أخرجه ابن مهدي عن حماد بن سلمه عن عاصم عن زر عن عبدالله.
ورواه بنحوه المسعودي عن عاصم، عن أبي وائل، عن عبد الله. قاله الحافظ الذهبي رحمه الله تعالى، قال: وله طرق.
وعن العباس بن عبد المطلب قال: قال رسول الله { هل تدرون كم بين السماء والأرض؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: بينهما مسيرة خمسمائة سنة، ومن كل سماء إلى سماء مسيرة خمسمائة سنة، وكثف كل سماء مسيرة خمسمائة سنة، وبين السماء السابعة والعرش بحر، بين أسفله وأعلاه كما بين السماء والأرض، والله تعالى فوق ذلك، وليس يخفى عليه شيء من أعمال بني آدم } ( ) أخرجه أبو داود وغيره.
قوله: باب ما جاء في قول الله تعالى:
{ • } ( ) (الزمر: 67).
أي: من الأحاديث والآثار في معنى هذه الآية الكريمة.
قال العماد ابن كثير رحمه الله تعالى: يقول تعالى: ما قدر المشركون الله حق قدره حتى عبدوا معه غيره، وهو العظيم الذي لا أعظم منه، القادر على كل شيء المالك لكل شيء، وكل شيء تحت قهره وقدرته. قال مجاهد: نزلت في قريش. وقال السدي: ما عظموه حق عظمته، وقال محمد بن كعب: لو قدروه حق قدره ما كذبوه، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: هم الكفار الذين لم يؤمنوا بقدرة الله عليهم، فمن آمن أن الله على كل شيء قدير، فقد قدر الله حق قدره، ومن لم يؤمن بذلك فلم يقدر الله حق قدره.
وقد وردت أحاديث كثيرة متعلقة بهذه الآية، الطريق فيها وفي أمثالها مذهب السلف، وهو إمرارها كما جاءت من غير تكييف ولا تحريف وذكر حديث ابن مسعود، كما ذكره المصنف رحمه الله في هذا الباب. قال: ورواه البخاري في غير موضع من صحيحه. والإمام أحمد ومسلم والترمذي والنسائي كلهم من حديث سليمان بن مهران، وهو الأعمش عن إبراهيم عن عبيدة عن ابن مسعود بنحوه.
قال الإمام أحمد: حدثنا معاوية حدثنا الأعمش، عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله قال: { جاء رجل من أهل الكتاب إلى النبي فقال: يا أبا القاسم أبلغك أن الله تعالى يجعل الخلائق على إصبع والسماوات على إصبع، والأرضين على إصبع، والشجر على إصبع والثرى على إصبع وسائر الخلائق على إصبع. فيقول: أنا الملك. فضحك رسول الله حتى بدت نواجذه تصديقًا لقول الحبر، قال: وأنزل الله: ({ • } ( ) } الآية ". وهكذا رواه البخاري ومسلم والنسائي من طريق الأعمش به.
وقال الإمام أحمد: حدثنا الحسين بن حسن الأشقر، حدثنا أبو كدينة عن عطاء عن أبي الضحى عن ابن عباس قال: { مر يهودي برسول الله وهو جالس، فقال: كيف تقول يا أبا القاسم يوم يجعل الله السماوات على ذه - وأشار بالسبابة - والأرض على ذه، والجبال على ذه وسائر الخلق على ذه؟ كل ذلك يشير بأصابعه، فأنزل الله: { • } ( ) }، وكذا رواه الترمذي في التفسير بسنده عن أبي الضحى مسلم بن صبيح به، وقال: حسن صحيح غريب، ولا نعرفه إلا من هذا الوجه. ثم قال البخاري: حدثنا سعيد بن عفير حدثنا الليث، حدثني عبد الرحمن بن خالد بن مسافر، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أن أبا هريرة قال: سمعت رسول الله يقول: { يقبض الله الأرض، ويطوي السماء بيمينه، فيقول: أنا الملك أين ملوك الأرض } ( ) تفرد به من هذا الوجه، ورواه مسلم من وجه آخر.
وقال البخاري في موضع آخر: حدثنا مقدم بن محمد، حدثنا عمي القاسم بن يحيى عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: إن رسول الله قال: { إن الله تعالى يقبض يوم القيامة الأرضين على إصبع، وتكون السماء بيمينه ثم يقول: أنا الملك } ( ) تفرد به أيضًا من هذا الوجه. ورواه مسلم من وجه آخر.
وقد رواه الإمام أحمد من طريق آخر بلفظ أبسط من هذا السياق وأطول، فقال: حدثنا عفان حدثنا حماد بن سلمة، أنبأنا إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن عبيد الله بن مقسم، عن ابن عمر: " { أن رسول الله قرأ هذه الآية ذات يوم على المنبر (وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعًا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون)، ورسول الله يقول هكذا بيده يحركها، يقبل بها ويدبر، يمجد الرب تعالى نفسه: أنا الجبار، أنا المتكبر، أنا الملك، أنا العزيز، أنا الكريم، فرجف برسول الله المنبر حتى قلنا: لَيَخِرَّنَّ به } ( ) ا هـ.
قوله: " ولمسلم عن ابن عمر... الحديث ": كذا في رواية مسلم. قال الحميدي وهي أتم، وهي عند مسلم من حديث سالم عن أبيه. وأخرجه البخاري من حديث عبيد الله عن نافع، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: { إن الله يقبض يوم القيامة الأرضين وتكون السماء بيمينه } ( ) وأخرجه مسلم من حديث عبيد الله بن مقسم.
قلت: وهذه الأحاديث وما في معناها تدل على عظمة الله وعظيم قدرته وعظم مخلوقاته. وقد تعرف سبحانه وتعالى إلى عباده بصفاته، وعجائب مخلوقاته، وكلها تعرف وتدل على كماله، وأنه هو المعبود وحده، لا شريك له في ربوبيته وإلهيته، وتدل على إثبات الصفات له على ما يليق بجلال الله وعظمته، إثباتًا بلا تمثيل، وتنزيهًا بلا تعطيل، وهذا هو الذي دلت عليه نصوص الكتاب والسنة وعليه سلف الأمة وأئمتها ومن تبعهم بإحسان، واقتفى أثرهم على الإسلام والإيمان.
وتأمل ما في هذه الأحاديث الصحيحة من تعظيم النبي ربه بذكر صفات كماله على ما يليق بعظمته وجلاله وتصديقه اليهود فيما أخبروا به عن الله من الصفات التي تدل على عظمته وتأمل ما فيها من إثبات علو الله تعالى على عرشه، ولم يقل النبي في شيء منها. إن ظاهرها غير مراد، وإنها تدل على تشبيه صفات الله بصفات خلقه، فلو كان هذا حقًّا بلَّغه أمينُه أمتَه، فإن الله أكمل به الدين وأتم به النعمة فبلغ البلاغ المبين. صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم إلى يوم الدين. وتلقى الصحابة - رضي الله عنهم - عن نبيهم ما وصف به ربه من صفات كماله ونعوت جلاله، فآمنوا به وآمنوا بكتاب الله وما تضمنه من صفات ربهم جل وعلا، كما قال تعالى: { • } ( ) (آل عمران - 7)، وكذلك التابعون لهم بإحسان وتابعوهم، والأئمة من المحدثين والفقهاء كلهم وصف الله بما وصف به نفسه، ووصفه به رسول الله ولم يجحدوا شيئًا من الصفات، ولا قال أحد منهم: إن ظاهرها غير مراد ولا أنه يلزم من إثباتها التشبيه، بل أنكروا على من قال ذلك غاية الإنكار، فصنفوا في رد هذه الشبهات المصنفات الكبار المعروفة الموجودة بأيدي أهل السنة والجماعة.
قال شيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله تعالى: وهذا كتاب الله من أوله إلى آخره وسنة رسول الله وكلام الصحابة والتابعين، وكلام سائر الأئمة مملوءة كلها بما هو نص أو ظاهـر أن الله تعالى فـوق كل شيء، وأنه فـوق العـرش فـوق السماوات مستو على عرشه، مثل قـولـه تعالى: { } ( ) (فاطر:10) وقوله تعالى: { } ( ) (آل عمران: 55)، وقوله تعالى: { } ( ) (النساء: 158) وقوله تعالى: { } ( )... (المعارج 3-4)، وقوله تعالى: { } ( ) (السجدة: 5) وقوله تعالى: { } ( ) (النحل: 50) وقوله تعالى: { • } ( ) ... (البقرة: 29)، وقوله تعالى: { • } ( ) (الأعراف: 54)، وقـوله: { • } ( ) (يونس: 3). فذكر التوحيدين في هذه الآية. وقوله تعالى: { } ( ) (الرعد: 2) وقوله تعالى: { } ( ) (طه 4، 5) وقوله تعالـى: { • } ( ) (الفرقان: 58- 59)، وقوله تعالى: { } ( ) (السجدة: 4-5)، وقوله تعالـى: { } ( ) (الحديد: 4) فذكر عموم علمه وعموم قدرته وعموم إحاطته وعموم رؤيته. وقوله تعالى: { • • } ( ) (الملك: 16-17) وقـوله تعالى: { } ( ) (فصلت: 42) وقوله: { } ( ) (الجاثية: 2)، وقوله تعالـى: { } ( ) (غافر: 36-37). انتهى كلامه رحمه الله.
قلت: وقد ذكر الأئمة رحمهم الله تعالى فيما صنفوه في الرد على نفاة الصفات من الجهمية والمعتزلة والأشاعرة ونحوهم أقوال الصحابة والتابعين. فمن ذلك ما رواه الحافظ الذهبي في كتاب العلو وغيره بالأسانيد الصحيحة عن أم سلمة زوج النبي أنها قالت في قوله تعالى: { } ( ) قالت: " الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإقرار به إيمان، والجحود به كفر " رواه ابن المنذر واللالكائي وغيرهما بأسانيد صحاح. قال: وثبت عن سفيان بن عيينة رحمه الله تعالى أنه قال: لما سئل ربيعة بن أبي عبد الرحمن: كيف الاستواء؟ قال: " الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، ومن الله الرسالة، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التصديق ".
وقال ابن وهب: " كنا عند مالك فدخل رجل فقال: يا أبا عبد الله { } ( ) كيف استوى؟ فأطرق مالك رحمه الله وأخذته الرحضاء، وقال: { } ( )، كما وصف نفسه ولا يقال كيف؟ و" كيف " عنه مرفوع، وأنت صاحب بدعة. أخرِجوه "، رواه البيهقي بإسناد صحيح عن ابن وهب، ورواه عن يحيى بن يحيى أيضًا، ولفظه قال: " الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة ".
قال الذهبي: فانظر إليهم كيف أثبتوا الاستواء لله، وأخبروا أنه معلوم لا يحتاج لفظه إلى تفسير، ونفوا عنه الكيفية، قال البخاري في صحيحه: قال مجاهد (استوى) علا على العرش. وقال إسحاق بن راهويه: سمعت غير واحد من المفسرين يقول: { } ( ) أي: ارتفع. وقـال محمد بن جرير الطبري فـي قوله تعالى: { } ( ) أي: علا وارتفع.
وشواهده في أقوال الصحابة والتابعين وأتباعهم، فمن ذلك قول عبد الله بن رواحة :
وأن النـار مثـوى الكـافـرينا
وفـوق العـرش رب العـالـمينا
مـلائـكـة الإلـه مسـومينـا
شهـدت بأن وعـد الله حـق
وأن العـرش فـوق المـاء طـاف
وتـحملـه مـلائـكـة شـداد
وروى الدارمي والحاكم والبيهقي بأصح إسناده إلى علي بن الحسين بن شقيق، قال: سمعت عبد الله بن المبارك يقول: " نعرف ربنا بأنه فوق سبع سماواته على العرش استوى، بائن من خلقه، ولا نقول كما قالت الجهمية ". قال الدارمي: حدثنا حسن بن الصباح البزار، حدثنا علي بن الحسين بن شقيق عن ابن المبارك: قيل له: كيف نعرف ربنا؟ قال: بأنه فوق السماء السابعة على العرش بائن من خلقه ".
وقد تقدم قول الأوزاعي: كنا - والتابعون متوافرون - نقول: إن اللهَ تعالى ذِكْرُهُ بائن من خلقه، ونؤمن بما وردت به السنة.
وقال أبو عمر الطلمنكي في كتاب الأصول: أجمع المسلون من أهل السنة على أن الله استوى على عرشه بذاته. وقال في هذا الكتاب أيضا: أجمع أهل السنة على أن الله تعالى استوى على عرشه على الحقيقة لا على المجاز، ثم ساق بسنده عن مالك قوله: الله في السماء وعلمه في كل مكان: ثم قال في هذا الكتاب: أجمع المسلمون من أهل السنة أن معنى قوله: { } ( ) (الحديد: 4) ونحو ذلك من القرآن: أن ذلك علمه، وأن الله فوق السماوات بذاته مستو على عرشه كيف شاء. وهذا لفظه في كتابه.
وهذا كثير في كلام الصحابة والتابعين والأئمة، أثبتوا ما أثبته الله في كتابه على لسان رسوله على الحقيقة على ما يليق بجلال الله وعظمته، ونفوا عنه مشابهة المخلوقين، ولم يُمثِّلوا ولم يُكيِّفوا، كما ذكرنا ذلك عنهم في هذا الباب.
وقال الحافظ الذهبي: وأول وقت سمعت مقالة من أنكر أن الله فوق العرش: هو الجعد بن درهم. وكذلك أنكر جميع الصفات. وقتله خالد بن عبد الله القسري وقصته مشهورة، فأخذ هذه المقالة عنه الجهم بن صفوان إمام الجهمية، فأظهرها واحتجَّ لها بالشبهات، وكان ذلك في آخر عصر التابعين. فأنكر مقالته أئمة ذلك العصر مثل الأوزاعي وأبي حنيفة، ومالك والليث بن سعد والثوري، وحماد بن زيد، وحماد بن سلمة وابن المبارك ومن بعدهم من أئمة الهدى. فقال الأوزاعي إمام أهل الشام على رأس الخمسين ومائة عند ظهور هذه المقالة: ما أخبرنا عبد الواسع الأبهري بسنده إلى أبي بكر البيهقي: أنبأنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرني محمد بن علي الجوهري ببغداد، حدثنا إبراهيم بن الهيثم حدثنا محمد بن كثير المصيصي سمعت الأوزاعي يقول: " كنا - والتابعون متوافرون - نقول: إن الله فوق عرشه. ونؤمن بما وردت به السنة من صفاته. أخرجه البيهقي في الصفات، ورواته أئمة ثقات.
وقال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: لله أسماء وصفات لا يسعُ أحدًا رَدُّهَا ومن خالف بعد ثبوت الحجة عليه كفر، وأما قبل قيام الحجة فإنه يعذر بالجهل، ونثبت هذه الصفات وننفي عنه التشبيه، كما نفى عن نفسه فقال: { } ( ) (الشورى: 11) ا هـ من فتح الباري.
قوله: " عن العباس بن عبد المطلب " ساقه المصنف رحمه الله مختصرًا، والذي في سنن أبي داود: عن العباس بن عبد المطلب قال: " { كنت في البطحاء في عصابة فيهم رسول الله فمرت بهم سحابة فنظر إليها فقال: " ما تسمون هذه؟ " قالوا: السحاب قال: والمزن قالوا: والمزن. قال: والعنان قالوا: والعنان. قال أبو داود: لم أتقن العنان جيدًا قال: هل تدرون ما بعد ما بين السماوات والأرض؟ قالوا: لا ندري قال: إن بُعد ما بينهما إما واحدة أو اثنتان أو ثلاث وسبعون سنة، ثم السماء التي فوقها كذلك، حتى عد سبع سماوات، ثم فوق السابعة بحر بين أسلفه وأعلاه مثل ما بين سماء إلى سماء، ثم فوق ذلك ثمانية أوعال، بين أظلافهم ورُكَبهم مثل ما بين سماء إلى سماء، ثم على ظهورهم العرش بين أسلفه وأعلاه كما بين سماء إلى سماء، ثم الله تعالى فوق ذلك " وأخرجه الترمذي وابن ماجه } ( ) وقال الترمذي: حسن غريب):
وقال الحافظ الذهبي: رواه أبو داود بإسناد حسن، وروى الترمذي نحوه من حديث أبي هريرة وفيه: " ما بين سماء إلى سماء خمسمائة عام ولا منافاة بينهما؛ لأن تقدير ذلك بخمسمائة عام هو على سير القافلة مثلا، ونيف وسبعون سنة على سير البريد؛ لأنه يصح أن يقال: بيننا وبين مصر عشرون يومًا باعتبار سير العادة، وثلاثة أيام باعتبار سير البريد. وروى شريك بعض هذا الحديث عن سماك فوقفه. هذا آخر كلامه.
قلت: فيه التصريح بأن الله فوق عرشه كما تقدم في الآيات المحكمات، والأحاديث الصحيحة وفي كلام السلف من الصحابة والتابعين وتابعيهم، وهذا الحديث له شواهد في الصحيحين وغيرهما، ولا عبرة بقول مَن ضعَّفه؛ لكثرة شواهده التي يستحيل دفعُها وصرفُها عن ظواهرها.
وهذا الحديث كأمثاله يدل على عظمة الله وكماله وعِظم مخلوقاته، وأنه المتصف بصفات الكمال التي وصف بها نفسه في كتابه ووصفه بها رسول الله وعلى كمال قدرته وأنه هو المعبود وحده لا شريك له دون كل ما سواه. وبالله التوفيق.
والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
تم كتاب (فتح المجيد) بعون الله الحميد، كمل مقابلة وتصحيحًا وقراءة على يد شيخنا العلامة، المحقق الفهامة، بقية أهل الاستقامة الشيخ عبد الله بن الشيخ حسن آل الشيخ، متع الله بحياته، سنة 1362 هـ.
فهرس الآيات
أأتخذ من دونه آلهة إن يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئا 181
أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور 592
إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم 113, 366, 378, 379, 380
إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين 187
إذ قال الله ياعيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا 590
إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون 143, 164
أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا 286
أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا وهم نائمون 401
أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون 400, 401
أفبهذا الحديث أنتم مدهنون 364
أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون 444, 450, 451, 457
أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه 453
أفرأيتم اللات والعزى 139, 265
إلا بلاغا من الله ورسالاته ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم 195
ألا تعبدوا إلا الله إنني لكم منه نذير وبشير 89
ألا لله الدين الخالص والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا 176, 180, 183, 204
ألكم الذكر وله الأنثى 141
ألم أعهد إليكم يابني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين 238
ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت 281, 282, 283, 303, 306
ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من 444, 445, 447
ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق 236
أليس الله بكاف عبده ويخوفونك بالذين من دونه ومن يضلل الله فما 47, 317, 382, 383, 399, 507
أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبا فستعلمون كيف نذير 592
أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أولو كانوا لا يملكون شيئا ولا 221
أم تقولون إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هودا 179
أم لهم إله غير الله سبحان الله عما يشركون 184
أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ولولا كلمة 110
أم من هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة 64, 402, 405
أمن خلق السماوات والأرض وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق 178, 189
أمن يبدأ الخلق ثم يعيده ومن يرزقكم من السماء والأرض أإله مع الله 190
أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض أإله 173, 180, 189, 190
أمن يهديكم في ظلمات البر والبحر ومن يرسل الرياح بشرا بين يدي 190
آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه فالذين آمنوا 522
إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين 63, 64, 65
إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا 532
أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون 97
إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون 402
إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون 57
إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون 65
إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا 310
إن الذين يخشون ربهم بالغيب لهم مغفرة وأجر كبير 405
إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا 493
إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك 77, 78, 79, 553
إن الله لعن الكافرين وأعد لهم سعيرا 151
إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات 477, 522
إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا 418
إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة 196, 197, 579
إن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا 481
إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على 178, 301, 591
إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه 502
إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا 217, 506, 520
إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون 48
إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء قال إني أشهد الله واشهدوا 123, 382
إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا 481
إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان 141, 142
إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا 382
إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين 228, 229, 230, 234
إنك ميت وإنهم ميتون 179
إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون 519, 563
إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم 392, 394, 395
إنما تعبدون من دون الله أوثانا وتخلقون إفكا إن الذين تعبدون من 79, 173, 184, 185, 282, 293
إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله 152
إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين 381, 383
إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن 498
إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى 381, 384, 385
إنه لقرآن كريم 360, 361
إنه لقول رسول كريم 216
إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون 15, 232
إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن 123
أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته 101, 102, 105, 369
أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون 412
أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة 438
إياك نعبد وإياك نستعين 190, 393, 534
أيحسب الإنسان أن يترك سدى 19
أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون 193, 194
أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة وإن تصبهم حسنة 342
اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا 294, 438
اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما 101, 104, 109, 110, 434, 435, 439, 441, 442
اتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء 396
ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن 87
ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين 174, 175, 188
ادفع بالتي هي أحسن السيئة نحن أعلم بما يصفون 523
اقرأ باسم ربك الذي خلق 8
الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين 378
الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين 78, 285, 368, 404
الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين 552
الذي أحلنا دار المقامة من فضله لا يمسنا فيها نصب ولا يمسنا فيها 430
الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج 82, 469, 470, 471
الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على 210, 591
الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور 420
الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون 408
الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون 38, 39, 41, 115
الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا 383, 392, 396, 398, 399
الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا قل فادرءوا عن 527, 528
الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان 310
الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم إن ربك واسع المغفرة 326
الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات 10
الرحمن على العرش استوى 11, 210, 592, 593
الله الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى 591
الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا 549
الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش وسخر 591
الله الصمد 584
الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في 219, 222, 223, 227
الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي 179
الم 464
بل جاء بالحق وصدق المرسلين 232
بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما 590
بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبدا وزين ذلك 538
بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون 532
تالله إن كنا لفي ضلال مبين 367, 475
تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير 301
تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده 215
تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا 216
تلك إذا قسمة ضيزى 141
تنزيل من رب العالمين 363
تنزيلا ممن خلق الأرض والسماوات العلا 591
ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم تظاهرون 462, 548
ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا يغشى طائفة منكم وطائفة قد 526, 528, 529, 538
ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم 39
ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا 294
ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة وإن من الحجارة 216
ثم قيل لهم أين ما كنتم تشركون 104
ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدمتم لهن إلا قليلا مما 487
جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا 414
حنفاء لله غير مشركين به ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه 394, 553
خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها وأنزل لكم من الأنعام ثمانية 363
ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل وأن الله 44, 104, 182
ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم 454
ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة ولا تجعل مع الله إلها آخر فتلقى 36
ذو العرش المجيد 512
رب إنهن أضللن كثيرا من الناس فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك 80, 84
رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا 393
ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة 272
رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء 405
سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض أعدت للذين 50
سيقولون لله قل فأنى تسحرون 15
ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ورجلا سلما لرجل هل يستويان 516
طاعة وقول معروف فإذا عزم الأمر فلو صدقوا الله لكان خيرا لهم 478
فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم 118
فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف وأشهدوا ذوي 390
فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى 332, 333, 334, 345
فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى 46
فإذا مس الإنسان ضر دعانا ثم إذا خولناه نعمة منا قال إنما أوتيته 501
فأرسلنا فيهم رسولا منهم أن اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا 89
فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا 48
فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه 391
فإن تولوا فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش 273
فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة 50
فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع 443, 452
فاطر السماوات والأرض جعل لكم من أنفسكم أزواجا ومن الأنعام أزواجا 512, 595
فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات والله 42, 44
فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم فأنزلنا على الذين ظلموا 583
فخرج منها خائفا يترقب قال رب نجني من القوم الظالمين 383
فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة إنهم اتخذوا الشياطين أولياء 205
فصل لربك وانحر 148, 150, 155
فقد كذبوكم بما تقولون فما تستطيعون صرفا ولا نصرا ومن يظلم منكم 556
فكفى بالله شهيدا بيننا وبينكم إن كنا عن عبادتكم لغافلين 198
فلا أقسم بمواقع النجوم 352, 359, 360
فلا تدع مع الله إلها آخر فتكون من المعذبين 182
فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم 437, 446, 451
فلما آتاهما صالحا جعلا له شركاء فيما آتاهما فتعالى الله عما يشركون 503, 504, 505
فلما ألقوا قال موسى ما جئتم به السحر إن الله سيبطله إن الله لا 331
فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق ويعقوب وكلا 64
فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم 327
فلما جهزهم بجهازهم جعل السقاية في رحل أخيه ثم أذن مؤذن أيتها 449
فلولا نصرهم الذين اتخذوا من دون الله قربانا آلهة بل ضلوا عنهم 222
فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته أولئك ينالهم نصيبهم 474
فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره 39
فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون 331
في صحف مكرمة 361
في كتاب مكنون 361
فيومئذ لا يعذب عذابه أحد 113
قال أبشرتموني على أن مسني الكبر فبم تبشروني 403
قال أتعبدون ما تنحتون 282
قال إنما أوتيته على علم عندي أولم يعلم أن الله قد أهلك من قبله 499, 503
قال الذين حق عليهم القول ربنا هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم كما 113
قال رب إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا ولم أكن بدعائك رب 175
قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب 392
قال فما بال القرون الأولى 232
قال ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون 400, 402, 403
قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان 530
قالوا أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا فأتنا بما 44
قالوا بشرناك بالحق فلا تكن من القانطين 403
قالوا تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض وما كنا سارقين 449
قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين 399
قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم 113
قالوا سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء ولكن 186
قالوا طائركم معكم أئن ذكرتم بل أنتم قوم مسرفون 332, 334, 335, 346
قالوا نعبد أصناما فنظل لها عاكفين 282
قد قالها الذين من قبلهم فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون 501
قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا 14, 64, 446
قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك 112
قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعا والله هو السميع 174
قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أغير الله تدعون 174
قل أعوذ برب الفلق 169
قل أغير الله أبغي ربا وهو رب كل شيء ولا تكسب كل نفس إلا عليها 583
قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين 148, 149, 150, 155, 166
قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها 365, 371
قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله 368
قل أندعو من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ونرد على أعقابنا 174
قل إنما أدعو ربي ولا أشرك به أحدا 474
قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فمن كان يرجوا 416, 417
قل إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا 192, 195
قل إني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحدا 195
قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا 46
قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات 196, 210, 219, 223
قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا 102, 106, 185
قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى 188, 458, 466
قل الله أعبد مخلصا له ديني 176
قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ثم أنتم تشركون 180
قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين 17, 25, 26, 27, 30, 31, 307, 463
قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين 207
قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني 474
قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب 192, 195
قل لله الشفاعة جميعا له ملك السماوات والأرض ثم إليه ترجعون 16, 219, 221, 222
قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون 15
قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعا وخفية لئن أنجانا 180, 186
قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا وهدى وبشرى للمسلمين 363
قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله 85, 86, 87
قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه 281, 283, 286
قل ياأهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا 13, 97
قل ياأيها الكافرون 13
قل ياعبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن 79
كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم 413
كذلك أرسلناك في أمة قد خلت من قبلها أمم لتتلو عليهم الذي أوحينا 457, 458, 465, 466
كل نفس بما كسبت رهينة 179
كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن 179
كل نفس ذائقة الموت ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون 487
لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن 21, 36, 89, 117, 447
لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله 377
لا تجعل مع الله إلها آخر فتقعد مذموما مخذولا 36
لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا قد يعلم الله الذين 434, 437, 441
لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة 496, 497
لا تقم فيه أبدا لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه 157, 158, 159, 161
لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين 148, 149, 166
لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان 560, 561, 568
لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد 592
لا يسأم الإنسان من دعاء الخير وإن مسه الشر فيئوس قنوط 186
لا يمسه إلا المطهرون 361, 362
لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم فهم غافلون 204
لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة 11
لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين 271, 272, 273
لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وقال المسيح يابني 155
لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم 272
لمن شاء منكم أن يستقيم 480
لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف 48
له دعوة الحق والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء إلا كباسط 175
ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن 453, 478, 522
ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء وما تنفقوا من خير فلأنفسكم 229
ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون 193, 194, 198, 200, 201, 202, 207
ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه والله 406, 407, 408, 533
ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن 407, 531
ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك وأرسلناك 345
ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق 48
ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا 237
ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله 195
ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم 206
ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي 229, 230, 233, 234
ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن 48
ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين وكان 298
ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له 183, 389
مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف 384
محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم 368
ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا 151
من الله ذي المعارج 590
من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها 532
من دونه فكيدوني جميعا ثم لا تنظروني 123
من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم 421, 422
من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له 422
من كان يريد العزة فلله العزة جميعا إليه يصعد الكلم الطيب والعمل 590
من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا 374
هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات 463, 464, 465, 590
هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم 592, 594
هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء فسواهن 591
هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن والله بما تعملون بصير 357
هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها فلما تغشاها 504, 505
هو الذي يصلي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور وكان 11, 151
وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان 285
وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست 49
وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا واجنبني وبني أن نعبد الأصنام 79, 80
وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون 101, 103, 107, 108, 121
وإذ قال الله ياعيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين 206, 556
وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يابني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم 404
وإذ قال موسى لقومه ياقوم لم تؤذونني وقد تعلمون أني رسول الله 441
وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه وإذا مسه الشر فذو دعاء 186
وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر 284
وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين 114, 173, 185, 579
وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر 240
وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا 189
وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا 111
وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين 448
وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون 444, 448, 457
وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين 453
وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما كشفنا 186
وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعو ربي عسى ألا أكون بدعاء ربي 64, 175
وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر 305, 316, 331
وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وأنهارا وسبلا لعلكم تهتدون 348
وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم 14, 43
وإلى ربك فارغب 397
وإلى عاد أخاهم هودا قال ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره 43
وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم 169
وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك 446
وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا 175, 474
وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم 111
وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله 17, 18, 25, 28, 29, 30
وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين 396
وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله 134, 183, 184
وأنذر الناس يوم يأتيهم العذاب فيقول الذين ظلموا ربنا أخرنا إلى 204
وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي 219, 220, 221, 228
وأنذر عشيرتك الأقربين 194, 203, 207
وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا 22
وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا 168, 169
وإنه لقسم لو تعلمون عظيم 361
وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد 567, 568, 569
واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ما كان لنا أن نشرك بالله 251
واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين 303, 304, 305
واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا 197
واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون ولا يملكون لأنفسهم 195, 293
واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما 425
واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين 273
واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل ربي ارحمهما كما ربياني صغيرا 23
واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون 14
واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى 17, 24, 37
والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون 531
والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا 158
والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا 378, 523
والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه 384
والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله 26, 309
والذين هم بربهم لا يشركون 62, 66
والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون 405
والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا 48
والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم 353
وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا 48
وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون 351, 353, 364
وتوكل على الحي الذي لا يموت وسبح بحمده وكفى به بذنوب عباده خبيرا 591
وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من 399
وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم 139, 142, 144, 145, 146, 147, 165
وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب 532
وجعلني مباركا أين ما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا 301
وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون 103, 107, 108, 121
وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم 164
وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه إن في ذلك لآيات 49
وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون 33
وعلامات وبالنجم هم يهتدون 348, 349
وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله فإن انتهوا فإن 118, 355
وقال إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا 379
وقال اركبوا فيها بسم الله مجراها ومرساها إن ربي لغفور رحيم 8
وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا 21
وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرءوا منا كذلك 114, 121
وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد فإياي فارهبون 14, 382
وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون 187
وقال فرعون ياهامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب 592
وقال موسى ياقوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين 393
وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون 217
وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور 430
وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيل 292
وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا 235, 237
وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر 483, 484, 485
وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين 502
وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى وأقمن الصلاة وآتين 354
وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك 17, 22, 23, 102, 464
وقطعناهم في الأرض أمما منهم الصالحون ومنهم دون ذلك وبلوناهم بالحسنات 487
وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين 523
وكذلك أعثرنا عليهم ليعلموا أن وعد الله حق وأن الساعة لا ريب فيها 281, 286
وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان 230
وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم 453
وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا 53, 232
وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن 219, 223
ولئن أذقناه رحمة منا من بعد ضراء مسته ليقولن هذا لي وما أظن الساعة 499, 500, 503
ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله 494, 495, 496
ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله قل أفرأيتم ما 122, 123, 183
ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله فأنى يؤفكون 108
ولئن سألتهم من نزل من السماء ماء فأحيا به الأرض من بعد موتها 359
ولا أنتم عابدون ما أعبد 36
ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق وإن الشياطين ليوحون 110, 166, 442
ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس 568
ولا تدع مع الله إلها آخر لا إله إلا هو كل شيء هالك إلا وجهه له 182, 195
ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذا من 134, 173, 174, 181, 182, 192
ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها وادعوه خوفا وطمعا إن رحمة الله 444, 449, 457
ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا 17, 27, 28
ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون 214
ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا 208, 209, 210, 212, 218, 223
ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر 109, 110
ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق وهم يعلمون 42
ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون 290
ولقد أرسلنا من قبلك رسلا إلى قومهم فجاءوهم بالبينات فانتقمنا 33
ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم 17, 20, 21, 22
ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء 16
ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين وأعتدنا 348
ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون 508, 509, 511
ولله ملك السماوات والأرض والله على كل شيء قدير 178
ولمن خاف مقام ربه جنتان 382
ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات 407
ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا 396, 397
ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته أأعجمي وعربي قل 171
ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من 363
ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك وما يضلون 476
وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم 19
وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون 43, 149, 417
وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين 229
وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة 182
وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن وعمل 354
وما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فإن الله يعلمه وما للظالمين 163
وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله ذلكم الله ربي عليه توكلت 492
وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون 123, 518
وما تنزلت به الشياطين 362
وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين 453
وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون 17, 18
وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل 539
وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات 584, 585, 586, 587
وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير 452
وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم 451
وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام وما كانوا 241
وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون 15, 122, 127, 128
وما يذكرون إلا أن يشاء الله هو أهل التقوى وأهل المغفرة 60
ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا 225
ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين 86
ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة 114, 173, 185, 197
ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين 16, 101, 105, 112, 113, 114, 116, 366, 367
ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس 381, 385
ومن شر النفاثات في العقد 304, 317
ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون 111
ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه إنه 14, 182
ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى وإلى 103
ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين 178, 450, 512
ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه 308, 309
ومناة الثالثة الأخرى 139
ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها 427
وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر قد فصلنا 348
ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين 22
ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ 73, 135, 392, 397
ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا 523
ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا 16, 176, 180, 183, 221
ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقا من السماوات والأرض شيئا 196
ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الظانين بالله 537, 539, 544, 545
ويقولون أئنا لتاركو آلهتنا لشاعر مجنون 232
ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد 372, 498
ويوم نبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم وجئنا بك شهيدا على 31
ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركاؤكم فزيلنا 198, 445
ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون 446, 556
ويوم يحشرهم جميعا يامعشر الجن قد استكثرتم من الإنس وقال أولياؤهم 170, 322
ويوم يحشرهم وما يعبدون من دون الله فيقول أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء 186, 556
ياأهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما 235, 236
ياأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم 435, 492
ياأيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من 522
ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين 477
ياأيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا 398
ياأيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة 203
ياأيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم 28
ياأيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم 368
ياأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا 354
ياأيها الناس اذكروا نعمة الله عليكم هل من خالق غير الله يرزقكم 178
ياأيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون 115, 470
ياأيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم 455
ياأيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين 392, 396
يابني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا من روح الله إنه 403
يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون 382, 591
يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره 590
يدعو من دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه ذلك هو الضلال البعيد 292
يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا 309
يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها وأكثرهم الكافرون 359, 466, 467, 468
يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من 220, 222, 225, 227, 382
يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا 163
يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وسخر الشمس والقمر 178, 186, 193, 196, 579
يوم لا ينفع مال ولا بنون 59
يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا 223
فهرس الأحاديث
أتدري ما حق الله على العباد 32
أتى رسول الله أعرابي فقال يا رسول الله، جهدت الأنفس، وضاعت العيال، 577
أجعلتني لله ندا ؟ 481, 483
أحب إليه مما سواهما 375
أحد جبل يحبنا ونحبه 199
أحسنها الفأل، ولا ترد مسلما فإذا رأى أحدكم ما يكره فليقل اللهم لا 332
أخاف على أمتي بعدي خصلتين تكذيبا بالقدر، وإيمانا بالنجوم 349
أخاف على أمتي ثلاثا استسقاء بالنجوم، وحيف السلطان، وتكذيبا بالقدر 355
أخاف على أمتي ثلاثا حيف الأئمة، وإيمانا بالنجوم، وتكذيبا بالقدر 349
أخذ بعنان فرسه في سبيل الله 431
أخذت السماوات منه رجفة 215
أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر، فسئل عنه ؟ فقال الرياء 77, 80
أدخله الله الجنة على ما كان من العمل 51
أدخله الله من أي أبواب الجنة الثمانية شاء 51
أدعوك 55
إذ رفع لي سواد عظيم 70
إذا أحب الله قوما ابتلاهم، فمن صبر فله الصبر، ومن جزع فله الجزع 413
إذا أراد الله بعبده الخير عجل له العقوبة في الدنيا، وإذا أراد بعبده 406, 411
إذا أراد الله بعبده الخير، عجل له العقوبة في الدنيا، وإذا أراد بعبده 411
إذا أراد الله تعالى أن يوحي بالأمـر تكلـم بالوحي أخذت السمـاوات منه 209, 214
إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، 371
إذا تغولت الغيلان فبادروا بالأذان 339, 340
إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماء الدنيا صلصلة كجر السلسلة على الصفوان 212
إذا جلس الرب على الكرسي 462
إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب فإنما هو استدراج 402
إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالإيمان 385
إذا رأيتم ما تكرهون فقولوا اللهم إنا نسألك من خير هذه الريح وخير ما 536
إذا رفع رأسه من الركوع في الركعة الأخيرة من الفجر اللهم العن فلانا 194
إذا قضى الله أمرا تكلم تبارك وتعالى رجفت السماوات والأرض والجبال، 215
إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله، 208, 210, 211
إذا لقيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب 581
إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث 179
إذا مات فيهم الرجل الصالح أو العبد الصالح 247
إذا وقعتم في الأمر العظيم فقولوا حسبنا الله ونعم الوكيل 400
أذكرك 55
أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن الفخر بالأحساب، والطعن في 352, 353, 354
أشد الناس عذابا يوم القيامة الذين يضاهئون بخلق الله 551
أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له السماوات والأرض 525
أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة 525
أعوذ بوجه الله الكريم، وباسم الله العظيم وبكلماته التامة من شر السامة 525
أغيظ رجل على الله وأخبثه 490
أغيظ رجل على الله يوم القيامة وأخبثه 489
أفلا أبشر الناس ؟ 34
أقلب الليل والنهار 487
ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله ؟ أن لا تدع صورة إلا طمستها 553
ألا أحدثكم حديثا سمعته من أبي عن جدي عن رسول الله ؟ قال لا تتخذوا 275
ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال ؟ قالوا بلى يا 416, 419
ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ؟ قلنا بلى يا رسول الله، قال الإشراك بالله، 24
ألا هل أنبئكم ما العضه ؟ هي النميمة، القالة بين الناس 313, 317
ألظوا بيا ذا الجلال والإكرام 513
ألقاها إلى مريم 49
أما إنك لو بلغت معهم الكدى لم تدخلي الجنة 269
أما إني لم أكن في صلاة 67
أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله 118
أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، ويؤمنوا بي وبما 118
أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله 118
أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني 98
آمركم بالإيمان بالله وحده، أتدرون ما الإيمان بالله وحده ؟ شهادة أن 453
آمين، آمين، آمين، فقالوا يا رسول الله، على ما أمنت ؟ قال أتاني جبريل 23
إن أخنع اسم عند الله رجل تسمى ملك الأملاك، لا مالك إلا الله 488, 489
إن أخوف ما أخاف على أمتي الأئمة المضلون 294
إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر قالوا وما الشرك الأصغر يا رسول 80, 81
إن أعطي رضي، وإن لم يعط سخط 427
أن أم حبيبة وأم سلمة ذكرتا ذلك لرسول الله 247
أن أم سلمة ذكرت لرسول الله كنيسة رأتها بأرض الحبشة وما فيها من الصور، 245, 247
إن أول ما خلق الله تعالى القلم فقال اكتب، فجرى في تلك الساعة بما هو 546
إن استأذن لم يؤذن له 432
إن الرقى والتمائم والتولة شرك 130, 132
إن العيافة والطرق والطيرة من الجبت 313, 314
إن الله أو قال إن ربي زوى لي الأرض فأريت مشارق الأرض ومغاربها، وإن 291
إن الله أمر يحيى بن زكريا عليه السلام بخمس كلمات أن يعمل بهن، وأن 471
أن الله تعالى قال أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر 467
إن الله تعالى يقبض يوم القيامة الأرضين على إصبع، وتكون السماء بيمينه 588
إن الله تعالى يقبل توبة العبد ما لم يغرغر 356
إن الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة ما منعك إذ رأيت المنكر أن لا 383
إن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله، يبتغي بذلك وجه الله 41, 51, 61, 62
إن الله خلقكم ورزقكم فاعبدوه ولا تشركوا به شيئا 472
إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها 287, 288
إن الله زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها 281
إن الله فوق عرشه، وعرشه فوق سماواته 577
إن الله قد أذهب عنكم عبية الجاهلية، وفخرها بالآباء، إنما هو مؤمن تقي، 355
إن الله كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف 550
إن الله هو الحكم وإليه الحكم 492
إن الله يقبض يوم القيامة الأرضين وتكون السماء بيمينه 589
إن الله يلوم على العجز 531
إن الملائكة تنزل في العنان وهو السحاب فتذكر الأمر قضي في السماء، 212
أن النبي ومعاذ رديفه على الرحل ـ قال يا معاذ، قال لبيك يا رسول الله 51
أن النبي أبصر على عضد رجل حلقة قال أراها من صفر فقال ويحك ما هذه 124
أن النبي أتاهم في مسجد قباء فقال إن الله قد أحسن عليكم الثناء بالطهور 159
أن النبي أخذ بيد مجذوم فأدخلها معه في القصعة، ثم قال كل بسم الله، 337
أن النبي أخذ في يده حصيات، فسمع لهن تسبيح 216
أن النبي تلا هذه الآية على عدي بن حاتم الطائي فقال يا رسول الله، 104
أن النبي رأى رجلا في يده حلقة من صفر، فقال ما هذه ؟ قال من الواهنة 122, 124
أن النبي سحر حتى إنه ليخيل إليه أنه يفعل الشيء وما يفعله، وأنه قال 304
أن النبي كوى أسعد بن زرارة من الشوكة 72
أن امرأة قالت يا رسول الله إني نذرت أن أضرب على رأسك بالدف فقال أوفي بنذرك 167
أن تقول أعطاني الله وفلان، والند أن يقول الإنسان لولا فلان لقتلني فلان 81
إن ثلاثة من بني إسرائيل أبرص، وأقرع، وأعمى فأراد الله أن يبتليهم، 499
أن رجلا أثنى على رجل عند النبي فقال له قطعت عنق صاحبك ثلاثا 581
أن رجلا قال للنبي ما شاء الله وشئت، فقال أجعلتني لله ندا ؟ بل ما شاء الله وحده 479, 481
أن رجلا قال يا رسول الله علمني عملا أنال به ثواب المجاهدين في سبيل 433
أن رجلا قال يا رسول الله، طوبى لمن رآك وآمن بك، قال طوبى لمن رآني 428
إن رزق الله لا يجره حرص حريص، ولا يرده كراهية كاره 389
أن رسول الله انطلق إلى إحدى بناته ولها صبي في الموت، فرفع إليه ونفسه 411
أن رسول الله سئل عن النشرة ؟ فقال هي من الشيطان 329
أن رسول الله سئل عن النشرة ؟ فقال هي من عمل الشيطان 328, 329
أن رسول الله قال يوم خيبر لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله، 85, 93
أن رسول الله قرأ هذه الآية ذات يوم على المنبر وما قدروا الله حق قدره 588
أن رسول الله كان يزور قباء راكبا وماشيا 157
أن رسول الله لما أراد أن يبعث معاذا إلى اليمن قال كيف تقضي إذا 339 439
أن رسول الله لما بعث معاذا إلى اليمن قال له إنك تأتي قوما من أهل الكتاب، 85, 87
أن شفي بن ماتع الأصبحي حدثه، أنه دخل المدينة فإذا هو برجل قد اجتمع 423
إن عبد الله رأى في عنقي خيطا فقال ما هذا ؟ قلت خيط رقي لي فيه قالت 132
إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله تعالى إذا أحب قوما ابتلاهم، 406, 412, 413
أن عمر بن الخطاب قال يا رسول الله لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي 372
أن عيسى أسلمته أمه إلى الكتاب ليعلمه، فقال له المعلم اكتب بسم الله 9
إن عيسى ابن مريم قال الرحمن رحمن الآخرة والدنيا والرحيم رحيم الآخرة 11
إن في الكتاب الذي كتبه رسول الله لعمرو بن حزم أن لا يمس القرآن إلا طاهر 362
إن كان في الحراسة كان في الحراسة 431
أن لا يبقين في رقبة بعير قلادة من وتر أو قلادة إلا قطعت 130, 131
إن للإسلام صوى ومنارا كمنار الطريق من ذلك أن تعبد الله ولا تشرك به 103
إن لله تسعة وتسعين اسما، مائة إلا واحدا، من أحصاها دخل الجنة، وهو وتر يحب الوتر 509
إن مما أخاف على أمتي التصديق بالنجوم، والتكذيب بالقدر، وحيف الأئمة 349
إن من البيان لسحرا 304, 313, 318, 319
إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء، والذين يتخذون القبور مساجد 246, 255
إن من ضعف اليقين أن ترضي الناس بسخط الله، وأن تحمدهم على رزق الله، 381
إن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا 258
أن ناسا قالوا يا رسول الله يا خيرنا وابن خيرنا، وسيدنا وابن سيدنا، 580
أن نبي الله زمن الحديبية حين صالح قريشا كتب هذا ما صالح عليه محمد 465
إن هذا الدين يسر 273
إن هذا هو تحية أهل الجنة لربهم تبارك وتعالى 515
إن هذا يوم قد جعله الله للمسلمين عيدا 160
إن يسير الرياء شرك 112
أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا 33
أن يهوديا أتى النبي فقال إنكم تشركون، تقولون ما شاء الله وشئت، وتقولون 479, 480
إنك تأتي قوما من أهل الكتاب 88
إنكم تشركون، تقولون ما شاء الله وشئت 480
إنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين 294
إنما أنا عبد، فقولوا عبد الله ورسوله 242
إنما الطاعة في المعروف 111
إنما الطيرة ما أمضاك أو ردك 333, 345
إنما هو الشرك 40
أنه رأى رجلا يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي فيدخل فيها فيدعو، فنهاه، 271
أنه سئل عن الرجل يعمل العمل من الخير يحمده الناس عليه، فقال تلك عاجل 419
أنه سمع النبي يقرأ هذه الآية اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون 434, 441
أنه كان في زمن النبي منافق يؤذي المؤمنين، فقال بعضهم قوموا بنا نستغيث 173, 191
أنه كان يكنى أبا الحكم فقال له النبي إن الله هو الحكم، وإليه الحكم، 491
أنه كان يكنى أبا الحكم، فقال له النبي إن الله هو الحكم، وإليه الحكم، 491
أنه كان يمنعه الحياء منهم 482
أنه كوى من ذات الجنب والنبي حي 72
إنه لا يستغاث بي، وإنما يستغاث بالله 581
أنه نهى النساء عن اتباع الجنائز 269
أنه نهى عن ذبائح الجن 152
أنه يأتي فيسجد لربه ويحمده، لا يبدأ بالشفاعة أولا، ثم يقال له ارفع 220, 225
أنهم تضيء وجوههم إضاءة القمر ليلة البدر 70
إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل، فإن الله قد اتخذني خليلا، 246, 251, 252
إني والجن والإنس في نبأ عظيم، أخلق ويعبد غيري، وأرزق ويشكر سواي، خيري 34
إني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيت 568
أو كلمة نحوها 204
أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله 377
أولئك شرار الخلق عند الله 248
إياكم والغلو، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو 236, 243
أيكم يبايعني على هؤلاء الآيات الثلاث ؟ 31
اثنتان في الناس هما بهم كفر الطعن في النسب، والنياحة على الميت 406, 409
اجتنبوا السبع الموبقات، قالوا يا رسول الله وما هن ؟ قال الشرك بالله، 303, 306
اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم ولا تتخذوها قبورا 274
احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجزن، وإن أصابك شيء فلا تقل لو 527
ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة 187
ادعوا لي عليا فأتي به أرمد 95
ارجعن مأزورات غير مأجورات، فإنكن تفتن الحي وتؤذين الميت 269
اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد 264
اشتروا أنفسكم 204
اغزوا بسم الله 570
افعلوا ما أمرتكم به، فلولا أني سقت الهدى لفعلت مثل الذي أمرتكم 436
الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام 254
الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله، والنار مثل ذلك 156
الحلف منفقة للسلعة ممحقة للكسب 562
الحلف منفقة للسلعة، ممحقة للكسب 560
الحياء شعبة من الإيمان 316
الدعاء سلاح المؤمن وعماد الدين ونور السماوات والأرض 187
الدعاء مخ العبادة 102, 187
الدعاء هو العبادة 558
الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة 483
السلام عليكم يا أهل القبور، يغفر الله لنا ولكم، أنتم سلفنا ونحن بالأثر 557
السيد الله تبارك وتعالى 583
الشؤم في ثلاث في المرأة، والدابة، والدار 338
الشافعي 571
الشرك أخفى من دبيب النمل قال أبو بكر يا رسول الله، وهل الشرك إلا 81
الشفاء في ثلاث شربة عسل، وشرطة محجم، وكية نار، وأنا أنهى أمتي عن الكي 72
الطعن في النسب 409
الطيرة شرك، الطيرة شرك، وما منا إلا، ولكن الله يذهبه بالتوكل 332
القدرية مجوس هذه الأمة، إن مرضوا فلا تعودوهم، وإن ماتوا فلا تشهدوهم 547
الكبائر تسع وذكر السبعة المذكورة وزاد والإلحاد في الحرم، وعقوق الوالدين 307
الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني شيئا منهما عذبته 582
الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجر من أتبع نفسه هواها وتمنى 530
الله أكبر إنها السنن، لتتبعن سنن من كان قبلكم 147
اللهم أكثر ماله وولده وأدخله الجنة 59
اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس أنت رب المستضعفين 525
اللهم إنا نسألك من خير هذه الريح وخير ما فيها، وخير ما أمرت به، ونعوذ 536
اللهم أنت أحق من ذكر، وأحق من عبد 525
اللهم أنت السلام ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام 514
اللهم أنت عضدي ونصيري، بك أحول، وبك أصول، وبك أقاتل 195
اللهم إني أسألك الجنة وما يقرب إليها من قول وعمل، وأعوذ بك من النار 526
اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنان 187, 513
اللهم إني أسألك بأنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد 187
اللهم العن فلانا وفلانا، بعد ما يقول سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد، 200
اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل 69, 462
اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد 145, 261, 262, 264
اللهم لا تجعل قبرى وثنا يعبد؛ اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد 261
اللهم لا تجعل قبري وثنا، لعن الله قوما اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد 262
اللهم لك الحمد كله، ولك الملك كله، وبيدك الخير كله، وإليك يرجع الأمر 489
المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير احرص على ما ينفعك 530
الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه اللهم اغفر له اللهم ارحمه 12
النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب 352
النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقوم يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب 353
انزعها، فإنها لا تزيدك إلا وهنا 125
انطلقت في وفد بني عامر إلى رسول الله فقلنا أنت سيدنا، فقال السيد الله 580
انقض 67
بدأ الإسلام غريبا، وسيعود غريبا كما بدأ 378
بعث إلى أبي بن كعب طبيبا، فقطع له عرقا وكواه 72
بعثت بالحنيفية السمحة 273
بيدي الأمر 487
بين السماء الدنيا والتي تليها خمسمائة عام، وبين كل سماء خمسمائة عام، 586
بينا نحن جلوس عند النبي إذ جاءه رجل من بني سلمة فقال يا رسول الله، 24
تدمع العين، ويحزن القلب، ولا نقول إلا ما يرضي الرب، 316 وإنا بك يا 411
تدور رحى الإسلام لخمس وثلاثين، أو ست وثلاثين، أو سبع وثلاثين، فإن 292
تركته وشركه 418
تعس عبد الخميصة 426
تعس عبد الدرهم 426
تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميلة، 421, 422, 425, 427
تعس وانتكس 426, 427, 434
تمارى رجلان في المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم فقال رجل هو مسجد 158
ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان أن يكون الله ورسوله أحب إليه 365
ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما 373
ثلاثة لا يكلمهم الله ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم أشيمط زان، وعائل مستكبر، 561, 562
ثم ادعهم إلى الإسلام 96, 571
ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا 59
ثم نهض 71
جاء أعرابي إلى النبي فقال يا رسول الله نهكت الأنفس، وجاع العيال، وهلكت 576
جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله فقال يا محمد إنا نجد أن الله يجعل 584
جاء رجل من أهل الكتاب إلى النبي فقال يا أبا القاسم أبلغك أن الله تعالى 587
جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا 246, 255, 258
حتى تأتيهم الساعة 300
حتى تعبد فئام من أمتي الأوثان 295
حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه 287
حتى لو كان فيهم من يأتي أمه علانية لكان في أمتي من يفعل ذلك 287
حتى يأتي أمر الله 299
حتى يكون بعضهم يهلك بعضا، ويسبي بعضهم بعضا 291
حتى يلحق قبائل من أمتي بالمشركين 295
حتى يوافى به يوم القيامة 412
حد الساحر ضربه بالسيف 303, 310, 311
حذو القذة بالقذة 287
حرس ليلة في سبيل الله أفضل من ألف ليلة يقام ليلها ويصام نهارها 432
خرج علينا رسول الله متكئا على عصا، فقمنا إليه فقال لا تقوموا كما تقوم 490
خرجت مع رسول الله يوما، فبرح ظبي، فمال في شقه فاحتضنته، فقلت يا رسول 345
خرجنا مع رسول الله إلى حنين ونحن حدثاء عهد بالكفر، وللمشركين سدرة 139
خرجنا مع رسول الله إلى حنين، ونحن حدثاء عهد بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون 142
خشي أن يتخذ مسجدا 246
خط رسول الله خطا بيده، ثم قال هذا سبيل الله مستقيما، ثم خط خطوطا عن 29
خوفا من الله 215
خير أمتي قرني ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم قال عمران فلا أدري 564
خير أمتي قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، قال عمران فلا أدري 561
خير الدعاء دعاء يوم عرفة وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا 57
خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، 561, 566
دخل الجنة رجل في ذباب، ودخل النار رجل في ذباب قالوا وكيف ذلك يا رسول 154
دخل الجنة رجل في ذباب، ودخل النار رجل في ذباب، قالوا وكيف ذلك يا رسول 148
دخلت على عبادة وهو مريض أتخايل فيه الموت، فقلت يا أبتاه أوصني واجتهد 548
دخلت مسجد المدينة فناداني شيخ قال يا يمامي، تعال، وما أعرفه، قال لا 575
دعهما يا أبا بكر؛ فإن لكل قوم عيدا 160
ذكرت الطيرة عند رسول الله فقال أحسنها الفأل، ولا ترد مسلما فإذا رأى 341
ذكرت لرسول الله 247
رأى رسول الله جبريل في صورته وله ستمائة جناح، كل جناح منها قد سد الأفق، 216
رأيت فيما يرى النائم كأني أتيت على نفر من اليهود، فقلت من أنتم ؟ قالوا 482
رأيت كأني أتيت على نفر من اليهود، فقلت إنكم لأنتم القوم، لولا أنكم 479
رب أشعث مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره 432
رضا الرب في رضا الوالدين، وسخطه في سخط الوالدين 24
رغم أنف، ثم رغم أنف، ثم رغم أنف رجل أدرك والديه أحدهما أو كليهما لم يدخل الجنة 23
زوروا القبور، فإنها تذكر الموت 557
سئل النبي أي الناس أشد بلاء ؟ قال الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى 414
سئل رسول الله عن القردة والخنازير، أهي مما مسخ الله ؟ فقال إن الله 284
سألت النبي أي الذنب أعظم عند الله ؟ قال أن تجعل لله ندا وهو خلقك 307
سلمان منا أهل 444 البيت، إن الله يحب من أصحابي أربعة عليا، وأبا ذر، 562
سلوا الله كل شيء حتى الشسع إذا انقطع 187
سليني من مالي ما شئت 205
سمعت رسول الله يقول لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام، 279
سنوا بهم سنة أهل الكتاب 572
شج النبي يوم أحد وكسرت رباعيته، فقال كيف يفلح قوم شجوا نبيهم ؟ فنزلت 193, 198
شهدت العيد مع رسول الله 160
صعد رسول الله على الصفا 203
صعقوا وخروا لله سجدا 216
صلاة الله على عبده ثناؤه عليه عند الملائكة 12
صلاة في مسجد قباء كعمرة 157
صلى لنا رسول الله صلاة الصبح بالحديبية على إثر سماء كانت من الليل، 352, 356
ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله 211
طوبى لعبد 428
عبد الدينار 426
عبده ورسوله 47
عرضت علي الأمم 69
على رسلك 100
على ما كان من العمل 62
عن عبد الله بن مسعود قال قلت يا رسول الله ؟ أي الذنب أعظم ؟ قال أن 112
عن ابن الديلمي قال أتيت أبي بن كعب، فقلت في نفسي شيء من القدر، فحدثني 546
عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أنه قال للنبي والله يا رسول الله ما 103
عن عقبة بن عامر الجهني أن رسول الله أقبل إليه رهط فبايع تسعة وأمسك 126
عن يحيى بن يعمر قال كان أول من تكلم في القدر بالبصرة معبد الجهني، 547
غير أنه خشي أن يتخذ مسجدا 251
فأخبر بها معاذ عند موته تأثما 35
فإذا اغتم بها كشفها 250
فإذا فعلوا ذلك فقد منعوا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها 98
فأعطاه الراية 96
فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم 90
فإن لو تفتح عمل الشيطان 531
فإن 418 غلبك أمر فلا تقل لو أني فعلت كذا وكذا، ولكن قل قدر الله وما شاء فعل 534
فإن أبوا أن يتحولوا 571
فإن استطعت أن تعمل بالرضا في اليقين فافعل، فإن لم تستطع فإن في الصبر 387
فإن الله قد اتخذني خليلا 252
فإن الله هو الدهر 488
فإن الله هو السلام ومنه السلام 514
فإن قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني، فحكمت بينهم فرضى كلا الفريقين، 493
فإن هم أبوا فاسألهم الجزية 572
فإن هم أطاعوك لذلك 90
فأنا بريء وهو للذي أشرك 418
فإنك لو مت وكلت إليها 124
فإنك لو مت وهي عليك ما أفلحت أبدا 125
فإياك وكرائم أموالهم 91
فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم 571
فاستزدت ربي فزادني مع كل ألف سبعين ألفا 71
فبات الناس يدوكون ليلتهم 95
فبصق 96
فخاض الناس في أولئك 71
فر من المجذوم كما تفر من الأسد 336
فرأيت النبي ومعه الرهط 69
فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها 213
فزوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة 264
فسرها رسول الله لعدي بن حاتم، وذلك أنه لما جاء مسلما دخل على رسول 109
فظننت أنهم أمتي 70
فقال أين علي بن أبي طالب 95
فقال ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله 89
فقال اللهم اجعله منهم 75
فقال اللهيؤذيني ابن آدم، يسب الدهر وأنا الدهر، بيدي الأمر، أقلب الليل والنهار 486
فقال سبقك بها عكاشة 75
فقال هم الذين لا يسترقون 71
فقال يا رسول الله، ادع الله أن يجعلني منهم، قال أنت منهم 75
فقالوا يا رسول الله فأينا لا يظلم نفسه ؟ قال إنه ليس الذي تعنون ألم 39
فقام عكاشة بن محصن 75
فقد كفر أو أشرك 473
فقد كفر بما أنزل على محمد 324
فقيل لي هذا موسى وقومه 70
فقيل هو يشتكي عينيه 95
فلا انتقش 426
فلما أصبحوا غدوا على رسول الله كلهم يرجو أن يعطاها 95
فليخلقوا ذرة أو حبة أو شعيرة 560
فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله 88
فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله 89
فما حملك على ذلك 68
فما رمدت ولا صدعت منذ دفع النبي إلي الراية 96
فمن رضي فله الرضا 414
فمن لم يؤمن بالقدر خيره وشره أحرقه الله بالنار 546
فنظرت فإذا سواد عظيم فقيل لي هذه أمتك ومعهم سبعون ألفا يدخلون الجنة 70
فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم 98
في كفة 56
فيستبيح بيضتهم 290
فيسمع الكلمة فيلقيها إلى من تحته 213
فيسمعها مسترق السمع 212
فيكذب معها مائة كذبة 214
فيكون أول من يرفع رأسه جبريل 216
فينتهي جبريل بالوحي إلى حيث أمره اللهمن السماء والأرض 217
قاتلوا من كفر بالله 570
قال آدم لموسى أتلومني على أمر قدره الله علي قبل أن أخلق بأربعين سنة 533
قال الله تبارك وتعالى يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على 58
قال الله تعالى أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك معي فيه 416, 417
قال الله تعالى يؤذيني ابن آدم، يسب الدهر، وأنا الدهر، أقلب الليل والنهار 484
قال الله تعالى يا ابن آدم، لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا 42, 58
قال اللهفي بعض كتبه بعزتي إنه من اعتصم بي فكادته السماوات بمن فيهن 397
قال النبي في وصف الكهان فيكذبون معها مائة كذبة 326
قال بعض وفد بني تميم أي محمد أعطني، فإن حمدي زين وذمي شين، قال النبي ذاك الله 389
قال رجل في غزوة تبوك ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء، أرغب بطونا، ولا أكذب 495
قال رجل في غزوة تبوك في مجلس ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطونا، 496
قال رجل من المنافقين ما أرى مثل قرائنا هؤلاء، أرغبنا بطونا، وأكذبنا 495
قال رجل والله لا يغفر الله لفلان، فقال اللهمن ذا الذي يتألى علي أن 574
قال رجل يا رسول الله وما طوبى ؟ قال شجرة في الجنة مسيرة مائة سنة، 428
قال لمعاذ لما بعثه إلى اليمن بم تحكم ؟ قال بكتاب الله، قال فإن لم 493
قال لي علي ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله ؟ ألا تدع صورة إلا 552
قال موسى يا رب، علمني شيئا أذكرك وأدعوك به قال قل يا موسى لا إله إلا 42
قال يهودي لصاحبه اذهب بنا إلى هذا النبي، فقال له صاحبه لا تقل نبي، 308
قالها ثلاثا 244
قالوا يا رسول الله اليهود والنصارى ؟ قال فمن ؟ 287
قام رسول الله حين أنزل عليه وأنذر عشيرتك الأقربين الشعراء 214 قال 194, 203
قد أحسن من انتهى إلى ما سمع 68, 69, 76
قرأ رسول الله هذه الآية هو أهل التقوى وأهل المغفرة المدثر ـ 56 وقال 60
قل اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا، ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي 516
قل يا موسى لا إله إلا الله 55
قلت ارتقيت 68
قلت الله ورسوله أعلم 33
قلت يا رسول الله، أي الذنب أعظم عند الله ؟ قال أن تجعل لله ندا وهو 26
قلت يا رسول الله، كيف أصنع باليقين ؟ قال أن تعلم أن ما أصابك لم يكن 388
قلت يا رسول الله، وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به ؟ قال ثكلتك أمك يا معاذ، 576
قلنا لعلي أخبرنا بشيء أسره إليك رسول الله فقال ما أسر إلى شيئا كتمه 151
قوله أنت منهم 76
قولوا لا إله إلا الله تفلحوا 25
قوموا إلى سيدكم 583, 584
كأنه سلسلة على صفوان 212
كان أحدنا في زمن رسول الله يأخذ جمل أخيه على أن يعطيه النصف مما يغنم 136
كان الكتاب الأول ينزل من باب واحد على حرف واحد، فنزل القرآن من سبعة 463
كان رجلان في بني إسرائيل متآخيين فكان أحدهما يذنب، والآخر مجتهد في 575
كان رسول الله جالسا في نفر من أصحابه قال عبد الرزاق من الأنصار قال 213
كان رسول الله صلى الله عليه وسل إذا أمر أميرا على جيش أو سرية أوصاه 567
كان رسول الله يدعو ساجدا يا رحمن يا رحيم فقال المشركون هذا يزعم أنه 466
كان يمنعني كذا وكذا أن أنهاكم عنها 482
كتب معاويةإلى عائشة رضي الله عنها أن اكتبي لي كتابا توصيني فيه، ولا 390
كسرت رباعية النبي يوم أحد، وشج وجهه، فجعل الدم يسيل على وجهه، وجعل 198
كسروا رباعيته وأدموا وجهه 200
كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد لله أو بالحمد فهو أقطع 7
كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم فهو أقطع 7
كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بذكر الله فهو أقطع 7
كل أمر ذي بال لا يفتتح بذكر الله فهو أبتر أو أقطع 7
كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا الرجل يموت كافرا أو الرجل يقتل مؤمنا متعمدا 309
كل عبادك يقولون هذا 56
كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة 294
كل مصور في النار، يجعل له بكل صورة صورها نفس يعذب بها في جهنم 551
كما يكره أن يقذف في النار 376
كنا إذا جلسنا مع رسول الله في الصلاة قلنا السلام على الله قبل عباده، 514
كنا إذا كنا مع النبي في الصلاة قلنا السلام على الله من عباده، السلام 514
كنا مع فضالة بن عبيد بأرض الروم برودس، فتوفي صاحب لنا، فأمر فضالة 554
كنا نرقي في الجاهلية، فقلنا يا رسول الله كيف ترى في ذلك ؟ فقال اعرضوا 133
كنت رديف النبي 32
كنت رديف النبي على حمار فقال لي يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد، 18
كنت عند النبي وجاءت الأعراب، فقالوا يا رسول الله أنتداوى ؟ قال نعم 74
كنت عند سعيد بن جبير فقال أيكم رأى الكوكب الذي انقض البارحة ؟ فقلت 62, 66
كنت في البطحاء في عصابة فيهم رسول الله فمرت بهم سحابة فنظر إليها فقال 595
كيف يفلح قوم شجوا نبيهم 200
لأستغفرن لك ما لم أنه عنك 229, 230
لأعطين الراية أو ليأخذن الراية غدا رجل يحبه الله ورسوله، أو قال 94
لأعطين الراية إلخ 100
لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت 10 على نفسك 9
لا أغني عنك من الله شيئا 208
لا أغني عنكم من الله شيئا 204
لا بأس بالرقى ما لم تكن شركا 71
لا تبشرهم فيتكلوا 34
لا تتخذوا قبري عيدا 160, 276, 277
لا تجعلوا بيوتكم قبورا 558
لا تجعلوا بيوتكم قبورا، ولا تجعلوا قبري عيدا، وصلوا علي، فإن صلاتكم 271, 274, 275, 558
لا تجعلوا بيوتكم مقابر؛ فإن الشيطان يفر من البيت الذي يسمع سورة البقرة تقرأ فيه 274
لا تحلفوا بآبائكم، من حلف له بالله فليصدق، ومن حلف له بالله فليرض 477
لا تزال عصابة من أمتي يقاتلون على أمر الله ظاهرين لا يضرهم من خالفهم 299
لا تسبوا الدهر، فإن الله هو الدهر 484, 486, 487
لا تسبوا الدهر، فإني أنا الدهر 485
لا تسبوا الريح، فإذا رأيتم ما تكرهون فقولوا اللهم إنا نسألك من خير 535
لا تستنجوا بالروث ولا العظام فإنه زاد إخوانكم من الجن 137
لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى 279
لا تصلوا على القبور 259
لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم إنما أعبد عبد، فقولوا عبد الله ورسوله 241, 245
لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا عبد الله ورسوله 236, 237, 474, 581
لا تقولوا ما شاء الله وشاء فلان، ولكن قولوا ما شاء الله ثم شاء فلان 470, 475
لا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق، هم شر أهل الجاهلية 299
لا تقوم الساعة حتى تضطرب أليات نساء دوس على ذي الخلصة قال وذو الخلصة 296
لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض الله الله 78, 299
لا تنسنا يا أخي من صالح دعائك 579
لا حلف في الإسلام، وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة 569
لا رقية إلا من عين أو حمة 68
لا عدوى ولا صفر ولا هامة 337
لا عدوى ولا طيرة، ويعجبني الفأل، قالوا وما الفأل ؟ قال الكلمة الطيبة 332, 340
لا عدوى، ولا طيرة، ولا هامة، ولا صفر 332, 335
لا غول ولكن السعالى سحرة الجن 340
لا نذر في غضب، وكفارته كفارة يمين 168
لا يأتي على الناس زمان إلا والذي بعده شر منه حتى تلقوا ربكم 565
لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين 365, 371
لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به 444, 451
لا يؤمن عبد حتى يؤمن بأربع يشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله 550
لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه 456
لا يجد أحد حلاوة الإيمان حتى 366
لا يجد أحد حلاوة الإيمان حتى يحب المرء لا يحبه إلا لله 373, 376
لا يجد أحد حلاوة الإيمان حتى يحب المرء لا يحبه إلى لله، وحتى أن يقذف 376
لا يجد العبد صريح الإيمان حتى يحب لله ويبغض لله فإذا أحب لله وأبغض 377
لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله إلا 27
لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر 582
لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن 452
لا يسأل بوجه الله إلا الجنة 525
لا يستجرينكم الشيطان 581, 584
لا يعدي شيء قالها ثلاثا فقال أعرابي يا رسول الله إن النقبة من الجرب 336
لا يقل أحدكم أطعم ربك، وضئ ربك، وليقل سيدي ومولاي، ولا يقل أحدكم عبدي 519
لا يقل أحدكم اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت، ليعزم المسألة، 517
لا يقل ابن آدم يا خيبة الدهر، فإني أنا الدهر، أرسل الليل والنهار، 485
لا يقولن أحدكم أطعم ربك، وضئ ربك، وليقل سيدي ومولاي، ولا يقل أحدكم 520
لا يورد ممرض على مصح 335, 336
لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه 281, 286, 293
لعن الخامشة وجهها، والشاقة جيبها، والداعية بالويل والثبور 410
لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد 250, 257, 555
لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد 286
لعن الله من ذبح لغير الله، لعن الله من لعن والديه، لعن الله من آوى 148
لعن الله من ذبح لغير الله، ولعن الله من لعن والديه، ولعن الله من آوى 150
لعن رسول الله زائرات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج 261, 266
لعن رسول الله زوارات القبور 266, 267, 268, 269
لقد رأيتنا على عهد رسول الله وما منا أحد يرى أنه أحق بديناره ودرهمه 378
لقيت وهب بن منبه وهو يطوف بالبيت فقلت حدثني حديثا أحفظه عنك في مقامي 135
لكل أمة مجوس، ومجوس هذه الأمة الذين يقولون لا قدر، من مات منهم فلا 547
لكل نبي دعوة مستجابة، فتعجل كل نبي دعوته، وإني اختبأت دعوتي شفاعة 226
لكنهم يزيدون فيه ويقرفون وينقصون 214
لم تقبل له صلاة 322
لما أسري برسول الله انتهي به إلى سدرة المنتهى، فأعطي ثلاثا أعطي الصلوات 60
لما فتح رسول الله مكة بعث خالد بن الوليد إلى نخلة وكانت بها العزى، 140
لما نزل برسول الله طفق يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتم بها كشفها 249
لما نزل برسول الله طفق يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتم بها كشفها، 246
لما نزلت هذه الآية قالوا فأينا لم يظلم نفسه ؟ فقال رسول الله ليس بذلكم، 38
لما ولدت حواء طاف بها إبليس وكان لا يعيش لها ولد فقال سميه عبد الحارث؛ 504
لن تمسك النار 199
لنا العزى ولا عزى لكم فقال رسول الله قولوا الله مولانا ولا مولى لكم 140
لو أتيتني بقراب الأرض 59
لو أن الله عذب أهل سمواته وأهل أرضه، عذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم 549
لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا ولكن يقول قدر الله وما شاء فعل 531
لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت، ولولا أن معي الهدى لأحللت 435
ليس بين العبد وبين الكفر أو الشرك إلا ترك الصلاة 409
ليس بينها وبين الله حجاب 92
ليس شيء أكرم على الله من الدعاء 187
ليس منا من تطير أو تطير له، أو تكهن أو تكهن له، أو سحر أو سحر له، 321, 324
ليس منا من ضرب الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية 406, 409
ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي 584
ما أصاب أحدا قط هم ولا حزن فقال اللهم إني عبدك ابن عبدك، ابن أمتك، 510
ما أعطى أحد عطاء خيرا أوسع من الصبر 406
ما أنزل الله من داء إلا أنزل له شفاء، علمه من علمه، وجهله من جهله 73
ما السماوات السبع في الكرسي إلا كدراهم سبعة ألقيت في ترس 585
ما الكرسي في العرش إلا كحلقة من حديد ألقيت بين ظهري فلاة من الأرض 586
ما بعث الله من نبي إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم 81
ما بقي شيء يقرب من الجنة ويباعد من النار إلا وقد بينته لكم 273
ما زوى لي منها 289
ما شاء الله وشئت، قال أجعلتني لله ندا ؟ بل ما شاء الله وحده 82
ماذا قال ربنا يا جبريل؟ 210
مر يهودي برسول الله وهو جالس، فقال كيف تقول يا أبا القاسم يوم يجعل 587
مكتوب فيه لا إله إلا الله محمد رسول الله 94
من أتى عرافا أو كاهنا فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد 320, 323
من أتى عرافا فسأله عن شيء فصدقه بما يقول، لم تقبل له صلاة أربعين يوما 322
من أتى عرافا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة 322, 323
من أتى كاهنا فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد 320, 323
من أتىعرافا فسأله عن شيء فصدقه بما يقول، لم تقبل له صلاة أربعين يوما 320
من أحب أن يتمثل له الرجال قياما فليتبوأ مقعده من النار 490
من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان 377
من أحدث حدثا، أو آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، 294
من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد 294
من أرضى الله بسخط الناس كفاه الله مؤنة الناس، ومن أرضى الناس بسخط 390
من أرضى الله بسخط الناس كفاه الله مؤونة الناس، ومن أرضى الناس بسخط 386
من أسعد الناس بشفاعتك ؟ قال من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه 220, 226
من إيمان 55
من استطاع منكم أن ينفع أخاه فلينفعه 71
من اقتبس شعبة من النجوم، فقد اقتبس شعبة من السحر، زاد ما زاد 313, 315, 349
من التمس رضا الله بسخط الناسوأرضى عنه الناس، ومن التمس رضا الناس بسخط 381
من التمس رضى الله بسخط الناس،وأرضى عنه الناس، ومن التمس رضى الناس 389
من الكبائر شتم الرجل والديه، قالوا يا رسول الله، وهل يشتم الرجل والديه 153
من تدركهم الساعة وهم أحياء 255
من تعلق تميمة فقد أشرك 122, 126, 127
من تعلق تميمة فلا أتم الله له 132
من تعلق تميمة فلا أتم الله له، ومن تعلق ودعة فلا ودع الله له 122, 126
من تعلق شيئا وكل إليه 130, 135, 317, 397
من تعلم شيئا من السحر قليلا كان أو كثيرا كان آخر عهده من الله 305
من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك 469, 473
من حلف له بالله فليصدق 477
من حلف وقال واللات والعزى فليقل لا إله إلا الله 164
من ردته الطيرة عن حاجة فقد أشرك، قالوا فما كفارة ذلك ؟ قال أن نقول 333
من سأل بالله فأعطوه، ومن استعاذ بالله فأعيذوه، ومن دعاكم فأجيبوه، 521
من سألكم بالله فأجيبوه 524
من سألكم بوجه الله فأعطوه 524
من سمع به في أرض فلا يقدم عليه 336
من سوى أنفسهم 290
من شهد أن لا إله إلا الله 42, 43
من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، 41, 42
من صلى على جنازة فله قيراط ومن تبعها حتى تدفن فله قيراطان 269
من صلى يرائي فقد أشرك، ومن صام يرائي فقد أشرك، ومن تصدق يرائي فقد 418
من صور صورة في الدنيا كلف أن ينفخ فيها الروح، وليس بنافخ 552
من ضرب الخدود 410
من ظلم شبرا من الأرض طوقه يوم القيامة من سبع أرضين 153
من عقد عقدة ثم نفث فيها فقد سحر، ومن سحر فقد أشرك، ومن تعلق شيئا وكل إليه 313, 316, 317
من عمل عملا أشرك فيه غيري 418
من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله، حرم ماله ودمه، وحسابه 101
من قال لا إله إلا الله، وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله 116, 121
من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة 308
من قطع تميمة من إنسان كان كعدل رقبة 130, 138
من لا يشكر الناس لا يشكر الله 388
من لقي الله لا يشرك به شيئا دخل الجنة قال ألا أبشر الناس ؟ قال لا، 52, 83
من لقي الله لا يشرك به شيئا دخل الجنة، ومن لقيه يشرك به شيئا دخل النار 77, 83
من لكعب ابن الأشرف ؟ فإنه قد آذى الله ورسوله، قال محمد بن 351 مسلمة 455
من لم يسأل الله يغضب عليه 187
من مات وهو يدعو لله ندا دخل النار 81, 82
من مات وهو يدعو من دون الله ندا دخل النار 77
من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه 163, 166, 167
من نزل منزلا فقال أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم يضره شيء 170
من نزل منزلا، فقال أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، لم يضره 168
نذر رجل أن ينحر إبلا ببوانة، فسأل النبي فقال هل كان فيها وثن من أوثان 159
نذر رجل أن ينحر إبلا ببوانة، فسأله النبي فقال هل كان فيها وثن من أوثان 157
نهى أن يجصص القبر أو يبنى عليه 257
نهى أن يجصص القبر، أو يكتب عليه، أو يزاد عليه 555
نهى رسول الله عن تجصيص القبر، وأن يقعد عليه، وأن يبنى عليه 554
نهى عن أن يقولوا أنت سيدنا وقال السيد الله تبارك وتعالى 581
نهى عن تجصيص القبور، وأن يكتب عليها 554
نوحا عليه السلام قال لابنه عند موته آمرك بلا إله إلا الله، فإن السماوات 56
هذا ما كاتب عليه رسول الله قريشا في الحديبية، كتب بسم الله الرحمن 465
هل تدرون كم بين السماء والأرض ؟ قلنا الله ورسوله أعلم، قال بينهما 586
هلك المتنطعون قالها ثلاثا 236, 243
هلم القط لي فلقطت له حصيات هن حصى الحذف فما وضعهن في يده قال نعم بأمثال 243
هي النميمة القالة بين الناس 318
هي من عمل الشيطان 329
وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه 97
وإذا أراد بعبده الشر أمسك عنه بذنبه 412
وإذا حاصرت أهل حصن 573
وإذا شيك 426, 434
وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خلال أو خصال 571
وإذا وقع عليهم السيف لم يرفع إلى يوم القيامة 295
وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض 289
وأفضلنا فضلا وأعظمنا طولا 581
وأكل الربا 310
وأكل مال اليتيم 310
وإليه الحكم في الدنيا والآخرة 492
وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها 289
وإن الله بحكمته جعل الروح والفرح في الرضى واليقين، وجعل الهم والحزن 387
وإن الله تعالى إذا أحب قوما ابتلاهم 414
وإن ربي قال يا محمد، إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد 290
وأن عيسى عبد الله ورسوله 48
وإن كان في الساقة كان في الساقة 431
وأن محمدا عبده ورسوله 47
وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد 253
وأنا الدهر، أقلب الليل والنهار 487
وأنا خاتم النبيين 298
وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين، وإذا وقع عليهم السيف لم يرفع إلى 282, 288, 292, 293
وإنه سيكون في أمتي كذابون ثلاثون، كلهم يزعم أنه نبي 297
وإني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا كتاب الله 31
وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنة بعامة 290
واتق دعوة المظلوم 91
والتولي يوم الزحف 310
والجبال والشجر على إصبع، ثم يهزهن فيقول أنا الملك، أنا الله 585
والجنة حق والنار حق 50
والذي نفس ابن عمر بيده، لو كان لأحدهم مثل أحد ذهبا، ثم أنفقه في سبيل 545
والذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله 289
والذي نفسي بيده لينزلن فيكم ابن مريم حكما مقسطا فليكسرن الصليب، وليقتلن 298
والذين يتخذون القبور مساجد 256
والمتخذين عليها المساجد 270
والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد 69
والنياحة على الميت 409
وتجعلون رزقكم يقول شكركم أنكم تكذبون تقولون مطرنا بنوء كذا وكذا بنجم كذا وكذا 353
وحتى تعبد قبائل من أمتي الأوثان 296
وحق الله على العباد 32, 34
ودعا بدعوى الجاهلية 410
ودعا له فبرأ 96
وشفاعتي لمن قال لا إله إلى الله مخلصا، يصدق قلبه لسانه، ولسانه قلبه 226
وشق الجيوب 410
وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم 275
وصوروا فيه تلك الصور 248
وعامرهن غيري 56
وعلى ربهم يتوكلون 73
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله سئل عن الكبائر ؟ فقال الشرك 400, 403
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال حسبنا الله ونعم الوكيل قالها إبراهيم 392, 398
وعن ابن مسعودقال أكبر الكبائر الإشراك بالله، والأمن من مكر الله، 401
وعن عبادة بن الصامت أنه قال لابنه يا بني، إنك لن تجد طعم الإيمان 546
وفر من المجذوم كما تفر من الأسد 336
وفي رواية إلى أن يوحدوا الله 89
وقال انفذ على رسلك 96
وقالها محمد حين قالوا له إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا 399
وقتل النفس التي حرم الله 308
وقد كان جماعة من المنافقين منهم وديعة بن ثابت أخو بني أمية بن زيد 496
وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات 310
ولا تجعلوا قبري عيدا 274
ولا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم 298
ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا 570
ولا تقتلوا وليدا 570
ولا تقوم الساعة حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين 295
ولا نوء، ولا غول 332, 335
ولا يتطيرون 73
ولا يرقون 71
ولا يشركوا به شيئا 34
ولا يكتوون 72
ولكن انظر إلى الأفق 70
ولكني لدغت 67
ولما عير أبو ذر رجلا بأمه قال له النبي أعيرته بأمه ؟ إنك امرؤ فيك جاهلية 355
ولو كنت متخذا خليلا لا تخذت أبا بكر خليلا 253
ولولا ذلك 251
وليعظم الرغبة، فإن الله لا يتعاظمه شيء أعطاه 517
وليكفر عن يمينه 167
وما أحب أن أكتوي 72
ومن أرضى الناس بسخط الله لم يغنوا عنه من الله شيئا 390
ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي، فليخلقوا ذرة، أو ليخلقوا حبة، أو ليخلقوا شعيرة 551, 560
ومن حلف له فليرض، ومن لم يرض فليس من الله 478
ومن ردته الطيرة عن حاجته فقد أشرك قالوا فما كفارة ذلك ؟ قال أن تقول 344
ومن سحر فقد أشرك 317
ومن سخط 415
ومن صنع إليكم معروفا فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا له حتى 388
ومن عمل قراب الأرض خطيئة ثم لقيني لا يشرك بي جعلت له مثلها مغفرة 59
ومن معه من المسلمين خيرا 570
ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه 167
ومن وفى بهن فأجره على الله، ومن انتقص منهن شيئا فأدركه الله به في 31
ومنا أناس يتطيرون قال ذلك شيء يجده أحدكم في نفسه فلا يصدنكم 337
ويبعث الله ريحا ريحها المسك، ومسها مس الحرير فلا تترك أحدا في قلبه 299
ويحك إنه لا يستشفع بالله على أحد من خلقه 577
ويخطف الجن ويرمون 213
ويدخل الجنة من هؤلاء من أمتك سبعون ألفا 70
ويلك قطعت عنق صاحبك 581
يا أبا بكر ألست تنصب ؟ ألست تحزن ؟ أليس يصيبك اللأواء ؟ فذلك ما تجزون به 40
يا بني عبد مناف لا أغني عنكم من الله شيئا 205
يا رب علمني شيئا أذكرك وأدعوك به، قال قل يا موسى لا إله إلا الله قال 55
يا رسول الله يا خيرنا وابن خيرنا 582
يا رسول الله، ألعامنا هذا أم للأبد ؟ فقال بل للأبد 435
يا رسول الله، أين هم ؟ قال ببيت المقدس 300
يا رسول الله، ما الإسلام ؟ قال الإسلام أن تعبد الله ولا تشرك به شيئا، 196
يا رويفع، لعل الحياة ستطول بك، فأخبر الناس أن من عقد لحيته، أو تقلد 130, 136
يا صفية عمة رسول الله، ويا فاطمة بنت محمد 205
يا عباس بن عبد المطلب 205
يا عم قل لا إله إلى الله، كلمة أحاج لك بها عند الله 230
يا عم، قل لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله 228
يا فاطمة بنت محمد لا أغني عنك من الله شيئا 208
يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد، وما حق العباد على الله ؟ قلت 31
يا معشر قريش 204
يتقارب الزمان وينقص العلم، وتظهر الفتن، ويلقى الشح، ويكثر الهرج، قيل 292
يجعل السماوات على إصبع، والماء والثرى على إصبع، وسائر الخلق على إصبع 585
يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله 94
يحب الوتر هو الله الذي لا إله إلا هو، الرحمن، الرحيم، الملك، القدوس، 509
يحذر ما صنعوا 250
يدعو على صفوان بن أمية، وسهيل بن عمرو، والحارث بن هشام فنزلت ليس لك 194, 200
يصاح برجل من أمتي على رءوس الخلائق يوم القيامة فينشر له تسعة وتسعون 57
يضرب ضربة واحدة فيكون أمة واحدة 311
يطوي الله السماوات يوم القيامة، ثم يأخذهن بيده اليمنى، ثم يقول أنا 585
يفتح الله على يديه 94
يقبض الله الأرض، ويطوي السماء بيمينه، فيقول أنا الملك أين ملوك الأرض 588
يقول الله تعالى لأهون أهل النار عذابا لو كانت لك الدنيا وما فيها ومثلها 20
يقول الله تعالى يؤذيني ابن آدم، يسب الدهر وأنا الدهر، بيدي الأمر، 485
يقول الله تعالى يسب ابن آدم الدهر وأنا الدهر، بيدي الليل والنهار 486
يقول اللهاستقرضت عبدي فلم يعطني، ويسبني عبدي، يقول وادهراه، وأنا الدهر 486
يكون في أمتي كذابون دجالون سبع وعشرون، منهم أربع نسوة 297
يمنعني كذا وكذا 483
يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة، سحاء الليل والنهار؛ أرأيتم ما أنفق 518
ينفذهم ذلك 212
الفهرس
نبذة عن المؤلف 2
مقدمة الشارح 4
شرح البسملة 7
معنى الحمد لله 11
معنى الصلاة على رسول الله 12
كتاب التوحيد 12
معنى التوحيد 12
معنى العبادة 16
المسائل المستنبطة من هذا الباب 35
باب فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب 38
معنى لا إله إلا الله وأقوال العلماء فيها 41
المسائل المستنبطة من هذا الباب 61
باب من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب 62
المسائل المستنبطة من هذا الباب 75
باب الخوف من الشرك 77
المسائل المستنبطة من هذا الباب 84
باب الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله 85
المسائل المستنبطة من هذا الباب 99
باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله 101
المسائل المستنبطة من هذا الباب 120
باب من الشرك لبس الحلقة والخيط ونحوهما لرفع البلاء أو دفعه 122
المسائل المستنبطة من هذا الباب 129
باب ما جاء في الرقى والتمائم 130
المسائل المستنبطة من هذا الباب 138
باب من تبرك بشجرة أو حجر ونحوهما 139
المسائل المستنبطة من هذا الباب 146
باب ما جاء في الذبح لغير الله 148
المسائل المستنبطة من هذا الباب 155
باب لا يذبح لله بمكان يذبح فيه لغير الله 157
المسائل المستنبطة من هذا الباب 161
باب من الشرك النذر لغير الله 163
المسائل المستنبطة من هذا الباب 168
باب من الشرك الاستعاذة بغير الله 168
المسائل المستنبطة من هذا الباب 172
باب من الشرك أن يستغيث بغير الله أو يدعو غيره 173
المسائل المستنبطة من هذا الباب 192
باب قول الله تعالى أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون... 193
المسائل المستنبطة من هذا الباب 207
باب قول الله تعالى حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق... 208
المسائل المستنبطة من هذا الباب 218
باب الشفاعـة 219
المسائل المستنبطة من هذا الباب 228
باب قول الله تعالى إنك لا تهدي من أحببت وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ... 228
المسائل المستنبطة من هذا الباب 234
باب ما جاء أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم هو الغلو في الصالحين 235
المسائل المستنبطة من هذا الباب 244
باب ما جاء في التغليظ فيمن عبد الله عند قبر رجل صالح فكيف إذا عبده 245
المسائل المستنبطة من هذا الباب 260
باب ما جاء أن الغلو في قبور الصالحين يصيرها أوثانا تعبد من دون الله 261
المسائل المستنبطة من هذا الباب 272
باب ما جاء في حماية المصطفى جناب التوحيد وسده كل طريق يوصل إلى الشرك 272
المسائل المستنبطة من هذا الباب 281
باب ما جاء أن بعض هذه الأمة يعبد الأوثان 282
المسائل المستنبطة من هذا الباب 303
باب ما جاء في السحر 304
المسائل المستنبطة من هذا الباب 314
باب بيان شيء من أنواع السحر 314
المسائل المستنبطة من هذا الباب 321
باب ما جاء في الكهان ونحوهم 321
المسائل المستنبطة من هذا الباب 329
باب ما جاء في النشرة 329
المسائل المستنبطة من هذا الباب 333
باب ما جاء في التطير 333
المسائل المستنبطة من هذا الباب 347
باب ما جاء في التنجيم 347
المسائل المستنبطة من هذا الباب 352
باب ما جاء في الاستسقاء بالأنواء 353
المسائل المستنبطة من هذا الباب 365
باب قول الله تعالى ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله... 366
المسائل المستنبطة من هذا الباب 381
باب قول الله تعالى إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم... 382
المسائل المستنبطة من هذا الباب 392
باب قول الله تعالى:... وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين 393
المسائل المستنبطة من هذا الباب 401
باب قول الله تعالى أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون 401
المسائل المستنبطة من هذا الباب 406
باب من الإيمان بالله الصبر على أقدار الله 407
المسائل المستنبطة من هذا الباب 416
باب ما جاء في الرياء 417
المسائل المستنبطة من هذا الباب 422
باب من الشرك إرادة الإنسان بعمله الدنيا 422
المسائل المستنبطة من هذا الباب 434
باب من أطاع العلماء والأمراء في تحريم ما أحل الله أو تحليل ما حرم الله فقد اتخذهم أربابا من دون الله 435
المسائل المستنبطة من هذا الباب 444
باب قول الله تعالى ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك... 445
المسائل المستنبطة من هذا الباب 457
باب من جحد شيئا من الأسماء والصفات 458
المسائل المستنبطة من هذا الباب 467
باب قول الله تعالى يعرفون نعمت الله ثم ينكرونها وأكثرهم الكافرون 467
المسائل المستنبطة من هذا الباب 470
باب قول الله تعالى: فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون 470
المسائل المستنبطة من هذا الباب 477
باب ما جاء فيمن لم يقنع بالحلف بالله 477
المسائل المستنبطة من هذا الباب 479
باب قول ما شاء الله وشئت 480
المسائل المستنبطة من هذا الباب 484
باب من سب الدهر فقد آذى الله 484
المسائل المستنبطة من هذا الباب 489
باب التسمي بقاضي القضاة ونحوه 489
المسائل المستنبطة من هذا الباب 491
باب احترام أسماء الله تعالى وتغيير الاسم لأجل ذلك 492
المسائل المستنبطة من هذا الباب 495
باب من هزل بشيء فيه ذكر الله أو القرآن أو الرسول 495
المسائل المستنبطة من هذا الباب 499
باب قول الله تعالى ولئن أذقناه رحمة منا من بعد ضراء مسته ليقولن هذا لي... 499
المسائل المستنبطة من هذا الباب 504
باب قول الله تعالى فلما آتاهما صالحا جعلا له شركاء فيما آتاهما فتعالى الله عما يشركون 504
المسائل المستنبطة من هذا الباب 509
باب قول الله تعالى ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها... 509
المسائل المستنبطة من هذا الباب 514
باب لا يقال السلام على الله 514
المسائل المستنبطة من هذا الباب 517
باب قول اللهم اغفر لي إن شئت 517
المسائل المستنبطة من هذا الباب 519
باب لا يقول عبدي وأمتي 520
المسائل المستنبطة من هذا الباب 521
باب لا يرد من سأل بالله 521
المسائل المستنبطة من هذا الباب 524
باب لا يسأل بوجه الله إلا الجنة 525
المسائل المستنبطة من هذا الباب 527
باب ما جاء في اللو 527
المسائل المستنبطة من هذا الباب 535
باب النهي عن سب الريح 535
المسائل المستنبطة من هذا الباب 536
باب قول الله تعالى... يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ... 537
المسائل المستنبطة من هذا الباب 546
باب ما جاء في منكري القدر 546
المسائل المستنبطة من هذا الباب 552
باب ما جاء في المصورين 552
المسائل المستنبطة من هذا الباب 561
باب ما جاء في كثرة الحلف 561
المسائل المستنبطة من هذا الباب 568
باب ما جاء في ذمة الله وذمة نبيه 568
المسائل المستنبطة من هذا الباب 575
باب ما جاء في الإقسام على الله 575
المسائل المستنبطة من هذا الباب 577
باب لا يستشفع بالله على خلقه 577
المسائل المستنبطة من هذا الباب 581
باب ما جاء في حماية النبي حمى التوحيد وسده طرق الشرك 581
المسائل المستنبطة من هذا الباب 585
باب ما جاء في قول الله تعالى وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة... 585
فهرس الآيات 598
فهرس الأحاديث 620
الفهرس 652
Comments
Post a Comment