تيسير العزيز الحميد شرح كتاب التوحيد الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب

PERKATAAN AQIDAH

تيسير العزيز الحميد شرح كتاب التوحيد الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب

EDIT 

 الشاملة

 

تيسير العزيز الحميد

في شرح كتاب التوحيد

 

تأليف
الشيخ سليمان بن عبدالله بن محمد بن عبدالوهاب

 

 

كتاب تيسير العزيز الحميد

ص

نص كتاب تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد

1

كتاب تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد

11

قال المصنف رحمه الله تعالى بسم الله الرحمن الرحيم افتتح المصنف رحمه الله كتابه بالبسملة اقتداء بالكتاب العزيز وعملا بالحديث كل امر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم فهو اقطع رواه الحافظ عبدالقادر الرهاوي في الاربعين من حديث أبي هريرة مرفوعا واخرجه الخطيب في الجامع بنحوه فإن قلت هل جمع المصنف بين البسملة والحمدلة لما روى ابن ماجة والبيهقي عن أبي هريرة مرفوعا كل امر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أقطع وفي رواية لأحمد لا يفتتح بذكر الله فهو أبتر وأقطع قيل المراد الافتتاح بما يدل على المقصود من حمد الله والثناء عليه لأن الحمد متعين لأن القدر الذي يجمع ذلك هو ذكر الله وقد حصل بالبسملة وأيضا فليس في الحديث ما يدل على أنه تتعين كتابتها معه النطق بها فقد يكون المصنف نطق بذلك في نفسه واتفق العلماء على أن الجار والمجرور متعلق بمحذوف قدره الكوفيون فعلا مقدما والتقدير ابدأ وقدره البصريون اسما مقدما والتقدير ابتدائي كائن أو مستقر قال فالجار والمجرور في موضع نصب على الأول وعلى الثاني في موضع رفع وذكر ابن كثير ان القولين متقاربان وكل قد ورد به القران أما من قدره باسم تقديره باسم الله ابتدائي فلقوله تعالى وقال اركبوا فيها باسم الله مجراها ومرساها ومن قدره بالفعل أمرا أو خبرا نحو أبدأ باسم الله أو ابتدأت باسم الله فلقوله تعالى اقرأ باسم ربك الذي خلق وكلاهما صحيح فان الفعل لا بد له من مصدر فلك أن تقدر الفعل وتصدره وذلك بحسب الفعل الذي سميته قبله إن كان قياما أو

12

قعودا أو أكلا أو شربا أو قراءة أو وضوءا أو صلاة فالمشروع ذكر اسم الله تعالى في ذلك كله تبركا وتيمنا واستعانة على الاتمام والتقبل وقدره الزمخشري فعلا مؤخرا أي باسم الله أقرأ او أتلو لأن الذي يتلوه مقروء وكل فاعل يبدأ في فعله باسم الله كان مضمرا ما تجعل التسمية مبدأ له كما ان المسافر اذا حل أو ارتحل فقال بسم الله كان المعنى بسم الله أحل وبسم الله أرتحل وهذا أولى من أن يضمر ابدأ لعدم ما يطابقه ويدل عليه او ابتدائي لزيادة الاضمار فيه وانما قدم المحذوف متأخرا وقدم المعمول لأنه أهم وأدل على الاختصاص وأدخل في التعظيم وأوفق للوجود فإن اسم الله تعالى مقدم على القراءة كيف وقد جعل آلة لها من حيث ان الفعل لا يعتد به شرعا ما لم يصدر باسمه تعالى وأما ظهور فعل القراءة في قوله اقرأ باسم ربك فلأن الأهم ثمة القراءة ولذا قدم الفعل فيها على متعلقه بخلاف البسملة فإن الأهم فيها الإبتداء قاله البيضاوي وهذا القول أحسن الاقوال وأظنه اختيار شيخ الإسلام وقد ألم به ابن كثير إلا انه جعل المحذوف مقدرا قبل البسملة وذكر ابن القيم لحذف العامل في بسم الله فوائد عديدة منها أنه موطن لا ينبغي ان يتقدم فيه سوى ذكر الله تعالى فلو ذكرت الفعل وهو لا يستغني عن فاعله كان ذلك مناقضا للمقصود فكان في حذفه مشاكلة اللفظ للمعني ليكون المبدوء به اسم الله كما تقول في الصلوة الله أكبر ومعناه من كل شيء ولكن لا تقول هذا القدر ليكون اللفظ مطابقا لمقصود الجنان وهو ان لا يكون في القلب إلا ذكر الله وحده فكما تجرد ذكره في قلب المصلي تجرد ذكره في لسانه ومنها أن الفعل اذا حذف صح الابتداء بالتسمية في كل عمل وقول وحركة وليس فعل أولى بها من فعل فكان الحذف أعم من الذكر فأي فعل

13

ذكرته كان المحذوف اعم منه الله علم على الرب تبارك وتعالى ذكر سيبويه انه أعرف المعارف ويقال إنه الاسم الأعظم لأنه يوصف بجميع الصفات كما قال تعالى هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر إلى اخر السورة فأجرى الأسماء الباقية كلها صفات له واختلفوا هل هو اسم جامد او مشتق على قولين أصحهما أنه مشتق قال ابن جرير فانه على ما روي لنا عن ابن عباس قال الله ذو الألوهية والعبودية على خلقه اجمعين وذكر سيبويه عن الخليل أن أصله إله مثل فعال فأدخلت الالف واللام بدلا من الهمزة قال سيبويه مثل الناس أصله أناس وقال الكسائي والفراء أصله الإله خذفوا الهمزة أدمغوا اللام الاولى في الثانية وعلى هذا فالصحيح انه مشتق من أله الرجل اذا تعبد كما قرأ ابن عباس ويذرك وإلهتك اي عبادتك وأصله الإله اي المعبود فحذفت الهمزة التي هي فاء الكلمة فالتقت اللام التي هي عينها مع اللام التي للتعريف فأدغمت إحداهما في الاخرى فصارتا في اللفظ لاما واحدة مشددة وفخمت تعظيما فقيل الله قال ابن القيم القول الصحيح أن الله أصله الإله كما هو قول سيبوبه وجمهور أصحابه إلا من شذ منهم وان اسم الله تعالى هوالجامع لجميع معاني الاسماء الحسنى والصفات العلى قال وزعم السهيلي وشيخه أبو بكر بن العربي ان اسم الله غير مشتق لان الاشتقاق يستلزم مادة يشتق منها واسمه تعالى قديم

14

ولا القديم مادة له فيستحيل الاشتقاق ولا ريب أنه أريد بالاشتقاق هذا المعنى وأنه مستمد من أصل آخر فهو باطل ولكن الذين قالوا بالإشتقاق لم يريدوا هذا المعنى ولا ألم بقلوبهم وإنما ارادوا انه دال على صفة له تعالى وهي الإلهية كسائر أسمائه الحسنى كالعليم والقدير والغفور والرحيم والسميع والبصير فان هذه الاسماء مشتقة من مصادرها بلا ريب وهي قديمة والقديم لا مادة له فما كان جوابكم عن هذه الاسماء فهو جواب القائلين باشتقاق اسم الله تعالى ثم الجواب عن الجميع أنا لا نعني بالاشتقاق إلا أنها ملاقية لمصادرها في اللفظ والمعني لا أنها متولدة منه تولد الفرع من أصله وتسمية النحاة للمصدر والمشتق منه أصلا وفرعا ليس معناه أن أحدهما تولد من الآخر وإنما هو باعتبار أن أحدهما يتضمن الآخر وزيادة وذكر ابن القيم لهذا الاسم الشريف عشر خصائص لفظية ثم قال وأما خصائصه المعنوية فقد قال فيها أعلم الخلق به صلى الله عليه وسلم لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك وكيف تحصى خصائص اسم مسماه كل كمال على الاطلاق وكل مدح وكل حمد وكل ثناء وكل مجد وكل جلال وكل إكرام وكل عز وكل جمال وكل خير واحسان وجود وبر وفضل فله ومنه فما ذكر هذا الاسم في قليل إلا كثره ولا عند خوف إلا أزاله ولا عند كرب إلا كشفه ولا عند هم وغم إلا فرجه ولا عند ضيق إلا وسعه ولا تعلق به ضعيف إلا أفاده القوة ولا ذليل إلا أناله العز ولا فقير إلا أصاره غنيا ولا مشتوحش إلا آنسه ولا مغلوب إلا أيده ونصره ولا مضطر إلا كشف ضره ولا شريد إلا آواه فهو الاسم الذي تكشف به الكربات وتستنزل به البركات والدعوات وتقال به

15

العثرات وتستدفع به السيئات وتستجلب به الحسنات وهو الاسم الذي به قامت السموات والأرض وبه انزلت الكتب وبه ارسلت الرسل وبه شرعت الشرائع وبه قامت الحدود وبه شرع الجهاد وبه انقسمت الخليقة الى السعداء والأشقياء وبه حقت الحاقة ووقعت الواقعة وبه وضعت الموازين القسط ونصب الصراط وقام سوق الجنة والنار وبه عبد رب العالمين وحمد وبحقه بعثت الرسل وعنه السؤال في القبر ويوم البعث والنشور وبه الخصام واليه المحاكمة وفيه الموالاة والمعاداة وبه سعد من عرفه وقام بحقه وبه شقي من جهله وترك حقه فهو سر الخلق والامر وبه قاما وثبتا واليه انتهيا فالخلق والامر به واليه ولأجله فما وجد خلق ولا أمر ولا ثواب ولا عقاب الا مبتدءا منه منتهيا اليه وذلك موجبه ومقتضاه ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار الى اخر كلامه رضي الله عنه الرحمن الرحيم قال ابن كثير اسمان مشتقان من الرحمة على وجه المبالغة ورحمان اشد مبالغة من رحيم قال ابن عباس هما اسمان رقيقان احدهما أرق من الآخر اي اوسع رحمة وقال ابن المبارك الرحمن اذا سئل أعطى والرحيم اذا لم يسأل يغضب قلت كأن فيه اشارة الى معنى كلام ابن عباس لان رحمته تعالى تغلب غضبه وعلى هذا فالرحمن أوسع معنى من الرحيم كما يدل عليه زيادة البناء وقال ابو علي الفارسي الرحمن اسم عام في جميع انواع الرحمة يختص به الله تعالى والرحيم انما هو في جهة المؤمنين قال الله تعالى وكان بالمؤمنين رحيما ونحوه قال بعض السلف ويشكل عليه قوله تعالى ان الله بالناس لرؤوف رحيم

16

وقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث رحمان الدنيا والآخرة ورحيمهما فالصواب إن شاء الله تعالى ما قاله ابن القيم ان الرحمان دال على الصفة القائمة به سبحانه والرحيم دال على تعلقها بالمرحوم فكان الاول للوصف والثاني للفعل فالاول دال على ان الرحمة صفته والثاني دال على انه يرحم خلقه برحمته واذا اردت فهم هذا فتأمل قوله تعالى وكان بالمؤمنين رحيما انه بهم رؤوف رحيم ولم يجيء قط رحمان بهم فعلم ان رحمان هو الموصوف بالرحمة ورحيم هو الراحم برحمته والرحمن الرحيم نعتان لله تعالى واعترض بورود اسم الرحمن غير تابع لاسم قبله قال تعالى الرحمن على العرش استوى فهو علم فكيف ينعت به والجواب ما قاله ابن القيم أن اسماء الرب تعالى هي أسماء ونعوت فانها دالة على صفات كماله فلا تنافي فيها بين العلمية والوصفية فالرحمن اسمه تعالى ووصفه تعالى لا ينافي اسميته فمن حيث هو صفة جرى تابعا لاسم الله تعالى ومن حيث هو اسم ورد في القرآن غير تابع بل ورد الاسم العلم ولما كان هذا الاسم مختصا به سبحانه حسن مجيئه مفردا غير تابع كمجيء اسم الله وهذا لا ينافي دلالته على صفة الرحمة كاسم الله فانه دال على صفة الالوهية فلم يجىء قط تابعا لغيره بل متبوعا وهذا بخلاف العليم والقدير والسميع والبصير ونحوها ولهذا لا تجيء هذه مفردة بل تابعة قلت قوله عن اسم الله ولم يجىء قط تابعا لغيره بل لقد جاء في قوله تعالى الى صراط العزيز الحميد الله الذي له ما في السموات والارض على قراءة

17

الجر وجواب ذلك من كلامه المتقدم فيقال فيه ما قاله في اسم الرحمن كتاب التوحيد الكتاب مصدر كتب يكتب كتابا وكتابة وكتبا ومدار المادة على الجمع ومنه تكتب بنو فلان اذا اجتمعوا والكتيبة لجماعة الخيل والكتابة بالقلم لاجتماع الكلمات والحروف وسمي الكتاب كتابا لجمعه ما وضع له ذكره غير واحد والتوحيد مصدر وحد يوحد توحيدا اي جعله واحدا وسمي دين الاسلام توحيدا لأن مبناه على ان الله واحد في ملكه وافعاله لا شريك له وواحد في ذاته وصفاته لا نظير له وواحد في إلهيته وعبادته لا ند له والى هذه الانواع الثلاثة ينقسم توحيد الانبياء والمرسلين الذين جاؤوا به من عند الله وهي متلازمة كل نوع منها لا ينفك عن الآخر فمن أتى بنوع منها ولم يأت بالآخر فما ذاك الا أنه لم يأت به على وجه الكمال المطلوب وان شئت قلت التوحيد نوعان توحيد في المعرفة والاثبات وهو توحيد الربوبية والاسماء والصفات وتوحيد في الطلب والقصد وهو توحيد الالهية والعبادة ذكره شيخ الاسلام وابن القيم وذكر معناه غيرهما النوع الأول توحيد الربوبية والملك وهو الاقرار بأن الله تعالى رب كل شيء ومالكه وخالقه ورازقه وأنه المحيي المميت النافع الضار المتفرد بإجابة الدعاء عند الاضطرار الذي له الامر كله وبيده الخير كله القادر على ما يشاء ليس له في ذلك شريك ويدخل في ذلك الايمان بالقدر وهذا التوحيد لا يكفي العبد في حصول الاسلام بل لا بد ان يأتي مع ذلك بلازمه من توحيد الآلهية لان الله تعالى حكى عن المشركين أنهم مقرون بهذا التوحيد لله وحده قال تعالى قل من يرزقكم من السماء والارض امن يملك السمع والابصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الامر فسيقولون الله

18

فقل أفلا تتقون وقال تعالى ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله وقال و لئن سألتهم من نزل من السماء ماء فأحيا به الارض من بعد موتها ليقولن الله وقال تعالى أمن يجيب المضطر اذا دعاه الآية فهم كانوا يعلمون أن جميع ذلك لله وحده ولم يكونوا بذلك مسلمين بل قال تعالى وما يؤمن اكثرهم بالله الا وهم مشركون قال مجاهد في الآية إيمانهم بالله قولهم إن الله خلقنا ويرزقنا ويميتنا فهذا إيمان مع شرك عبادتهم غيره رواه ابن جرير وابن أبي حاتم وعن ابن عباس وعطاء والضحاك نحو ذلك فتبين أن الكفار يعرفون الله ويعرفون ربوبيته وملكه وقهره وكانوا مع ذلك يعبدونه ويخلصون له أنواعا من العبادات كالحج والصدقة والذبح والنذر والدعاء وقت الاضطرار ونحو ذلك ويدعون أنهم على ملة ابراهيم عليه السلام فأنزل الله تعالى ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين وبعضهم يؤمن بالبعث والحساب وبعضهم يؤمن بالقدر كما قال زهير يؤخر فيوضع في كتاب فيدخر ليوم الحساب أو يعجل فينقم وقال عنترة ياعبل اين من المنية مهرب إن كان ربي في السماء قضاها ومثل هذا يوجد في اشعارهم فوجب على كل من عقل عن الله تعالى ان ينظر ويبحث عن السبب الذي اوجب سفك دمائهم وسبي نسائهم وإباحة أموالهم مع هذا الاقرار والمعرفة وما ذاك الا لاشراكهم في توحيد العبادة الذي هو معنى لا اله الا الله

19

النوع الثاني توحيد الأسماء والصفات وهو الاقرار بأن الله بكل شيء عليم وعلى كل شيء قدير وأنه الحي القيوم الذي لا تأحذه سنة ولا نوم له المشيئة النافذة والحكمة البالغة وأنه سميع بصير رؤوف رحيم على العرش استوى وعلى الملك احتوى وأنه الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون الى غير ذلك من الأسماء الحسنى والصفات العلى وهذا أيضا لا يكفي في حصول الاسلام بل لا بد مع ذلك من الإتيان بلازمه من توحيد الربوبيه والالهية والكفار يقرون بجنس هذا النوع وإن كان بعضهم قد ينكر بعض ذلك إما جهلا وإما عنادا كما قالوا لا نعرف الرحمن إلا رحمن اليمامة فأنزل الله فيهم وهم يكفرون بالرحمن قال حافظ ابن كثير والظاهر أن إنكارهم هذا إنما هو جحود وعناد وتعنت في كفرهم فانه قد وجد في بعض أشعار الجاهلية تسمية الله بالرحمن قال الشاعر وما يشأ الرحمن يعقد ويطلق وقال الآخر ألا قضب الرحمن ربي يمينها وهما جاهليان وقال زهير فلا تكتمن الله ما في نفوسكم ليخفى ومهما يكتم الله يعلم قلت ولم يعرف عنهم إنكار شيء من هذا التوحيد إلا في اسم الرحمن خاصة ولو كانوا ينكرونه لردوا علىالنبي صلىالله عليه وسلم ذلك كما ردوا عليه توحيد الآلهية فقالوا اجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب لا سيما السور المكية مملوءة بهذا التوحيد

20

النوع الثالث توحيد الآلهية المبني على إخلاص التأله لله تعالى من المحبة والخوف والرجاء والتوكل والرغبة والرهبة والدعاء لله وحده وينبني على ذلك إخلاص العبادات كلها ظاهرها وباطنها لله وحده لا شريك له لا يجعل فيها شيئا لغيره لا لملك مقرب ولا لنبي مرسل فضلا عن غيرهما وهذا التوحيد هو الذي تضمنه قوله تعالى اياك نعبد واياك نستعين وقوله تعالى فاعبده وتوكل عليه وما ربك بغافل عما تعملون وقوله تعالى فان تولوا فقل حسبي الله لا اله الا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم وقوله تعالى رب السموات والأرض وما بينهما فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سميا وقوله تعالى عليه توكلت واليه أنيب وقوله تعالى وتوكل على الحي الذي لا يموت وسبح بحمده وكفى به بذنوب عباده خبيرا وقوله واعبد ربك حتى يأتيك اليقين وهذا التوحيد هو أول الدين وآخره وباطنه وظاهره وهو اول دعوة الرسل وآخرها وهو معنى قول لا إله إلا الله فإن الإله هو المألوه المعبود بالمحبة والخشية والاجلال والتعظيم وجميع انواع العبادة ولأجل هذا التوحيد خلقت الخليقة وأرسلت الرسل وأنزلت الكتب وبه افترق الناس إلى مؤمنين وكفار وسعداء اهل الجنة وأشقياء أهل النار قال الله تعالى يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون فهذا

21

أول أمر في القرآن وقال تعالى لقد أرسلنا نوحا الى وقومه فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره فهذا دعوة أول رسول بعد حدوث الشرك وقال هود لقومه اعبدوا الله ما لكم من إله غيره وقال صالح لقومه اعبدوا الله ما لكم من إله غيره وقال شعيب لقومه اعبدوا الله ما لكم من إله غيره وقال ابراهيم عليه السلام لقومه اني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين وقال تعالى وما ارسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فأعبدون وقال تعالى واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون وقال تعالى وما خلقت الجن والانس إلا ليعبدون وقال هرقل لأبي سفيان لما سأله عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يقول لكم قال يقول اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا واتركوا ما يقول آباؤكم وقال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ انك تأتي قوما أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم اليه شهادة أن لا إله إلا الله وفي رواية ان يوحدوا الله وهذا التوحيد هو أول واجب على المكلف لا النظر ولا القصد الى النظر ولا الشك في الله كما هي أقوال لمن لم يدر ما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم من معاني الكتاب والحكمة فهو أول واجب وآخر واجب وأول ما يدخل به الاسلام وآخر ما يخرج به من الدنيا كما قال صلى الله عليه وسلم من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة حديث صحيح وقال

22

أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله متفق عليه وقد أفصح القرآن عن هذا النوع كل الافصاح وأبدأ فيه وأعاد وضرب لذلك الأمثال بحيث أن كل سورة في القرآن ففيها الدلالة على هذا التوحيد ويسمى هذا النوع توحيد الآلهية لأنه مبني على إخلاص التآله وهو أشد المحبة لله وحده وذلك يستلزم إخلاص العبادة وتوحيد العبادة لذلك وتوحيد الارادة لأنه مبني على إرادة وجه الله بالاعمال وتوحيد القصد لأنه مبني على إخلاص القصد المستلزم لإخلاص العبادة لله وحده وتوحيد العمل لأنه مبني على إخلاص العمل لله وحده قال الله تعالى فاعبد الله مخلصا له الدين وقال قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين وأمرت لأن أكون أول المسلمين قل الله اعبد مخلصا له ديني فاعبدوا ما شئتم من دونه الى قوله ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ورجلا سلما لرجل هل يستويان مثلا الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون الى قوله قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته الآية إلى قوله اتخذوا من دون الله شفعاء قل أو لو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون قل لله الشفاعة جميعا الآية الى قوله وأنيبوا الى ربكم واسلموا له من قبل ان يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون إلى قوله قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين بل الله فاعبد وكن من الشاكرين الى آخر السورة

23

فكل هذه السور في الدعاء إلى هذا التوحيد والأمر به والجواب عن الشبهات والمعارضات وذكر ما أعد الله لأهله من النعيم المقيم وما أعد لمن خالفه من العذاب الأليم وكل سورة في القرآن بل كل آية في القرآن فهي داعية إلى هذا التوحيد شاهدة به متضمنة له لأن القرآن إما خبر عن الله تعالى وأسمائه وصفاته وأفعاله وهو توحيد الربوبية وتوحيد الصفات فذاك مستلزم لهذا متضمن له وإما دعاء الى عبادته وحده لا شريك له وخلع ما يعبد من دونه أوامر بانواع من العبادات ونهي عن المخالفات فهذا هو توحيد الالهية والعبادة وهو مستلزم للنوعين الأولين متضمن لهما ايضا واما خبر عن إكرامه لأهل توحيده وطاعته وما فعل بهم في الدنيا وما يكرههم به في الآخرة فهو جزاء توحيده وإما خبر عن أهل الشرك وما فعل بهم في الدنيا من النكال وما يحل بهم في العقبى من الوبال فهو جزاء من خرج عن حكم التوحيد وهذا التوحيد هو حقيقة دين الاسلام الذي لا يقبل الله من أحد سواه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم بني الاسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وايتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت رواه البخاري ومسلم فأخبر أن دين الإسلام مبني على هذه الأركان الخمسة وهي الأعمال فدل على أن الاسلام هو عبادة الله وحده لا شريك له بفعل المأمور وترك المحظور والاخلاص في ذلك لله وقد تضمن ذلك جميع أنواع العبادة فيجب إخلاصها لله تعالى فمن أشرك بين الله تعالى وبين غيره في شيء فليس بمسلم

24

فمنها المحبة فمن أشرك بين الله تعالى وبين غيره في المحبة التي لا تصلح إلا لله فهو مشرك كما قال تعالى ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله الى قوله تعالى وما هم بخارجين من النار ومنها التوكل فلا يتوكل على غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله قال الله تعالى وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين وعلى الله فليتوكل المؤمنون والتوكل على غير الله فيما يقدر عليه شرك أصغر ومنا الخوف فلا يخاف خوف السر إلا من الله ومعنى خوف السر هو أن يخاف العبد من غير الله تعالى ان يصيبه مكروه بمشيئته و قدرته وإن لم يباشره فهذا شرك أكبر لأنه اعتقاد للنفع والضر في غير الله قال الله تعالى فأياي فارهبون وقال تعالى فلا تخشوا الناس واخشون وقال تعالى وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله يصيب به من يشاء من عباده وهو الغفور الرحيم ومنها الرجاء فيما لا يقدر عليه إلا الله كمن يدعو الأموات أو غيرهم راجيا حصول مطلوبه من جهتهم فهذا شرك أكبر قال الله تعالى ان الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله وقال علي رضي الله عنه لا يرجون عبد إلا ربه ومنها الصلاة والركوع والسجود قال الله تعالى فصل لربك وانحر

25

وقال تعالى يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم الاية ومنها الدعاء فيما لا يقدر عليه إلا الله سواء كان طلبا للشفاعة أو غيرها من المطالب قال الله تعالى والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم وقال تعالى وقال ربكم ادعوني استجب لكم ان الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين وقال تعالى ولا تدع من دون الله مالا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذا من الظالمين وقال تعالى ام اتخذوا من دون الله شفعاء قل أو لو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون قل لله الشفاعة جميعا الآية ومنها الذبح قال الله تعالى قل ان صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له الآية والنسك الذبح ومنها النذر قال الله تعالى وليوفوا نذورهم وقال تعالى يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا ومنها الطواف فلا يطاف إلا ببيت الله قال الله تعالى وليطوفوا بالبيت العتيق ومنها التوبة فلا يتاب إلا لله قال الله تعالى ومن يغفر الذنوب الا الله

26

وقال تعالى وتوبوا الى الله جميعا ايها المؤمنون لعلكم تفلحون ومنها الاستعاذة فيما لا يقدر عليه إلا الله قال الله تعالى قل اعوذ برب الفلق وقال تعالى قل اعوذ برب الناس ومنها الاستغاثة فيما لا يقدر عليه إلا الله قال الله تعالى اذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم فمن أشرك بين الله تعالى وبين مخلوق فيما يختص بالخالق تعالى من هذه العبادات أو غيرها فهو مشرك وإنما ذكرنا هذه العبادات خاصة لأن عباد القبور صرفوها للاموات من دون الله تعالى أو أشركوا بين الله تعالى وبينهم فيها وإلا فكل نوع من انواع العبادة من صرفه لغير الله أو شرك بين الله تعالى وبين غيره فيه فهو مشرك قال الله تعالى واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وهذا الشرك في العبادة هوالذي كفر الله به المشركين وأباح به دماءهم وأموالهم ونساءهم وإلا فهم يعلمون أن الله هو الخالق الرازق المدبر ليس له شريك في ملكه وانما كانوا يشركون به في هذه العبادات ونحوها وكانوا يقولون في تلبيتهم لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك فأتاهم النبي صلى الله عليه وسلم بالتوحيد الذي هو معنى لا إله إلا الله الذي مضمونه أن لا يعبد إلا الله لا ملك مقرب ولا نبي مرسل فضلا عن غيرهما فقالوا أجعل الآلهة الها واحدا إن هذا لشيء عجاب

27

وكانوا يجعلون من الحرث والأنعام نصيبا لله وللآلهة مثل ذلك فإذا صار شيء من الذي لله الى الذي للآلهة تركوه لها وقالوا الله غني واذا صار شيء من الذي للآلهة الى الذي لله تعالى ردوه وقالوا الله غني والالهة فقيرة فأنزل الله تعالى وجعلوا لله مما ذرا من الحرث والانعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ساء ما يحكمون وهذا بعينه يفعله عباد القبور بل يزيدون على ذلك فيجعلون للأموات نصيبا من الأولاد إذا تبين هذا فاعلم أن الشرك ينقسم ثلاثة أقسام بالنسبة الى أنواع التوحيد وكل منها قد يكون أكبر وأصغر مطلقا وقد يكون أكبر بالنسبة الى ما هو أصغر منه ويكون أصغر بالنسبة إلى ما هو أكبر منه القسم الأول الشرك في الربوبية وهو نوعان أحدهما شرك التعطيل وهو أقبح أنواع الشرك كشرك فرعون إذ قال وما رب العالمين ومن هذا شرك الفلاسفة القائلين بقدم العالم وأبديته وأنه لم يكن معدوما أصلا بل لم يزل ولا يزال والحوادث بأسرها مستندة عندهم إلى اسباب ووسائط اقتضت إيجادها يسمونها العقول والنفوس ومن هذا شرك طائفة أهل وحدة الوجود كابن عربي وابن سبعين والعفيف التلمساني وابن الفارض ونحوهم من الملاحدة الذين كسوا الإلحاد حلية الاسلام ومزجوه بشيء من الحق حتى راج أمرهم على خفافيش البصائر ومن هذا شرك من عطل أسماء الرب وأوصافه من غلاة الجهمية والقرامطة

28

النوع الثاني شرك من جعل معه إلها آخر ولم يعطل أسماءه وصفاته وربوبيته كشرك النصارى الذين جعلوه ثالث ثلاثة وشرك المجوس القائلين باسناد حوادث الخير الى النور و حوادث الشر إلى الظلمة ومن هذا شرك كثير ممن يشرك بالكواكب العلويات ويجعلها مدبرة لأمر هذا العالم كما هو مذهب مشركي الصابئة وغيرهم قلت ويلتحق به من و جه شرك غلاة عباد القبور الذين يزعمون أن أرواح الأولياء تتصرف بعد الموت فيقضون الحاجات ويفرجون الكربات وينصرون من دعاهم ويحفظون من التجأ اليهم ولاذ بحماهم فإن هذه من خصائص الربوبية كما ذكره بعضهم في هذا النوع القسم الثاني الشرك في توحيد الأسماء والصفات وهو أسهل مما قبله وهو نوعان أحدهما تشبيه الخالق بالمخلوق كمن يقول يد كيدي وسمع كسمعي وبصر كبصري واستواء كاستوائي وهو شرك المشبهة الثاني اشتقاق أسماء للآلهة الباطلة من أسماء الإله الحق قال الله تعالى ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون قال ابن عباس يلحدون في أسمائه يشركون وعنه سموا اللات من الاله والعزى من العزيز القسم الثالث الشرك في توحيد الآلهية والعبادة قال القرطبي أصل الشرك المحرم اعتقاد شريك لله تعالى في الآلهية وهو الشرك الأعظم وهو شرك الجاهلية ويليه في الرتبة اعتقاد شريك لله تعالى في الفعل وهو قول

29

من قال إن موجودا ما غير الله تعالى يستقل بإحداث فعل وإيجاد وإن لم يعتقد كونه الها هذا كلام القرطبي وهو نوعان احدهما أن يجعل لله ندا يدعوه كما يدعو الله ويسأله الشفاعة كما يسأل الله ويرجوه كما يرجو الله ويحبه كما يحب الله ويخشاه كما يخشى الله وبالجملة فهو أن يجعل لله ندا يعبده كما يعبد الله وهذا هو الشرك الأكبر وهو الذي قال الله فيه واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وقال ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت وقال تعالى ويعبدون من دون الله مالا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السموات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون وقال تعالى الله الذي خلق السموات والارض في ستة أيام ثم استوى على العرض ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع أفلا تذكرون والآيات في النهي عن هذا الشرك وبيان بطلانه كثيرة جدا الثاني الشرك الأصغر كيسير الرياء والتصنع للمخلوق وعدم الإخلاص لله تعالى في العبادة بل يعمل لحظ نفسه تارة ولطلب الدنيا تارة ولطلب المنزلة والجاه عند الخلق تارة فلله من عمله نصيب ولغيره منه نصيب ويتبع هذا النوع الشرك بالله في الألفاظ كالحلف بغير الله وقول ما شاء الله وشئت ومالي إلا الله وأنت وأنا في حسب الله وحسبك ونحوه وقد يكون ذلك شركا أكبر بحسب حال قائله ومقصده هذا حاصل كلام ابن القيم وغيره

30

وقد استوفى المصنف رحمه الله بيان جنس العبادة التي يجب إخلاصها لله بالتنبيه على بعض أنواعها وبيان ما يضادها من الشرك بالله تعالى في العبادات والإرادات والألفاظ كما سيمر بك ان شاء الله تعالى مفصلا في هذا الكتاب فالله تعالى يرحمه ويرضى عنه فان قلت هلا أتى المصنف رحمه الله بخطبه تنبىء عن مقصده كما صنع غيره قيل كأنه والله أعلم اكتفى بدلالة الترجمة الأولى على مقصوده فانه صدره بقوله كتاب التوحيد وبالآيات التي ذكرها وما يتبعها مما يدل على مقصوده فكأنه قال قصدت جمع أنواع توحيد الالهية التي وقع أكثر الناس في الإشراك فيها وهم لا يشعرون وبيان شيء مما يضاد ذلك من أنواع الشرك فاكتفى بالتلويح عن التصريح والألف واللام في التوحيد للعهد الذهني قوله وقول الله تعالى وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون يجوز في قول الله الرفع والجر وهكذا حكم ما يمر بك من هذا الباب قال شيخ الاسلام العبادة هي طاعة الله بامتثال ما أمر به على ألسنة الرسل وقال أيضا العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والاعمال الباطنة والظاهرة قال ابن القيم ومدارها على خمس عشرة قاعدة من كملها كمل مراتب العبودية وبيان ذلك أن العبادة منقسمة على القلب واللسان والجوارح والأحكام التي للعبودية خمسة واجب ومستحب وحرام ومكروه ومباح وهن لكل واحد من القلب واللسان والجوارح وقال القرطبي

31

أصل العبادة التذلل والخضوع وسميت وظائف الشرع على المكلفين عبادات لأنهم يلتزمونها ويفعلونها خاضعين متذللين لله تعالى وقال ابن كثير العبادة في اللغة من الذلة يقال طريق معبد وغير معبد أي مذلل وفي الشرع عبارة عما يجمع كمال المحبة والخضوع والخوف وهكذا ذكر غيرهم من العلماء ومعنى الآية أن الله تعالى أخبر أنه ما خلق الإنس والجن إلا لعبادته فهذا هو الحكمة في خلقهم ولم يرد منهم ما تريده السادة من عبيدها من الإعانة لهم بالرزق والإطعام بل هو الرازق ذو القوة المتين الذي يطعم ولا يطعم كما قال تعالى قل أغير الله أتخذ وليا فاطر السموات والأرض وهو يطعم ولا يطعم الآية وعبادته هي طاعته بفعل المأمور وترك المحظور وذلك هو حقيقة دين الإسلام لأن معنى الاسلام هو الاستسلام لله المتضمن غاية الانقياد في غاية الذل والخضوع قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه في الاية إلا لآمرهم أن يعبدوني وأدعوهم الى عبادتي وقال مجاهد إلا لآمرهم وأنهاهم واختاره الزجاج وشيخ الاسلام قال ويدل على هذا قوله أيحسب الانسان أن يترك سدى قال الشافعي لا يؤمر ولا ينهى وقوله قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم أي لولا عبادتكم اياه وقد قال في القرآن في غير موضع اعبدوا ربكم اتقوا ربكم فقد أمرهم بما خلقوا له وأرسل الرسل الى الجن والانس بذلك وهذا المعنى هو الذي قصد بالآية قطعا وهو الذي يفهمه جماهير المسلمين ويحتجون بالآية

32

عليه ويقرون أن الله إنما خلقهم ليعبدوه العبادة الشرعية وهي طاعته وطاعة رسله لا ليضيعوا حقه الذي خلقهم له قال وهذه الآية تشبه قوله تعالى ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم وقوله وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع باذن الله ثم قد يطاع وقد يعصى وكذلك ماخلقهم إلا للعبادة ثم قد يعبدون وقد لا يعبدون وهو سبحانه لم يقل إنه فعل الأول وهو خلقهم ليفعل بهم كلهم الثاني وهو عبادته ولكن ذكر الأول ليفعلوا هم الثاني فيكونوا هم الفاعلين له فيحصل لهم بفعله سعادتهم ويحصل ما يحبه ويرضاه منهم ولهم انتهى والآية دالة على وجوب اختصاص الخالق تعالى بالعبادة لأنه سبحانه هو ابتدأك بخلقك والإنعام عليك بقدرته ومشيئته ورحمته من غير سبب منك أصلا وما فعله بك لا يقدر عليه غيره ثم إذا احتجت إليه في جلب رزق أو دفع ضر فهو الذي يأتي بالرزق لا يأتي به غيره وهوالذي يدفع الضر لا يدفعه غيره كما قال تعالى أمن هذا الذي هو جند لكم ينصركم من دون الرحمن إن الكافرون إلا في غرور أمن هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه بل لجوا في عتو ونفور وهو سبحانه ينعم عليك ويحسن اليك بنفسه فإن ذلك موجب ما تسمى به ووصف به نفسه اذ هو الرحمن الرحيم الودود المجيد وهو قادر بنفسه وقدرته من لوازم ذاته وكذلك رحمته وعلمه وحكمته لا يحتاج إلى خلقه بوجه من الوجوه بل هو الغني عن العالمين فمن شكر فإنما يشكر لنفسه

33

ومن كفر فإن ربي غني كريم فالرب سبحانه غني بنفسه وما يستحقه من صفات الكمال ثابت له بنفسه واجب له من لوازم ذاته لا يفتقر في شيء من ذلك إلى غيره ففعله وإحسانه وجوده من كماله لا يفعل شيئا لحاجة إلى غيره بوجه من الوجوه بل كل ما يريد فعله فإنه فعال لما يريد وهو سبحانه بالغ أمره فكل ما يطلبه فهو يبلغه ويناله ويصل إليه وحده ولا يعينه أحد ولا يعوقه أحد لا يحتاج في شيء من اموره الى معين وما له من المخلوقين من ظهير وليس له ولي من الذل قاله شيخ الإسلام قال وقوله ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت قالوا الطاغوت مشتق من الطغيان وهو مجاوزة الحد وقد فسره السلف ببعض أفراده قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه الطاغوت الشيطان وقال جابر رضي الله عنه الطواغيت كهان كانت تنزل عليهم الشياطين رواهما ابن أبي حاتم وقال مجاهد الطاغوت الشيطان في صورة الإنسان يتحاكمون اليه وهو صاحب أمرهم وقال مالك الطاغوت كل ما عبد من دون الله قلت وهو صحيح لكن لا بد فيه من استثناء من لا يرضى بعبادته وقال ابن القيم الطاغوت ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع فطاغوت كل قوم من يتحاكمون إلى غير الله ورسوله أو يعبدونه من دون الله أو يتبعونه على غير بصيرة من الله أو يطيعونه فيما لا يعلمون أنه طاعة الله فهذه طواغيت العالم اذا تأملتها وتأملت أحوال الناس معها رأيت أكثرهم ممن أعرض عن عبادة الله الى عبادة الطاغوت وعن طاعته أو متابعة رسوله صلى الله عليه وسلم إلى طاعة الطاغوت ومتابعته

34

وأما معنى الآيه فأخبر تعالى أنه بعث في كل أمة أي في كل طائفة وقرن من الناس رسولا بهذه الكلمة أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت أي اعبدوا الله وحده واتركوا عبادة ما سواه فلهذا خلقت الخليقة وأرسلت الرسل وأنزلت الكتب كما قال تعالى وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون وقال تعالى قل إنما أمرت أن أعبد الله ولا أشرك به اليه أدعو وإليه مآب وهذه الآية هي معنى لا إله إلا الله فإنها تضمنت النفي والاثبات كما تضمنته لا لله إله إلا الله ففي قوله اعبدوا الله الاثبات وفي قوله اجتنبوا الطاغوت النفي فدلت الآية على أنه لا بد في الاسلام من النفي والاثبات فيثبت العبادة لله وحده وينفي عبادة ما سواه وهو التوحيد الذي تضمنته سورة قل يا أيها الكافرون وهو معنى قوله فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم قال ابن القيم وطريقة القرآن في مثل هذا أن يقرن النفي بالاثبات فينفي عبادة ما سوى الله وثبت عبادته وهذا هو حقيقة التوحيد والنفي المحض ليس بتوحيد وكذلك الاثبات بدون النفي فلا يكون التوحيد إلا متضمنا للنفي والاثبات وهذا حقيقة لا إله إلا الله انتهى ويدخل في الكفر بالطاغوت بغضه وكراهته وعدم الرضى بعبادته بوجه من الوجوه ودلت الآية على أن الحكمة في إرسال الرسل هو عبادة الله وحده وترك عبادة ما سواه وان أصل دين الانبياء واحد وهو الإخلاص في العبادة لله وان اختلفت شرائعهم كما قال تعالى لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا وانه لابد في الايمان من العمل ردا على المرجئة

35

قال قوله وقضى ربك ألا تعبدوا إلا أياه وبالوالدين إحسانا هكذا ثبت في بعض الأصول لم يذكر الآية بكمالها قال مجاهد وقضى يعني وصى وكذلك قرأ أبي بن كعب وابن مسعود وابن عباس وغيرهم وروى ابن جرير عن ابن عباس في قوله وقضى ربك يعني أمر وقوله ألا تعبدوا إلا إياه أن هي المصدرية وهي في محل جر بالباء والمعنى أن تعبدوه ولا تعبدوا غيره ممن لا يملك ضرا ولا نفعا بل هو إما فقير محتاج إلى رحمة ربه يرجوها كما ترجونها وأما جماد لا يستجيب لمن دعاه وقوله وبالوالدين إحسانا أي وقضى أن تحسنوا بالوالدين إحسانا كما قضى بعبادته وحده لا شريك له وعطف حقهما على حق الله تعالى دليل على تأكد حقهما وأنه أوجب الحقوق بعد حق الله وهذا كثير في القرآن يقرن بين حقه عز وجل وبين حق الوالدين كقوله ان اشكر لي ولوالديك إلى المصير وقال وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحسانا ولم يخص تعالى نوعا من أنواع الإحسان ليعم أنواع الاحسان وقد تواترت النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم بالأمر ببر الوالدين والحث على ذلك وتحريم عقوقهما كما في القرآن ففي صحيح البخاري عن ابن مسعود قال سألت النبي صلى الله عليه وسلم أي الأعمال أحب إلى الله قال الصلاة على وقتها قلت ثم أي قال بر الوالدين قلت ثم أي قال الجهاد في سبيل الله حدثني بهن ولو استزدته لزادني وعن أبي بكرة قال قال رسول الله صلىالله عليه وسلم ألا أنبئكم بأكبر الكبائر قلنا بلى يا رسول الله قال الإشراك بالله وعقوق الوالدين وكان متكئا فجلس فقال ألا وقول الزور ألا و شهادة الزور فما زال يكررها

36

حتى قلنا ليته سكت رواه البخاري ومسلم وعن أبي هريرة قال قال رجل يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحابتي قال أمك قال ثم من قال أمك قال ثم من قال أمك قال ثم من قال أبوك أخرجاه وعن عبدالله بن عمرو قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم رضى الرب في رضى الوالدين وسخطه في سخط الوالدين رواه الترمذي وصححه ابن حبان والحاكم وعن أبي أسيد الساعدي قال بينا نحن جلوس عند النبي صلى الله عليه وسلم اذ جاء رجل من بني سلمة فقال يا رسول الله هل بقي من بر أبوي شيء أبرهما به بعد موتهما فقال نعم الصلاة عليهما والاستغفار لهما وإنفاذ عهدهما من بعدهما وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما وإكرام صديقهما رواه ابو داود وابن ماجه وابن حبان في صحيحه والأحاديث في هذا كثيرة قد أفردها العلماء بالتصنيف وذكر البخاري منها شطرا صالحا في كتاب الادب المفرد قال وقوله قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا الآيات قال ابن كثير يقول الله تعالى النبيه ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم قل يا محمد لهؤلاء المشركين الذين عبدوا غير الله وحرموا ما رزقهم الله وقتلوا أولادهم وكل ذلك فعلوه بآرائهم الفاسدة وتسويل الشيطان لهم تعالوا اي هلموا وأقبلوا أتل ما حرم ربكم عليكم أي أقصص عليكم وأخبركم بما حرم ربكم عليكم حقا لا تخرصا ولا ظنا بل وحي منه وأمر من عنده الا تشركوا به شيئا قال وكأن في الكلام محذوفا دل عليه السياق وتقديره وصاكم ان لا تشركوا به شيئا ولهذا قال في آخر الآية ذلكم وصاكم به قلت ابتدأ تعالى هذه

37

الآيات المحكمات بتحريم الشرك والنهي عنه فحرم علينا أن نشرك به شيئا فشمل ذلك كل مشرك به وكل مشرك فيه من أنواع العبادة فإن شيئا النكرات فيعم جميع الاشياء وما أباح تعالى لعباده ان يشركوا به شيئا فإن ذلك أظلم الظلم وأقبح القبيح ولفظ الشرك يدل على ان المشركين كانوا يعبدون الله ولكن يشركون به غيره من الأوثان والصالحين والأصنام فكانت الدعوة واقعة على ترك عبادة ما سوى الله وإفراد الله بالعبادة وكانت لا إله إلا الله متضمنة لهذا المعنى فدعاهم النبي صلى الله عليه وسلم الى الاقرار بها نطقا وعملا واعتقادا ولهذا إذا سئلوا عما يقول لهم قالوا يقول اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا واتركوا ما يقول آباؤكم كما قاله ابو سفيان وقوله وبالوالدين إحسانا قال القرطبي الاحسان الى الوالدين برهما وحفظهما وصيانتهما وامتثال أمرهما وإزالة الرق عنهما وترك السلطنة عليهما و إحسانا نصب على المصدرية وناصبة فعل مضمر من لفظه تقديره وأحسنوا بالوالدين إحسانا وقوله ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم الاملاق الفقر أي لا تئدوا بناتكم خشية العيلة والفقر فإني رازقكم و اياهم وكان منهم من يفعل ذلك بالاناث والذكور خشية الفقر ذكره القرطبي وفي الصحيحين عن ابن سعود قال قلت يا رسول الله أي الذنب اعظم عند الله قال إن تجعل لله ندا وهو خلقك قلت ثم أي قال أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك قلت ثم أي قال ان تزاني حليلة جارك ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن قال ابن عطية نهي عام عن جميع أنواع الفواحش وهي المعاصي وظهر وبطن حالتان تستوفيان أقسام ما جعلت له من الأشياء وفي

38

التفسير المنسوب إلى أبي علي الطبري من الحنفية وهو تفسير عظيم و لا تقربوا الفواحش أي القبائح وعن ابن عباس والضحاك والسدي أن من الكفار من كان لا يرى بالزنا بأسا إذا كان سرا وقيل الظاهر ما بينك وبين الخلق والباطن ما بينك وبين الله انتهى وفي الصحيحين عن ابن مسعود مرفوعا لا أحد أعير من الله من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق قال ابن كثير هذا مما نص تعالى على النهي عنه تأكيدا وإلا فهو داخل في النهي عن الفواحش وفي الصحيحين عن ابن مسعود مرفوعا لا يحل دم امرىء مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا باحدي ثلاث الثيب الزاني والنفس بالنفس والتارك لدينه المفارق للجماعة وعن ابن عمر مرفوعا من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاما رواه البخاري ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون قال ابن عطية ذلكم إشارة الى هذه المحرمات والوصية الأمر المؤكد المقرر وقوله لعلكم تعقلون ترج بالاضافة الينا أي من سمع هذه الوصية يرجى وقوع أثر العقل بعدها قلت هذا غير صحيح والصواب أن لعل هنا للتعليل أي ان الله وصانا بهذه الوصايا لنعقلها عنه ونعمل بها كما قال وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكوة وفي تفسير الطبري الحنفي ذكر أولا تعقلون ثم تذكرون ثم تتقون لأنهم اذا

39

عقلوا تذكروا فإذا فإذا تذكروا تذكروا خافوا واتقوا المهالك ولا تقربوا مال اليتيم الا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده قال ابن عطية هذا نهي عن القرب الذي يعم وجوه التصرف وفيه سد الذريعة ثم استثنى ما يحسن وهو التشمير والسعي في نمائه قال مجاهد التي هي أحسن التجارة فيه فمن كان من الناظرين له مال يعيش به فالأحسن إذا ثمر مال اليتيم أن لا يأخذ منه نفقة ولا أجرة ولا غيرهما ومن كان من الناظرين لا مال له ولا يتفق له نظر إلا بأن ينفق على نفسه من ربح نظره وإلا دعت الضرورة إلى ترك مال اليتيم دون نظر فالأحسن أن ينظر ويأكل بالمعروف قاله ابن زيد وقوله حتى يبلغ أشده قال مالك وغيره هو الرشد وزوال السفه مع البلوغ قال ابن عطية وهو أصح الأقوال وأليقها بهذا الموضع قلت وقد روي نحوه عن زيد ابن أسلم والشعبي وربيعة وغيرهم ويدل عليه قوله تعالى وابتلوا اليتامى حتى اذا بلغوا النكاح فان آنستم منهم رشدا فادفعوا اليهم أموالهم فاشترط تعالى للدفع اليهم ثلاثة شروط الأول ابتلاؤهم وهو اختبارهم وامتحانهم بما يظهر به معرفتهم لمصالح أنفسهم وتدبير أموالهم والثاني البلوغ والثالث الرشد وأوفوا الكيل والميزان بالقسط قال ابن كثير يأمر تعالى بإقامة العدل في الأخذ والإعطاء كما توعد عليه في قوله ويل للمطففين الذين اذا اكتالوا على الناس يستوفون واذا كالوهم أوزنوهم يخسرون إلى قوله يوم يقوم الناس لرب العالمين وقد

40

أهلك الله أمة من الأمم كانوا يبخسون المكيال والميزان وقال غيره القسط العدل وقد روى الترمذي وغيره باسناد ضعيف عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحاب الكيل والميزان انكم وليتم أمرا هلكت فيه الأمم السالفة قبلكم وروي عن ابن عباس موقوفا باسناد صحيح لانكلف نفسا إلا وسعها قال ابن كثير أي من اجتهد في أداء الحق وأخذه فان اخطأ بعد استفراغ وسعه وبذل جهده فلا حرج عليه وقد روى ابن مردويه عن سعيد المسيب مرفوعا اوفوا الكيل والميزان بالقسط لا يكلف نفسا إلا وسعها قال من أوفى على يده في الكيل والميزان والله يعلم صحة نيته بالوفاء فيهما ما لم يؤاخذ وذلك تأويل وسعها قال هذا مرسل غريب قلت وفيه رد على القائلين بجواز تكليف ما لا يطاق وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى هذا أمر بالعدل في القول والفعل على القريب والبعيد قال الحنفي العدل في القول في حق الولي والعد لا يتغير بالرضى والغضب بل يكون على الحق والصدق وإن كان ذا قربى فلا يميل الى الحبيب ولا الى القريب ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى وبعهد الله أوفوا قال ابن جرير يقول وبوصية الله التي وصاكم بها فأوفوا وانقادوا لذلك بأن تطيعوه فيما أمر به ونهاكم عنه وتعملوا بكتابه وسنة رسوله وذلك هو الوفاء بعهد الله وكذا قال غيره قلت وهو حسن ولكن الظاهر أن الآية فيما هو خص كالبيعة والذمة

41

والأمان والنذر ونحو ذلك وهذه الآية كقوله وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم فهذا هوالمقصود بالآية وان كانت شاملة لما قالوا بطريق العموم ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون يقول تعالى هذا وصاكم وأمركم به وأكد عليكم فيه لعلكم تذكرون أي تتعظون وتنتهون عما كنتم فيه وإن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ش قال القرطبي هذه آية عظيمة عطفها الله على ما تقدم فانه لما نهى وأمر حذر عن اتباع غير سبيله وأمر فيا باتباع طريقه على ما بينته الأحاديث الصحيحة وأقاويل السلف وأن في موضع نصب أي واتلوا أن هذا صراطي عن الفراء والكسائي قال الفراء ويجوز أن يكون خفضا أي وصاكم به وبأن هذا صراطي قال والصراط الطريق الذي هو دين الاسلام مستقيما نصب على الحال ومعناه مستويا قويما لا اعوجاج فيه فأمر باتباع طريقه الذي طرقه على لسان محمد صلى الله عليه وسلم وشرعه ونهايته الجنة وتشعبت منه طرق فمن سلك الجادة نجا ومن خرج الى تلك الطرق أفضت به الى النار قال الله تعالى ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله أي تميل انتهى وروى أحمد والنسائي والدارمي وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن ابن مسعود قال خط رسول الله صلى الله عليه وسلم خطا بيده ثم قال هذا سبيل الله مستقيما ثم خط خطوطا عن يمين ذلك الخط وعن شماله ثم قال وهذه السبل ليس منها سبيل الا عليه شيطان يدعو اليه ثم قرأ وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله

42

وعن النواس بن سمعاس مرفوعا قال ضرب الله مثلا صراطا مستقيما وعلى جنبتي الصراط سوران فيهما أبواب مفتحة وعلى الأبواب ستور مرخاة وعلى الصراط داع يقول يا أيها الناس ادخلوا الصراط جميعا ولا تعوجوا وداع يدعو من جوف الصراط فاذا أراد الانسان أن يفتح شيئا من تلك الابواب قال لا تفتحه فانك إن تفتحه تلجه فالصراط الإسلام والسوران حدود الله والأبواب المفتحة محارم الله وذلك الداعي على رأس الصراط كتاب الله والداعي من فوق الصراط واعظ الله في قلب كل مسلم رواه احمد والترمذي والنسائي وابن جرير ابن ابي حاتم وعن مجاهد في قوله ولا تتبعوا السبل قال البدع والشبهات رواه ابن جرير وابن أبي حاتم وهذه السبل تعم اليهودية والنصرانية والمجوسية وعباد القبور وسائر أهل الملل والاوثان والبدع والضلالات من أهل الشذوذ والأهواء والتعمق في الجدل والخوض في الكلام فاتباع هذه من اتباع السبل التي تذهب بالإنسان عن الصراط المستقيم الى موافقة أصحاب الجحيم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد وفي رواية كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد حديث صحيح قال ابن مسعود تعلموا العلم قبل أن يقبض وقبضه ذهاب أهله الا وإياكم والتنطع والتعمق والبدع وعليكم بالعتيق رواه الدارمي قلت العتيق هو القديم يعني ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من الهدى دون ما حدث بعدهم فالهرب الهرب و النجاء النجاء والتمسك

43

بالطريق المستقيم والسنن القويم وهو الذي كان عليه السلف الصالح وفيه المتجر الرابح قاله القرطبي وقال سهل بن عبدالله عليكم بالأثر والسنة فاني أخاف أنه سيأتي عن قليل زمان إذا ذكر إنسان النبي صلىالله عليه وسلم والاقتداء به في جميع أحواله ذموه ونفروا عنه وتبرؤا منه وأذلوه وأهانوه قلت رحم الله سهلا ما أصدق فراسته فلقد كان ذلك وأعظم وهو أن يكفر الانسان بتجريد التوحيد والمتابعة والأمر بإخلاص العبادة لله وترك عبادة ما سواه والأمر بطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحكيمه في الدقيق والجليل قال ابن القيم رحمه الله تعالى ولنذكر في الصراط المستقيم قولا وجيزا فان الناس قد تنوعت عباراتهم عنه وترجمتهم عنه بحسب صفاته ومتعلقاته وحقيقته بشيء واحد وهو طريق الله الذي نصبه لعباده موصلا لهم اليه ولا طريق اليه سواه بل الطرق كلها مسدودة على الخلق الا طريقه الذي نصبه على ألسن رسله وجعله موصولا لعباده اليه وهو إفراده بالعبودية وإفراد رسوله بالطاعة فلا يشرك به أحد في عبوديته ولا يشرك برسوله أحد في طاعته فيجرد التوحيد ويجرد متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم وهذا معنى قول بعض العارفين إن السعادة كلها والفلاح كله مجموع في شيئين صدق محبة وحسن معاملة وهذا كله مضمون شهادة أن لا اله الا الله وأن محمد رسول الله فأي شيء فسر به الصراط المستقيم فهو داخل في هذين الأصلين ونكتة ذلك أن تحبه بقلبك كله وترضيه بجهدك كله فلا يكون في قلبك موضع الا معمور بحبه ولا يكون لك إرادة إلا متعلقة بمرضاته فالأول يحصل بتحقيق شهادة أن لا اله الا الله والثاني يحصل بتحقيق شهادة أن محمدا رسول الله وهذا هوالهدى ودين الحق وهو معرفة الحق والعمل به وهو

44

معرفة ما بعث الله به رسوله والقيام به فقل ماشئت من العبارات التي هذا اخيتها وقطب رحاها قال وقوله واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا هكذا أثبت في نسخة بخط شيخنا ولم يذكر الآية قال ابن كثير يأمر تعالى عباده بعبادته وحده لا شريك له فإنه الخالق الرازق المنعم المتفضل على خلقه في جميع الحالات فهو المستحق منهم أن يوحدوه ولا يشركوا به شيئا من مخلوقاته قلت هذا أول أمر في القرآن وهو الأمر بعبادته وحده لا شريك له والنهي عن الشرك كما في قوله يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون وتأمل كيف أمر تعالى بعبادته أي فعلها خالصة له ولم يخص بذلك نوعا من أنواع العبادة لا دعاء ولا صلاة ولا غيرهما ليعم جميع أنواع العبادة ونهى عن الشرك به ولم يخص أيضا نوعا من أنواع العبادة بجواز الشرك فيه في هذه الآية واللواتي قبلها دليل على أن العبادة هي التوحيد لأن الخصومة فيه والا فكان المشركون يعبدون الله ويعبدون غيره فأسروا بالتوحيد وهو عبادة الله وحده وترك عبادة ما سواه وفيهن دليل على أن التوحيد أول واجب على المكلف وهو الكفر بالطاغوت والايمان بالله المستلزم لعبادته وحده لا شريك له وأن من عبد غير الله بنوع من أنواع العبادة فقد أشرك سواء كان المعبود ملكا أو نبيا أو صالحا أو صنما قال ابن مسعود من أراد ان ينظر الى وصية محمد صلىالله عليه وسلم التي عليها خاتمه فليقرأ قال تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم الى قوله وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه الاية

45

ابن مسعود هو عبدالله بن مسعود بن غافل بمعجمة وفاء ابن حبيب الهذلي أبو عبدالرحمن صحابي جليل من السابقين الأولين وأهل بدر وبيعة الرضوان ومن كبار العلماء من الصحابة أمره عمر على الكوفة ومات سنة اثنتين وثلاثين وهذا الأثر رواه الترمذي وحسنه وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني بنحوه وروى أبو عبيد وعبد بن حميد عن الربيع بن خيثم نحوه قال بعضهم ما معناه أي من أراد أن ينظر الى الوصية التي كأنها كتبت وختم عليها ثم طويت فلم تغير ولم تبدل تشبيها لها بالكتاب الذي كتب ثم ختم عليه فلم يزد فيه ولم ينقص لأن النبي صلى الله عليه وسلم كتبها وختم عليها وأوصى بها فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يوص الا بكتاب الله كما قال فيما رواه مسلم واني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا كتاب الله قلت وقد روى عبادة بن الصامت قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أيكم يبايعني على هؤلاء الآيات الثلاث ثم تلا قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم حتى فرغ من ثلاث آيات ثم قال من وفى بهن فأجره على الله ومن انتقص منهن شيئا فأدركه الله في الدنيا كانت عقوبته ومن أخره الى الآخرة كان أمره الى الله ان شاء أخذه وان شاء عفا عنه رواه ابن أبي حاتم والحاكم وصححه فهذا يدل على ان النبي صلى الله عليه وسلم يعتني بهن ويبالغ في الحث على العمل بهن وعن معاذ بن جبل قال كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار فقال لي يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد وما حق العباد على الله فقلت الله ورسوله أعلم قال حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا وحق العباد على الله ان لا يعذب من لا يشرك به شيئا فقلت يا رسول الله أفلا أبشر الناس قال لاتبشرهم فيتكلوا اخرجاه في الصحيحين

46

هذا الحديث في الصحيحين وبعض رواياته نحو ما ذكر المصنف ومعاذ هو معاذ بن جبل بن عمرو بن أوس الانصاري الخزرجي أبو عبدالرحمن صحابي مشهور من أعيان الصحابة شهد بدرا وما بعدها وكان اليه المنتهى في العلم بالاحكام والقرآن رضي الله عنه مات سنة ثمان عشرة بالشام قوله كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم فيه جواز الارداف على الدابة وفضيلة لمعاذ من جهة ركوبه خلف النبي صلىالله عليه وسلم قوله على حمار في رواية اسمه عفير بعين مهملة مضمومة ثم فاء مفتوحة قال ابن الصلاح وهو الحمار الذي كان له صلى الله عليه وسلم قيل انه مات في حجة الوداع وفيه تواضعه صلىالله عليه وسلم للارداف ولركوب الحمار خلاف ما عليه أهل الكبر قوله أتدري ما حق الله على العباد الدراية هي المعرفة وأخرج السؤال بصيغة الاستفهام ليكون أوقع في النفس وأبلغ في فهم المتعلم فان الانسان اذا سئل عن مسألة لا يعلمها ثم أخبر بها بعد الامتحان بالسؤال عنها فان ذلك وعى لفهمها وحفظها وهذا من حسن ارشاده وتعليمه صلى الله عليه وسلم وحق الله على العباد هو ما يستحقه عليهم ويجعله متحتما وحق العباد على الله معناه أنه متحقق لا محالة لأنه قد وعدهم ذلك جزاء لهم على توحيده ووعده حق إن الله لا يخلف الميعاد وقال شيخ الإسلام كون المطيع يستحق الجزاء هو استحقاق إنعام وفضل ليس هو استحقاق مقابلة كما يستحق المخلوق على المخلوق فمن الناس من يقول لا معنى للاستحقاق إلا أنه أخبر بذلك ووعده صدق ولكن أكثر الناس يثبتون استحقاقا زائدا على هذا كما دل عليه الكتاب والسنة قال تعالى وكان حقا علينا نصر المؤمنين ولكن أهل السنة يقولون هو الذي كتب على نفسه الرحمة وأوجب هذا الحق على نفسه لم يوجبه عليه مخلوق والمعتزلة

47

يدعون أنه واجب عليه بالقياس على الخلق وأن العباد هم الذين أطاعوه بدون أن يجعلهم مطيعين له وأنهم يستحقون الجزاء بدون أن يكون هو الموجب وغلطوا في ذلك وهذا الباب غلطت فيه القدرية والجبرية تباع جهم والقدرية النافية قوله فقلت الله ورسوله أعلم فيه حسن أدب المتعلم وأنه ينبغي لمن سئل عما لا يعلم أن يقول ذلك بخلاف أكثر المتكلفين قوله ان يعبدوه ولا يشركوا به شيئا أي يوحدوه بالعبادة وحده ولا يشركوا به شيئا وفائدة هذه الجملة بيان أن التجرد من الشرك لابد منه في العبادة والا فلا يكون العبد آتيا بعبادة الله بل مشرك وهذا هو معنى قول المصنف إن العبادة هي التوحيد لأن الخصومة فيه وفيه معرفة حق الله على العباد وهو عبادته وحده لا شريك له فيا من حق سيده الاقبال عليه والتوجه بقلبه اليه لقد صانك وشرفك عن إذلال قلبك ووجهك لغيره فما هذه الاساءة القبيحة في معاملته مع هذا التشريف والصيانة فهو يعظمك ويدعوك الى الاقبال وأنت تأبى الا مبارزته بقبائح الأفعال في بعض الآثار الالهية إني والجن والانس في نبأ عظيم أخلق ويعبد غيري ورزق ويشكر سواي خيري الى العباد نازل وشرهم الى صاعد أتحبب اليهم بالنعم ويتبغضون الى بالمعاصي وكيف يعبده حق عبادته من صرف سؤاله ودعاءه وتذلله واضطراره وخوفه ورجاءه وتوكله وإنابته وذبحه ونذره لمن لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا من ميت رميم في التراب أو بناء مشيد من القباب فضلا مما هو شر من ذلك قوله وحق العباد على الله ان لا يعذب من لا يشرك به شيئا قال الخلخالي تقديره أن لا يعذب من يعبده ولا يشرك به شيئا والعبادة هي

48

الاتيان بالأوامر والانتهاء عن المناهي لأن مجرد عدم الاشتراك لا يقتضي نفي العذاب وقد علم ذلك من القرآن والأحاديث الواردة في تهديد الظالمين والعصاة وقال الحافظ اقتصر على نفي الاشراك لأنه يستدعي التوحيد بالاقتضاء ويستدعي إثبات الرسالة بالزوم إذ من كذب رسول الله فقد كذب الله ومن كذب الله فهو مشرك وهو مثل قول القائل من توضا صحت صلاته أي مع سائر الشروط فالمراد من مات حال كونه مؤمنا بجميع ما يجب الايمان به قلت وسيأتي تقرير هذا في الباب الذي بعده إن شاء الله تعالى قوله أفلا أبشر الناس فيه استحباب بشارة المسلم بما يسره وفيه ما كان عليه الصحابة من الاستبشار بمثل هذا نبه عليه المصنف قوله قال لا تبشرهم فيتكلوا وفي رواية إني أخاف أن يتكلوا أي يعتمدوا على ذلك فيتركوا التنافس في الأعمال الصالحة وفي رواية فأخبر بها معاذ عند موته تأثما أي تحرجا من الأثم قال الوزير أبو المظفر لم يكن يكتمها إلا عن جاهل يحمله جهله على سوء الأدب بترك الخدمة في الطاعة فأما الأكياس الذين إذا سمعوا بمثل هذا ازدادوا في الطاعة ورأوا أن زيادة النعم تستدعي زيادة الطاعة فلا وجه لكتمانها عنهم وقال الحافظ دل هذا على أن النهي للتبشير ليس على التحريم وإلا لما أخبر به أصلا أو أنه ظهر له أن المنع إنما هو من الاخبار عموما فبادر قبل موته فأخبر بها خاصا من الناس وفي الباب من الفوائد غير ما تقدم التنبيه على عظمة حق الوالدين وتحريم

49

عقوقهما والحث على إخلاص العبادة لله تعالى وأنها لا تنفع مع الشرك بل لا تسمى عبادة شرعا والتنبيه على عظمة الآيات المحكمات في سورة الأنعام ذكره المصنف وجواز كتمان العلم للمصلحة ولا سيما أحاديث الرجاء التي إذا سمعها الجهال ازدادوا من الآثام كما قال بعضهم فأكثر ما استطعت من الخطايا اذا كان القدوم على كريم وتخصيص بعض الناس بالعلم دون بعض وفضيلة معاذ ومنزلته من العلم لكونه خص بما ذكر واستئذان المتعلم في إشاعة ما خص به من العلم والخوف من الاتكال على سعة رحمة الله وأن الصحابة لا يعرفون مثل هذا إلا بتعليمه صلى الله عليه وسلم ذكره المصنف قوله أخرجاه في الصحيحين أي أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما وإنما أضمرهما للعلم بهما والبخاري هو الامام محمد بن إسماعيل بن ابراهيم الجعفي مولاهم الحافظ الكبير صاحب الصحيح والتاريخ والأدب الفرد وغير ذلك من مصنفاته روى عن الامام أحمد بن حنبل والحميدي وابن المديني وطبقتهم وروى عنه مسلم والترمذي والنسائي والفربري راوي الصحيح وغيرهم ولد سنة أربع وتسعين ومائة ومات سنة ست وخمسين ومائتين ومسلم هو ابن الحجاج بن مسلم أبو الحسين القشيري النيسابوري صاحب الصحيح والعلل والوحدان وغير ذلك روى عن أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وأبي خيثمة وابن أبي شيبة وطبقتهم

50

روى عنه الترمذي وابراهيم بن محمد بن سفيان راوي الصحيح وغيرهم ولد سنة اربع ومائتين ومات سنة احدى وستين ومائتين بنيسابور رحمه الله تعالى باب فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب باب خبر مبتدأ محذوف تقديره هذا باب بيان فضل التوحيد وبيان ما يكفر من الذنوب وما يجوز أن تكون موصولة أي وبيان ما يكفره من الذنوب ويجوز أن تكون مصدرية أي وبيان تكفيره الذنوب وهذا أرجح لأن الأول يوهم أن ثم ذنوبا لا يكفرها التوحيد وليس بمراد ولما ذكر معنى التوحيد ناسب ذكر فضله وتكفيره للذنوب ترغيبا فيه وتحذيرا من الضد وقول الله تعالى الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون قال بعض الحنفية في تفسيره هذا ابتداء قال ابن زيد وابن إسحاق هذا من الله على فصل القضاء بين ابراهيم وقومه قال الزجاج سأل ابراهيم واجاب بنفسه وعن ابن مسعود قال لما نزلت هذه الآية قالوا فأينا لم يظلم قال عليه السلام إن الشرك لظلم عظيم وكذا عن أبي بكر الصديق أنه فسره بالشرك فيكون الأمن من تأبيد العذاب وعن عمر أنه فسره بالذنب فيكون الأمن من كل عذاب وقال الحسن والكلبي أولئك لهم الأمن في الآخرة وهم مهتدون في الدنيا انتهى وانما ذكرته لأن فيه شاهدا لكلام شيخ الاسلام الآتي في الحديث الذي ذكره حديث صحيح في الصحيح والمسند وغيرهما وفي لفظ لأحمد عن عبد الله قال لما نزلت الذين آمنوا

51

ولم يلبسوا إيمانهم بظلم شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا يارسول الله فأينالا يظلم نفسه قال إنه ليس الذي تعنون ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح يا بني لا تشرك بالله ان الشرك لظلم عظيم إنما هو الشرك قال شيخ الإسلام والذي شق عليهم ظنوا ان الظلم المشروط هو ظلم العبد لنفسه وأنه لا أمن ولا اهتداء الا لمن لم يظلم نفسه فبين لهم النبي صلى الله عليه وسلم ما دلهم على ان الشرك ظلم في كتاب الله وحينئذ فلا يحصل الأمن والاهتداء إلا لمن لم يلبس ايمانهم بهذا الظلم فمن لم يلبس ايمانه به كان من اهل الأمن والأهتداء كما كان من أهل الاصطفاء في قوله ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه وهذا لا ينفي أن يؤاخذ أحدهم بظلمه لنفسه بذنب إذا لم يتب كما قال فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره وقد سأل أبو بكر رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال يا رسول الله وأينا لم يعمل سوءا فقال يا أبا بكر ألست تنصب ألست تحزن أليس تصيبك اللأواء فذلك ما تجزون به فبين أن المؤمن الذي اذا مات دخل الجنة قد يجزى بسيئاته في الدنيا بالمصائب التي تصيبه قال فمن سلم من أجناس الظلم الثلاثة يعني الظلم الذي هو الشرك وظلم العباد وظلمه لنفسه بما دون الشرك كان له الأمن التام والاهتداء التام ومن لم يسلم من ظلم نفسه كان له الأمن والاهتداء مطلقا بمعنى أنه لا بد أن يدخل الجنة كما وعد بذلك في الآية الأخرى وقد هداه الله الى الصراط المستقيم الذي تكون عاقبته فيه الى الجنة ويحصل له من نقص الأمن والاهتداء بحسب ما نقص من ايمانه بظلمه لنفسه ليس مراد النبي صلى الله عليه وسلم بقوله إنما هو الشرك أن من لم يشرك الشرك الأكبر

52

يكون له الأمن التام والاهتداء التام فإن أحاديثه الكثيرة مع نصوص القرآن تبين أن أهل الكبائر معرضون للخوف لم يحصل لهم الأمن التام والاهتداء التام الذي يكونون به مهتدين الى الصراط المستقيم صراط الذين أنعم الله عليهم من غير عذاب يحصل لهم بل معهم أصل الاهتداء الى هذا الصراط ومعهم أصل نعمة الله عليهم ولا بد لهم من دخول الجنة وقوله إنما هو الشرك إن أراد به الأكبر فمقصوده أن من لم يكن من أهله فهو آمن مما وعد به المشركون من عذاب الدنيا والآخرة وهو مهتد الى ذلك وان كان مراده جنس الشرك فيقال ظلم العبد نفسه كبخله لحب المال ببعض الواجب هو شرك أصغر وحبه ما يبغض الله حتي يقدم هواه على محبة الله شرك أصفر ونحو ذلك فهذا فاته من الأمن والاهتداء بحسبه ولهذا كان السلف يدخلون الذنوب في هذا الظلم بهذا الاعتبار انتهى ملخصا وبه تظهر مطابقة الآية للترجمة فدلت على فضل التوحيد وتكفيره للذنوب لأن من أتى به تاما فله الأمن التام والاهتداء التام ودخل الجنة بلا عذاب ومن أتى به ناقصا بالذنوب التي لم يتب منها فإن كانت صغائر كفرت باجتناب الكبائر لآية النساء والنجم وان كانت كبائر فهو في حكم المشيئة إن شاء الله غفر له وان شاء عذبه ومآله الى الجنة والله أعلم عن عبادة بن الصامت قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من شهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له وان محمدا عبده ورسوله وأن عيسى عبدالله ورسوله وكلمته ألقاها الى مريم وروح منه والجنة حق والنار حق أدخله الله الجنة على ما كان من العمل أخرجاه عبادة هو بن الصامت بن قيس الأنصاري الخزرجي أبو الوليد أحد النقباء بدري مشهور من جلة الصحابة مات بالرملة سنة أربع وثلاثين وله

53

اثنتان وسبعون سنة وقيل عاش الى خلافة معاوية قوله من شهد أن لا اله الا الله أي من تكلم بهذه الكلمة عارفا لمعناها عاملا بمقتضاها باطنا وظاهرا كما دل عليه قوله فاعلم أنه لا إله إلا الله وقوله إلا من شهد بالحق وهم يعلمون أما النطق بها من غير معرفة لمعناها ولا عمل بمقتضاها فان ذلك غير نافع بالاجماع وفي الحديث ما يدل على هذا وهو قوله من شهد اذ كيف يشهد وهو لا يعلم ومجرد النطق بشيء لا يسمي شهادة به قال بعضهم أداة الحصر لقصر الصفة على الموصوف قصر افراد لأن معناه الألوهية منحصرة في الله الواحد في مقابلة من يزعم اشتراك غيره معه وليس قصر قلب لأن أحدا من الكفار لم ينفها عن الله وإنما اشرك معه غيره وقال النووي هذا حديث عظيم جليل الموقع وهو أجمع أو من أجمع الأحاديث المشتملة على العقائد فانه صلى الله عليه وسلم جمع فيه ما يخرج عن ملل الكفر على اختلاف عقائدهم وتباعدها فاقتصر صلى الله عليه وسلم في هذه الأحرف على ما يباين به جميعهم انتهى ومعنى لا اله الا الله أي لا معبود بحق إلا إله واحد وهو الله وحده لاشريك له كما قال تعالى وما أرسلنا من قبلك من رسول الا نوحي اليه انه لا اله الا أنا فاعبدون مع قوله تعالى ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فصح أن معنى الا له هو المعبود ولهذا لما قال النبي صلى الله عليه وسلم لكفار قريش قولوا لا إله إلا الله قالوا اجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب وقال قوم هود أجئتنا لنعبد الله وحده

54

ونذر ما كان يعبد آباؤنا وهو إنما دعاهم إلى لا اله الا الله فهذا هو معنى لاإله إلا الله وهو عبادة الله وترك عبادة ما سواه وهو الكفر بالطاغوت وايمان بالله فتضمنت هذه الكلمة العظيمة إن ما سوى الله ليس بإله وأن الهية ما سواه أبطل الباطل وإثباتها أظلم الظلم فلا يستحق العبادة سواه كما لا تصلح الالهية لغيره فتضمنت نفي الالهية عما سواه وإثباتها له وحده لا شريك له وذلك يستلزم الأمر باتخاذه الها وحده والنهي عن اتخاذ غيره معه إلها وهذا يفهمه المخاطب من هذا النفي والاثبات كما إذا رأيت رجلا يستفتي أو يستشهد من ليس أهلا لذلك ويدع من هو أهل له فتقول هذا ليس بمفت ولا شاهد المفتي فلان والشاهد فلان فإن هذا أمر منه ونهي وقد دخل في الالهيه جميع أنواع العبادة الصادرة عن تأله القلب لله بالحب والخضوع والانقياد له وحده لا شريك له فيجب إفراد الله تعالى بها كالدعاء والخوف والمحبة والتوكل والإنابة والتوبة والذبحح والنذر والسجود وجميع أنواع العبادة فيجب صرف جميع ذلك لله وحده لا شريك له فمن صرف شيئا مما لا يصلح الا لله من العبادات لغير الله فهو مشرك ولو نطق لا إله إلا الله إذ لم يعمل بما تقتضيه من التوحيد والاخلاص ذكر نصوص العلماء في معنى الإله قال ابن عباس رضي الله عنه الله ذو الألوهية والعبودية على خلقه اجمعين رواه ابن جرير وابن أبي حاتم وقال الوزير أبو المظفر في الافصاح قوله شهادة أن لا إله إلا الله يقتضي أن يكون الشاهد عالما بأن لا إله إلا الله كما قال الله عز وجل فاعلم أنه لا إله إلا الله وينبغي أن يكون الناطق بها شاهدا فيها فقد قال الله عز

55

وجل ما أوضح به أن الشاهد بالحق إذا لم يكن عالما بما شهد به فإنه غير بالغ من الصدق به مع من شهد من ذلك بما يعلمه في قوله تعالى إلا من شهد بالحق وهم يعلمون قال واسم الله تعالى مرتفع بعد الأمن حيث إنه الواجب له الالهية فلا يستحقها غيره سبحانه قال واقتضى الاقرار بها أن تعلم أن كل ما فيه أمارة للحدث فانه لا يكون إلها فإذا قلت لا إله إلا الله فقد اشتمل نطقك هذا على أن ما سوى الله ليس باله فيلزمك إفراده سبحانه بذلك وحده قال وجملة الفائدة في ذلك أن تعلم ان هذه الكلمة هي مشتملة على الكفر بالطاغوت والايمان بالله فانك لما نفيت الالهية وأثبت الايجاب لله سبحانه كنت ممن كفر بالطاغوت وآمن بالله وقال أبو عبد الله القرطبي في التفسير لا إله إلا هو أي لا معبود إلا هو وقال الزمخشري الإله من أسماء الاجناس كالرجل والفرس اسم يقع على كل معبود بحق أو بباطل ثم غلب على المعبود بحق وقال شيخ الإسلام الاله هو المعبود المطاع وقال أيضا في لا إله إلا الله إثبات انفراده بالآلهية والإلهية تتضمن كمال علمه وقدرته ورحمته وحكمته ففيها إثبات إحسانه الى العباد فان الاله هو المألوه والمألوه هو الذي يستحق أن يعبد وكونه يستحق أن يعبد هو بما اتصف به من الصفات التي تستلزم أن يكون هو المحبوب غاية الحب المخضوع له غاية الخضوع وقال ابن القيم رحمه الله الإله هو الذي تألهه القلوب محبة وإجلالا وإنابة وإكراما وتعظيما وذلا وخضوعا وخوفا ورجاء وتوكلا وقال ابن رجب رحمه الله الإله هو الذي يطاع فلا يعصى هيبة له وإجلالا ومحبة وخوفا ورجاء وتوكلا عليه وسؤالا منه ودعاء له ولا يصلح ذلك كله

56

إلا لله عز وجل فمن أشرك مخلوقا في شيء من هذه الأمور التي هي من خصائص الإلهية كان ذلك قدحا في إخلاصه في قول لا إله إلا الله ونقصا في توحيده وكان فيه من عبودية المخلوق بحسب ما فيه من ذلك وهذا كله من فروع الشرك وقال البقاعي لا إله إلا الله أي انتفى انتفاء عظيما أن يكون معبود بحق غير الملك الأعظم فإن هذا العلم هو أعظم الذكرى المنجية من أهوال الساعة وإنما يكون علما إذا كان نافعا وإنما يكون نافعا إذا كان الاذعان والعمل بما تقتضيه وإلا فهو جهل صرف وقال الطيبي الإله فعال بمعنى مفعول كالكتاب بمعنى المكتوب من إله أي عبد عبادة وهذا كثير جدا في كلام العلماء وهو إجماع منهم أن الإله هو المعبود خلافا لما يعتقده عباد القبور وأشباههم في معنى الإله أنه الخالق أو القادر على الاختراع أو نحو هذه العبارات ويظنون أنهم إذا قالوها بهذا المعنى فقد أتوا من التوحيد بالغاية القصوى ولو فعلوا ما فعلوا من عبادة غير الله كدعاء الأموات والاستغاثة بهم في الكربات وسؤالهم قضاء الحاجات والنذر لهم في الملمات وسؤالهم الشفاعة عند رب الأرض والسموات إلى غير ذلك من أنواع العبادات وما شعروا أن إخوانهم من كفار العرب يشاركونهم في هذا الاقرار ويعرفون أن الله هو الخالق القادر على الإختراع ويعبدونه بأنواع من العبادات فليهن أبا جهل وأبو لهب ومن تبعهما من الإسلام بحكم عباد القبور وليهن أيضا إخوانهم عباد ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر إذ جعل هؤلاء دينهم هو الإسلام المبرور ولو كان معناها ما زعمه هؤلاء الجهال لم يكن بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبينهم نزاع بل كانوا يبادرون الى إجابته ويلبون دعوته إذ يقول لهم قولوا لا إله إلا الله بمعنى أنه

57

لا قادر على الاختراع إلا الله فكانوا يقولون سمعنا وأطعنا قال الله تعالى ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم قل من يرزقكم من السماء والارض أمن يملك السمع والأبصار الآيه إلى غير ذلك من الآيات لكن القوم أهل اللسان العربي فعلموا أنها تهدم عليهم دعاء الأموات والأصنام من الأساس وتكب بناء سؤال الشفاعة من غير الله وصرف الالهية لغيره لأم الرأس فقالوا ما نعبدهم الا ليقربونا الى الله زلفى هؤلاء شفعاؤنا عند الله أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب فتبا لمن كان أبو جهل ورأس الكفر من قريش وغيرهم أعلم منه لا إله إلا الله قال تعالى إنهم كانوا إذا قيل لا إله إلا الله يستكبرون ويقولون أئنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون فعرفوا أنها تقتضي ترك عبادة ما سوى الله وإفراد الله بالعبادة وهكذا يقول عباد القبور إذا طلبت منهم إخلاص الدعوة والعبادة لله وحده أنترك سادتنا وشفعاءنا في قضاء حوائجنا فقال لهم نعم وهذا الترك والإخلاص هو الحق كما قال تعالى بل جاء بالحق وصدق المرسلين ولا إله إلا الله اشتملت على نفي وإثبات فنفت الإلهية عن كل ما سوى الله تعالى فكل ما سواه من الملائكة والأنبياء فضلا عن غيرهم فليس باله ولا له من العبادة شيء وأثبتت الالهية لله وحده بمعنى أن العبد لا يأله غيره أي لا يقصده بشيء من التأله وهو تعلق القلب الذي يوجب قصده بشيء

58

من أنواع العبادة كالدعاء والذبح والنذر وغير ذلك وبالجمله فلا يأله إلا الله أي لا يعبد إلا هو فمن قال هذه الكلمة عارفا لمعناها عاملا بمقتضاها من نفي الشرك وإثبات الوحدانية لله مع الاعتقاد الجازم لما تضمنته من ذلك والعمل به فهذا هو المسلم حقا فان عمل به ظاهرا من غير اعتقاد فهو المنافق وان عمل بخلافها من الشرك فهو الكافر ولو قالها إلا ترى أن المنافقين يعملون بها ظاهرا وهم في الدرك الأسفل من النار واليهود يقولونها وهم على ما هم عليه من الشرك والكفر فلم تنفعهم وكذلك من ارتد عن الإسلام بإ نكار شيء من لوازمها وحقوقها فانها لا تنفعه ولو قالها مائة الف فكذلك من يقولها ممن يصرف أنواع العبادة لغير الله كعباد القبور والأصنام فلا تنفعهم ولا يدخلون في الحديث الذي جاء في فضلها وما أشبهه من الأحاديث وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله وحده لا شريك له تنبيها على أن الانسان قد يقولها وهو مشرك كاليهود والمنافقين وعباد القبور لما رأوا ان النبي صلى الله عليه وسلم دعا قومه إلى قول لا إله إلا الله ظنوا أنه إنما دعاهم الى النطق بها فقط وهذا جهل عظيم وهو عليه السلام إنما دعاهم اليها ليقولوها ويعملوا بمعناها ويتركوا عبادة غير الله ولهذا قالوا أئنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون وقالوا أجعل الآلهة إلها واحدا فلهذا أبوا عن النطق بها وإلا فلو قالوها وبقوا على عبادة اللات والعزى ومناة لم يكونوا مسلمين ولقاتلهم عليه السلام حتى يخلعوا الأنداد ويتركوا عبادتها ويعبدوا الله وحده لا شريك له وهذا أمر معلوم بالاضطرار من الكتاب والسنة والاجماع وأما عباد القبور فلم يعرفوا معنى هذه الكلمة ولا عرفوا الالهية المنفية عن غير الله الثابتة له وحده لا شريك له بل لم يعرفوا من معناه إلا ما أقربه المؤمن والكافر واجتمع

59

عليه الخلق كلهم من أن معناها لا قادر على الاختراع أو أن معناها الإله هو الغني عما سواه الفقير اليه كل ما عداه ونحو ذلك فهذا حق وهو من لوازم الالهية ولكن ليس هو المراد بمعنى لا إله إلا الله فان هذا القدر قد عرفه الكفار وأقروا به ولم يدعوا في آلهتهم شيئا من ذلك بل يقرون بفقرهم وحاجتهم إلى الله وإنما كانوا يعبدونهم على معنى أنهم وسائط وشفعاء عند الله في تحصيل المطالب ونجاح المآرب وإلا فقد سلموا الخلق والملك والرزق والإحياء والإماتة والأمر كله لله وحده لا شريك له وقد عرفوا معنى لا إله إلا الله وأبوا عن النطق والعمل بها فلم ينفعهم توحيد الربوبية مع الشرك في الالهية كما قال تعالى وما يؤمن اكثرهم بالله إلا وهم مشركون وعباد القبور نطقوا بها وجهلوا معناها وأبوا عن الإتيان به فصاروا كاليهود الذين يقولونها ولا يعرفون معناها ولا يعملون به فتجد أحدهم يقولها وهو يأله غير الله بالحب والاجلال والتعظيم والخوف والرجاء والتوكل والدعاء عند الكرب ويقصده بأنواع العبادة الصادرة عن تأله قلبه لغير الله مما هو أعظم مما يفعله المشركون الأولون ولهذا إذا توجهت على أحدهم اليمين بالله تعالى أعطاك ما شئت من الايمان صادقا أو كاذبا ولو قيل له احلف بحياة الشيخ فلان أو بتربته ونحو ذلك لم يحلف إن كان كاذبا وما ذاك إلا لأن المدفون في التراب أعظم في قلبه من رب الأرباب وما كان الأولون هكذا بل كانوا إذا أرادوا التشديد في اليمين حلفوا بالله تعالى كما في قصة القسامة التي وقعت في الجاهلية وهي في صحيح البخاري وكثير منهم وأكثرهم يرى أن الاستغاثة بإلهه الذي يعبده عند قبره أو غيره أنفع وأنجح من الاستغاثة بالله في المسجد ويصرحون بذلك والحكايات عنهم بذلك فيها

60

أطول وهذا امر ما بلغ إليه شرك الاولين وكلهم إذا أصابتهم الشدائد أخلصوا للمدفونين في التراب وهتفوا باسمائهم ودعوهم ليكشفوا ضر المصاب في البر والبحر والسفر والإياب وهذا أمر ما فعله الأولون بل هم في هذه الحال يخلصون للكبير المتعال فاقرأ قوله تعالى فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين الاية وقوله ثم اذا مسكم الضر فإليه تجأرون ثم إذا كشف الضر عنكم اذا فريق منكم بربهم يشركون وكثير منهم قد عطلوا المساجد وعمروا القبور والمشاهد فإذا قصد أحدهم القبر الذي يعظمه أخذ في دعاء صاحبه باكيا خاشعا ذليلا خاضعا بحيث لا يحصل له ذلك في الجمعة والجماعات وقيام الليل وإدبار الصلوات فيسألونهم مغفرة الذنوب وتفريج الكروب والنجاة من النار وأن يحطوا عنهم الأوزار فكيف يظن عاقل فضلا عن عالم أن التلفظ بلا إله إلا الله مع هذه الأمور تنفعهم وهم إنما قالوها بألسنتهم وخالفوها باعتقادهم وأعمالهم ولا ريب أنه لو قالها أحد من المشركين ونطق أيضا بشهادة أن محمدا رسول الله ولم يعرف معنى الإله ولا معنى الرسول وصلى وصام وحج ولا يدري ما ذلك إلا أنه رأى الناس يفعلونه فتابعهم ولم يفعل شيئا من الشرك فانه لا يشك أحد في عدم إسلامه وقد أفتى بذلك فقهاء المغرب كلهم في أول القرن الحادي عشر أو قبله في شخص كان كذلك كما ذكره صاحب الدر الثمين في شرح المرشد المعين من المالكية ثم قال شارحه وهذا الذي افتوا به جلي في غاية الجلاء لا يمكن إن يختلف فيه اثنان انتهى ولا ريب ان عباد القبور أشد من هذا لأنهم اعتقدوا الالهية في أرباب متفرقين فإن قيل قد تبين معني الإله والالهية فما الجواب عن قول من قال بان معنى الإله القادر على الاختراع ونحو هذه العبارة

61

قيل الجواب من وجهين أحدهما أن هذا قول مبتدع لا يعرف أحد قاله من العلماء ولا من أئمة اللغة وكلام العلماء وأئمة اللغة هو معنى ما ذكرنا كما تقدم فيكون هذا القول باطلا الثاني على تقدير تسليمه فهو تفسير باللازم للاله الحق فان اللازم له أن يكون خالقا قادرا على الاختراع ومتى لم يكن كذلك فليس بإله حق وإن سمي الها وليس مراده أن من عرف أن الاله هو القادر على الاختراع فقد دخل في الإسلام وأتى بتحقيق المرام من مفتاح دار السلام فان هذا لا يقوله أحد لأنه يستلزم أن يكون كفار العرب مسلمين ولو قدر أن بعض المتأخرين أرادوا ذلك فهو مخطىء يرد عليه بالدلائل السمعية والعقلية قوله وأن محمدا عبده ورسوله أي وشهد بذلك وهو معطوف على ما قبله فتكون الشهادة واقعة على هذه الجملة وما قبلها وما بعدها فإن العامل في المعطوف وما عطف عليه واحد ومعنى العبد هنا يعني المملوك العابد أي مملوك لله تعالى وليس له من الربوبية والإلهية شيء إنما هو عبد مقرب عند الله و رسوله أرسله الله كما قال تعالى وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا الآيات قيل وقدم العبد هنا على الرسول ترقيا من الأدنى إلى الأعلى وجمع بينهما لدفع الإفراط والتفريط الذي وقع في شأن عيسى عليه السلام وقد أكد النبي صلى الله عليه وسلم هذا المعنى بقوله لاتطروني كما أطرت النصارى ابن مريم إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله وذلك يتضمن تصديقه فيما أخبر وطاعته فيما أمر والإنتهاء عما عنه زجر فلا يكون كامل الشهادة له بالرسالة من ترك أمره وأطاع غيره وارتكب نهيه

62

قوله وان عيسى عبد الله ورسوله وفي رواية وابن أمته أي خلافا لما يعتقده النصارى أنه الله أو ابن الله تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون عالم الغيب والشهادة فتعالى عما يشركون فيشهد بأنه عبد الله أي عابد مملوك لله لا مالك فليس له من الربوبية و لا من الالهية شيء ورسول صادق خلافا لقول اليهود إنه ولد بغي بل يقال فيه ما قال عن نفسه كما قال تعالى قال إني عبد الله أتاني الكتاب وجعلني نبيا الآيات وقال تعالى لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون قال القرطبي ويستفاد منه ما يلقنه النصراني إذا أسلم قوله وكلمته إنما سمي عليه السلام كلمة الله لصدوره بكلمة كن بلا أب قاله قتادة وغيره من السلف قال الامام أحمد فيما أملاه في الرد على الجهمية الكلمة التي ألقاها الى مريم حين قال له بكن فكان عيسى كن وليس عيسى هو بكن ولكن كن كان فكن من الله قول وليس كن مخلوقا وكذب النصارى والجهمية على الله في أمر عيسى وذلك أن الجهمية قالت عيسى روح الله وكلمته إلا أن الكلمة مخلوقة وقالت النصارى عيسى روح الله من ذات الله وكلمة الله من ذات الله كما يقال إن هذه الخرقة من هذا الثوب وقلنا نحن إن عيسى بالكلمة كان وليس عيسى هو الكلمة انتهى يعني به ما قال قتادة وغيره

63

قوله ألقاها الى مريم قال ابن كثير خلقه بالكلمة التي أرسل بها جبرائيل عليه السلام إلى مريم فنفخ فيها من روحه بإذن ربه عز وجل فكان عيسى باذن الله عز وجل وصارت تلك النفخة التي نفخها في جيب درعها فنزلت حتى ولجت فرجها بمنزلة لقاح الأب الأم والجميع مخلوق لله عز وجل ولهذا قيل لعيسى إنه كلمة الله وروح منه لأنه لم يكن له أب تولد منه وإنما هو ناشىء عن الكلمة التي قال له كن فكان والروح التي أرسل بها جبرائيل عليه السلام قوله وروح منه قال أبي بن كعب عيسى روح من الأرواح التي خلقها الله عز وجل واستنطقها بقوله ألست بربكم قالوا بلى بعثه الله إلى مريم فدخل فيها رواه عبد بن حميد وعبد الله بن أحمد في زوائد المسند وابن جرير وابن ابي حاتم وغيرهم وقال أبو روق وروح منه أي نفخة منه إذ هي من جبرائيل بأمره وسمي روحا لأنه حدث من نفخة جبرائيل عليه السلام وقال الامام أحمد وروح منه يقول من أمره كان الروح فيه كقوله وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا منه يقول من أمره وقال شيخ الاسلام المضاف إلى الله تعالى إذا كان معنى لا يقوم بنفسه ولا بغيره من المخلوقات وجب أن يكون صفة لله تعالى قائما به وامتنع أن تكون إضافته إضافة مخلوق مربوب وإن كان المضاف عينا قائمة بنفسها كعيسى وجبرائيل عليهما السلام وأرواح بني آدم امتنع أن تكون صفة لله تعالى

64

لأن ما قام بنفسه لا يكون صفة لغيره لكن الأعيان المضافة إلى الله تعالى على وجهين أحدهما أن تكون تضاف إليه لكونه خلقها وأبدعها فهذا شامل لجميع المخلوقات كقولهم سماء الله وأرض الله ومن هذا الباب فجميع المخلوقين عبيدالله وجميع المال مال الله وجميع البيوت والنوق لله الوجه الثاني أن يضاف اليه لما خصه به من معنى يحبه ويأمر به ويرضاه كما خص البيت العتيق بعبادة فيه لا تكون في غيره وكما يقال عن مال الفيء والخمس هو مال الله ورسوله ومن هذا الوجه فعباد الله هم الذين عبدوه وأطاعوا أمره فهذه إضافة تتضمن ألوهيته وشرعه ودينه وتلك إضافة تتضمن ربوبيته وخلقه انتهى ملخصا والمقصود منه أن إضافة روح إلى الله هو من الوجه الثاني والله أعلم قوله والجنة حق والنار حق أي وشهد أن الجنة التي أخبر بها الله بها في كتابه أنه أعدها لمن آمن به وبرسوله حق أي ثابتة لا شك فيها وشهد أن النار التي أخبر الله في كتابه أنه أعدها للكافرين به وبرسله حق كذلك كما قال تعالى سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض أعدت للذين آمنوا بالله ورسله الاية وقال تعالى فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين وفيهما دليل على أن الجنة والنار مخلوقتان الآن خلافا لأهل البدع الذين قالوا لا يخلقان إلا في يوم القيامة وفيه دليل على المعاد وحشر الأجساد قوله أدخله الله الجنة على ما كان من العمل هذه الجملة جواب الشرط وفي رواية أدخله الله الجنة من أي أبواب الجنة الثمانية قال القاضي عياض

65

وما ورد في حديث عبادة يكون خصوصا لمن قال ما ذكره صلى الله عليه وسلم وقرن بالشهادتين حقيقة الايمان والتوحيد الذي ورد في حديثه فيكون له من الأجر ما يرجح على سيئاته ويوجب له المغفرة والرحمة ودخول الجنة لأول وهلة قال ولهما من حديث عتبان فإن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله قوله ولهما أي للبخاري ومسلم في صحيحيهما وهذا الحديث طرف من حديث طويل أخرجه الشيخان كما قال المصنف وعتبان بكسر المهمله بعدها مثناة فوقيه ثم موحدة ابن مالك بن عمر بن العجلان الأنصاري من بني سالم بن عوض صحابي شهير مات في خلافة معاوية قوله فان الله حرم على النار الحديث اعلم أنه قد وردت أحاديث ظاهرها أنه من أتى بالشهادتين حرم على النار كهذا الحديث وحديث أنس قال كان النبي صلى الله عليه وسلم ومعاذ رديفه على الرجل فقال يا معاذ قال لبيك يا رسول وسعديك قال ما من عبد يشهد أن لا إله إلا الله وان محمد رسول الله إلا حرمه على النار قال يا رسول الله إلا أخبر بها الناس فيستبشروا قال إذا يتكلوا فأخبر بها معاذ عند موته تأثما أخرجاه ولمسلم عن عبادة مرفوعا من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله حرم الله عليه النار ووردت أحاديث فيها أن من أتى بالشهادتين دخل الجنة وليس فيها أنه يحرم على النار منها حديث عبادة الذي تقدم قبل هذا وحديث أبي هريرة أنهم كانوا

66

مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك الحديث وفيه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله لا يلقى الله عبد بهما غير شاك فيهما فيحجب عن الجنة رواه مسلم وحديث أبي ذر في الصحيحين مرفوعا ما من عبد قال لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة الحديث وأحسن ما قيل في معناه ما قاله شيخ الإسلام وغيره ان هذه الأحاديث إنما هي فيمن قالها ومات عليها كما جاءت مقيدة وقالها خالصا من قلبه مستيقنا بها قلبه غير شاك فيها بصدق ويقين فإن حقيقة التوحيد انجذاب الروح الى الله جملة فمن شهد أن لا إله إلا الله خالصا من قلبه دخل الجنة لأن الإخلاص هو انجذاب القلب الى الله تعالى بأن يتوب من الذنوب توبة نصوحا فإذا مات على تلك الحال نال ذلك فانه قد تواترت الأحاديث بأنه يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة وما يزن خردلة وما يزن ذرة وتواترت بأن كثيرا ممن يقول لا إله إلا الله يدخل النار ثم يخرج منها وتواترت بأن الله حرم على النار أن تأكل أثر السجود من ابن آدم فهؤلاء كانوا يصلون ويسجدون لله وتواترت بأنه يحرم على النار من قال لا إله إلا الله ومن شهد أن لا إله إلا الله وان محمد رسول الله لكن جاءت مقيدة بالقيود الثقال وأكثر من يقولها لا يعرف الإخلاص ولا اليقين ومن لا يعرف ذلك يخشى عليه أن يفتن عنها عند الموت فيحال بينه وبنيها وأكثر من يقولها إنما يقولها تقليدا أو عادة ولم يخالط الإيمان بشاشه قلبه وغالب من يفتن عند الموت وفي القبور أمثال هؤلاء كما في الحديث سمعت الناس يقولون شيئا فقلته وغالب أعمال هؤلاء إنما هو تقليد واقتداء بأمثالهم

67

وهم أقرب الناس من قوله تعالى إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون وحينئذ فلا منافاه بين الأحاديث فانه إذا قالها باخلاص ويقين تام لم يكن في هذه الحال مصرا على ذنب أصلا فإن كمال اخلاصه ويقينه يوجب أن يكون الله أحب اليه من كل شيء فإذا لا يبقى في قلبه إرادة لما حرم الله ولا كراهية لما أمر الله وهذا هو الذي يحرم من النار وإن كانت له ذنوب قبل ذلك فإن هذا الإيمان وهذه التوبة وهذا الإخلاص وهذه المحبة وهذا اليقين لا يتركون له ذنبا إلا يمحى كما يمحى الليل بالنهار فإذا قالها على وجه الكمال المانع من الشرك الأكبر والأصغر فهذا غير مصر على ذنب أصلا فيغفر له ويحرم على النار وان قالها على وجه خلص به من الشرك الأكبر دون الأصغر ولم يأت بعدها بما يناقض ذلك فهذه الحسنة لا يقاومها شيء من السيئات فيرجح بها ميزان الحسنات كما في حديث البطاقة فيحرم على النار ولكن تنقص درجته في الجنة بقدر ذنوبه وهذا بخلاف من رجحت سيئاته على حسناته ومات مصرا على ذلك فإنه يستوجب النار وان قال لا إله إلا الله وخلص بها من الشرك الأكبر لكنه لم يمت على ذلك بل أتى بعد ذلك بسيئات رجحت على حسنة توحيده فانه في حال قولها كان مخلصا لكنه أتى بذنوب أوهنت ذلك التوحيد والإخلاص فأضعفته وقويت نار الذنوب حتى أحرقت ذلك بخلاف المخلص المستيقن فإن حسناته لا تكون إلا راجحة على سيئاته ولا يكون مصرا على سيئة فإن مات على ذلك دخل الجنة وإنما يخاف على المخلص أن يأتي بسيئات راجحة يضعف إيمانه فلا يقولها باخلاص ويقين مانع من جميع السيئات ويخشى عليه من الشرك الأكبر والأصغر

68

فإن سلم من الأكبر بقي معه من الأصغر فيضيف الى ذلك سيئات تنضم الى هذا الشرك فيرجح جانب السيئات فإن السيئات تضعف الإيمان واليقين فيضعف بذلك قول لا اله إلا الله فيمتنع الإخلاص في القلب فيصير المتكلم بها كالهاذي أو النائم أو من يحسن صوته بآية من القرآن من غير ذوق طعم ولا حلاوة فهؤلاء لم يقولوها بكمال الصدق واليقين بل يأتون بعدها بسيئات تنقص ذلك الصدق واليقين بل يقولونها من غير يقين وصدق ويموتون من ذلك ولهم سيئات كثيرة تمنعهم من دخول الجنة وإذا كثرت الذنوب ثقل على اللسان قولها وقسى القلب عن قولها وكره العمل الصالح وثقل عليه سماع القرآن واستبشر بذكر غيره واطمأن الى الباطل واستحلى الرفث ومخالطة أهل الغفلة وكره مخالطة أهل الحق فمثل هذا إذا قالها قال بلسانه ما ليس في قلبه وبغيه مالا يصدق عمله كما قال الحسن ليس الايمان بالتحلي ولا بالتمني ولكن ما وقر في القلوب وصفته الاعمال فمن قال خيرا وعمل خيرا قبل منه ومن قال شرا وعمل شرا لم يقبل منه وقال بكر بن عبدالله المزني ما سبقهم أبو بكر بكثرة صيام ولا صلاة ولكن بشيء وقر في قلبه فمن قال لاإله إلا الله ولم يقم بموجبها بل اكتسب مع ذلك ذنوبا وسيئات وكان صادقا في قولها موقنا بها لكن ذنوبه أضعاف أضعاف صدقه ويقينه وانضاف الى ذلك الشرك الأصغر العملي رجحت هذه الأشياء على هذه الحسنة ومات مصرا على الذنوب بخلاف من يقولها بيقين وصدق تام فإنه لا يموت مصرا على الذنوب إما أن لا يكون مصرا على سيئة أصلا أو يكون توحيده المتضمن لصدقه ويقينه رجح حسناته والذين يدخلون النار ممن يقولها قد فاتهم أحد هذين الشرطين إما أنهم لم يقولها بالصدق واليقين التامين المنافيين للسيئات أو لرجحان السيئات أو قالوها واكتسبوا بعد

69

ذلك سيئات رجحت على حسناتهم ثم ضعف لذلك صدقهم ويقينهم ثم لم يقولوها بعد ذلك بصدق ويقين تام لأن الذنوب قد أضعف ذلك الصدق واليقين من قلوبهم فقولها من مثل هؤلاء لا يقوى على محو السيئات بل ترجح سيئاتهم على حسناتهم انتهى ملخصا وقد ذكر معناه غيره كابن القيم وابن رجب والمنذري و القاضي عياض وغيرهم وحاصله أن لا أله إلا الله سبب لدخول الجنة والنجاة من النار ومقتض لذلك ولكن المقتضي لا يعمل عمله الا بإستجماع شروطه وانتفاء موانعه فقد يتخلف عنه مقتضاه لفوات شرط من شروطه أو لوجود مانع ولهذا قيل للحسن إن ناسا يقولون من قال لا إله إلا الله دخل الجنة فقال من قال لا إله إلا الله فإدى حقها وفرضها دخل الجنة وقال وهب بن منبه لمن سأله أليس لا إله إلا الله مفتاح الجنه قال بلى ولكن ما من مفتاح إلا وله أسنان فإن جئت بمفتاح له اسنان فتح لك وإلا لم يفتح ويدل على ذلك أن الله رتب دخول الجنة على الإيمان والأعمال الصالحة وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين عن أبي أيوب ان رجلا قال يا رسول الله اخبرني بعمل يدخلني الجنة فقال تعبد الله ولا تشرك به شيئا وتقيم الصلاة وتؤتى الزكاة وتصل وتصل الرحم وفي المسند عن بشر بن الخصاصية قال اتيت النبي صلى الله عليه وسلم لأبايعه فاشترط علي شهادة ان لا أله إلا الله وأن ومحمدا عبده ورسوله وان اقيم الصلاة وأن أوتي الزكاة وأن أحج حجة الإسلام وأن اصوم رمضان وان أجاهد في سبيل الله فقلت يا رسول الله اما اثنتين فو الله ما أطيقها الجهاد و الصدقة فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم يده ثم حركها وقال فلا جهاد ولا صدقة فبم تدخل الجنة إذا قلت يا رسول الله أبايعك عليهن كلهن ففي الحديث ان الجهاد والصدقة شرط في

70

دخول الجنة مع حصول التوحيد والصلاة والحج والصيام والأحاديث في هذا الباب كثيرة وفي الحديث دليل على أنه لا يكفي في الإيمان النطق من غير اعتقاد وبالعكس وفيه تحريم النار على أهل التوحيد الكامل وفيه أن العمل لا ينفع إلا إذا كان خالصا لله تعالى قال وعن ابي سعيد الخدري عن رسول صلى الله عليه وسلم قال قال موسى يارب علمني شيئا أذكرك وأدعوك به قال قل يا موسى لا إله إلا الله قال كل عبادك يقولون هذا قال يا موسى لو أن السموات السبع وعامرهن غيري والأرضون السبع في كفة ولا إله إلا الله في كفة مالت بهن لا إله إلا الله رواه ابن حبان والحاكم وصححه أبو سعيد اسمه سعد بن مالك بن سنان بن عبيد الانصاري الخزرجي صحابي جليل وأبوه أيضا كذلك استصغر أبو سعيد بأحد ثم شهد ما بعدها مات بالمدينة سنة ثلاث أو أربع أو خمس وستين وقيل أربع وسبعين قوله أذكرك هو بالرفع خبر مبتدأ محذوف أي أنا أذكرك وقيل بل هو صفة وأدعوك معطوف عليه أي أثني عليك وأحمدك به وأدعوك أي أتوسل به اليك إذا دعوتك قوله قل يا موسى لا إله إلا الله فيه أن الذاكر بها يقولها كلها ولا يقتصر على لفظ الجلالة كما يفعله جهال المتصوفة ولا يقول أيضا هو كما يقوله غلاة جهالهم فإذا أرادوا الدعاء قالوا يا هو فإن ذلك بدعة وضلالة وقد صنف جهالهم في المسألتين وصنف ابن عربي كتابا سماه كتاب الهو قوله كل عبادك يقولون هذا هكذا ثبت بخط المصنف يقولون بالجمع مراعاة لمعنى كل والذي في الأصول يقول بالإفراد مراعاة للفظها دون معناها لكن قد روى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو وهذا الحديث بهذا اللفظ الذي

71

ذكره المصنف أطول منه وفي سنن النسائي والحاكم وشرح السنة بعد قوله كل عبادك يقولون هذا إنما أريد ان تخصني به أي بذلك الشيء من بين عموم عبادك فإن من طبع الإنسان أن لا يفرح فرحا شديدا إلا بشيء يختص به دون غيره كما إذا كانت عنده جوهرة ليست موجودة عند غيره مع أن من رحمة الله وسنته المطردة أن ما اشتدت اليه الحاجة والضرورة كان أكثر وجودا كالبر والملح والماء ونحو ذلك دون الياقوت واللؤلؤ ولما كان بالناس بل بالعالم كله من الضرورة إلى لا إله إلا الله ما لا نهاية في الضرورة فوقه كانت أكثر الإذكار وجودا وأيسرها حصولا وأعظمها معنى والعوام والجهال يعدلون عنها إلى الأسماء الغريبة والدعوات المبتدعة التي لا أصل لها في الكتاب والسنة كالأحزاب والاوراد التي ابتدعها جهلة المتصوفة قوله وعامرهن غيري هو بالنصب عطف على السموات أي لو أن السموات السبع ومن فيهن من العمار غير الله والأرضين السبع ومن فيهن وضعوا في كفة الميزان ولا إله إلا الله في الكفة الأخرى مالت بهن لا إله إلا الله وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم أن نوحا عليه السلام قال لابنه عند موته آمرك بلا إله إلا الله فإن السموات السبع والأرضين السبع لو وضعت في كفة ولا إله إلا الله في كفة رجحت بهن لا إله إلا الله ولو أن السموات السبع والأرضين السبع كن حلقة مبهمة قصمتهن لا إله إلا الله وفيه دليل على أن الله تعالى فوق السموات قوله في كفة بكسر الكاف وتشديد الفاء من كفة الميزان قال بعضهم ويطلق لكل مستدير قوله مالت بهن لا إله إلا الله أى رجحت عليهن وذلك لما اشتملت

72

عليه من توحيد الله الذي هو أفضل الأعمال وأساس الملة ورأس اللبن فمن قالها بإخلاص ويقين وعمل بمقتضاها ولوازمها واستقام على ذلك فهو من الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون كما قال تعالى إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة أن لا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون نزلا من غفور رحيم والحديث يدل على أن لا إله إلا الله أفضل الذكر كما في حديث عبدالله بن عمرو مرفوعا خير الدعاء دعاء يوم عرفة وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير رواه احمد الترمذي وعنه أيضا مرفوعا يصاح برجل من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة فينشر له تسعة وتسعون سجلا كل سجل منها مد البصر ثم يقال أتنكر من هذا شيئا فيقول لا يا رب فيقال ألك عذر أو حسنة فيهاب الرجل فيقول لا فيقال بلى ان لك عندنا حسنات وانه لا ظلم عليك فيخرج له بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله فيقول يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات فيقال إنك لا تظلم فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة فطاشت السجلات وثقلت البطاقة رواه الترمذي وحسنه والنسائي وابن حبان والحاكم وقال صحيج على شرط مسلم وقال الذهبي في تلخيصه صحيح قال ابن القيم فالاعمال لا تتفاضل بصورها وعددها وإنما تتفاضل بتفاضل ما في القلوب فتكون صورة العمل واحدة وبينهما من التفاضل كما

73

بين السماء والأرض قال تأمل حديث البطاقة التي توضع في كفة ويقابلها تسعة وتسعون سجلا كل سجل منها مد البصر فتثقل البطاقة وتطيش السجلات فلا يعذب ومعلوم أن كل موحد له هذه البطاقة وكثير منهم يدخل النار بذنوبه وعن أبي هريرة مرفوعا ما قال عبد لا إله إلا الله مخلصا قط الا فتحت له أبواب السماء حتى تفضي الى العرش ما اجتنبت الكبائر رواه الترمذي وحسنه والنسائي والحاكم وقال على شرط مسلم قوله رواه ابن حبان والحاكم ابن حبان اسمه محمد بن حبان بكسر المهمله وتشديد الموحدة ابن أحمد بن حبان أبو حاتم التميمي البستي الحافظ صاحب التصانيف كالصحيح والتاريخ والضعفاء والثقات وغير ذلك قال الحاكم كان من أوعية العلم في الفقه واللغة والحديث والوعظ ومن عقلاء الرجال مات سنة أربع وخمسين وثلاثمائة بمدينة بست بالمهملة واما الحاكم فاسمه محمد بن عبد الله بن محمد الضبي النيسابوري أبو عبدالله الحافظ ويعرف بابن البيع ولد سنة احدى وعشرين وثلاثمائة وصنف التصانيف كالمستدرك وتاريخ نيسابور وغيرهما ومات سنة خمس واربعمائة قال وللترمذي وحسنه عن أنس سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول قال الله تعالى يا ابن آدم لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لاتشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة الترمذي اسمه محمد بن عيسى بن سورة بفتح المهملة ابن موسى بن الضحاك السلني أبو عيسى صاحب الجامع وأحد الأئمة الحفاظ كان ضرير البصر روى عن قتيبة وهناد والبخاري وخلق ومات سنة تسع وسبعين ومئتين

74

وأنس هو ابن مالك بن النضر الأنصاري الخزرجي خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم خدمه عشر سنين ودعا له النبي صلى الله عليه وسلم فقال اللهم أكثر ماله وولده وأدخله الجنة ومات سنة اثنتين وقيل ثلاث وتسعين وقد جاوز المائة والحديث قطعة من حديث رواه الترمذي من طريق كثير بن فائد حدثنا سعيد بن عبيد سمعت بكر بن عبد الله المزني يقول حدثنا أنس بن مالك قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول قال الله تعالى يا ابن آدم إنك دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالى يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك يا ابن آدم لو أتيتني بقراب الأرض الحديث قال ابن رجب واسناده لا بأس به وسعيد بن عبيد هو الهنائي ذكره ابن حبان في الثقات وقال الدارقطني تفرد به كثير بن فائد عن سعيد بن عبيد مرفوعا قال ابن رجب وتابعه على رفعه أبو سعيد مولى بني هاشم فرواه عن سعيد بن عبيد مرفوعا وقد رواه الإمام احمد من حديث أبي ذر بمعناه واخرجه الطبراني من حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم وروى مسلم من حديث أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال يقول الله من تقرب مني شبرا تقربت منه ذراعا الحديث وفيه ومن لقيني بقراب الأرض خطيئة لا لا يشرك بي شيئا لقيته بقرابها مغفرة قوله لو أتيتني بقراب الأرض قراب الأرض بضم القاف وقيل بكسرها والضم أشهر وهو ملؤها أو ما يقارب ملأها قوله ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا شرط ثقيل في الوعد بحصول المغفرة وهو السلامة من الشرك كثيره وقليله صغيره وكبيره ولا يسلم من ذلك إلا من سلمه الله وذلك هو القلب السليم كما قال تعالى يوم لا ينفع مال ولا

75

بنون الا من أتى الله بقلب سليم قال ابن رجب من جاء مع التوحيد بقراب الأرض خطايا لقيه الله بقرابها مغفرة لكن هذا مع مشيئة الله عز وجل فإن شاء غفر له وأن شاء أخذه بذنوبه ثم كان عاقبته أن لا يخلد في النار بل يخرج منها ثم يدخل الجنة فان كمل توحيد العبد وإخلاصه لله تعالى فيه وقام بشروطه بقلبه ولسانه وجوارحه او بقلبه ولسانه عند الموت أوجب ذلك مغفرة ما سلف من الذنوب كلها ومنعه من دخول النار بالكلية فمن تحقق بكلمة التوحيد قلبه أخرجت منه كل ما سوى الله محبة وتعظيما وإجلالا ومهابة وخشية وتوكلا وحينئذ تحرق ذنوبه وخطاياه كلها ولو كانت مثل زبد البحر وربما قلبتها حسنات فإن هذا التوحيد هو الإكسير الأعظم فلو وضع منه ذرة على جبال الذنوب والخطايا لقلبها حسنات وقال شيخ الإسلام الشرك نوعان أكبر وأصغر فمن خلص منهما وجبت له الجنة ومن مات على الأكبر وجبت له النار ومن خلص من الأكبر وحصل له بعض الأصغر مع حسنات راجحة على ذنوبه دخل الجنة فإن تلك الحسنات توحيد كثير مع يسير من الشرك الأصغر ومن خلص من الأكبر ولكن كثر الأصغر حتى رجحت به سيئاته دخل النار فالشرك يؤاخذ به العبد إذا كان أكبر أو كان كثيرا أصغر والأصغر القليل في جانب الإخلاص الكثير لا يؤاخذ به وفي هذه الأحاديث كثرة ثواب التوحيد وسعة كرم الله وجوده ورحمته حيث وعد عباده أن العبد لو أتاه بملء الأرض خطايا وقد مات على التوحيد فإنه يقابله بالمغفرة الواسعة التي تسع ذنوبه والرد على الخوارج الذين

76

يكفرون المسلم بالذنوب وعلى المعتزلة الذين يقولون بالمنزلة بين المنزلتين وهي منزلة الفاسق فيقولون ليس بمؤمن ولا كافر ويخلد في النار والصواب في ذلك قول أهل السنة أنه لا يسلب عنه اسم الايمان على الإطلاق ولا يعطاه عى الاطلاق بل يقال هو مؤمن ناقص الإيمان أو مؤمن عاص أو مؤمن بايمانه فاسق بكبيرته وعلى هذا يدل الكتاب والسنة واجماع سلف الأمة وقال المصنف تأمل الخمس اللواتي في حديث عبادة فإنك إذا جمعت بينه وبين حديث عتبان تبين لك معنى قول لا إله إلا الله وتبين لك خطأ المغرورين وفيه إن الأنبياء يحتاجون للتنبيه على معنى قول لا إله إلا اللهوفيه التنبيه لرجحانها بجميع المخلوقات مع أن كثيرا ممن يقولها يخف ميزانه وفيه أنك إذا عرفت حديث أنس عرفت أن قوله في حديث عتبان ان الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله إذا ترك الشرك ليس قولها باللسان انتهى ملخصا باب من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب أي ولا عذاب وتحقيق التوحيد هو معرفته والاطلاع على حقيقته والقيام بها علما وعملا وحقيقة ذلك هو انجذاب الروح الى الله محبة وخوفا وإنابة وتوكلا ودعاء واخلاصا وإجلالا وهيبة وتعظيما وعبادة وبالجملة فلا يكون في قلبه شيء لغير الله ولا إرادة لما حرم الله ولا كراهة لما أمر الله وذلك هو حقيقة لا إله إلا الله فإن الإله هو المألوه المعبود ووما أحسن ما قال ابن القيم فلو احد كن واحدا في واحد أعني سبيل الحق والإيمان وذلك هو حقيقة الشهادتين فمن قام بهما على هذا الوجه فهو من السبعين ألفا الذين يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب

77

قوله وقال تعالى ان ابراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين مناسبة الآية للترجمة من جهة أن الله تعالى وصف ابراهيم عليه السلام في هذه الآية بهذه الصفات الجليلة التي هي أعلى درجات تحقيق التوحيد ترغيبا في اتباعه في التوحيد وتحقيق العبودية باتباع الأوامر وترك النواهي فمن اتبعه في ذلك فإنه يدخل الجنة بغير حساب ولا عذاب كما يدخلها إبراهيم عليه السلام الاولى أنه كان أمة أي قدوة وإماما معلما للخير وإماما يقتدى به روي معناه عن ابن مسعود وما كان كذلك إلا لتكميله مقام الصبر واليقين اللذين بهما تنال الإمامة في الدين كما قال تعالى وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون الثانية أنه كان قانتا لله أي خاشعا مطيعا دائما على عبادته وطاعته كما قال شيخ الإسلام القنوت في اللغة دوام الطاعة والمصلي إذا طال قيامه أو ركوعه او سجوده فهو قانت في ذلك كله قال تعالى امن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه فجعله قانتا في حال السجود والقيام انتهى فوصفه في هاتين الصفتين بتحقيق العبودية في نفسه أولا علما وعملا وثانيا دعوة وتعليما واقتداء به وما كان يقتدى به إلا لعمله به في نفسه ووصفه في الثانية بالاستقامة على ذلك كما قال تعالى ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال انني من المسلمين فتضمنت العلم والعمل والاستقامة والدعوة الدعوة الثالثة انه كان حنيفا والحنف الميل أي مائلا منحرفا قصدا عن الشرك كما قال تعالى حكاية عنه وجهت وجهي للذي فطر السموات

78

والأرض حنيفا وما أنا من المشركين قال تعالى فأقم وجهك للدين حنيفا الرابعة أنه ما كان من المشركين أي هو موحد خالص من شوائب الشرك مطلقا فنفى عنه الشرك على أبلغ وجوه النفي بحيث لا ينسب اليه شرك وان قل تكذيبا لكفار قريش في زعمهم أنهم على ملة ابراهيم عليه السلام وقال المصنف في الكلام على هذه الآيه إن إبراهيم كان أمة لئلا يستوحش سالك الطريق من قلة السالكين قانتا لله لا للملوك ولا للتجار المترفين حنيفا لا يميل يمينا ولا شمالا كفعل العلماء المفتونين ولم يك من المشركين خلافا لمن كثر سوادهم وزعم انه من المسلمين قلت وهو من أحسن ما قيل في تفسير هذه الآية لكنه ينبه بالأدنى على الأعلى وقوله لئلا يستوحش تنبيه على بعض معنى الآية وهو المنفرد وحده في الخير وقد روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله إن إبراهيم كان أمة قانتا كان على الإسلام ولم يكن في زمانه من قومه أحد على الإسلام غيره فلذك قال الله كان أمة قانتا ولا تنافي بينه وبين كلام ابن مسعود المتقدم قوله وقال والذين هم بربهم لا يشركون مناسبة الآية للترجمة من جهة أن الله تعالى وصف المؤمنين السابقين إلى الجنات بصفات أعظمها الثناء عليهم بأنهم بربهم لا يشركون أي شيئا من الشرك في وقت من الأوقات فإن الإيمان النافع مطلقا لا يوجد إلا بترك الشرك مطلقا ولما كان المؤمن قد يعرض له ما يقدح في إيمانه من شرك جلي أو خفي نفى عنهم ذلك ومن كان كذلك فقد بلغ من تحقيق التوحيد النهاية وفاز بأعظم التجارة ودخل الجنة بلا حساب و لا عذاب

79

قال ابن كثير والذين هم بربهم لا يشركون أي لا يعبدون معه غيره بل يوحدونه ويعلمون أنه لا إله إلا الله أحد صمد لم يتخذ صاحبة ولا ولدا وأنه لا نظير له قال عن حصين بن عبد الرحمن قال كنت عند سعيد بن جبير فقال أيكم رأى الكوكب الذي انقض البارحة فقلت أنا ثم قلت أما إني لم أكن في صلاة ولكني لدغت قال فما صنعت قلت ارتقيت قال فما حملك على ذلك قلت حديث حدثناه الشعبي قال وما حدثكم الشعبي قلت حدثنا عن بريدة بن الحصيب أنه قال لا رقية إلا من عين أو وحمة فقال قد أحسن من انتهى إلى ما سمع ولكن حدثنا ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال عرضت علي الأمم فرأيت النبي ومعه الرهط والنبي ومعه الرجل والرجلان والنبي وليس معه أحد إذ رفع لي سواد عظيم فظننت أنهم أمتي فقيل لي هذا موسى وقومه فنظرت فإذا سواد عظيم فقيل لي هذه أمتك ومعهم سبعون ألفا يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب ثم نهض فدخل منزله فخاض الناس في أولئك فقال بعضهم فلعلهم الذين صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال بعضهم فلعلهم الذين ولدوا في الإسلام فلم يشركوا بالله شيئا فخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه فقال هم الذين لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون فقام عكاشة بن محصن فقال يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم فقال انت منهم ثم قال رجل آخر فقال ادع الله أن يجعلني منهم فقال سبقك بها عكاشة ش هكذا اورد المصنف هذا الحديث غير مزور وقد رواه البخاري مختصرا ومطولا ومسلم واللفظ له والترمذي والنسائي

80

قوله عن حصين بن عبد الرحمن هو السلمي أبو الهذيل الكوفي ثقة تغير حفظه في الآخر مات سنة ست وثلاثين ومائة وله ثلاث وتسعون سنه وسعيد بن جبير هو الامام الفقيه من جلة أصحاب ابن عباس روايته عن عائشة وأبي موسى مرسلة وهو كوفي مولى لبني أسد قتل بين يدي الحجاج سنة خمس وتسعين ولم يكمل الخمسين قوله انقض هو بالقاف والضاد المعجمة أي سقط والبارحة هي أقرب ليلة مضت قال أبو العباس ثعلب يقال قبل الزوال رأيت الليلة وبعد الزوال رأيت البارحة وهكذا قال غيره وهي مشتقة من برح إذا زال قوله أما إني لما كن في صلاة القائل هو حصين خاف أن يظن الحاضرون انه ما رأي النجم إلا لأنه يصلي فأراد أن ينفي عن نفسه ايهام العبادة وأنه يصلي مع أنه لم يكن فعل ذلك وهذا يدل على فضل السلف الصالح وحرصهم على الاخلاص وشدة ابتعادهم عن الرياء بخلاف من يقول فعلت وفعلت ليوهم الأغمار أنه من الاولياء وربما علق السبحه في عنقه أو أخذها في يده يمشي بها بين الناس اعلاما للناس أنه يسبح عدد ما فيها من الخرز وقد قال الإمام محمد بن وضاح حدثنا أسد عن جرير بن حازم عن الصلت بن برهام قال مر ابن مسعود بامرأة تسبح به فقطعه وألقاها ثم مر برجل يسبح بحصى فضربه برجله ثم قال لقد جئتم ببدعة ظلما أو لقد غلبتم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم علما قوله ولكني لدغت هو بضم أوله وكسر ثانية مبني لما يسم فاعله أي لذغته عقرب أو نحوها قوله قلت ارتقيت لفظ مسلم استرقيت أي طلبت من يرقينى قوله فما حمله على ذلك فيه طلب الحجة على صحة المذهب

81

قوله حديث حدثناه الشعبي حملني عليه حديث حدثناه الشعبي واسمه عامر بن شرحبيل الهمداني بسكون الميم الشعبي ولد في خلافة عمر وهو من ثقات التابعين وحفاظهم وفقهائهم مات سنة ثلاثة ومائة قوله عن بريدة بضم أوله وفتح ثانيه تصغير بردة بن الحصيب بضم الحاء وفتح الصاد المهملتين ابن عبد الله بن الحارث الأسلمي صحابي شهير مات سنة ثلاث وستين قاله ابن سعد قوله لارقية إلا من عين أو حمة هكذا روي هنا موقوفا وقد رواه أحمد وابن ماجه عنه مرفوعا ورواه أحمد وأبو داود والترمذي عن عمران بن حصين به مرفوعا قال الهيثمي رجال أحمد ثقات والعين هي إصابة العائن غيره بعينه والحمة بضم المهملة وتخفيف الميم سم العقرب وشبهها قال الخطابي ومعنى الحديث لا رقية أشفى أو أولى من رقية العين والحمة وقد رقي النبي صلى الله عليه وسلم ورقي قلب وسيأتي ما يتعلق بالرفى أن نشاء الله تعالى قوله قد أحسن من انتهى الى ما سمع أي من أخذ بما بلغه من العلم وعمل به فقد أحسن لأنه أدى ما وجب وعمل بما بلغه من العلم بخلاف من يعمل بجهل أو لا يعمل بما يعلم فإنه مسيء آثم وفيه فضيلة علم السلف وحسن أدبهم وهديهم وتلطفهم في تبليغ العلم وارشادهم من أخذ بشيء وإن كان مشروعا الى ما هو أفضل منه وإن من عمل بما بلغه عن الله وعن رسوله فقد أحسن ولا يتوقف العمل به على معرفة كلام أهل المذاهب أو غيرهم قوله ولكن حدثنا ابن عباس هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب الهاشمي ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم دعا له النبي صلى الله عليه وسلم فقال اللهم فقهه في الدين وعلمه التاويل فكان كذلك قال عمر لوأدرك ابن عباس اسناننا ما عشره منا أحد

82

أي ما بلغ عشره في العلم مات بالطائف سنة ثمان وستين قال المصنف فيه عمق علم السلف لقوله قد أحسن من انتهى الى ما سمع ولكن كذا وكذا فعلم أن الحديث الأول لا يخالف الثاني قوله عرضت علي الأمم في رواية الترمذي والنسائي من رواية عبشر ابن القاسم عن حصين بن عبدالرحمن أن ذلك كان ليلة الاسراء ولفظة لما أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم جعل يمر بالنبي ومعه الواحد قال الحافظ فإن كان ذلك محفوظا كانت فيه قوة لمن ذهب الى تعدد الاسراء وأنه وقع بالمدينة أيضا غير الذي وقع بمكة كذا قال وليس بظاهر بل قد يكون رأي ذلك ليلة الاسراء ولم يحدث به الا في المدينة وليس في الحديث ما يدل على أنه حدث به قريبا من العرض عليه قوله فرأيت النبي ومعه الرهط هو الجماعه دون العشرة قاله النووي قوله والنبي ومعه الرجل والرجلان والنبي وليس معه أحد فيه أن الأنبياء متفاوتون في عدد أتباعهم وأن بعضهم لا يتبعه أحد وفيه الرد على من احتج بالأكثر وزعم أن الحق محصور فيهم وليس كذلك بل الواجب اتباع الكتاب والسنة مع من كان وأين كان قوله اذ رفع لي سواد عظيم السواد ضد البياض والمراد هنا الشخص الذي يرى من بعيد أي رفع لي أشخاص كثيرة قوله فظننت أنهم أمتي استشكل الاسماعيلي كونه صلى الله عليه وسلم لم يعرف أمته حتى ظن أنهم أمة موسى عليه السلام وقد ثبت حديث أبي هريرة كيف تعرف من لم تر من أمتك فقال إنهم غر محجلون من أثر الوضوء وأجاب بأن الأسخاص التي رآها في الأفق لا يدرك منها الا الكثرة من غير تمييز لأعيانهم وأما ما في حديث أبي هريرة فمحمول على ما إذا قربوا منه

83

ذكره الحافظ قوله فقيل لي هذا موسى وقومه أي موسى بن عمران كليم الرحمن وقومه الذين اتبعوه وفيه فضيلة موسى وقومه قوله فنظرت فإذا سواد عظيم لفظ مسلم بعد قوله هذا موسى وقومه ولكن انظر الى الأفق فنظرت فإذا سواد عظيم فقيل لى انظر الى الأفق الآخر فنظرت فإذا سواد عظيم فقيل لي هذه أمتك قوله ومعهم سبعون ألفا يدخلون الجنة بلاحساب ولا عذاب أي لتحقيقهم التوحيد قال الحافظ المراد بالمعية المعنوية فإن السبعين ألفا المذكورين من جملة أمته لكن لم يكونوا في الذين عرضوا إذ ذاك فأريد الزيادة في تكثير أمته بإضافة السبعين ألفا اليهم قلت وما قاله ليس بظاهر فإن في رواية ابن فضيل ويدخل الجنة من هؤلاء من أمتك سبعون ألفا وقد ورد في حديث أبي هريره في الصحيحين وصف السبعين ألفا بأنهم تضيء وجوههم إضاءة القمر ليلة البدر وفيهما عنه مرفوعا أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر والذين على آثارهم كأحسن كوكب دري في السماء إضاءة وجاء في أحاديث أخر أن مع السبعين ألفا زيادة عليهم فروى أحمد والبهيقي في البعث حديث أبي هريرة في السبعين ألفا فذكره وزاد قال فاستزدت ربي فزادني مع كل الف سبعين الفا قال الحافظ وسنده جيد وفي الباب عن أبي أيوب عند الطبراني وعن حديفة عند احمد وعن أنس عند البزار وعن ثوبان عند أبي عاصم قال فهذه طرق يقوي بعضها بعضا قال وجاء في احاديث أخر أكثر من ذلك فأخرج الترمذي وحسنه والطبراني وابن حبان في صحيحه من حديث أبي أمامة رفعه وعدني ربي أن يدخل الجنة من أمتي سبعين الفا مع كل ألف سبعين كذا الفا لا حساب عليهم ولا عذاب وثلاث حثيات من حثيات ربي وروى أحمد وأبو يعلى من

84

حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطيت سبعين الفا يدخلون الجنة بغير حساب وجوههم كالقمر ليلة البدر قلوبهم على قلب رجل واحد فاستزدت ربي عز وجل فزادني امع كل واحد سبعين ألفا قال الحافظ وفي سنده راويان احدهما ضعيف الحفظ والآخر لم يسم قلت وفيه أن كل أمة تحشر مع نبيها قوله ثم نهض أي قام قوله فخاض الناس في اولئك قال النووي هو بالخاء والضاد المعجمتين أي تكلموا وتناظروا قال وفي هذا إباحة المناظرة في العلم والمباحثة في نصوص الشرع على وجهة الاستفادة وإظهار الحق وفيه عمق علم السلف لمعرفتهم أنهم لم ينالوا ذلك إلا بعلم وفيه حرصهم على الخير ذكره المصنف قوله فقال هم الذين لا يسترقون هكذا ثبث في الصحيحين وفي رواية مسلم التي ساقها المصنف هنا زيادة ولا يرقون وكان المصنف اختصرها كغيرها لما قيل انها معلولة قال شيخ الإسلام هذه الزيادة وهم من الراوي لم يقل النبي صلى الله عليه وسلم لا يرقون لأن الراقي محسن الى أخيه وقد قال صلى الله عليه وسلم وقد سئل عن الرقى قال من استطاع منكم أن ينفع إخاه فلينفعه وقال لا بأس بالرقى ما لم تكن شركا قال وأيضا فقد رقى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم ورقى النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه قال والفرق بين الراقي والمسترقي أن المسترقي سائل مستعط ملتفت إلى غير الله بقلبه والراقي محسن قال وإنما المراد وصف السبعين الفا بتمام التوكل فلا يسألون غيرهم أن يرقيهم ولا يكويهم ولا يتطيرون وكذا قال ابن القيم ولكن اعترضه بعضهم بأن قال تغليط الراوي مع إمكان تصحيح الزيادة لا يصار اليه والمعنى الذي حمله على التغليط موجود في المرقى لأنه اعتل بأن الذي لا يطلب من غيره أن يرقيه تام التوكل فكذا يقال والذي

85

يفعل به غيره ذلك ينبغبي أن لا يمكنه منه لأجل تمام التوكل وليس في وقوع ذلك من جبريل عليه السلام دلالة على المدعى ولا في فعل النبي صلى الله عليه وسلم له أيضا دلالة في مقام التشريع وتبيين الأحكام كذا قال هذا القائل وهو خطأ من وجوه الأول أن هذه الزيادة لا يمكن تصحيحها إلا بحملها على وجوه لا يصح حملها عليها كقول بعضهم المراد لا يرقون بما كان شركا أو احتمله فإنه ليس في الحديث ما يدل على هذا اصلا وايضا فعلى هذا لا يكون للسبعين مزية على غيره فإن جملة المؤمنين لا يرقون بما كان شركا الثاني قوله فكذا يقال الخ لا يصح هذا القياس فإنه من أفسد القياس وكيف يقاس من سأل وطلب على من لم يسأل مع أنه قياس مع وجود الفارق الشرعي فهو فاسد الاعتبار لأنه تسوية بين ما فرق الشارع بينهما بقوله من اكتوى أو استرقى فقد برىء من التوكل رواه أحمد والترمذي وصححه وابن ماجه وصححه ابن حبان والحاكم أيضا وكيف يجعل ترك الإحسان إلى الخلق سببا للسبق الى الجنان وهذا بخلاف من رقى أو رقي من غير سؤال فقد رقى جبريل النبي صلى الله عليه و سلم ولا يجوز أن يقال إنه عليه السلام لم يكن متوكلا في تلك الحال الثالث قوله ليس في وقوع ذلك من جبريل عليه السلام الخ كلام غير صحيح بل هما سيداالمتوكلين فإذا وقع ذلك منهما دل على أنه لا ينافي التوكل فاعلم ذلك قوله ولا يكتوون أي لا يسألون غيرهم ان يكويهم كما لا يسألون غيرهم أن يرقاهم استسلاما للقضاء وتلذذا بالبلاء أما الكي في نفسه فجائز كما في

86

الصحيح عن جابر بن عبدالله أن النبي صلىالله عليه وسلم بعث الى أبي بن كعب طبيبا فقطع له عرقا وكواه وفي صحيح البخاري عن أنس أنه كوى من ذات الجنب والنبي صلى الله عليه وسلم حي وروى الترمذي وغيره عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كوى أسعد بن زرارة من الشوكة وفي صحيح البخاري عن ابن عباس مرفوعا الشفاء في ثلاث شربه عسل وشرطه محجم وكية نار وأنا أنهى عن الكي وفي لفظ وما احب أن أكتوي قال ابن القيم فقد تضمنت أحاديث الكي أربعة أنواع أحدها فعله والثاني عدم محبته له والثالث الثناء على من تركه والرابع النهي عنه ولا تعارض بينهما بحمد الله فإن فعله له يدل على جوازه وعدم محبته له لا يدل علىالمنع منه وأما الثناء على تاركيه فيدل على أن تركه أولى وأفضل وأما النهي عنه فعلى سبيل الاختيار والكراهية قوله ولا يتطيرون أي لا يتشاءمون بالطيور ونحوها وسيأتي بيان الطيرة وما يتعلق بها في بابها إن شاء الله تعالى قوله وعلى ربهم يتوكلون ذكر الأصل الجامع الذي تفرعت عنه هذه الأفعال وهو التوكل على الله وصدق الالتجاء اليه والاعتماد بالقلب عليه الذي هو خلاصة التفريد ونهاية تحقيق التوحيد الذي يثمر كل مقام شريف من المحبة والخوف والرجاء والرضى به ربا وإلها والرضى بقضائه بل ربما أوصل العبد الى التلذذ بالبلاء وعده من النعماء فسبحان من يتفضل على من يشاء بما يشاء والله ذو الفضل العظيم واعلم أن الحديث لا يدل على أنهم لا يباشرون الأسباب أصلا كما يظنه الجهلة فان مباشرة الأسباب في الجملة أمر فطري ضروري لا انفكاك لأحد عنه حتى الحيوان البهيم بل نفس التوكل مباشرة لأعظم الأسباب كما قال

87

تعالى ومن يتوكل على الله فهو حسبه اي كافيه إنما المراد أنهم يتركون الأمور المكروهة مع حاجتهم إليها توكلا على الله كالاسترقاء والاكتواء فتركهم له ليس لكونه سببا لكن لكونه سببا مكروها لاسيما والمريض يتشبث بما يظنه سببا لشفائه بخيط العنكبوت أما نفس مباشرة الأسباب والتداوي على وجه لا كراهية فيه فغير قادح في التوكل فلا يكون تركه مشروعا كما في الصحيحين عن أبي هريرة مرفوعا ما أنزل الله من داء إلا أنزل له شفاء وعن أسامة بن شريك قال كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم وجاءت الأعراب فقالوا يا رسول الله أنتداوى فقال نعم يا عباد الله تداووا فإن الله عز وجل لم يضع داءا إلا وضع له شفاء غير داء واحد قالوا ما هو قال الهرم رواه أحمد قال ابن القيم فقد تضمنت هذه الاحاديث إثبات الأسباب والمسببات وإبطال قول من أنكرها والامر بالتداوي وأنه لا ينافي التوكل كما لا ينافيه دفع داء الجوع والعطش والحر والبرد بأضدداها بل لا تتم حقيقة التوحيد إلا بمباشرة الأسباب التي نصبها الله مقتضيات لمسبباتها قدرا وشرعا وان تعطيلها يقدح بمباشرته في نفس التوكل كما يقدح في الأمر والحكمة ويضعفه من حيث يظن معطلها أن تركها أقوى من التوكل فإن تركها عجز ينافي التوكل الذي حقيقته اعتماد القلب على الله في حصول ما ينفع العبد في دينه و دنياه ودفع ما يضره في دينه ودنياه ولا بد مع هذا الاعتماد من مباشرة الأسباب وإلا كان معطلا للأمر والحكمة والشرع فلا يجعل العبد عجزه توكلا ولا توكله عجزا وقد اختلف العلماء في التداوي هل هو مباح وتركه أفضل أو مستحب أو واجب فالمشهور عن أحمد الأول لهذا الحديث وما في

88

معناه ولكن على ما تقدم لا يتم الاستدلال به على ذلك والمشهور عند الشافعي الثاني حتى ذكر النووي في شرح مسلم أنه مذهبهم ومذهب جمهور السلف وعامة الخلف واختاره الوزير أبو المظفر قال ومذهب أبو حنيفة أنه مؤكد حتى يداني به الوجوب قال ومذهب مالك أنه يستوى فعله وتركه فإنه قال لا بأس بالتداوي ولا بأس بتركه وقال شيخ الإسلام ليس بواجب عند جماهير الأئمة إنما أوجبه طائفة قليلة من أصحاب الشافعي وأحمد قوله فقام اليه عكاشة بن محصن بضم العين و تشديد الكاف ويجوز تخفيفها ومحصن بكسر الميم وسكون الخاء وفتح الصاد المهملتين ابن حرثان بضم المهملة وسكون الراء وبعدها مثلثة الأسدي من بني أسد بن خزيمة ومنه خلفاء بني أمية كان من السابقين إلى الإسلام ومن أجمل الرجال هاجر وشهد بدرا وقاتل فيها قال ابن اسحق وبلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال خير فارس في العرب عكاشة ومناقبه مشهورة استشهد في قتال أهل الردة مع الردة بيدي طليحة الأسدي سنة اثنتي عشرة ثم أسلم طليحة بعد ذلك قوله قال ادع الله أن يجعلني منهم فقال أنت منهم في رواية البخاري فقال اللهم اجعله منهم وكذلك في حديث أبي هريرة عند البخاري مثله وفي بعض الروايات أمنهم أنا يا رسول الله قال نعم قال الحافظ ويجمع بأنه سأل الدعاء أولا فدعا له ثم استفهم هل أجيب فأخبره وفيه طلب الدعاء من الفاضل قوله ثم قام اليه رجل آخر لم نقف على تسميته إلا في طريق واهية

89

ذكرها الخطيب في المبهمات من رواية أبي حذيفة اسحق بن بشر أحد الضعفاء من طريقين له عن مجاهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما انصرف من غزاة بني المصطلق فساق قصة طويلة فيها ذلك قال الحافظ وهذا مع ضعفه وإرساله يستبعد من جهة جلالة سعد بن عبادة فإن كان محفوظا فلعله آخر باسم سيد الخزرج واسم أبيه فإن في الصحابة كذلك آخر له في مسند بقي ابن مخلد وفي الصحابة سعد بن عمارة فلعل اسم ابيه تحرف قوله سبقك بها عكاشة قال ابن بطال معنى قوله سبقك أي إلى إحراز هذه الصفات وهي التوكل وعدم التطير وما ذكر معه وعدل عن قوله لست منهم أو لست على أخلاقهم تلطفا بأصحابه وحسن أدب معهم وقال القرطبي لم يكن عند الثاني من الأحوال ما كان عند عكاشة فلذلك لم يجب إذ لو أجابه لجاز أن يطلب ذلك كل من كان حاضرا فيتسلسل الأمر فسد الباب بقوله ذلك وهذا اولى من قول من قال كان منافقا لوجهين أحدهما أن الاصل في الصحابة عدم النفاق فلا يثبت ما يخالف ذلك إلا بنقل صحيح والثاني أنه قل أن يصدر مثل هذا السؤال إلا عن قصد صحيح ويقين بتصديق الرسول صلى الله عليه وسلم وكيف يصدر ذلك من منافق قلت هذا أولى ما قيل في تأويله وإليه مال شيخ الإسلام قال المصنف وفيه استعمال المعاريض وحسن خلقه صلى الله عليه وسلم باب الخوف من الشرك ش لما كان الشرك أعظم ذنب عصي الله به ولهذا رتب عليه من عقوبات الدنيا والآخرة ما لم يرتبه على ذنب سواه من إباحة دماء أهله وأموالهم وسبي نسائهم وأولادهم وعدم مغفرته من بين الذنوب إلا بالتوبة منه نبه

90

المصنف بهذه الترجمة على أنه ينبغي للمؤمن أن يخاف منه ويجذره ويعرف أسبابه ومبادئه وأنواعه لئلا يقع فيه ولهذا قال حذيقة كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن أقع فيه رواه البخاري وذلك أن من لم يعرف إلا الخير قد يأتيه الشر ولا يعرف أنه شر فأما أن يقع فيه وأما أن لا ينكره كما ينكره الذي عرفه ولهذا قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لم يعرف الجاهلية قال شيخ الإسلام وهو كما قال عمر فإن كمال الإسلام هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتمام ذلك بالجهاد في سبيل الله ومن نشأ في المعروف فلم يعرف غيره فقد لا يكون عنده من العلم بالمنكر وضرره ما عند من علمه ولا يكون عنده من الجهاد لأهله ما عند الخبير بهم ولهذا يوجد الخبير بالشر وأسبابه إذا كان حسن القصد عنده من الاحتراز عنه والجهاد لهم ما ليس عند غيره ولهذا كان الصحابة أعظم إيمانا وجهادا ممن بعدهم لكمال معرفتهم بالخير والشر وكمال محبتهم للخير وبغضهم للشر لما علموه من حسن حال الإيمان والعمل الصالح وقبح حال الكفر والمعاصي قال وقول الله إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء قال ابن كثير أخبر تعالى أنه لا يغفر أن يشرك به أي لا يغفر لعبد لقيه وهو مشرك به ويغفر ما دون ذلك أي من الذنوب لمن يشاء من عباده قلت فتبين بهذا أن الشرك أعظم الذنوب لأن الله تعالى أخبر أنه لا يغفره أي إلا بالتوبة منه وما عداه فهو داخل تحت مشيئة الله إن شاء غفره بلا توبة

91

وإن شاء عذب به وهذا يوجب للعبد شدة الخوف من هذا لذنب الذي هذا شأنه عند الله وإنما كان كذلك لأنه أقبح القبح وأظلم الظلم إذ مضمونه تنقيص رب العالمين وصرف خالص حقه لغيره وعدل غيره به كما قال تعالى ثم الذين كفروا بربهم يعدلون ولأنه مناقض للمقصود بالخلق والأمر مناف له من كل وجه وذلك غاية المعاندة لرب العالمين والاستكبار عن طاعته والذل له والانقياد لأوامره الذي لاصلاح للعالم الا بذلك فمتى خلا منه خرب و قامت القيامة كما قال صلى الله عليه وسلم لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض الله الله رواه مسلم ولأن الشرك تشبيه للمخلوق بالخالق تعالى وتقدس في خصائص الإلهية من ملك الضر والنفع والعطاء والمنع الذي يوجب تعلق الدعاء والخوف والرجاء والتوكل وأنواع العبادة كلها بالله وحده فمن علق ذلك لمخلوق فقد شبهه بالخالق وجعل من لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا فضلا عن غيره شبيها بمن له الخلق كله وله الملك كله وبيده الخير كله وإليه يرجع الأمر كله فأزمة الأمور كلها بيديه سبحانه ومرجعها إليه فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع الذي إذا فتح للناس رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم فأقبح التشبيه تشبيه العاجر الفقير بالذات بالقادر الغني بالذات ومن خصائص الآلهية الكمال المطلق من جميع الوجوه الذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه ولك يوجب أن تكون العبادة كلها له وحده والتعظيم والاجلال والخشية والدعاء والرجاء والإنابة

92

والتوكل والتوبة والاستعانة وغاية الحب مع غاية الذل كل ذلك يجب عقلا وشرعا وفطرة أن يكون لله وحده ويمتنع عقلا وشرعا وفطرة أن يكون لغيره فمن فعل شيئا من ذلك لغيره فقد شبه ذلك الغير بمن لا شبيه له ولا مثل له ولا ند له وذلك أقبح التشبيه وأبطله فلهذه الأمور وغيرها أخبر سبحانه أنه لا يغفره مع أنه كتب على نفسه الرحمة هذا معنى كلام ابن القيم وفي الآية رد على الخوارج المكفرين بالذنوب وعلى المعتزلة القائلين بأن أصحاب الكبائر يدخلون النار ولا بد ولا يخرجون منها وهم أصحاب المنزلة بين المنزلتين ووجه ذلك أن الله تعالى جعل مغفرة ما دون الشرك معلقة بالمشيئة ولا يجوز أن يحمل هذا على التأكيد فإن التائب لا فرق في حقه بين الشرك وغيره كما قال تعالى في الآية الأخرى قل يا عبادي الذين أسرفوا على انفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا فهنا عمم وأطلق لأن المراد به التائب وهناك خص وعلق لأن المراد به ما لم يتب قاله شيخ الإسلام قوله وقال الخليل عليه السلام واجنبني وبني أن نعبد الأصنام الصنم ما كان منحوتا على صورة البشر والوثن ما كان منحوتا على غير ذلك ذكره الطبري عن مجاهد والظاهر أن الصنم ما كان مصورا على أي صورة والوثن بخلافه كالحجر والبنية وإن كان الوثن قد يطلق على الصنم ذكر معناه غير واحد ويروي عن بعض السلف ما يدل عليه وقوله واجنبني أي اجعلني وبني في جانب عن عبادة الأصنام وباعد بيني وبينها قيل واراد بذلك بنيه وبناته من صلبه ولم يذكر البنات لدخولهم تبعا في البنين وقد

93

استجاب الله دعاءه وجعل بنيه أنبياء وجنبهم عبادة الأصنام وإنما دعا ابراهيم عليه السلام بذلك لأن كثيرا من الناس افتتنوا بها كما قال رب إنهن أضللن كثيرا من الناس فخاف من ذلك ودعا الله ان يعافيه وبنيه من عبادتها فإذا كان ابراهيم عليه السلام يسأل الله أن يجنبه ويجنب بنيه عبادة الأصنام فما ظنك بغيره كما قال ابراهيم التيمي ومن يأمن من البلاء بعد ابراهيم رواه ابن جرير وابن أبي حاتم وهذا يوجب للقلب الحي أن يخاف من الشرك لا كما يقول الجهال إن الشرك لا يقع في هذه الأمة ولهذا أمنوا الشرك فوقعوا فيه وهذا وجه مناسبة الآية للترجمة قال وفي الحديث أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر فسئل عنه فقال الرياء ش هكذا أورد المصنف هذا الحديث مختصرا غير معرف وقد رواه الإمام أحمد والطبراني وابن أبي الدنيا والبيهقي في الزهد وهذا لفظ أحمد قال حدثنا يونس ثنا ليث عن يريد يعني ابن الهاد عن عمرو عن محمود بن لبيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر قالوا وما الشرك الأصغر يا رسول الله قال الرياء يقول الله يوم القيامة اذا جزى الناس بأعمالهم اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤون في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم جزاء قال المنذري ومحمود بن لبيد رأى النبي صلى الله عليه وسلم ولم يصح له منه سماع فيما أرى وذكر ابن أبي حاتم أن البخاري قال له صحبه قال وقال بي لا تعرف له صحبة ورجح ابن عبد البر والحافظ أن له صحبه وقال رجل روايته عن الصحابة وقد رواه الطبراني باسناد جيد عن محمود ابن لبيد عن رافع بن خديج وقيل إن حديث محمود هو الصواب دون ذكر رافع مات محمود سنة ست وتسعين وقيل سنة سبع وله تسع وتسعون سنة

94

قوله إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر هذا من رحمته صلى الله عليه وسلم لأمته وشفقته عليهم وتحذيره مما يخاف عليهم فانه ما من خير إلا دلهم عليه وأمر به وما من شر إلا وأخبرهم به وحذرهم عنه كما قال صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه ما بعث الله من نبي إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم وينهاهم عن شر ما يعلمه لهم ولما كانت النفوس مجبولة على محبة الرياسة والمنزلة في قلوب الخلق الامن سلم الله كان هذا أخوف ما يخاف على الصالحين لقوة الداعي الى ذلك والمعصوم من عصمه الله وهذا بخلاف الداعي الى الشرك الأكبر فإنه إما معدوم في قلوب المؤمنين الكاملين ولهذا يكون الإلقاء في النار أسهل عندهم من الكفر وإما ضعيف هذا مع العافية وإما مع البلاء فيثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء فلذلك صار خوفه صلى الله عليه وسلم على أصحابه من الرياء أشد لقوة الداعي وكثرته دون الشرك الأكبر لما تقدم مع أنه أخبر أنه لا بد من وقوع عبادة الأوثان في أمته فدل على أنه ينبغي للإنسان أن يخاف على نفسه الشرك الأكبر إذا كان الأصغر مخوفا على الصالحين من الصحابة مع كمال إيمانهم فينبغي للإنسان أن يخاف الأكبر لنقصان إيمانه ومعرفته بالله فهذا وجه ايراد المصنف له هنا مع أن الترجمة تشمل النوعين قال المصنف وفيه أن الرياء من الشرك وأنه من الأصغر وأنه أخوف ما يخاف على الصالحين وفيه قرب الجنة والنار والجمع بين قربهما في حديث واحد على عمل واحد متقارب في الصورة قال وعن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من مات وهو

95

يدعو لله ندا دخل النار رواه البخاري ش قال ابن القيم الند الشبه يقال فلان ند فلان ونديده أي مثله وشبهه انتهى وهذا كما قال تعالى فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون وقال تعالى وجعل لله أندادا ليضل عن سبيله قل تمتع بكفرك قليلا إنك من أصحاب النار أي من مات وهو يدعو لله ندا أي يجعل لله ندا فيما يختص به تعالى ويستحقه من الربوبيه والإلهية دخل النار لأنه مشرك فان الله تعالى هو المستحق للعبادة لذاته لأنه المألوه المعبود الذي تألهه القلوب وترغب اليه وتفزع إليه عند الشدائد وما سواه فهو مفتقر اليه مقهور بالعبودية له تجري عليه أقداره وأحكامه طوعا وكرها فكيف يصلح أن يكون ندا قال الله تعالى وجعلوا له من عباده جزءا إن الإنسان لكفور مبين وقال إن كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا الآيتان وقال تعالى يا أيها الناس أنتم الفقراء الى الله والله هو الغني الحميد فبطل أن يكون له نديد من خلقه تعالى عن ذلك علوا كبيرا ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون عالم الغيب والشهادة فتعالى عما يشركون واعلم أن دعاء الند على قسمين أكبر وأصغر فالأكبر لا يغفره الله إلا بالتوبة منه وهو الشرك الأكبر والأصغر كيسير الرياء وقول الرجل ما شاء الله وشئت ونحو ذلك فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال له رجل ما شاء الله وشئت قال أجعلتني لله ندا بل ما شاء الله وحده رواه أحمد وابن أبي شيبة

96

والبخاري في الأدب المفرد والنسائي وابن ماجه وقد تقدم حكمه في باب فضل التوحيد قال ولمسلم عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من لقي الله لا يشرك به شيئا دخل الجنة ومن لقيه يشرك به شيئا دخل النار ش جابر هو ابن عبد الله بن عمرو بن حرام بمهملتين الأنصاري ثم السلمي بفتحتين صحابي جليل مكثر ابن صحابي له ولأبيه مناقب مشهورة رضي الله عنهما مات بالمدينة بعد السبعين وقد كف بصره وله أربع وتسعون سنة قوله من لقي الله لا يشرك به شيئا قال القرطبي أي من لم يتخذ معه شريكا في الإلهية ولا في الخلق ولا في العبادة ومن المعلوم من الشرع المجمع عليه عند أهل السنة أن من مات على ذلك فلا بد له من دخول الجنة وإن جرت عليه قبل ذلك أنواع من العذاب والمحنة وإن مات على الشرك لا يدخل الجنة ولا يناله من الله رحمة ويخلد في النار أبد الآباد من غير انقطاع عذاب ولا تصرم آماد وهذا معلوم ضروري من الدين مجمع عليه بين المسلمين وقال النووي أما دخول المشرك إلى النار فهو على عمومه فيدخلها ويخلد فيها ولا فرق فيه بين الكتابي اليهودي والنصراني وبين عبدة الأوثان وسائر الكفرة من المرتدين والمعطلين ولا فرق عند أهل الحق بين الكافر عنادا وغيره ولا بين من خالف ملة الاسلام وبين من انتسب اليها ثم حكم بكفره بحمده وغير ذلك وأما دخول من مات غير مشرك الجنة فهو مقطوع له به لكن إن لم يكن صاحب كبيرة مات مصرا عليها دخل الجنة ولا وإن كان صاحب كبيرة مات مصرا عليها فهو تحت المشيئة فإن عفا عنه دخل الجنة أولا وإلا عذب في النار ثم أخرج فيدخل الجنة وقال غيره اقتصر على نفي الشرك لاستدعائه التوحيد بالاقتضاء

97

واستدعائه إثبات الرسالة باللزوم إذ من كذب رسل الله فقد كذب الله ومن كذب الله فهو مشرك وهو كقولك من توضأ صحت صلاته أي مع سائر الشروط فالمراد من مات حال كونه مؤمنا بجميع ما يجب الايمان به إجمالا في الاجمالي تفصيلا في التفصيلي قلب قد تقدم بعض ما يتعلق بذلك في باب فضل التوحيد قال المصنف وفيه تفسير لا إله إلا الله كما ذكره البخاري في صحيحه يعني أن معنى لا اله إلا إلله ترك الشرك وافراد الله بالعبادة والبراءة ممن عبد سواه كما بينه الحديث وفيه فضيلة من سلم من الشرك باب الدعاء الى شهادة أن لا اله الاالله ش لما بين المصنف رحمه الله الأمر الذي خلقت له الخليقة وفضله وهو التوحيد وذكر الخوف من ضده الذي هو الشرك وأنه يوجب لصاحبه الخلود في النار نبه بهذه الترجمة على أنه لا ينبغي لمن عرف ذلك أن يقتصر على نفسه كما يظن الجها ل ويقولون اعمل بالحق واترك الناس وما يعنيك من الناس بل يدعو الى الله بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن كما كان ذلك شأن المرسلين وأتباعهم الى يوم الدين وكما حرى للمصنف وأشباهه من أهل العلم والدين والصبر واليقين وإذا أراد الدعوة الى ذلك فليبدأ بالدعوة إلى التوحيد الذي هو معنى شهادة أن لا إله إلا الله إذ لا تصح الاعمال إلا به فهو اصلها الذي تبنى عليه ومتى لم يوجد لم ينفع العمل بل هو حابط إذ لا تصح العبادة مع الشرك كما قال تعالى ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر أولئك حبطت أعمالهم وفي النار هم خالدون ولأن معرفة معنى هذه الشهادة هو أول واجب على العباد فكان أول ما يبدأ به في الدعوة

98

قال وقوله تعالى قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني ش قال ابن كثير يقول تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم آمرا له أن يخبر الناس أن هذه سبيله أي طريقته وسنته وهي الدعوة الى شهادة أن لا إله إلا الله يدعو الى الله بها على بصيرة من ذلك ويقين وبرهان هو وكل من اتبعه تدعو الى ما دعا اليه رسول الله صلى الله عليه وسلم على بصيرة وبرهان عقلي شرعي وقوله سبحان الله أي وأنزه الله وأجل وأعظم عن أن يكون له شريك ونديد تبارك وتعالى عن ذلك علوا كبيرا قلت فتبين وجه المطابقة بين الآية والترجمة قيل ويظهر ذلك إذا كان قوله ومن اتبعني عطفا على الضمير في أدعو الى الله فهو دليل على أن أتباعه هم الدعاة إلى الله تعالى وان كان عطفا على الضمير المنفصل فهو صريح في أن أتباعه هم أهل البصيرة فيما جاء به دون من عداهم والتحقيق أن العطف يتضمن المعنيين فأتباعه هم أهل البصيرة الذين يدعون الى الله وفي الآية مسائل نبه عليها المصنف منها التنبيه على الأخلاص لأن كثيرا ولو دعا إلى الحق فهو يدعو إلى نفسه ومنها أن البصيرة من الفرائض ووجه ذلك أن اتباعه صلى الله عليه وسلم وليس أتباعه حقا إلا أهل البصيرة فمن لم يكن منهم فليس من أتباعه فتعين أن البصيرة من الفرائض ومنها دلائل حسن التوحيد أنه تنزيه الله عز وجل عن المسبة ومنها أن من أقبح الشرك كونه مسبة لله ومنها ابعاد المسلم عن المشتركين لا يصير معهم ولو لم يشرك وكل هذه الثلاث في قوله سبحان الله الآية قال وعن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذا إلى اليمن قال له إنك تأتي قوما من أهل الكتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه

99

شهادة أن لا إله إلا الله وفي رواية إلى أن يوحدوا الله فان هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم فإن هم أطاعوك لذلك فاياك وكرائم أموالهم واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب أخرجاه ش قوله لما بعث معاذا إلى اليمن قال الحافظ كان بعث معاذا إلى اليمن سنة عشر قبل حج النبي صلى الله عليه وسلم كما ذكره المصنف يعني البخاري في أواخر المغازي وقيل كان ذلك في آخر سنة تسع عند منصرفه من تبوك رواه الواقدى باسناده الى كعب بن مالك وأخرجه ابن سعد في الطبقات عنه ثم حكى ابن سعد أنه كان في ربيع الآخر سنة عشر وقيل بعثه عام الفتح سنة ثمان واتفقوا أنه لم يزل على اليمن إلى أن قدم في عهد أبي بكر ثم توجه إلى الشام فمات بها واختلف هل كان معاذ واليا أو قاضيا فجزم ابن عبد البر بالثاني والغساني بالأول قلت الظاهر انه كان واليا قاضيا قوله إنك تاتي قوما من أهل الكتاب قال القرطبي يعني به اليهود والنصارى لأنهم كانوا في اليمن أكثر من مشركي العرب أو أغلب وانما نبهه على هذا ليتهيأ لمناظرتهم ويعد الأدلة لإمتحانهم لأنهم أهل علم سابق بخلاف المشركين وعبدة الأوثان وقال الحافظ هو كالتوطئة للوصية ليجمع همته عليها ثم ذكر معنى كلام القرطبي قلت وفيه أن مخاطبة العالم ليست كمخاطبة الجاهل والتنبيه على أنه ينبغي للانسان أن يكون على بصيرة في دينه لئلا يبتلى بمن يورد عليه شبهة من علماء المشركين ففيه التنبيه على الاحتراز من الشبه والحرص على طلب العلم

100

قوله فليكن أول ما تدعوهم اليه شهادة أن لا إله إلا الله يجوز رفع أول مع نصب شهادة وبالعكس قوله وفي رواية إلى أن يوحدوا الله هذه الرواية في التوحيد من صحيح البخاري وفي بعض الروايات فادعهم الى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله وفي بعضها وأن محمدا رسول الله واكثر الروايات فيها ذكر الدعوة إلى الشهادتين وأشار المصنف رحمه الله بايراد هذه الرواية إلى التنبيه على معنى شهادة أن لا إله إلا الله إذ معناها توحيد الله بالعبادة وترك عبادة ما سواه فلذلك جاء الحديث مرة بلفظ شهادة أن لا إله إلا الله ومرة إلى أن يوحدواالله ومرة فليكن أول ما تدعوهم اليه عبادة الله فإذا عرفوا الله فأخبرهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات وذلك هو الكفر بالطاغوت والإيمان بالله الذي قال الله فيه فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها ومعنى الكفر بالطاغوت هو خلع الأنداد والآلهة التي تدعى من دون الله من القلب وترك الشرك بها رأسا وبغضه وعداوته ومعنى الإيمان بالله هو إفراده بالعبادة التي تتضمن غاية الحب بغاية الذل والانقياد لأمره وهذا هو الإيمان بالله المستلزم للإيمان بالرسل عليهم السلام المستلزم ولإخلاص العبادة لله تعالى وذلك هو توحيد الله تعالى ودينه الحق المستلزم للعلم النافع والعمل الصالح وهو حقيقة شهادة أن لا إله إلا الله وحقيقة المعرفة بالله وحقيقة عبادته وحده لا شريك له فلله ما أفقه من روى هذا الحديث بهذه الالفاظ المختلفة لفظا المتفقة معنى فعرفوا أن المراد من شهادة أن لا إله إلا الله هو الإقرار بها علما ونطقا وعملا خلافا لما يظنه بعض الجهال أن المراد من هذه الكلمة هو مجرد النطق بها أو الإقرار بوجود الله أو ملكه لكل شيء من غير

101

شريك فإن هذا القدر قد عرفه عباد الأوثان وأقروا به فضلا عن أهل الكتاب ولو كان كذلك لم يحتاجوا الى الدعوة اليه وفيه دليل على أن التوحيد الذي هو إخلاص العبادة لله وحده لا شريك له وترك عبادة ما سواه هو أول واجب فلهذا كان أول ما دعت اليه الرسل عليهم السلام كما قال تعالى وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون وقال ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت ققال شيخ الإسلام رحمه الله وقد علم بالاضطرار من دين الرسول صلى الله عليه وسلم واتفقت عليه الأمة أن أصل الإسلام وأول ما يؤمر به الخلق شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فبذلك يصير الكافر مسلما والعدو وليا والمباح دمه وماله معصوم الدم والمال ثم إن كان ذلك من قلبه فقد دخل في الإيمان وإن قاله في بلسانه دون قلبه فهو في ظاهر الإسلام دون باطن الإيمان وفيه البدءاة في الدعوة والتعليم بالأهم فالأهم واستدل به من قال من العلماء إنه لا يشترط في صحة الإسلام النطق بالتبري من كل دين يخالف دين الإسلام لأن اعتقاد الشهادتين يستلزم ذلك وفي ذلك تفصيل وفيه أنه لا يحكم بإسلام الكافر إلا بالنطق بالشهادتين قال شيخ الإسلام فأما الشهادتان إذا لم يتكلم بهما مع القدرة فهو كافر باتفاق المسلمين وهو كافر باطنا وظاهرا عند سلف الأمة وأئمتها وجماهير علمائها قلت هذا والله أعلم فيمن لا يقربهما أو باحداهما أما من كفره مع الإقرار بهما ففيه بحث والظاهر أن إسلامه هو توبته عما كفر به وفيه أن الإنسان قد يكون قارئا عالما وهو لا يعرف معنى لا إله إلا الله

102

أو يعرفه ولا يعمل به نبه عليه المصنف وقال بعضهم هذا الذي أمر به النبي صلى الله عليه وسلم معاذا هو الدعوة قبل القتال التي كان يوصي بها النبي صلى الله عليه وسلم أمراءه قلت فعلى هذا فيه استحباب الدعوة قبل القتال لمن بلغته الدعوة أما من لم تبلغه فتجب دعوته قوله فإن هم أطاعوك لذلك أي شهدوا وانقادوا لذلك قوله فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات فيه أن الصلاة بعد التوحيد والإقرار بالرسالة أعظم الواجبات وأحبها واستدل به على أن الكفار غير مخاطبين بالفروع حيث دعاهم أولا إلى التوحيد فقط ثم دعوا إلى العمل ورتب ذلك عليها بالفاء وأيضا فإن قوله فإن هم أطاعوك لذلك فأخبرهم يفهم منه أنهم لو لم يطيعوا لم يجب عليهم شيء قال النووي وهذا الاستدلال صعيف فإن المراد أعلمهم بأنهم مطالبون بالصلوات وغيرها في الدنيا والمطالبة في الدنيا لا تكون إلا بعد الإسلام ولا يلزم من ذلك أن لا يكونوا مخاطبين بها ويزاد في عذابهم بسببها في الآخرة قال ثم اعلم أن المختار أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة المأمور به والمنهي عنه هذا قول المحققين والأكثرين قلت ويدل عليه قوله تعالى قالوا لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين الآيات وفيه دليل على أن الوتر ليس بفرض إذ لو كان فرضا لكان صلاة سادسة لا سيما وهذا في آخر الأمر قوله فإن هم أطاعوك لذلك أي آمنوا بأن الله افترضها عليهم وفعلوها قوله فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم فيه دليل على أن الزكاة أوجب الأركان بعد الصلاة وأنها تؤخذ من الأغنياء وتصرف إلى الفقراء وإنما خص النبي صلى الله عليه وسلم الفقراء بالذكر مع أنها تدفع إلى المجاهد والعامل ونحوهما وان كانوا اغنياء لأن الفقراء والله أعلم هم أكثر من

103

تدفع اليهم أو لأن حقهم آكد وفيه أن الإمام هو الذي يتولى قبض الزكاة وصرفها إما بنفسه أو نائبه فمن امتنع عن أدائها إليه أخذت منه قهرا قيل وفيه دليل على أنه يكفي إخراج الزكاة في صنف واحد كما هو مذهب مالك وأحمد وعلى ما تقدم لا يكون فيه دليل وفيه أنه لا يجوز دفعها إلى غني ولا كافر وأن الفقير لا زكاة عليه وأن من ملك نصابا لا يعطى من الزكاة من حيث أنه جعل المأخوذ منه غنيا وقابله بالفقير ومن ملك النصاب فالزكاة مأخوذة منه فهو غني والغنى مانع من إعطاء الزكاة إلا من استثني وأن الزكاة واجبة في مال الصبي والمجنون كما كما هو قول الجمهور لعموم قوله من أغنيائهم قوله فإياك وكرائم أموالهم هو بنصب كرائم على التحذير والكرائم جمع كريمة أي نفيسة قال صاحب المطالع هي جامعة الكمال الممكن في حقها من غزارة لبن وجمال صورة أو كثرة لحم وصوف ذكره النووي وفيه أنه يحرم على العامل اخذ كرائم المال في الزكاة بل يأخذ الوسط ويحرم على صاحب المال إخراج شر المال بل يخرج الوسط فإن طابت نفسه بإخراج الكريمة جاز قوله واتق دعوة المظلوم أي احذر دعوة المظلوم واجعل بينك وبينها وقاية بفعل العدل وترك الظلم لئلا يدعو عليك المظلوم وفيه تنبيه على المنع من جميع أنواع الظلم والنكتة في ذكره عقب المنع من أخذ الكرائم إشارة إلى أن أخذها ظلم ذكره الحافظ قوله فانه أي الشأن ليس بينها وبين الله حجاب أي لا تحجب عن الله تعالى بل ترفع إليه فيقبلها وإن كان عاصيا كما في حديث أبي هريرة عند أحمد مرفوعا دعوة المظلوم مستجابة وإن كان فاجرا ففجوره على نفسه واسناده

104

حسن قاله الحافظ وقال أبو بكر بن العربي هذا وإن كان مطلقا فهو مقيد بالحديث الآخر أن الداعي على ثلاث مراتب إما ان يعجل له ما طلب وإما ان يدخر له أفضل منه وإما ان يدفع عنه من السوء مثله وهذا كما قيد مطلقا قوله أمن يجيب المضطر إذا دعاه بقوله تعالى فيكشف ما تدعون اليه إن شاء وفي الحديث أيضا قبول خبر الواحد العدل ووجوب العمل به وأن الإمام يبعث العمال لجباية الزكاة وأنه يعظ عماله وولاته ويأمرهم بتقوى الله ويعلمهم ما يحتاجون اليه وينهاهم عن الظلم ويعرفهم قبح عاقبته والتنبيه على التعليم بالتدريج ذكره المصنف وآعلم انه لم يذكر في هذا الحديث ونحوه الصوم والحج مع أن بعث معاذ كان في آخر الامر كما تقدم فأشكل ذلك على كثير من العلماء قال شيخ الاسلام أجاب بعض الناس أن الرواة اختصر بعضهم الحديث وليس الأمر كذلك فإن هذا طعن في الرواة لأن هذا إنما يقع في الحديث الواحد مثل حديث عبد القيس حيث ذكر بعضهم الصيام وبعضهم لم يذكره فأما الحديثان المفصلان فليس الأمر فيهما كذلك ولكن عن هذا جوابان أحدهما أن ذلك بحسب نزول الفرائض وأول ما فرض الله الشهادتان ثم الصلاة فإنه أمر بالصلاة في أول أوقات الوحي ولهذا لم يذكر وجوب الحج في عامة الأحاديث إنما جاء في الأحاديث المتأخرة قلت وهذا من الأحاديث المتأخرة ولم يذكر فيها الجواب الثاني أنه كان يذكر في كل مقام ما يناسبه فيذكر تارة الفرائض التي يقاتل عليها كالصلاة والزكاة ويذكر تارة الصلاة والصيام إن لم يكن عليه زكاة ويذكر تارة الصلاة والزكاة والصيام فإما أن يكون قبل فرض الحج كما في حديث عبد القيس ونحوه وإما أن يكون المخاطب بذلك لا حج عليه

105

وأما الصلاة والزكاة فلهما شأن ليس لسائر الفرائض ولهذا ذكر الله تعالى في كتابه القتال عليهما لأنهما عبادتان ظاهرتان بخلاف الصوم فإنه أمر باطن وهو مما ائتمن عليه الناس فهو من جنس الوضوء والاغتسال من الجنابة ونحو ذلك مما يؤتمن عليه العبد فإن الإنسان يمكنه أن لا ينوي الصوم وأن يأكل سرا كما يمكنه أن يكتم حدثه وجنابته بخلاف الصلاة والزكاة وهو صلى الله عليه وسلم يذكر في الإعلام الأعمال الظاهرة التي يقاتل الناس عليها ويصيرون مسلمين بفعلها فلهذا علق ذلك بالصلاة والزكاة دون الصيام وإن كان واجبا كما في آيتي براءة فإن براءة نزلت بعد فرض الصيام باتفاق الناس وكذلك لما بعث معاذ بن جبل إلى اليمن لم يذكر في حديثه الصيام لأنه تبع وهو باطن ولا ذكر الحج لأن وجوبه خاص ليس بعام وهو لا يجب في العمر إلا مرة واحدة انتهى ملخصا بمعناه قوله أخرجاه أي أخرجه البخاري ومسلم في الصحيحين وأخرجه أيضا أحمد وأبو دا ود والترمذي والنسائى وابن ماجه قال ولهما عن سهل بن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر لأعطين الراية غدارجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله يفتح الله على يديه فبات الناس يدوكون ليلتهم أيهم يعطاها فلما أصبحوا غدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يرجو أن يعطاها فقال أين علي بن أبي طالب فقيل هو يشتكي عينيه قال فأرسلوا إليه فأتي به فبصق في عينيه ودعا له فبرأ كأن لم يكن به وجع فأعطاه الرايه وقال انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم ثم ادعهم الى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه فو الله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم يدوكون أي يخوضون

106

ش قال شيخ الاسلام هذا الحديث أخح ما روي لعلي رضي الله عنه من الفضائل أخرجاه في الصحيحين من غير وجه قوله عن سهل هو سهل بن سعد بن مالك بن خالد الأنصاري الخزرجي الساعدي أبو العباس صحابي شهير وابوه صحابي ايضا مات سنة ثمان وثمانين وقد جاوز المائة قوله قال يوم خيبر أي في غزوة خيبر في الصحيحين واللفظ لمسلم عن سلمة بن الأكوع قال كان علي رضى الله عنه قد تخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم في خيبر وكان رمدا فقال انا تخلفت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج علي رضي الله عنه فلحق بالنبي صلى الله عليه وسلم فلما كان مساء الليلة التي فتحها الله عز وجل في صباحها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأعطين الراية أو ليأخذن بالراية غدا رجل يحبه الله ورسوله أو قال يحب الله ورسوله يفتح الله عليه فإذا نحن بعلي وما نرجوه فقالوا هذا علي فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم الراية ففتح الله عليه وهذا يبين أن عليا رضي الله عنه لم يشهد أول خيبر وأنه عليه السلام قال هذه المقالة مساء الليلة التي فتحها الله في صباحها قوله لأعطين الراية قال الحافظ في رواية بريدة إني دافع اللواء إلى رجل يحبه الله ورسوله والراية بمعني اللواء وهو العلم الذي يحمل في الحرب يعرف به موضع صاحب الجيش وقد يحمله أمير الجيش وقد يدفعه لمقدم العسكر وقد صرح جماعة من أهل اللغة بترادفهما لكن روى أحمد والترمذي من حديث ابن عباس كانت راية رسول الله صلى الله عليه وسلم سوداء ولواؤه أبيض ومثله عند الطبراني عن بريده وعند ابن عدي عن أبي هريرة وزاد مكتوب فيه لا إله إلا الله محمد رسول الله وهو ظاهر في التغاير فلعل التفرقة بينهما عرفية

107

قوله يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله فيه فضيلة عظيمة لعلي رضي الله عنه لأن النبي صلى الله عليه وسلم شهد له بذلك ولكن ليس هذا من خصائصه قال شيخ الإسلام ليس هذا الوصف مختصا بعلي ولا بالأئمة فإن الله ورسوله يحب كل مؤمن تقي يحب الله ورسوله لكن هذا الحديث من أحسن ما يحتج به على النواصب الذي يتبرؤون منه ولا يتولونه بل لقد يكفرونه أو يفسقونه كالخوارج لكن هذا الاحتجاج لا يتم على قول الرافضة الذين يجعلون النصوص الدالة على فضائل الصحابة كانت قبل ردتهم فإن الخوارج تقول في علي مثل ذلك لكن هذا باطل فإن الله ورسوله لا يطلق مثل هذا المدح على من يعلم أنه يموت كافرا وفيه إثبات صفة المحبة لله وفيه إشارة إلى أن عليا تام الاتباع لرسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحبه الله ولهذا كانت محبته علامة الإيمان وبغضه علامة النفاق ذكره الحافظ بمعناه قوله يفتح الله على يديه صريح في البشارة بحصول الفتح على يديه فكان الأمر كذلك ففيه دليل على شهادة أن محمدا رسول الله قوله فبات الناس يدوكون ليلتهم هو بنصب ليلتهم على الطرفية ويدوكون قال المصنف يخوضون والمراد انهم باتوا تلك الليلة في خوض واختلاف فيمن يدفعها اليه وفيه حرص الصحابة على الخير ومزيد اهتمامهم به وذلك يدل على علو مراتبهم في العلم والايمان قوله أيهم يعطاها فهو يرفع أي على البناء قوله فلما أصبحوا غدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يرجو أن يعطاها وفي رواية أبي هريرة عند مسلم أن عمر قال ما أحببت الإمارة إلا يومئذ فإن قلت أن كانت هذه الفضيلة لعلي رضي الله عنه ليست من خصائصه فلماذا تمنى بعض الصحابة أن يكون له ذلك قيل الجواب كما قال شيخ

108

الاسلام أن في ذلك شهادة النبي صلى الله عليه وسلم لعلي بإيمانه باطنا وظاهرا واثبات لموالاته لله ورسوله ووجوب موالاة المؤمنين له وإذا شهد النبي صلى الله عليه وسلم لمعين بشهادة أو دعا له بدعاء أحب كثير من الناس أن يكون له مثل تلك الشهادة ومثل ذلك الدعاء وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم يشهد بذلك لخلق كثير ويدعو به لخلق كثير وكان تعيينه لذلك المعين من أعظم فضائله ومناقبه وهذا كالشهادة بالجنة لثاتب بن قيس وعبد الله بن سلام وغيرهما وإن كان قد شهد بالجنة لآخرين والشهادة لمحبة الله ورسوله للذي ضرب في الخمر قلت وفي هذه الجملة أيضا حرص الصحابة على الخير قوله فقال أين علي بن أبي طالب قال بعضهم كأنه صلى الله عليه وسلم استبعد غيبته عن حضرته في مثل ذلك الموطن لا سيما وقد قال لأعطين الراية إلى آخره وقد حضر الناس وكلهم طمع بأن يكون هذا الذي يفوز بذلك الوعد وفيه سؤال الإمام عن رعيته وتفقده أحوالهم وسؤاله عنهم في مجامع الخير قوله فقيل له هو يشتكي عينيه اي من الرمد كما في صحيح مسلم عن سعد بن أبي وقاص فقال ادعوا لي عليا فأتي به أرمد فبصق في عينيه قوله قال فأرسلوا إليه بهمزة قطع أمر من الإرسال أمرهم بأن يرسلو اليه فيدعوه له ولمسلم من طريق اياس بن سلمة عن أبيه قال فأرسلني الى علي فجئت به أقوده أرمد فبصق في عينيه فبرأ قوله فبصق بفتح الصاد أي تفل قوله ودعا له فبرأ وهو بفتح الراء والهمزة بوزن ضرب ويجوز الكسر بوزن علم أي عوفي في الحال عافية كاملة كأن لم يكن به وجع من رمد ولا ضعف بصر أصلا وعند الطبراني من حديث على فما رمدت ولا صدعت منذ دفع إلي النبي صلى الله عليه وسلم الراية وفيه دليل على الشهادتين

109

قوله فأعطاه الراية قال المصنف فيه الإيمان بالقدر لحصولها لمن لم يسع ومنعا عمن سعى وفيه التوكل على الله والاقبال بالقلب اليه وعدم الالتفات الى الاسباب وان فعلها لا ينافي التوكل قوله وقال انفذ على رسلك أما انفذ فهو بضم الفاء أي امض لوجهك ورسلك بكسر الراء وسكون السين أي على رفقك ولينك من غير عجلة يقال لمن يعمل الشيء برفق وساحتهم فناء أرضهم وهو حواليها وفيه الأدب عند القتال وترك الطيش والأصوات المزعجة التي لا حاجة اليها وفيه أمر الإمام عماله بالرفق واللين من غير ضعف ولا انتقاض عريمة كما يشير اليه قوله حتى تنزل بساحتهم قوله ثم ادعهم الى الاسلام أي الذي هو معنى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ومن هذا الوجه طابق الحديث الترجمة وفي حديث أبي هريرة عند مسلم فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب فأعطاه الراية وقال أمش ولا تلتفت حتى يفتح الله عليك فسار علي شيئا ثم وقف ولم يلتفت فصرخ يا رسول الله على ماذا أقاتل الناس فقال قاتلهم حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فإذا فعلوا ذلك فقد منعوا منك دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله وفيه أن الدعوة الى شهادة أن لا إله ألا الله المراد بها الدعوة الى الإخلاص بها وترك الشرك وإلا فاليهود يقولونها ولم يفرق النبي صلى الله عليه وسلم في الدعوة اليها بينهم وبين من لا يقولها من مشركي العرب فعلم أن المراد من هذه الكلمة هو اللفظ بها واعتقاد معناها والعمل به وذلك هو معنى قوله تعالى قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون وقوله قل إنما أمرت أن

110

أعبد الله ولا أشرك به شيئا إليه أدعو واليه مآب وذلك هو معنى قوله ثم ادعهم إلى الاسلام الذي هو الاستسلام لله تعالى والانقياد له بفعل التوحيد وترك الشرك وفيه مشروعية الدعوة قبل القتال لكن إن كانوا قد بلغتهم الدعوة جاز قتالهم ابتداء لأن النبي صلى الله عليه وسلم أغار على بني المصطلق وهم غارون وتستحب دعوتهم لهذا الحديث وما في معناه وان كانوا لم تبلغهم وجبت دعوتهم وقوله وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه أي في الاسلام أي إذا اجابوا الى الاسلام فأخبرهم بما يجب عليهم من حقوقه التي لابد من فعلها كالصلاة والزكاة وهذا كقوله في حديث أبي هريرة فإذا فعلوا ذلك فعد منعوا منك دماءهم وأموالهم إلا بحقها وقد فسره أبو بكر الصديق لعمر رضي الله عنهما لم قاتل أهل الردة الذين يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله فقال له عمر كيف نقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرت أن أقاتل الناس حتي يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها قال أبو بكر فإن الزكاة حق المال والله لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها الى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها وحاصله أنهم إذا أجابوا الى الاسلام الذي هو التوحيد فأخبرهم بما يجب عليهم بعد ذلك من حق الله تعالى في الاسلام من الصلاة والزكاة والصيام والحج وغير ذلك من شرائع الإسلام الظاهرة وحقوقه فإن أجابوا إلى ذلك فقد أجابوا إلى الإسلام حقا وإن امتنعوا عن شيء من ذلك فالقتال باق بحاله اجماعا فدل على أن النطق بكلمتي الشهادة دليل العصمة لا أنه عصمة أو يقال هو العصمة لكن بشرط العمل يدل على ذلك

111

قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا الآية ولو كان النطق بالشهادتين عاصما لم يكن للتثبت معنى يدل على ذلك قوله تعالى فإن تابوا أي عن الشرك وفعلوا التوحيد وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم فدل على ان القتال يكون على هذه الأمور وفيه ان لله تعالى حقوقا في الاسلام من لم يأت بها لم يكن مسلما كإخلاص العبادة له والكفر بما يعبد من دونه وفيه بعث الإمام الدعاة إلى الله كما كان النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون يفعلون وفيه تعليم الإمام أمراءه وعماله ما يحتاجون إليه قوله فو الله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم أن هي المصدرية واللام قبلها مفتوحة لأنها لام القسم وأن ومدخولها مسبوك بمصدر مرفوع على أنه مبتدأ خبره خير وحمر بضم المهملة وسكون الميم والنعم بفتح النون والعين المهملة أي خير لك من الإبل الحمر وهي أنفس أموال العرب يضربون بها المثل في نفاسة الشيء قيل المراد خير من أن تكون لك فتتصدق بها وقيل تقتنيها وتملكها قلت هذا هو الأظهر والأول لا دليل عليه أي انكم تحبون متاع الدنيا وهذا خير منه قال النووي وتشبيه أمور الآخرة بأمور الدنيا إنما هو للتقريب إلى الأفهام وإلا فذرة من الآخرة خير من الارض بأسرها وأمثالها معها وفيه فضيلة الدعوة إلى الله وفضيلة من اهتدى على يديه رجل واحد وجواز الحلف على الفتيا والقضاء والخبر والحلف من غير استحلاف باب تفسير التوحيد وشهادة ان لا إله إلا الله ش أي تفسير هاتين الكلمتين والعطف لتغاير اللفظين وإلا فالمعنى

112

واحد ولما ذكر المصنف في الابواب السابقة التوحيد وفضائله والدعوة اليه والخوف من ضده الذي هو الشرك فكأن النفوس اشتاقت إلى معرفة هذا الامر الذي خلقت له الخليقة والذي بلغ من شأنه عند الله أن من لقيه به غفر له وإن لقيه بملء الارض خطايا بين رحمه الله في هذا الباب أنه ليس اسما لا معنى له أو قولا لا حقيقة له كما يظنه الجاهلون الذين يظنون أن غاية التحقيق فيه هو النطق بكلمة الشهادة من غير اعتقاد القلب بشيء من المعاني والحاذق منهم يظن أن معنى الاله هو الخالق المتفرد بالملك فتكون غاية معرفته هو الإقرار بتوحيد الربوبية وهذا ليس هو المراد بالتوحيد ولا هو أيضا معنى لا إله إلا الله وإن كان لا بد منه في التوحيد بل التوحيد اسم لمعنى عظيم وقول له معنى جليل هو أجل من جميع المعاني وحاصله هو البراءة من عبادة كل ما سوى الله والإقبال بالقلب والعبادة على الله وذلك هو معنى الكفر بالطاغوت والإيمان بالله وهو معنى لا إله إلا الله كما قال تعالى وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم وقال تعالى حكاية عن مؤمن يس ومالي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون أأتخذ من دونه آلهة إن يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئا ولا ينقذون إني إذا لفي ضلال مبين وقال تعالى قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين وأمرت لأن أكون أول المسلمين قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم قل الله أعبد مخلصا له ديني وقال تعالى حكاية عن مؤمن آل فرعون ويا قوم ما لي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار تدعونني لأكفر بالله وأشرك به ما ليس لي به علم وأنا أدعوكم إلى العزيز الغفار لا جرم أن

113

ما تدعوننى إليه ليس له دعوة في الدنيا ولا في الآخرة والايات في هذا كثيرة تبين أن معنى لإ إله إلا الله هو البراءة من عبادة ما سوى الله من الشفعاء والأنداد وإفراد الله بالعبادة فهذا هو الهدى ودين الحق الذي أرسل الله به رسله وأنزل به كتبه أما قول الإنسان لا إله إلا الله من غير معرفة لمعناها ولا عمل به أو دعواه أنه من أهل التوحيد وهو لا يعرف التوحيد بل ربما يخلص لغير الله من عباداته من الدعاء والخوف والذبح والنذر والتوبة والإنابة وغير ذلك من أنواع العبادات فلا يكفي في التوحيد بل لا يكون إلا مشركا والحالة هذه كما هو شأن عباد القبور ثم ذكر المصنف آيات تدل على هذا فقال وقول الله تعالى أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه الآية قلت يبين معنى هذه الآية التي قبلها وهي قوله قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا اولئك الذين يدعون الآية قال ابن كثير يقول تعالى قل للمشركين ادعوا الذين زعمتم من دونه من الأنداد وارغبوا إليهم فإنهم لا يملكون كشف الضر عنكم أي بالكلية ولا تحويلا أي أن يحولوه الى غيركم والمعنى إن الذي يقدر على ذلك هو الله وحده لاشريك له قال العوفي عن ابن عباس في الآية كان أهل الشرك يقولون نعبد الملائكة والمسيح ووهم الذين يدعون يعني الملائكة وعزيزا وقوله أولئك الذين يدعون الآية وروى البخاري عن ابن مسعود في الآية قال ناس من الجن كانوا يعبدون فأسلموا

114

وفي رواية كان ناس من الانس يعبدون ناسا من الجن فأسلم الجن وتمسك هؤلاء بدينهم وقال السدي عن ابي صالح عن ابن عباس في الآية قال عيسى وامه وعزير وقال مغيرة عن إبراهيم كان ابن عباس يقول في هذه الآية هم عيسى وعزير والشمس والقمر وقال مجاهد عيسى وعزير والملائكة وقوله ويرجون رحمته ويخافون عذابه لاتتم العبادة إلا بالخوف والرجاء وفي التفسير المنسوب إلى الطبري الحنفي قل للمشركين يدعون أصنامهم دعاء استغاثة فلا يقدرون كشف الضر عنهم ولا تحويلا إلى غيرهم أولئك الذين يدعون أي الملائكة المعبودة لهم يتبادرون إلى طلب القربة إلى الله فيرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا أي مما يحذره كل عاقل وعن الضحاك وعطاء أنهم الملائكة وعن ابن عباس أولئك الذين يدعون عيسى وأمه وعزيرا قال شيخ الإسلام وهذه الأقوال كلها حق فإن الآية تعم من كان معبوده عابدا لله سواء كان من الملائكة أو من الجن أو من البشر والسلف في تفسيرهم يذكرون جنس المراد بالآية على نوع التمثيل كما يقول الترجمان لمن سأله ما معنى لفظ الخبز فيريه رغيفا فيقول هذا فالإشارة إلى نوعه لا إلى عينه وليس مرادهم بذلك تخصيص نوع دون نوع مع شمول فالآية خطاب للنوعين فاية خطاب لكل من دعا دون الله مدعوا وذلك المدعو يبتغي إلى الله الوسيلة ويرجو رحمته ويخاف عذابه فكل من دعا ميتا أو غائبا من الأنبياء والصالحين سواء كان بلفظ الاستغاثة أو غيرها فقد تناولته هذه الآية كما تتناول من دعا الملائكة والجن ومعلوم أن هؤلاء كلهم يكونون وسائط فيما يقدره الله بأفعالهم ومع هذا فقد نهى الله عن دعائهم وبين أنهم لا يملكون كشف الضر عن الداعين

115

ولا تحويله لا يرفعونه بالكلية ولا يحولونه من موضع إلى موضع كتغيير صفته أو قدره ولهذا قال ولا تحويلا فذكر نكرة تعم أنواع التحويل فكل من دعا ميتا أو غائبا من الأنبياء والصالحين أو دعا الملائكة أو دعا الجن فقد دعا من لا يغيثه ولا يملك كشف الضر عنه ولا تحويله انتهى وبنحو ما تقدم من كلام هؤلاء قال جميع المفسرين فتبين أن معنى التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله هو ترك ما عليه المشركون من دعوة الصالحين والاستشفاع بهم إلى الله في كشف الضر وتحويله فكيف ممن أخلص لهم الدعوة وإنه لا يكفي في التوحيد دعواه والنطق بكلمة الشهادة من غير مفارقة لدين المشركين وإن دعاء الصالحين لكشف الضر أو تحويله هو الشرك الأكبر نبه عليه المصنف قال وقوله وإذ قال ابراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني الآية قال ابن كثير يقول تعالى مخبرا عن عبده ورسوله وخليله إمام الحنفاء ووالد من بعث بعده من الأنبياء الذي تنتسب إليه قريش في نسبها ومذهبها إنه تبرأ من أبيه وقومه في عبادتهم الأوثان فقال إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني فإنه سيهدين وجعلها كلمة باقية في عقبه أي هذه الكلمة وهي عبادة الله وحده لا شريك له وخلع ما سواه من الأوثان وهي لا إله إلا الله أي جعلها في ذريته يقتدي به فيها من هداه الله من ذرية إبراهيم عليه السلام لعلهم يرجعون أي اليها قال عكرمة ومجاهد والضحاك وقتادة والسدي وغيرهم في قوله وجعلها كلمة باقية في عقبه يعني لا إله إلا

116

الله لا يزال في ذريته من يقولها وقال ابن زيد كلمة الإسلام وهو يرجع إلى ما قاله الجماعة قلت وروى ابن جرير عن قتادة في قولة إلا الذي فطرني قال خلقني وعنه إني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني قال إنهم يقولون إن الله ربنا ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله فلم يبرأ من ربه رواه عبد بن حميد قلت يعني أن قوم إبراهيم يعبدون الله ويعبدون غيره فتبرأ مما يعبدون إلا الله لا كما يظن الجهال أن الكفار لا يعرفون الله ولا يعبدونه أصلا وروى ابن جرير وابن المنذر عن قتادة وجعلها كلمة باقية في عقبه قال الإخلاص والتوحيد لا يزال في ذريته من يوحد الله ويعبده فتبين بهذا أن معنى لا إله إلا الله هو البراءة مما يعبد من دون الله وإفراد الله بالعبادة وذلك هو التوحيد لا مجرد الإقرار بوجود الله وملكه وقدرته وخلقه لكل شيء فإن هذا يقربه الكفار وذلك هو معنى قوله إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني فاستثنى من المعبودين ربه وذكر سبحانه أن هذه البراءة وهذه الموالاة هي شهادة أن لا إله إلا الله قاله المصنف قال وقوله تعالى اتخدوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله الآية ش الأحبار هم العلماء والرهبان هم العباد وهذه الآية قد فسرها رسول الله صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم وذلك أنه لما جاء مسلما دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ هذه الآية قال فقلت إنهم لم يعبدوهم فقال إنهم حرموا عليهم الحلال وحللوا لهم الحرام فاتبعوهم فذلك عبادتهم اياهم رواه أحمد والترمذي وحسنه وعبد بن حميد وابن سعد وابن أبي حاتم والطبراني

117

وغيرهم من طرق وهكذا قال جميع المفسرين قال السدي استنصحوا الرجال ونبذوا كتاب الله وراء طهورهم ولهذا قال تعالى وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله الا الله أي الذي إذا حرم شيئا فهو الحرام وما حلله حل وما شرعه اتبع سبحانه تعالى عما يشركون أي تعالى وتقدس عن الشركاء والنظراء والأضداد والأنداد لا إله إلا هو ولا رب سواه ومراد المصنف رحمه الله بإيراد الآية هنا أن الطاعة في تحريم الحلال وتحليل الحرام من العبادة المنفية من غير الله تعالى ولهذا فسرت العبادة بالطاعة وفسر الإله بالمعبود المطاع فمن أطاع مخلوقا في ذلك فقد عبده اذ معنى التوحيد وشهادة أن لا اله الا الله يقتضي افراد الله بالطاعة وافراد الرسول بالمتابعة فإن من أطاع الرسول صلى الله عليه وسلم فعد أطاع الله وهذا أعظم ما يبين التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله لأنها تقتضي نفي الشرك في الطاعة فما ظنك بشرك العبادة كالدعاء والاستغاثة والتوبة وسؤال الشفاعة وغير ذلك من انواع الشرك في العبادة وسيأتي مزيد لهذا ان شاء الله تعالى في باب من أطاع العلماء والأمراء قال وقوله ومن الناس من يتخذ من دون الله اندادا يحبونهم كحب الله الآية ش قال المصنف رحمه في مسائله ومنها اي من الأمور المبينة لتفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله آية البقرة في الكفار الذين قال الله فيهم وما هم بخارجين من النار وذكر أنهم يحبون اندادهم كحب الله فدل على أنهم يحبون الله حبا عظيما ولم يدخلهم في الإسلام فكيف بمن أحب الند حبا أكبر من حب الله فكيف بمن لم يحب إلا الند وحده ولم يحب الله قلت مراده أن معنى التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله هو إفراد الله بأصل الحب الذي

118

يستلزم إخلاص العبادة لله وحده لا شريك له وعلى قدر التفاضل في هذا الأصل وما ينبني عليه من الأعمال الصالحة يكون تفاضل الإيمان والجزاء عليه في الآخرة فمن أشرك بالله تعالى في ذلك فهو المشرك لهذه الآية أخبر تعالى عن أهل هذا الشرك أنهم يقولون لآلهتهم وهم في الجحيم تالله إن كنا لفي ضلال مبين أذ نسويكم برب العالمين ومعلوم أنهم ما ساووهم به في الخلق والرزق والملك وانما ساووهم به في المحبة والإلهية والتعظيم والطاعة فمن قال لا اله الا الله وهو مشرك بالله في هذه المحبة فما قالها حق القول وان نطق بها اذ هو قد خالفها بالعمل كما قال المصنف فكيف بمن أحب الند حبا أكبر من حب الله وسيأتي الكلام على هذه الآية في بابها أن شاء الله تعالى قال في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من قال لا إله الا الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله ش قوله في الصحيح أي صحيح مسلم عن أبي مالك الأشجعي عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره وأبو مالك اسمه سعد بن طارق كوفي ثقه مات في حدود الأربعين ومائة وأبوه طارق بن أشيم بالمعجمة والمثناة التحتيه وزن أحمر ابن مسعود الأشجعي صحابي له أحاديث قال مسلم لم يرو عنه غير ابنه قوله من قال لا اله الا الله وكفر بما يعبد من دون الله اعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث علق عصمة المال والدم بأمرين الأول قول لا اله الا الله الثاني الكفر فيمن يعبد من دون الله فلم يكتف بلفظ المجرد عن المعني بل لا بد من قولها والعمل بها قال المصنف وهذا من أعظم ما يبين معنى لا اله الا الله فإنه لم يجعل التلفظ بها عاصما للدم والمال بل ولا معرفة معناها مع التلفظ بها بل ولا الإقرار بذلك بل ولا كونه لا يدعو الا الله وحده لا شريك له بل لا

119

يحرم دمه وماله حتى يضيف الى ذلك الكفر بما يعبد من دون الله فإن شك أو تردد لم يحرم ماله ودمه فيا لها من مسألة ما أجلها وياله من بيان ما أوضحه وحجة ما أقطعها للمنازع قلت وقد أجمع العلماء على معنى ذلك فلا بد في العصمة من الإتيان بالتوحيد والتزام أحكامه وترك الشرك كما قال تعالى وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله والفتنة هنا الشرك فدل على أنه إذا وجد الشرك فالقتال باق بحاله كما قال تعالى وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة وقال تعالى فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم فأمر بقتالهم على فعل التوحيد وترك الشرك وإقامه شعائر الدين الظاهرة فإذا فعلوها خلي سبيلهم ومتى ابوا عن فعلها أو فعل شيء منها فالقتال باق بحاله إجماعا ولو قالوا لا إله إلا الله وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم علق العصمة بما علقها الله به في كتابه كما في هذا الحديث وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة مرفوعا أمرت أن اقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ويؤمنوا بي وبما جئت به فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله وفي الصحيحين عنه قال لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وكفر من كفر من العرب فقال عمر بن الخطاب لأبي بكر كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فمن

120

قال لا إله إلا الله فقد عصم منى ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله فقال أبو بكر والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة فإن الزكاة حق المال والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعه فقال عمر بن الخطاب فو الله ما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر ابي بكر للقتال فعرفت أنه الحق لفظ مسلم فانظر كيف فهم صديق الأمة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرد مجرد اللفظ بها من غير إلزام لمعناها وأحكامها فكان ذلك هو الصواب واتفق عليه الصحابة ولم يختلف فيه منهم اثنان إلا ما كان من عمر حتى رجع إلى الحق وكان فهم الصديق هو الموافق لنصوص القرآن والسنة وفي الصحيحين أيضا عن عبد الله بن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوه عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله فهذا الحديث كأية برآءة بين فيه ما يقاتل عليه الناس ابتدآء فإذا فعلوه وجب الكف عنهم إلا بحقه فإن فعلوا بعد ذلك ما يناقض هذا الإقرار والدخول في الإسلام وجب القتال حتى يكون الدين كله لله بل لو أقروا بالأركان الخمسة وفعلوها وأبوا عن فعل الوضوء للصلاة ونحوه أو عن تحريم بعض محرمات الإسلام كالربا أو الزنا أو نحو ذلك وجب قتالهم إجماعا ولم تعصمهم لا إله إلا الله و لا ما فعلوه من الأركان وهذا من أعظم ما بين معنى لا إله إلا الله وأنه ليس المراد منها مجرد النطق فإذا كانت لا تعصم من استباح محرما أو أبى عن فعل الوضوء مثلا بل يقاتل على ذلك حتى يفعله فكيف تعصم من دان بالشرك وفعله واحبه ومدحه وأثنى على أهله ووالى عليه وعادى عليه وأبغض التوحيد الذي هو إخلاص العبادة لله وتبرأ منه وحارب أهله وكفرهم وصد عن سبيل الله كما هو شأن عباد القبور

121

وقد أجمع العلماء على أن من قال لا إله إلا الله وهو مشرك أنه يقاتل حتى يأتي بالتوحيد ذكر التنبيه على كلام العلماء في ذلك فإن الحاجة داعية إليه لدفع شبه عباد القبور في تعلقهم بهذه الأحاديث وما في معناها مع أنها حجة عليهم بحمد الله لا لهم قال ابو سليمان الخطابي في قوله امرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله معلوم أن المراد بهذا أهل الأوثان دون أهل الكتاب لأنهم يقولون لا إله إلا الله ثم يقاتلون ولا يرفع عنهم السيف وقال القاضي عياض اختصاص عصم المال والنفس بمن قال لا إله إلا الله تعبير عن الإجابة إلى الإيمان وأن المراد بذلك مشركو العرب وأهل الأوثان ومن لا يوحد وهم كانوا أول من دعي إلى الاسلام وقوتل عليه فأما غيرهم ممن يقر بالتوحيد فلا يكتفى في عصمته بقوله لا إله إلا الله إذ كان يقولها في كفره وهي من اعتقاده فلذلك جاء في الحديث الآخر ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وقال النووي لابد مع هذا من الإيمان بجميع ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم وكما جاء في الرواية الأخرى ويؤمنوا بي وبما جئت به وقال شيخ الإسلام لما سئل عن قتال التتار مع التمسك بالشهادتين ولما زعموا من اتباع أصل الإسلام فقال كل طائفة ممتنعة من التزام شرائع الاسلام الظاهرة المتواترة من هؤلاء القوم أو غيرهم فإنه يجب قتالهم حتى يلتزموا شرائعه وإن كانوا مع ذلك ناطقين بالشهادتين وملتزمين بعض شرائعه كما قاتل ابو بكر والصحابة رضي الله عنهم ما نعي الزكاة وعلى ذلك اتفق الفقهاء بعدهم

122

قال فأيما طائفة ممتنعة امتنعت عن بعض الصلوات المفروضات أو الصيام أو الحج أو عن التزام تحريم الدماء أو الاموال أو الخمر أو الميسر أو نكاح ذوات المحارم أو عن التزام جهاد الكفار أو ضرب الجزية على أهل الكتاب أو غير ذلك من التزام واجبات الدين أو محرماته التي لا عذر لأحد في جحودها أو تركها التي يكفر الواحد بجحودها فإن الطائفة الممتنعة تقاتل عليها وإن كانت مقرة بها وهذا مما لا أعلم فيه خلافا بين العلماء قال وهؤلاء عند المحققين من العلماء ليسوا بمنزلة البغاة بل هم خارجون عن الإسلام بمنزلة ما نعي الزكاة ومثل هذا كثير في كلام العلماء والمقصود التنبيه على ذلك ويكفي العاقل المنصف ما ذكره العلماء من كل مذهب في باب حكم المرتد فإنهم ذكروا فيه أشياء كثيرة يكفر بها الإنسان ولو أتى بحميع الدين وهو صريح في كفر عباد القبور ووجوب قتالهم إن لم ينتهوا حتى يكون الدين لله وحده فإذا كان من التزام شرائع الدين كلها إلا تحريم الميسر أو الربا أو الزنا يكون كافرا يجب قتاله فكيف بمن أشرك بالله ودعي إلى اخلاص الدين لله والبراءة والكفر بمن عبد غير الله فأبي عن ذلك واستكبر وكان من الكافرين قوله وحسابه على الله أي الى الله تبارك وتعالى هو الذي يتولى حسابه فإن كان صادقا من قلبه جازاه بجنات النعيم وان كان منافقا عذبه العذاب الأليم وأما في الدنيا فالحكم على الظاهر فمن أتى بالتوحيد والتزم شرائعه ظاهرا وجب الكف عنه حتى يتبين منه ما يخالف ذلك واستدل الشافعية بالحديث على قبول توبة الزنديق وهو الذي يظهر الإسلام ويسر الكفر والمشهور في مذهب أحمد ومالك أنها

123

لا تقبل لقوله تعالى الا الذين تابو وأصلحوا وبينوا والزنديق لا يتبين رجوعه لأنه مظهر للاسلام مسر للكفر فإذا أظهر التوبه لم يزد على ما كان منه قبلها والحديث محمول على المشرك ويتفرع على ذلك سقوط القتل وعدمه أما في الآخرة فإن كان دخل في الإسلام صادقا قبلت وفيه وجوب الكف عن الكافر إذا دخل في الإسلام ولو في حال القتال حتى يتبين منه ما يخالف ذلك وفيه أن الإنسان قد يقول لا اله الا الله ولا يكفر بما يعبد من دون الله وفيه أن شرط الايمان الاقرار بالشهادة والكفر بما يعبد من دون الله مع اعتقاد ذلك واعتقاد جميع ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وفيه أن أحكام الدنيا على الظاهر وأن مال المسلم ودمه حرام الا في حق كالقتل قصاصا ونحوه وتغريمه قيمة ما يتلفه قوله وشرح هذه الترجمة ما بعدها من الأبواب يعني أن ما يأتي بعد هذه الترجمة من الأبواب شرح للتوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله لأن معنى التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله أن لا يعبد إلا الله ولا يعتقد النفع والضر إلا في الله وأن يكفر بما يعبد من دون الله ويتبرأ منها ومن عابديها وما بعد هذا من الأبواب بيان لأنواع من العبادات والاعتقادات التي يجب إخلاصها لله تعالى وذلك هو معنى التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله والله أعلم باب من الشرك لبس الحلقة والخيط ونحوهما لرفع البلاء أو دفعه ش رفع البلاء إزالته بعد حصوله ودفعه منعه قبله ومن هنا ابتدأ

124

المصنف في تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله بذكر شيء مما يضاد ذلك من أنواع الشرك الأكبر والأصغر فإن الضد لا يعرف إلا بضده كما قيل وبضدها تتبين الأشياء فمن لا يعرف الشرك لم يعرف التوحيد وبالعكس فبدأ بالأصغر الاعتقادي انتقالا من الأدني إلى الأعلى فقال وقول الله تعالى أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن إرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره ش قال ابن كثير في تفسيرها أي لا تستطيع شيئا من الأمر قل حسبي الله أي الله كافي من توكل عليه وعليه يتوكل المتوكلون كما قال هود عليه السلام حين قال له قومه إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء قال إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون من دونه فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها قلت حاصله أن الله تعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول للمشركين أرأيتم أي أخبروني عما تدعون من دون الله أي تعبدونهم وتسألونهم من الأنداد والأصنام والآلهة المسميات بأسماء الإناث الدالة أسماؤهن على بطلانهن وعجزهن لأن الأنوثة من باب اللين والرخاوة كاللات والعزى إن أرادني الله بضر أي بمرض أو فقر أو بلاء أو شدة هل هن كاشفات ضره أي لا يقدرون على ذلك أصلا أو أرادني برحمة أي صحة وعافية وخير وكشف بلاء هل هن ممسكات رحمته قال مقاتل فسألهم النبي صلى الله عليه وسلم وسلم فسكتوا أي لأنهم لا يعتقدون ذلك فيها وإنما كانوا يدعونها على معنى أنها وسائط وشفعاء عند الله لا لأنهم يكشفون الضر ويجيبون دعاء المضطر فهم يعلمون أن ذلك لله

125

وحده كما قال تعالى ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون وقد دخل في ذلك كل من دعي من دون الله من الملائكة والأنبياء والصالحين فضلا عن غيرهم فلا يقدر أحد على كشف ضر ولا إمساك رحمة كما قال تعالى ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم وإذا كان كذلك بطلت عبادتهم من دون الله وإذا بطلت عبادتهم فبطلان دعوة الآلهة والأصنام أبطل وأبطل وليس الحلقة والخيط لرفع البلاء أو دفعه كذلك فهذا وجه استدال المصنف بالآية وان كانت الترجمة في الشرك الأصغر فان السلف يستدلون بما نزل في الأكبر على الأصغر كما استدل حذيفة وابن عباس وغيرهما وكذلك من جعل رؤوس الحمر ونحوها في البيت والزرع لدفع العين كما يفعله أشباه المشركين فإنه يدخل في ذلك وقد يحتجون على ذلك بما رواه أبو داود في المراسيل عن علي بن الحسين مرفوعا احرثوا فان الحرث مبارك وأكثروا فيه من الجماجم وعنه أجوبة أحدها أنه حديث ساقط مرسل وأبو داود لم يشترط في مراسيله جمع المراسيل الصحيحة الاسناد وقد ضعفه السيوطي وغيره الثاني أنه اختلف في تفسير الجماجم فقيل هي البذر ذكره العزيزي في شرح الجامع وقيل الخشبة التي يكون في رأسها سكة الحرث قاله أبو السعادات ابن الأثير في النهاية وقيل هي جماجم رؤوس الحيوان ذكره العزيزي وغيره وعلى هذا فقيل أمر يجعلها لدفع الطير ذكره العزيزي وغيره وهذا هو الأقرب لو ثبت الحديث مع أنه باطل وقيل بل لدفع

126

العين وفيه حديث ساقط أنه أمر بالجماجم في الزرع من أجل العين وهو مع ذلك منقطع ذكره السيوطي وغيره وهذا المعني هو الذي تعلق به أشباه المشركين ولا ريب أنه معنى باطل لم يرده النبي صلىالله عليه وسلم لو كان الحديث صحيحا وكيف يريده وقد أمر بقطع الأوتار كما في الصحيح وقال من تعلق شيئا وكل اليه وقال من تعلق ودعة فلا ودع الله له وكانوا يجعلون ذلك من أجل العين كما سيأتي فهلا أرخص لهم فيه الثالث أن هذا مضاد لدين الإسلام الذي بعث الله به رسله فانه تعالى إنما أرسل الرسل وأنزل الكتب ليعبد وحده ولا يشرك به شيء لا في العبادة ولا في الاعتقاد وهذا من جنس فعل الجاهلية الذين يعتقدون البركة والنفع والضر فيما لم يجعل الله فيه شيئا من ذلك ويعلقون التمائم والودع ونحوهما على أنفسهم لدفع الأمراض والعين فيما زعموا فان قيل الفاعل لذلك لم يعتقد النفع فيه استقلالا فإن ذلك لله وحده فهو النافع الضار وإنما اعتقد أن الله جعله سببا كغيره من الأسباب قيل هذا باطل أيضا فإن الله لم يجعل ذلك سببا أصلا وكيف يكون الشرك سببا لجلب الخير ولدفع الضر ولو قدر أن فيه بعض النفع فهو كالخمر والميسر فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمها أكبر من نفعهما فإن قيل كيف يكون شركا وقد روى أبو داود ذلك في مراسيله وغيره من العلماء يروون الحديث ولم ينكروه قيل أهل العلم يروون الأحاديث الضعيفة والموضوعة لبيان حالها وإسنادها لا للاعتماد عليها واعتقادها وكتب المحدثين مشحونة بذلك فبعضهم يذكر علة الحديث ويبين حاله وضعفه إن كان ضعيفا ووضعه ان كان موضوعا وبعضهم يكتفي بايراد الحديث باسناده ويرى أنه قد برىء من عهدته اذا أورده

127

باسناده لظهور حال رواته كما يفعل ذلك الحافظ أبو نعبم وأبو القاسم بن عساكر وغيرهما فليس في رواية من رواه وسكوته عند دليل علىأنه عنده صحيح أو حسن أو ضعيف بل قد يكون موضوعا عنده فلا يدل سكوته عنه على جواز العمل به عنده وسيأتي في الكلام على حديث قطع الأوتار ما يدل على النهي عن هذا من كلام العلماء قال عن عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا في يده حلقة من صفر فقال ما هذه قال من الواهنة فقال انزعها فإنها لا تزيدك الا وهنا فإنك لو مت وهي عليك ما أفلحت أبدا رواه أحمد بسند لا بأس به ش هذا الحديث ذكره المصنف بمعناه أما لفظه فقال الامام أحمد حدثنا خلف بن الوليد ثنا المبارك عن الحسن قال أخبرني عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه وسلم أبصر على عضد رجل حلقة قال أراه قال من صفر فقال ويحك ما هذه قال من الواهنة قال أما إنها لا تزيدك إلا وهنا انبذها عنك فإنك لو مت وهي عليك ما أفلحت أبدا ورواه ابن ماجه دون قوله انبذها الى آخره وابن حبان في صحيحه وقال فانك إن مت وكلت اليها والحاكم وقال صحيح الاسناد واقره الذهبي قال المنذري رووه كلهم عن مبارك بن فضالة عن الحسن عن عمران ورواه ابن حبان أيضا بنحوه عن أبي عامر الخزاز عن الحسن وهذه متابعة جيدة إلا أن الحسن اختلف في سماعه من عمران قال ابن المدني وغيره لم يسمع منه وقال الحاكم وأكثر مشايخنا على أنه سمع منه قلت رواية الإمام أحمد ظاهرة في سماعه منه فهو الصواب قوله عن عمران بن حصين أي ابن عبيد بن خلف الخزاعي أبو نجيد

128

بنون وجيم مصغر صحابي ابن صحابي أسلم عام خيبر ومات سنة اثنتين وخمسين بالبصرة قوله رأى رجلا في رواية الحاكم دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عضدي حلقة صفر فقال ما هذه قلت من الواهنة فقال انبذها فالمبهم في رواية أحمد ومن وافقه هو عمران راوي الحديث قوله فقال ما هذا يحتمل أن الاستفهام للاستفصال هل لبسها تحليا أم لا ويحتمل أن يكون للانكار فظن اللابس أنه استفصل قوله من الواهنة قال أبو السعادات الواهنة عرق يأخذ في المنكب وفي اليد كلها فيرقى منها وقيل هو مرض يأخذ في العضد وربما علق عليها جنس من الخرز يقال له خرز الواهنة وهي تأخذ الرجال دون النساء قال وإنما نهاه عنها لأنه اتخذها على معنى أنها تعصمه من الألم فكان عنده في معنى التمائم المنهي عنه قلت وفيه استفصال المفتي واعتبار المقاصد قوله انزعها فإنها لا تزيدك إلا وهنا لفظ الحديث انبذها وهو أبلغ أي اطرحها والنزع هو الجذب بقوة والنبذ يتضمن ذلك وزيادة وهو الطرح والابعاد أمره بطرحها عنه وأخبر أنها لا تنفعه بل تضره فلا تزيده إلا وهنا أي ضعفا وكذلك كل أمر نهى عنه فإنه لا ينفع غالبا اصلا وإن نفع بعضه فضره أكبر من نفعه وفيه النهي عن تعليق الحلق والخرز ونحوهما على المريض أو غيره والتنبيه على النهي عن التداوي بالحرام وروى أبو داود بإسناد حسن والبيهقي عن أبي الدرداء مرفوعا في حديث تداووا ولا تداووا بحرام فإن قيل كيف قال صلى الله عليه وسلم لا تزيدك إلا وهنا وهي ليس لها تأثير وقيل هذا والله أعلم يكون عقوبة له على شركه لأنه وضعها لدفع الواهنة فعوقب بنقيض مقصوده

129

قوله فإنك لو مت وهي عليك ما أفلحت أبدا أي لأنه مشرك والحالة هذه والفلاح هو الفوز والظفر والسعادة قال المصنف فيه شاهد لكلام الصحابة أن الشرك الأصغر أكبر الكبائر وأنه لم يعذر بالجهالة والإنكار بالتغليظ على من فعل مثل ذلك قلت وفيه أن الصحابي لو مات وهي عليه ما أفلح أبدا ففيه رد على المغرورين الذين يفتخرون بكونهم من ذرية الصالحين أو من اصحابهم ويظنون أنهم يشفون لهم عند الله وإن فعلوا المعاصي وفيه أن رتب الإنكار متفاوتة فإذا كفى الكلام في إزالة المنكر لم يحتج إلى ضرب ونحوه وفيه أن المسلم إذا فعل ذنبا وأنكر عليه فتاب منه فإن ذلك لا ينقصه وأنه ليس من شرط أولياء الله عدم الذنوب قوله رواه أحمد بسند لا بأس به هو الإمام أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد الشيباني أبو عبد الله المروزي ثم البغدادي إمام أهل عصره وأعلمهم بالفقه والحديث وأشدهم ورعا ومتابعة للسنة روى عن الشافعي ويزيد بن هرون وابن مهدي ويحيى القطان وأبن عيينة وعفان وخلف وروى عنه ابناه عبدالله وصالح والبخاري ومسلم وأبو داود وأبو بكر الأثرم والمروزي وخلق لا يحصون مات سنة إحدى وأربعين ومائتين وله سبع وسبعون سنة قال وله عن عقبة بن عامر مرفوعا من تعلق تميمة فلا أثم الله له ومن تعلق ودعة فلا ودع الله له وفي رواية من تعلق تميمة فقد أشرك ش الحديث الأول رواه أحمد كما قال المصنف ورواه أيضا أبو يعلى والحاكم وقال صحيح الإسناد وأقره الذهبي وقوله وفي رواية هذا يوهم أن هذا في بعض الأحاديث المذكورة وليس

130

كذلك بل المراد أنه في حديث آخر رواه أحمد أيضا فقال حدثنا عبدالصمد ابن عبدالوارث ثنا عبدالعزيز ابن مسلم ثنا يزيد بن أبي منصور عن دحين الحجري عن عقبة بن عامر الجهني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل إليه رهط فبايع تسعة وأمسك عن واحد فقالوا يا رسول الله بايعت تسعة وأمسكت عن هذا قال إن عليه تميمة فأدخل يده فقطعها فبايعه وقال من علق تميمة فقد أشرك ورواه الحاكم بنحوه ورواته ثقات وقوله في هذا الحديث فأدخل يديه فقطعها أي الرجل بينه الحاكم في روايته قوله عن عقبة بن عامر هو الجهني صحابي مشهور وكان فقيها فاضلا ولي إمارة مصر لمعاوية ثلاث سنين ومات قريبا من الستين قوله من تعلق تميمة أي متمسكا بها عليه وعلى غيره من طفل أو دابة ونحو ذلك قال المنذري يقال انها خرزة كانوا يعلقونها يرون أنها تدفع عنهم الآفات واعتقاد هذا الرأي جهل وضلالة إذ لا مانع ولا دافع غير الله تعالى وقال أبو السعادات التمائم جمع تميمة وهي خرزات كانت العرب تعلقها على أولادهم يتقون بها العين في زعمهم فأبطله الإسلام قال كأنهم كانوا يعتقدون أنها تمائم الدواء والشفاء قوله فلا أتم الله له دعاء عليه بأن الله لا يتم له أموره قوله ومن تعلق ودعة بفتح الواو وسكون المهملة قال في مسند الفردوس شيء يخرج من البحر يشبه الصدف يتقون به العين قوله فلا ودع الله له بتخفيف الدال أي لا جعله في دعة وسكون وقيل هو لفظ بني من الودعة أي لا خفف الله عنه ما يخافه قال أبو السعادات وهذا دعاء عليه فيه وعيد شديد لمن فعل ذلك فإنه مع كونه شركا فقد دعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بنقيض مقصوده

131

قوله من تعلق تميمة فقد أشرك قال ابن عبد البر إذا اعتقد الذي علقها أنها ترد العين فقد ظن أنها ترد القدر واعتقاد ذلك شرك وقال أبو السعادات إنما جعلها شركا لأنهم أرادوا دفع المقادير المكتوبة عليهم وطلبوا دفع الأذى من غير الله الذي هو دافعه قال ولابن أبي حاتم عن حذيفة أنه رأى رجلا في يده خيط من الحمى فقطعه وتلا قوله وما يؤمن اكثرهم بالله إلا وهم مشركون ش هذا الأثر رواه ابن أبي حاتم كما قال المصنف ولفظه حدثنا محمد بن الحسين بن إبرايهم بن اشكاب ثنا يونس بن محمد ثنا حماد بن مسلمة عن عاصم الأحول عن عزرة قال دخل حذيفة على مريض فرأى في عضده سيرا فقطعه أو انتزعه ثم قال وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون وابن أبي حاتم هو الإمام أبو محمد عبدالرحمن ابن أبي حاتم محمد بن إدريس الرازي التميمي الحنظلي الحافظ ابن الحافظ صاحب الجرح والتعديل والتفسير وغيرهما مات سنة سبع وعشرين وثلاثمائة وحذيفة هو ابن اليمان واسم اليمان حسيل بمهملتين مصغرا ويقال حسل بكسر ثم سكون العبسي بالموحدة حليف الأنصار صحابي جليل من السابقين ويقال صاحب السر وأبوه أيضا صحابي مات حذيفة في أول خلافة علي سنة ست وثلاثين قوله رأى رجلا في يده خيط من الحمى أي من أجل الحمى لدفعها وكان الجهال يعلقون لذلك التمائم والخيوط ونحوها وروى وكيع عن حذيفة أنه دخل على مريض يعوده فلمس عضده فإذا فيه خيط فقال ما هذا

132

فقال شيء رقي لي فيه فقطعه فقال لو مت وهو عليك ما صليت عليك قوله فقطعه فيه إنكار هذا وإن كان يعتقد أنه سبب فإن الأسباب لا يجوز منها إلا ما أباحه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم مع عدم الاعتماد عليه فكيف بما هو شرك كالتمائم والخيوط والخرز والطلاسم ونحو ذلك مما يعلقه الجهال وفيه إزالة المنكر باليد بغير إذن الفاعل وإن كان يظن أن الفاعل يزيله وان إتلاف آلات المنكر واللهو جائزة وإن لم يأذن صاحبها قوله وتلا قوله وما يؤمن اكثرهم بالله إلا وهم مشركون استدل حذيفه بهذه الآية على أن تعليق الخيط ونحوه لما ذكر شرك أي أصغر كما تقدم في الحديث ففيه صحة الاستدلال بما نزل في الاكبر على الأصغر ومعنى الآية أن الله أخبر عن المشركين أنهم يجمعون بين الإيمان بالله أي بوجوده وأنه الخالق الرازق المحيي المميت ثم مع ذلك يشركون في عبادته فسرها بذلك ابن عباس وعطاء ومجاهد والضحاك وابن زيد وغيرهم باب ما جاء في الرقى والتمائم ش أي في حكمها ولما كانت الرقى على ثلاثة أقسام قسم يجوز وقسم لا يجوز وقسم في جوازه خلاف لم يجزم المصنف بكونهما من الشرك لأن في ذلك تفصيلا بخلاف لبس الحلقة والخيط ونحوهما لما ذكر فان ذلك شرك مطلقا قال في الصحيح عن أبي بشير الانصاري أنه كان مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره فأرسل رسولا أن لا يبقين في رقبة بغير قلادة من وتر أو قلادة إلا قطعت

133

ش قوله في الصحيح أي في الصحيحين قوله عن أبي بشير بفتح أوله وكسر المعجمة الانصاري قيل اسمه قيس بن عبيد قاله ابن سعد وقال ابن عبد البر لا يوقف له على اسم صحيح وهو صحابي شهد الخندق ومات بعد الستين يقال جاوز المائة قوله في بعض أسفاره قال الحافظ لم أقف على تعيينها قوله فأرسل رسولا هو زيد بن حارثة وروى ذلك الحارث ابن أبي اسامة في مسنده قاله الحافظ قوله أن لا يبقين هو بالمثناة والقاف المفتوحتين وفي رواية لا تبقين بحذف أن والمثناه الفوقية والقاف المفتوحتين أيضا وقلادة مرفوع على أنه فاعل والوتر بفتحتين واحد أوتار القوس قوله أو قلادة إلا قطعت هو برفع قلادة أيضا عطف على الأول ومعناه أن الراوي شك هل قال شيخه قلادة من وتر فقيد القلادة بأنها من وتر وقال قلادة وأطلق ولم يقيد ويؤيده ما روي عن مالك أنه سئل عن القلادة فقال ما سمعت بكراهتها إلا في الوتر وفي رواية أبي دواد ولا قلادة بغير شك والأولى أصح لاتفاق الشيخين عليها وللرخصة في القلائد إلا الأوتار وكما روى أبو داود والنسائي من حديث أبي وهب الجيشاني مرفوعا اربطوا الخيل وقلدوها ولا تقلدوها الأوتار ولأحمد عن جابر مرفوعا مثله وإسناده جيد قال البغوي في شرح السنن تأول مالك أمره عليه السلام بقطع القلائد على أنه من أجل العين وذلك أنهم كانوا يشدون بتلك الأوتار والتمائم والقلائد ويعلقون عليها العوذ يظنون أنها تعصم من الآفات فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عنها وأعلمهم أنها لا ترد من أمر الله شيئا وقال أبو عبيد القاسم بن

134

سلام كانوا يقلدون الإبل الأوتار لئلا تصيبها العين فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بإزالتها إعلاما لهم بإن الأوتار لا ترد شيئا وكذلك قال ابن الجوزي وغيره قال الحافظ ويؤيده حديث عقبة بن عامر رفعه من تعلق تميمة فلا أتم الله له رواه ابو داود وهي ما علق من القلائد خشية العين ونحو ذلك انتهى فعلى هذا يكون تقليد الإبل وغيرها الأوتار وما في معناها لهذا المعنى حراما بل شركا لانه من تعليق التمائم المحرمة ومن تعلق تميمة فقد أشرك ولم يصب من قال إنه مكروه كراهة تنزيه قال وعن ابن مسعود سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن الرقى والتمائم والتولة شرك رواه أحمد وأبو داود ش الحديث رواه أحمد وأبو داود كما قال المصنف وفيه قصة كأن المصنف اختصرها ولفظ أبي داود عن زينب امرأة عبدالله بن مسعود أن عبدالله بن مسعود رأى في عنقي خيطا فقال ما هذا قلت خيط رقي لي فيه قالت فأخذه فقطعه ثم قال أنتم آل عبدالله لأغنياء عن الشرك سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن الرقى والتمائم والتولة شرك فقلت لم تقول هكذا لقد كانت عيني تقذف وكنت أختلف إلى فلان اليهودي فإذا رقاها سكنت فقال عبدالله إنما ذلك عمل الشيطان ينخسها بيده فإذا رقى كف عنها إنما كان يكفيك أن تقولي كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول أذهب البأس رب الناس واشف أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك سفاء لا يغادر سقما ورواه ابن ماجه وابن حبان والحاكم وقال صحيح وأقره الذهبي قوله إن الرقى قال المصنف الرقى هي التي تسمى العزائم وخص منه الدليل ما خلا من الشرك فقد رخص فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من العين

135

والحمة يشير الى أن الرقى الموصوفة بكونها شركا هي الرقى التي منها شرك من دعاء غير الله والاستغاثة والاستعاذة به كالرقى باسماء الملائكة والانبياء والجن ونحو ذلك أما الرقى بالقرآن وأسماء الله وصفاته ودعائه والاستعاذة به وحده لا شريك له فليست شركا بل ولا ممنوعة بل مستحبة أو جائزة قوله فقد رخص فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من العين والحمة تقدم ذلك في باب من حقق التوحيد وكذلك رخص فيه من غيرها كما في صحيح مسلم عن عوف بن مالك قال كنا نرقي في الجاهلية فقلنا يا رسول الله كيف ترى في ذلك فقال اعرضوا علي رقاكم لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شرك وفيه عن أنس قال رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرقية من العين والحمة والنملة وعن عمران بن حصين مرفوعا لا رقية الا من عين أو حمة او دم رواه أبو داود في باب أحاديث كثيرة قال الخطابي وكان عليه السلام قد رقى ورقي وأمر بها وأجازها فاذا كانت بالقرآن أو باسماء الله تعالى فهي مباحة أو مأمور بها وإنما جاءت الكراهية والمنع فيما كان منها بغير لسان العرب فإنه ربما كان كفرا أو قولا يدخله الشرك قال ويحتمل أن يكون الذي يكره من ذلك ما كان على مذاهب الجاهلية التي يتعاطونها وأنها تدفع عنهم الآفات ويعتقدون ذلك من قبل الجن ومعونتهم قلت ويدل على ذلك قول علي بن أبي طالب إن كثيرا من هذه الرقى والتمائم شرك فاجتنبوه رواه وكيع فهذا يبين معنى حديث ابن مسعود ونحوه وقال ابن التين الرقى بالمعوذات وغيرها من أسماء الله تعالى هو الطب الرباني فاذا كان على لسان الابرار من الخلق حصل الشفاء باذن الله تعالى فلما

136

عفي عن هذا النوع فزع الناس الى الطب الجسماني وتلك القرى المنهي عنها التي يستعملها المعزم وغيره ممن يدعي تسخير الجن له فيأتي بأمور مستبهة مركبة من حق وباطل يجمع الى ذكرالله تعالى وأسمائه ما يشوبه من ذكر الشياطين والاستعانة بهم والتعوذ بمردتهم ويقال إن الحية لعداوتها الانسان بالطبع تصادق الشياطين لكونهم أعداء بني آدم فاذا عزم على الحية بأسماء الشياطين جابت وخرجت من مكانها وكذا اللديغ إذا رقي بتلك الاسماء سالت سمومها من بدن الانسان ولذلك كره الرقى ما لم تكن بآيات الله وأسمائه خاصة وباللسان العربي الذي يعرف معناه ليكون بريئا من سوب الشرك وعلى كراهية الرقى بغير كتاب الله علماء الأمة قال شيخ الإسلام كل اسم مجهول فليس لأحد أن يرقى به فضلا عن أن يدعو به ولو عرف معناه لأنه يكره الدعاء بغير العربية وإنما يرخص لمن لا يعرف العربية فأما جعل الألفاظ العجمية شعارا فليس من الإسلام قلت وسئل ابن عبدالسلام عن الحروف المقطعة فمنع منها مالا يعرف لئلا يكون فيه كفر وقال السيوطي قد أجمع العلماء على جواز الرقى عند اجتماع ثلاثة شروط أن يكون بكلام الله أو بأسمائه وصفاته وباللسان العربي وبما يعرف معناه وأن يعتقد أن الرقية لا تؤثر بذاتها بل بتقدير الله تعالى فتلخص أن الرقية ثلاثة أقسام قوله والتمائم تقدم كلام المنذري وابن الأثير في معناه في الباب قبله وظاهر تخصيص التمائم بما ذكراه وقال المصنف التمائم شيء يعلق على الأولاد من العين وقال الخلخالي التمائم جمع تميمة وهي ما يعلق بأعناق الصبيان من خرزات وعظام لدفع العين وهذا منهي عنه لأنه لا دافع إلا الله ولا يطلب دفع المؤذيات إلا بالله وأسمائه وصفاته وظاهره أن ما علق لدفع العين وغيرها فهو

137

تميمة من أي شيء كان وهذا هو الصحيح وقد يقال إن كلام المنذري وابن الأثير وغيرهما لا يخالفه قال المصنف لكن إذا كان المعلق من القرآن فرخص فيه بعض السلف وبعضهم لم يرخص فيه ويجعله من المنهي عنه منهم ابن مسعود اعلم أن العلماء من الصحابة والتابعين فمن بعدهم اختلفوا في جواز تعليق التمائم التي من القرآن وأسماء الله وصفاته فقالت طائفة يجوز ذلك وهو قول عبدالله بن عمرو بن العاص وغيره وهو ظاهر ما روي عن عائشة وبه قال أبو جعفر الباقر وأحمد في رواية وحملوا الحديث على التمائم الشركية أما التي فيها القرآن وأسماء الله وصفاته فكالرقية بذلك قلت وهو ظاهر اختيار ابن القيم وقالت طائفة لا يجوز ذلك وبه قال ابن مسعود وابن عباس وهو ظاهر قول حذيفة وعقبة بن عامر وابن عكيم رضي الله عنه وبه قال جماعة من التابعين منهم أصحاب ابن مسعود وأحمد في روايه اختارها كثير من أصحابه وجزم بها المتأخرون واحتجوا بهذا الحديث وما في معناه فإن ظاهره العموم لم يفرق بين التي في القرآن وغيرها بخلاف الرقى فقد فرق فيها ويؤيد ذلك أن الصحابة الذين رووا الحديث فهموا العموم كما تقدم عن ابن مسعود وروى أبو داود عن عيسى بن حمزة قال دخلت على عبدالله بن عكيم وبه حمرة فقلت ألا تعلق تميمة فقال نعوذ بالله من ذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من تعلق شيئا وكل إليه وروى وكيع عن ابن عباس قال اتفل بالمعوذتين ولا تعلق وأما القياس على الرقية بذلك فقد يقال بالفرق فكيف يقاس التعليق الذي لا بد فيه من ورق أو جلود ونحوهما على مالا يوجد ذلك فيه فهذا الى الرقى المركبة من حق باطل أقرب هذا اختلاف العلماء في تعليق القرآن وأسماء الله وصفاته فما ظنك بما حدث بعدهم من الرقى

138

بأسماء الشياطين وغيرهم وتعليقها بل والتعلق عليهم والاستعاذة بهم والذبح لهم وسؤالهم كشف الضر وجلب الخير مما هو شرك مخض وهو غالب على كثير من الناس إلا من سلم الله فتأمل ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم وما كان عليه أصحابه والتابعون وما ذكره العلماء بعدهم في هذا الباب وغيره من أبواب الكتاب ثم انظر الى ما حدث في الخلوف المتأخرة يتبين لك دين الرسول صلى الله عليه وسلم وغربته الآن في كل شيء فالله المستعان قوله والتولة شرك قال المصنف هو شيء يصنعونه يزعمون أنه يحبب المرأة الى زوجها والزوج الى امرأته وكذا قال غيره أيضا وبهذا فسره ابن مسعود راوي الحديث كما في صحيح ابن حبان والحاكم قالوا يا ابا عبدالرحمن هذه الرقى والتمائم قد عرفناهما فما التولة قال شيء يضعه النساء يتحببن الى ازواجهن قال الحافظ التولة بكسر المثناه وفتح الواو واللام مخففا شيء كانت المرأة تجلب به محبة زوجها وهو ضرب من السحر وإنما كان ذلك من الشرك لأنهم أرادوا دفع المضار وجلب المنافع من عند غير الله قال وعن عبدالله بن عكيم مرفوعا من تعلق شيئا وكل اليه رواه احمد والترمذي ش ورواه أيضا أبو داود والحاكم قوله عن عبدالله بن عكيم هو بضم المهملة مصغرا ويكنى ابا معبد الجهني الكوفي قال البخاري أدرك زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولا يعرف له سماع صحيح وكذا قال أبو حاتم قال معناه أبو زرعة وابن حبان وابن منده وأبو نعيم وقال البغوي يشك في سماعه وقال الخطيب سكن الكوفة وقدم المدائن في حياة حذيفة وكان ثقه وذكر ابن سعد عن غيره أنه

139

مات في ولاية الحجاج وظاهر كلام هؤلاء الأئمة أن الحديث مرسل قوله من تعلق شيئا وكل اليه التعلق يكون بالقلب ويكون بالفعل ويكون بهما جميعا أي من تعلق شيئا بقلبه أو تعلقه بقلبه وفعله وكل اليه أي وكله الله إلى ذلك الشيء الذي تعلقه فمن تعلقت نفسه بالله وأنزل حوائجه بالله والتجأ إليه وفوض أمره كله اليه كفاه كل مؤنة وقرب اليه كل بعيد ويسر له كل عسير ومن تعلق بغيره أو سكن إلى علمه وعقله ودوائه وتمائمه واعتمد على حوله وقوته وكله الله إلى ذلك وخذله وهذا معروف بالنصوص والتجارب قال الله تعالى ومن يتوكل على الله فهو حسبه وقال الامام أحمد حدثنا هشام بن القاسم ثنا أبو سعيد المؤدب ثنا من سمع عطاء الخراساني قال لقيت وهب بن منبه وهو يطوف بالبيت فقلت له حدثني حديثا أحفظه عنك في مقامي هذا وأوجز قال نعم أوحى الله تبارك وتعالى إلى داود يا داود أما وعزتي وعظمتي لا يعتصم بي عبد من عبيدي دون خلقي أعرف ذلك من نيته فتكيده السموات السبع ومن فيهن والأرضون السبع ومن فيهن إلا جعلت له من بينهن مخرجا أما وعزتي وعظمتي لا يعتصم عبد من عبيدي بمخلوق دوني أعرف ذلك من نيته الا قطعت أسباب السماء من يده وأسخت الأرض من تحت قدميه ثم لا أبالي بأي واد هلك قال وروى الامام أحمد عن رويفع قال قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم يا رويفع لعل الحياة تطول بك فأخبر الناس أن من عقد لحيته أو تقلد وترا أو استنجى برجيع دابة أو عظم فان محمدا بريء منه ش الحديث رواه الامام أحمد عن يحيى بن اسحق والحسن بن موسى

140

الأشيب كلاهما عن ابن لهيعة وفيه قصة فاختصرها المصنف وهذا لفظ الحسن قال حدثنا ابن لهيعة ثنا عياش بن عباس عن شييم بن بيتان قال ثنا رويفع بن ثابت قال كان أحدنا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذ جمل أخيه على أن يعطيه النصف مما يغنم وله النصف حتى إن أحدنا ليصير له النصل والريش والآخر القدح ثم قال قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم يا رويفع لعل الحياة تطول بك فأخبر الناس أنه من عقد لحيته أو تقلد وترا أو استنجى برجيع دابة أو عظم فإن محمدا بريء منه ثم رواه أحمد عن يحيى بن غيلان ثنا المفضل حدثني عياش بن عباس أن شييم بن بيتان أخبره أنه سمع شيبان القتباني يقول استخلف مسلمة بن مخلد رويفع بن ثابت الأنصاري على أسفل الأرض قال فسرنا معه فقال قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث وفي الإسناد الأول ابن لهيعة وفيه مقال وفي الثاني شيبان القتباني قيل فيه مجهول وبقية رجالهما ثقات ورواه أبو داود من طريق المفضل به مطولا وسكت عليه ثم قال حدثنا يزيد بن خالد أنا مفضل عن عياش أن شييم بن بيتان أخبره أيضا بهذا الحديث عن أبي سالم الجيشاني عن عبدالله ابن عمرو يذكر ذلك وهو معه مرابط بحصن باب البون قال أبو داود حصن البون بالفسطاط على جبل قلت وهذا اسناد جيد رواه النسائي من رواية شييم عن رويفع وصرح بسماعه منه ولم يذكر شيبان فان كان ذكر شيبان وهما فالاسناد صحيح وحسنه النووي وصححه بعضهم قال الحافظ أبو زرعة في شرح أبي داود ورواه الطحاوي مختصرا فذكر منه الاستنجاء برجيع دابة أو عظم فقط رواه محمد بن الربيع الجيزي في كتاب من دخل مصر من الصحابة مطولا وفيه أن من عقد لحيته في الصلاة

141

قوله فأخبر الناس دليل على وجوب إخبار الناس بذلك على رويفع وليس هذا مختصا به بل كل من كان عنده علم ليس عند غيره مما يحتاج اليه الناس وجب عليه تبليغه للناس وإعلامهم به فان اشترك هو وغيره في علم ذلك فالتبليغ فرض كفاية هذا كلام أبي زرعة قوله لعل الحياة تطول بك علم من إعلام النبوة لأنه وقع كما أخبر به صلى الله عليه وسلم فإن رويفعا طالت حياته إلى سنة ست وخمسين فمات فيها ببرقة من أعمال مصر أميرا عليها وهو من الأنصار وقيل مات سنة ثلاث وخمسين قاله ابن يونس قوله أن من عقد لحيته بكسر اللام لا غير قاله في المشارق والجمع لحى بالكسر والضم قال الجوهري قال الخطابي وأما نهيه عن عقد اللحية فإن ذلك يفسر على وجهين أحدهما ما كانوا يفعلونه من ذلك في الحروب كانوا في الجاهلية يعقدون لحاهم وذلك من زي بعض الأعاجم يفتلونها ويعقدونها قلت كأنهم كانوا يفعلونه تكبرا وعجبا كما ذكره أبو السعادات قال ثانيهما أن معناه معالجة الشعر ليتعقد ويتجعد وذلك من فعل أهل التوضيع والتأنيث وقال أبو زرعة ابن العراقي والأولى حمله على عقد اللحية في الصلاة كما دلت عليه رواية محمد بن الربيع المتقدم ذكرها فهو موافق للحديث الصحيح في النهي عن كف الشعر والثوب فإن عقد اللحية فيه كفها وزيادة قوله أو تقلد وترا أي جعله قلادة في عنقه أو عنق دابته ونحو ذلك وفي رواية محمد بن الربيع أو تقلد وترا يريد تميمة فهذا يدل على أنهم كانوا يتقلدون الأوتار من أجل العين إذ فسره بالتميمة وهي تجعل لذلك

142

قوله أو استنجى برجيع دابة أو عظم فإن محمدا بريء منه قال النووي أي بريء من فعله وقال بهذه الصيغة ليكون أبلغ في الزجر قلت فيه النهي عن الاستنجاء برجيع الدواب والعظام وقد ورد في ذلك أحاديث منها ما في صحيح مسلم عن ابن مسعود مرفوعا لا تستنجوا بالروث ولا بالعظام فإنه زاد إخوانكم من الجن وعلى هذا فلا يجزىء الاستنجاء بهما كما هو ظاهر مذهب أحمد واختار شيخ الإسلام وجماعة الإجزاء وان كان محرما قالوا لأنه لم ينه عنه لكونهما لا ينقيان بل لافسادهما قلت الأول أولى لما رواه ابن خزيمة والدارقطني من طريق الحسن ابن الفرات عن أبيه عن ابي حازم الأشجعي عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يستنجى بعظم أو روث وقال إنما لا يطهران وهذا إسناد جيد قال وعن سعيد بن جبير قال من قطع تميمة من إنسان كان كعدل رقبة رواه وكيع ش هذا عند أهل العلم له حكم الرفع لأن مثل ذلك لا يقال بالراي فيكون على هذا مرسل لأن سعيدا تابعي وفيه فضل قطع التمائم لأنها من الشرك ووكيع هو ابن الجراح بن وكيع الكوفي ثقة إمام صاحب تصانيف منها الجامع وغيره روى عنه الإمام أحمد وطبقته مات سنة سبع وتسعين ومائة قال وله عن ابراهيم كانوا يكرهون التمائم كلها من القرآن وغير القرآن

143

ابراهيم هو إبراهيم بن يزيد النخعي الكوفي يكنى أبا عمران ثقة إمام من كبار فقهاء الكوفة قال المزني دخل على عائشة ولم يثبت له سماع منها مات سنة ست وتسعين وله خمسون سنة ونحوها قوله كانوا يكرهون التمائم إلى آخره مراده بذلك أصحاب عبدالله بن مسعود كعلقمة والاسود وابي وائل والحارث بن سويد وعبيدة السلماني ومسروق والربيع بن خيثم وسويد بن غفلة وغيرهم من أصحاب ابن مسعود وهم من سادات التابعين وهذه الصيغة يستعملها إبراهيم في حكاية قوالهم كما بين ذلك الحفاظ كالعراقي وغيره باب من تبرك بشجرة او حجر ونحوهما ش كبقعة وغار وعين وقبر ونحو ذلك مما يعتقد كثير من عباد القبور وأشباههم فيه البركة فيقصدونه رجاء البركة ويعني بقوله تبرك أي طلب البركة ورجاها واعتقدها أي ما حكمه هل هو شرك أم لا قال وقول الله تعالى أفرأيتم اللات والعزى الآيات ش هكذا ثبت في خط المصنف الآيات يعني إلى قوله ولقد جاءهم من ربهم الهدى قال القرطبي لما ذكر الوحي الى النبي صلى الله عليه وسلم وذكر من آثار قدرته ما ذكر حاج المشركين إذ عبدوا ما لا يعقل وقيل أفرأيتم هذه الآلهة التي تعبدونها أو حين اليكم شيئا كما أوحي إلى محمد صلى الله عليه وسلم وكانت اللات لثقيف والعزى لقريش وبني كنانة ومناة لبني هلال وقال ابن هشام كانت مناة لهذيل وخزاعة

144

ذكر صفة هذه الأوثان ليعرف المؤمن كيفية الأوثان وكيفية عبادتها وما هو شرك العرب الذين كانوا يفعلونه حتى يفرق بين التوحيد والاخلاص وبين الشرك والكفر فأما اللات فقرأ الجمهور بتخفيف التاء وقرأ ابن عباس وابن الزبير ومجاهد وحميد وأبو صالح ورويس عن يعقوب اللات بتشديد التاء فعلى الأولى قال الأعمش سمو اللات من الآله والعزى من العزيز قال ابن جرير وكانوا قد اشتقوا اسمها من الله تعالى فقالوا اللات مؤنثة منه تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا قال وكذا العزى من العزيز قال ابن كثير وكانت صخرة بيضاء منقوشة عليها بيت بالطائف له أستار وسدنة وحوله فناء معظم عند أهل الطائف وهم ثقيف ومن تابعها يفتخرون به على من عداهم من أحياء العرب بعد قريش قال ابن هشام وكانت في موضع مسجد الطائف اليسرى فلم يزل كذلك إلى أن أسلمت ثقيف فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم المغيرة بن شعبة فهدمها وحرقها بالنار وعلى الثانية قال ابن عباس كان رجلا يلت السويق للحاج فلما مات عكفوا على قبره ذكره البخاري وقال ابن عباس كان يبيع السويق والسمن عند صخرة ويلته عليها فلما مات ذلك الرجل عبدت ثقيف تلك الصخرة إعظاما لصاحب السويق وعن مجاهد نحوه وقال فلما مات عبدوه رواه سعيد بن منصور والفاكهي وكذا روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنهم عبدوه وقال ابن جريج كان رجل من ثقيف يلت السويق بالزيت فلما توفي جعلوا إلى قبره وثنا وبنحو ذلك قال جماعة من أهل العلم ولا تخالف بين القولين فإن من قال إنها صخرة لم ينف أن تكون صخرة على القبر أو حواليه

145

فعظمت وعبدت تبعا لا قصدا فالعبادة إنما أرادوا بها صاحب القبر فهو الذي عبدوه بالأصالة يدل على ذلك ما روى الفاكهي عن ابن عباس أن اللات لما مات قال لهم عمرو بن لحي إنه لم يمت ولكنه دخل الصخرة فعبدوها وبنوا عليها بيتا فتأمل فعل المشركين مع هذا الوثن ووزان بينه وبين بناء القباب على القبور والعكوف عندها ودعائها وجعلها ملاذا عند الشدائد وأما العزى فقال ابن جرير كانت شجرة عليها بناء وأستار بنخلة بين مكة والطائف كانت قريش يعظمونها كما قال أبو سفيان يوم أحد لنا العزى ولا عزى لكم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قولوا الله مولانا ولا مولى لكم وروى النسائي وابن مردويه عن أبي الطفيل قال لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة بعث خالد بن الوليد إلى نخلة وكانت بها العزى فأتاها خالد وكانت على ثلاث سمرات فقطع السمرات وهدم البيت الذي كان عليها ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال ارجع فإنك لم تصنع شيئا فرجع خالد فلما أبصرته السدنة وهم حجبتها امتنعوا في الجبل وهم يقولون يا عزى يا عزى فأتاها خالد فإذا امرأة عريانة ناشرة شعرها تحفن التراب على رأسها فعلاها بالسيف حتى قتلها ثم رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال تلك العزى قال ابن هشام وكانوا يسمعون منها الصوت وقال أبو صالح العزى نخلة كانوا يعلقون عليها السيور والعهن رواه عبد بن حميد وابن جرير فتأمل فعل المشركين مع هذا الوثن ووازن بينه وبين ما يفعله عباد القبور من دعائها والذبح عندها وتعليق الخيوط وإلقاء الخرق في ضرائح الأموات ونحو ذلك فالله المستعان وأما مناة فكانت بالمشلل عند قديد بين مكة والمدينة وكانت خزاعة والأوس والخزرج يعظمونها ويهلون منها للحج إلى الكعبة وأصل

146

اشتقاقها من اسم الله المنان وقيل من منى الله الشيء إذا قدره وقيل سميت مناة لكثرة ما يمنى أي يراق عندها من الدماء للتبرك بها قال ابن هشام فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا فهدمها عام الفتح قال ابن اسحق في السيرة وقد كانت العرب اتخذت مع الكعبة طواغيت وهي بيوت تعظمها كتعظيم الكعبة لها سدنة وحجاب وتهدي لها كما يهدى للكعبة وتطوف بها وتنحر عندها وهي تعرف فضل الكعبة عليها لانها كانت قد عرفت أنها بيت إبراهيم عليه السلام ومسجده قلت هذا الذي ذكره ابن اسحق من شرك العرب هو بعينه الذي يفعله عباد القبور بل زادوا على الاولين إذا تبين هذا فمعنى الآية كما قال القرطبي إن فيها حذفا تقديره أفرأيتم هذه الآلهة هل نفعت أو ضرت حتى تكون شركاء لله وقال غيره ومناة الثالثة الأخرى ذم وهي المتأخرة الوضيعة المقدار كقوله وقالت أولاهم لأخراهم أي وضعاؤهم لرؤسائهم وقوله ألكم الذكر وله الأنثى قال ابن كثير أي أتجعلون له ولدا وتجعلون ولده أنثى وتختارون لكم الذكور وقال غيره يجوز أن يراد اللات والعزى ومناة إناث وقد جعلتموهن لله شركاء ومن شأنكم أن تحتقروا أناث وتستنكفوا من أن يولدن لكم أو ينسبن إليكم فكيف تجعلون هؤلاء الإناث أندادا لله وتسمونهن آلهة قلت ما أقرب هذا القول إلى سياق الآية وقوله تلك إذا قسمة ضيزى أي جور وباطلة فكيف تقاسمون ربكم هذه القسمة التي لو كانت بين مخلوقين كانت جورا وسفها

147

فتنزهون أنفسكم عن الاناث وتجعلونهن لله تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا وقوله إن هي اسماء سميتموها أنتم وآباؤكم قال ابن كثير ثم قال منكرا عليهم فيما ابتدعوه وأحدثوه من الكذب والافتراء والكفر من عبادة الاصنام وتسميتها آلهة إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم أي من تلقاء أنفسكم ما أنزل الله بها من سلطان أي من حجة إن يتبعون إلا الظن أي ليس لهم مستند إلا حسن ظنهم بآبائهم الذين سلكوا هذا المسلك الباطل قبلهم وإلاحظ أنفسهم في رياستهم وتعظيم آبائهم الأقدمين وقوله ولقد جاءهم من ربهم الهدى ش قال ابن كثير ولقد أرسل الله إليهم الرسل بالحق المنير والحجة القاطعة ومع هذا ما تبعوا ما جاؤوهم به ولا انقادوا له قلت في هذه الآيات من الدلائل القطعية على بطلان عبادة هذه الطواغيت وأشباهها مالا مزيد عليه فسبحان من جعل كلامه شفاء وهذى ورحمة وبشرى للمسلمين منها أنها أسماء مؤنثة دالة على اللين والرخاوة وما كان كذلك فليس بإله ومنها أنكم قاسمتم الله بزعمكم فجعلتم له هذه الاسماء المؤنثة شركاء ودعوتم له الاولاد ثم جعلتموهم بنات واختصصتم بالذكور فجعلتم له المكروه الناقص ولكم المحبوب الكامل للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء ولله المثل الأعلى وهو العزيز الحكيم ومنها أنها أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم وابتدعتموها ومنها ما أنزل الله بها من سلطان أي حجة وبرهان ومنها

148

أنكم لم تستندوا في تسميتها إلى علم ويقين وإنما استندتم في ذلك إلى الظن والهوى الذين هما اصلا الهلاك دنيا وأخرى ومنها ولقد جاءهم من ربهم الهدى أي بإبطال عبادتها وما كان كذلك فهو عين المحال البين البطلان وكل واحد من هذه الأدلة كاف شاف في بطلان عبادتها فان قلت فأين دليل الترجمة من الآيات قيل هو بين بحمد الله لأنه إن كان التبرك بالشجر والقبور والأحجار من الأكبر فواضح وإن كان من الأصغر فالسلف يستدلون بما نزل في الأكبر على الأصغر قال وعن أبي واقد الليثي قال خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الى حنين ونحن حدثاء عهد بكفر وللمشركين سدرة يعكفون عندها وينوطون بها أسلحتهم يقال لها ذات أنواط فقلنا يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم الله أكبر إنها السنن قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنوا إسرائيل لموسى اجعل لنا آلها كما لهم آلهة قال أنكم قوم تجهلون لتركبن سنن من كان قبلكم رواه الترمذي وصححه ش الحديث روله الترمذي كما قال المصنف ولفظه حدثنا سعيد ابن عبد الرحمن المخزومى حدثنا سفيان عن الزهرى عن سنان بن ابي سنان عن أبي واقد الليثى أن رسول الله لما خرج إلى الحنين مر بشجرة للمشركين يقال لها ذات أنواط يعقلون عليها أسلحتهم قالوا يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط فقال النبي سبحان الله هذا كما قال قوم موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة والذي نفسي بيده لتركبن سنة من كان قبلكم هذا حديث حسن صحيح وأبو واقد الليثي اسمه الحارث بن عوف وفي الباب عن أبي سعيد وابى هريرة هذا لفظ الترمذي بحروفه

149

وفيه مخالفة لما في الكتاب لفظا ومعنى وقد اتفق اللفظان على المقصود هنا وقد رواه أحمد وأبو داود وأبو يعلى وابن أبي شيبة والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني بنحوه وروى ابن أبي حاتم وابن مردويه والطبراني من طريق كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف عن ابيه عن جده نحوه أيضا قوله عن أبي واقد الليثي اسمه الحارث بن عوف كما قال الترمذي وقيل الحارث بن مالك صحابي مشهور مات سنة ثمان وستين وله خمس وثمانون سنة قوله خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين في حديث عمرو بن عوف قال غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح ونحن ألف ونيف حتى إذا كنا بين حنين والطائف ولا مخالفة بينهما في المعنى فإن غزوة الفتح وحنين كانتا في سفر واحد قوله ونحن حدثاء عهد بكفر أي قريبوا عهد بكفر ففيه دليل أن غيرهم لا يجهل هذا وان المنتقل من الباطل الذي اعتاده قلبه لا يأمن أن يكون في قلبه بقية من تلك العادات الباطلة ذكره المصنف قوله يعكفون عندها الاعتكاف هو الإقامة على الشيء بالمكان ولزومها ومنه قوله ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون وكانوا يعكفون عند هذه السدرة تبركا بها وفي حديث عمرو بن عوف قال كان يناط بها السلاح فسميت ذات أنواط وكانت تعبد من دون الله فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم صرف عنها في يوم صائف إلى ظل هو أدنى منها الحديث فيجمع بينهما بأن عبادتها هي العكوف عندها رجاء لبركتها قوله وينوطون بها أسلحتهم أي يعلقونها عليها للبركة

150

قوله يقال لها ذات أنواط قال أبو السعادات سألوه أن يجعل لهم مثلها فنهاهم عن ذلك وأنواط جمع نوط وهو مصدر سمي به المنوط قوله فقلنا يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط أي شجرة مثلها نعلق عليها ونعكف حواليها ظنوا أن هذا أمر محبوب عند الله فقصدوا التقرب إلى الله بذلك وإلا فهم أجل قدرا وان كانوا حديثي عهد بكفر عن قصد مخالفة النبي صلى الله عليه وسلم قوله فقال النبي صلى الله عليه وسلم الله اكبر هكذا في بعض الروايات وفي رواية الترمذي سبحان الله والمقصود باللفظين واحد لأن المراد تعظيم الله وتنزيهه عن الشرك والتقرب به إليه وفيه تكبير الله وتنزيهه عند التعجب أو ذكر الشرك خلافا لمن كرهه قوله أنها السنن بضم السين أي الطرق قوله قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو اسرائيل لموسى اجعل لنا إلها الخ أخبر صلى الله عليه وسلم أن هذا الامر الذي طلبوه منه وهو اتخاذ شجرة للعكوف عندها وتعليق الأسلحة بها تبركا كالأمر الذي طلبه بنو اسرائيل من موسى عليه السلام حيث قالوا اجعل لنا إلها كما لهم آلهة فإذا كان اتخاذ شجرة لتعليق الأسلحة والعكوف عندها اتخاذ إله مع الله مع أنهم لا يعبدونها ولا يسألونها فما الظن بما حدث من عباد القبور من دعاء الأموات والأستغاثة بهم والذبح والنذر لهم والطواف بقبورهم وتقبيلها وتقبيل أعتابها وجدرانها والتمسح بها والعكوف عندها وجعل السدنة والحجاب لها وأي نسبة بين هذا وبين تعليق الأسلحة على شجرة تبركا قال الإمام أبو بكر الطرطوشي من أئمة المالكية فانظروا رحمكم الله أينما وجدتم سدرة أو شجرة يقصدها الناس ويعظمونها ويرجون البرء

151

والشفاء من قبلها ويضربون بها المسامير والخرق فهي ذات أنواط فاقطعوها وقال الحافظ ابو محمد عبدالرحمن بن اسماعيل الشافعي المعروف بأبي شامة في كتاب البدع والحوادث ومن هذا القسم أيضا ما قد عم الابتلاء به من تزيين الشيطان للعامة تخليق الحيطان والعمد وسرج مواضع مخصوصة في كل بلد يحكي لهم حاك أنه رأى في منامه بها أحدا ممن شهر بالصلاح والولاية فيفعلون ذلك ويحافظون عليه مع تضييعهم فرائض الله تعالى وسننه ويظنون أنهم متقربون بذلك ثم يتجاوزون هذا إلى أن يعظم وقع تلك الأماكن في قلوبهم فيعظمونها ويرجون الشفاء لمرضاهم وقضاء حوائجهم بالنذر لهم وهي من بين عيون وشجر وحائط وحجر وفي مدينة دمشق صانها الله من ذلك مواضع متعددة كعونية الحما خارج باب توما والعمود المخلق داخل باب الصغير والشجرة الملعونة اليابسة خارج باب النصر في نفس قارعة الطريق سهل الله قطعها واجتثاثها من أصلها فما أشبهها بذات أنواط الواردة في الحديث ثم ذكر الحديث المتقدم وكلام الطرطوشي الذي ذكرنا ثم قال ولقد أعجبني ما صنعه الشيخ أبو اسحق الجبنياني رحمه الله تعالى أحد الصالحين ببلاد افريقية في المائة الرابعة حكى عنه صاحبه الصالح ابو عبد الله محمد ابن أبي العباس المؤدب أنه كان إلى جانبه عين تسمى عين العافية كان العامة قد افتتنوا بها يأتونها من الآفاق من تعذر عليها نكاح أو ولد قالت امضوابي إلى العافية فتعرف بها الفتنة قال أبو عبد الله فأنا في السحر ذات ليلة إذ سمعت أذان أبي اسحق نحوها فخرجت فوجدته قد هدمها وأذن الصبح عليها ثم قال اللهم إني هدمتها لك فلا ترفع لها رأسا قال فما رفع لها رأس إلى الآن قلت أبو إسحق الذي هدمها إمام مشهور من أئمة المالكية زاهد اسمه ابراهيم بن أحمد بن علي بن أسلم وكان الإمام أبو محمد ابن أبي زيد يعظم شأنه ويقول

152

طريق أبي اسحق خالية لا يسلكها أحد في الوقت وكان القابسي يقول الجبنياني إمام يقتدى به مات سنة تسع وستين وثلاثمائة وذكر ابن القيم نحو ما ذكره أبو شامة ثم قال فما أسرع اهل الشرك إلى اتخاذ الأوثان من دون الله ولو كانت ما كانت ويقولون إن هذا الحجر وهذه الشجرة وهذه العين تقبل النذر أي تقبل العبادة من دون الله فإن النذر عبادة وقربة يتقرب بها الناذر الى المنذور له وسيأتي شيء يتعلق بهذا الباب عند قوله اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد وفي هذه الجملة من الفوائد أن ما يفعله من يعتقد في الأشجار والقبور والأحجار من التبرك بها والعكوف عندها والذبح لها هو الشرك ولا يغتر بالعوام والطغام ولا يستبعد كون هذا شركا ويقع في هذه الأمة فإذا كان بعض الصحابة ظنوا ذلك حسنا وطلبوه من النبي صلى الله عليه وسلم حتى بين لهم أن ذلك كقول بني اسرائيل اجعل لنا إلها فكيف بغيرهم مع غلبة الجهل وبعد العهد بآثار النبوة وفيها أن الاعتبار في الأحكام بالمعاني لا بالأسماء ولهذا جعل النبي صلى الله عليه وسلم طلبتهم كطلبة بني اسرائيل ولم يلتفت إلى كوتهم سموها ذات أنواط فالمشرك وإن سمى شركه ما سماه كمن يسمي دعاء الأموات والذبح لهم والنذر ونحو ذلك تعظيما ومحبة فإن ذلك هو الشرك وإن سماه ما سماه وقس على ذلك وفيها أن من عبد فهو إله لأن بني إسرائيل والذين سألوا النبي صلى الله عليه وسلم لم يريدوا من الأصنام والشجرة الخلق والرزق وإنما أرادوا البركة والعكوف عندها فكان ذلك اتخاذا له مع الله تعالى وفيها أن معنى الإله هو المعبود وأن من أراد أن يفعل الشرك جهلا فنهي عن ذلك فانتهى لا يكفر وأن لا إله إلا الله تنفي هذا الفعل مع دقته وخفائه على أولئك الصحابة ذكره المصنف فكيف بما هو أعظم منه ففيه رد على الجهال الذين يظنون أن معناها الإقرار بأن الله خالق كل شيء وأن ما سواه مخلوق ونحو

153

ذلك من العبارات والإغلاظ على من وقع منه ذلك جهلا قوله لتركبن بضم الموحدة أي لتتبعن أنتم أيها الأمة سنن من كان قبلكم بضم السين أي طرقهم ومناهجهم وأفعالهم ويجوز فتح السين وهذا خبر صحيح وجد كما أخبر صلى الله عليه وسلم ففيه دليل على شهادة أن محمدا رسول الله وفي الحديث من الفوائد غير ما تقدم النهي عن التشبه بأهل الجاهلية من أهل الكتاب والمشركين وأنه متقرر عندهم أن العبادات مبناها على الأمر فصار فيها التنبيه على مسائل القبر أما من ربك فواضح وأما من نبيك فمن إخباره بأنباء الغيب وأما ما دينك فمن قولهم اجعل لنا إلها إلى آخره قاله المصنف وفيه أن الشرك لابد أن يقع في هذه الأمة كما وقع فيمن قبلها ففيه رد على من قال إن الشرك لا يقع في هذه الأمة وفيه سد الذرائع والغضب عند التعليم وأن ما ذم الله به اليهود والنصارى فإنه لنا لنحذره ذكر ذلك المصنف تنبيه ذكر بعض المتأخرين أن التبرك بآثار الصالحين مستحب كشرب سؤرهم والتمسح بهم أو بثيابهم وحمل المولود إلى أحد منهم ليحنكه بتمرة حتى يكون أول ما يدخل جوفه ريق الصالحين والتبرك بعرقهم ونحو ذلك وقد أكثر من ذلك أبو زكريا النووي في شرح مسلم في الأحاديث التي فيها أن الصحابة فعلوا شيئا من ذلك مع النبي صلى الله عليه وسلم وظن أن بقية الصالحين في ذلك كالنبي صلى الله عليه وسلم وهذا خطأ صريح لوجوه منها عدم المقاربة فضلا عن المساواة للنبي صلى الله عليه وسلم في الفضل والبركة ومنها عدم تحقق الصلاح فإنه لا يتحقق إلا بصلاح القلب وهذا أمر لا يمكن الاطلاع عليه إلا بنص كالصحابة الذين أثني الله عليهم ورسوله أو أئمة التابعين أو من شهر بصلاح ودين كالأئمة الأربعة ونحوهم من الذين تشهد لهم الأمة بالصلاح وقد عدم أولئك أما

154

غيرهم فغاية الأمر أن نظن أنهم صالحون فنرجو لهم ومنها انا لو ظننا صلاح شخص فلا نأمن أن يختم له بخاتمة سوء والأعمال بالخواتيم فلا يكون أهلا للتبرك بآثاره ومنها أن الصحابة لم يكونوا يفعلون ذلك مع غيره لا في حياته ولا بعد موته ولو كان خيرا لسبقونا إليه فهلا فعلوه مع أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ونحوهم من الذين شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة وكذلك التابعون هلا فعلوه مع سعيد بن المسيب وعلي بن الحسين وأويس القرني والحسن البصري ونحوهم ممن يقطع بصلاحهم فدل أن ذلك مخصوص بالنبي صلى الله عليه وسلم ومنها أن فعل هذا مع غيره صلى الله عليه وسلم لا يؤمن أن يفتنه وتعجبه نفسه فيورثه العجب والكبر والرياء فيكون هذا كالمدح في الوجه بل أعظم باب ما جاء في الذبح لغير الله أي من الوعيد وهل يكون شركا أم لا قال وقول الله تعالى قل أن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له الآية ش قال ابن كثير يأمره تعالى أن يخبر المشركين الذين يعبدون غير الله ويذبحون لغير اسمه وحده لا شريك له وهذا كقوله فصل لربك وانحر أي أخلص له صلاتك وذبيحتك فإن المشركين يعبدون الاصنام ويذبحون لها فأمر الله بمخالفتهم والانحراف عما هم فيه

155

والإقبال بالقصد والنية والعزم على الإخلاص لله تعالى قال مجاهد في قوله صلاتي ونسكي قال النسك الذبح في الحج والعمرة وقال الثوري عن السدي عن سعيد بن جبير ونسكي ذبحي وكذا قال الضحاك وقال غيره ومحياي ومماتي أي وما آتيه في حياتي وأموت عليه من الإيمان والعمل الصالح لله رب العالمين خالصة لوجهه لا شريك له وبذلك من الإخلاص أمرت وأنا أول المسلمين لأن إسلام كل نبي متقدم لإسلام أمته كما قال قتادة وأنا أول المسلمين أي من هذه الأمة قال ابن كثير وهو كما قال فإن جميع الأنبياء قبله كلهم كانت دعوتهم إلى الاسلام وهو عبادة الله وحده لا شريك له كما قال تعالى وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون وأخبر تعالى عن نوح عليه السلام أنه قال لقومه فان توليتم فما سألتكم من أجر إن أجري إلا على الله وأمرت أن أكون من المسلمين وذكر آيات في هذا المعنى قلت وفي الآية دلائل متعددة على أن الذبح لغير الله شرك كما هو بين عند التأمل وفيها بيان العبادة وأن التوحيد مناف للشرك مضاد له قال وقوله فصل لربك وانحر قال شيخ الإسلام أمره الله أن يجمع بين هاتين العبادتين وهما الصلاة والنسك الدالتان على القرب والتواضع والافتقار وحسن الظن وقوة اليقين وطمأنينة القلب إلى الله والى عدته عكس حال أهل الكبر والنفرة وأهل الغني عن الله الذين لا حاجة لهم في صلاتهم إلى ربهم يسألونه إياها والذين لا ينحرون له خوفا من الفقر ولهذا جمع بينهما في قوله قل إن صلاتي ونسكي الآية والنسك الذبيحة لله تعالى ابتغاء وحهه

156

فإنها أجل ما يتقرب به إلى الله فانه أتى فيهما بالفاء الدالة على السبب لان فعل ذلك سبب للقيام بشكر ما أعطاه الله من الكوثر وأجل العبادات البدنية الصلاة وأجل العبادات المالية النحر وما يجتمع للعبد في الصلاة لا يجتمع له في غيرها كما عرفه آرباب القلوب الحية وما يجتمع له في النحر إذا قارنه الايمان والإخلاص من قوة اليقين وحسن الظن أمر عجيب وكان صلى الله عليه وسلم كثير الصلاة كثير النحر وقال غيره أي فاعبد ربك الذي أعزك بإعطائه وشرفك وصانك من منن الخلق مراغما لقومك الذين يعبدون غير الله وانحر لوجهه وباسمه إذا نحرت مخالفا لهم في النحر للأوثان انتهى وهذا هو الصحيح في تفسيرها وأما ما رواه الحاكم عن علي بن أبي طالب قال لما نزلت هذه السورة على النبي صلى الله عليه وسلم إنا أعطيناك الكوثر فصل لربك وانحر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبريل ما هذه النحيرة التي أمرني بها ربي قال إنها ليست بنحيرة ولكن يأمرك إذا أحرمت للصلاة أن ترفع يديك إذا كبرت وإذا ركعت وإذا رفعت رأسك من الركوع الحديث فهو حديث منكر جدا وفي إسناده اسرائيل بن حاتم ثم قال ابن حبان يروي عن مقاتل الموضوعات وغيره من الثقات الأوابد والطامات يروي عن مقاتل بن حيان ما وضعه عليه ابن عمر بن صبيح كان يسرقها منه وروى عن مقاتل عن الأصبغ بن نباته عن علي لما نزلت فصل لربك وانحر الحديث قال عن علي رضي الله عنه قال حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع كلمات لعن الله من ذبح لغير الله ولعن الله من لعن والديه ولعن الله من آوى محدثا ولعن الله من غير منار الارض رواه مسلم ش الحديث رواه مسلم من طرق بمعنى ما ذكره المصنف وفيه قصة

157

ورواه الإمام أحمد كذلك وعلي بن أبي طالب هو الإمام أبو الحسن الهاشمي ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم وزوج ابنته فاطمة الزهراء واسم ابي طالب عبد مناف ابن عبد المطلب ابن هاشم القرشي كان من السابقين الأولين إلى الإسلام ومن أهل بدر وبيعة الرضوان وأحد العشرة لهم بالجنة ورابع الخلفاء الراشدين ومناقبه كثيرة رضي الله عنه قتله ابن ملجم الخارجي في رمضان سنة أربعين قوله لعن الله قولوا اللعنة البعد عن مظان الرحمة ومواطنها قيل واللعين والملعون من حقت عليه اللعنة أودعي عليه بها قال أبو السعادات أصل اللعنة الطرد والإبعاد من الله ومن الخلق السب والدعاء قوله من ذبح لغير الله قال النووي المراد به أن يذبح باسم غير اسم الله تعالى كمن يذبح للصنم أو للصليب أو لموسى أو لعيسى صلى الله عليهما وسلم أو للكعبة ونحو ذلك وكل هذا حرام ولا تحل هذه الذبيحة سواء كان الذابح مسلما أو نصرانيا أو يهوديا نص عليه الشافعي واتفق عليه أصحابنا فإن قصد مع ذلك تعظيم المذبوح له غير الله و العبادة له كان ذلك كفرا فإن كان الذابح مسلما قبل ذلك صار بالذبح مرتدا ذكره في شرح مسلم ونقله غير واحد من الشافعية وغيرهم وقال شيخ الإسلام قوله تعالى وما أهل به لغير الله ظاهره أنه ما ذبح لغير الله مثل أن يقال هذه ذبيحة لكذا وإذا كان هذا هو المقصود فسواء لفظ به أو لم يلفظ وتحريم هذا أظهر من تحريم ما ذبحه للحم وقال فيه باسم المسيح ونحوه كما أن ما ذبحناه متقربين الى الله كان أزكى وأعظم مما ذبحناه للحم وقلنا عليه بسم الله فإن عبادة الله بالصلاة له والنسك له أعظم من

158

الاستعانة باسمه في فواتح الأمور فكذلك الشرك بالصلاة لغيره والنسك لغيره أعظم من الاستعانة باسم غيره في فواتح الأمور فإذا حرم ما قيل فيه باسم المسيح أو الزهرة فلأن يحرم ما قيل فيه لأجل المسيح أو الزهرة أو قصد به ذلك أولى فإن العبادة لغير الله أعظم كفرا من الاستعانة بغير الله وعلى هذا فلو ذبح لغير الله متقربا إليه لحرم وإن قال فيه باسم الله كما قد يفعله طائفة من منافقي هذه الأمة الذين قد يتقربون إلى الكواكب بالذبح والنجوم ونحو ذلك وإن كان هؤلاء مرتدين لاتباح ذبيحتهم بحال لكن يجتمع في الذبيحة مانعان ومن هذا الباب ما يفعله الجاهلون بمكة من الذبح للجن ولهذا روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن ذبائح الجن قلت هذا الحديث رواه البيهقي عن الزهري مرسلا وفي إسناده عمر بن هارون وهو ضعيف عند الجمهور إلا أن أحمد بن سيار روى عن قتيبة أنه كان يوثقه ورواه ابن حبان في الضعفاء من وجه آخر عن عبدالله بن أذينة عن ثور بن يزيد عن الزهري عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة مرفوعا قال ابن حبان وعبدالله يروي عن ثور ما ليس من حديثه قال الزمخشري كانوا إذا اشتروا دارا أو بنوها أو استخرجوا عينا ذبحوا ذبيحة خوفا أن تصيبهم الجن فأضيفت الذبائح إليهم لذلك قال النووي وذكر الشيخ إبراهيم المروذي من أصحابنا أن ما ذبح عند استقبال السلطان تقربا إليه أفتى أهل بخارى بتحريمه لأنه مما أهل به لغير الله قال الرافعي هذا إنما يذبحونه استبشارا بقدومه فهو كذبح العقيقة لولادة المولود قلت إن كانوا يذبحون استبشارا كما ذكر الرافعي فلا يدخل في ذلك وإن كانوا يذبحونه تقربا إليه فهو داخل في الحديث قوله لعن الله من لعن والديه قال بعضهم يعني أباه وأمه وإن عليا

159

وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن من الكبائر شتم الرجل والديه قالوا يا رسول الله وهل يشتم الرجل والديه قال نعم يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه فإذا كان هذا حال المتسبب فما ظنك بالمباشر قوله ولعن الله من آوى محدثا أما آوى بفتح الهمزة ممدوة أي ضم إليه وحمى وقال أبو السعادات يقال أويت إلى المنزل وآويت غيري وأويته وأنكر بعضهم المقصور المتعدي وقال الأزهري هي لغة فصيحة وأما محدثا فقال أبو السعادات يروى بكسر الدال وفتحها على الفاعل والمفعول فمعنى الكسر من نصر جانيا وآواه وأجاره من خصمه وحال بينه وبين أن يقتص منه والفتح هو الأمر المبتدع نفسه ويكون معنى الإيواء فيه الرضى به والصبر عليه فإنه إذا رضي بالبدعة وأقر عليها فاعلها ولم ينكر عليه فقد آواه قلت الظاهر أنه على الرواية الأولى يعم المعنيين لأن المحدث أعم من أن يكون بجناية أو ببدعة في الدين بل المحدث بالبدعة في الدين شر من المحدث بالجناية فإيواؤه أعظم إثما ولهذا عده ابن القيم في كتاب الكبائر وقال هذه الكبيرة تختلف مراتبها باختلاف مراتب الحدث في نفسه فكلما كان الحدث في نفسه أكبر كانت الكبيرة أعظم قوله ولعن الله من غير منار الأرض قال المصنف هي المراسيم التي تفرق بينك وبين جارك وقال النووى منار الأرض بفتح الميم علامات حدودها والمعنى واحد قيل وتغييرها أن يقدمها أو يؤخرها فيكون هذا من ظلم الأرض الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم من ظلم شبرا من الأرض طوقه يوم القيامة من سبع أرضين رواه البخارى ومسلم وفي الحديث دليل على جواز

160

لعن أنواع الفساق كقوله لعن الله آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه ونحو ذلك فأما لعن الفاسق المعين ففيه قولان ذكرهما شيخ الإسلام أحدهما أنه جائز اختاره ابن الجوزي وغيره والثاني لا يجوز اختاره أبو بكر عبدالعزيز وشيخ الإسلام قال والمعروف عن أحمد كراهة لعن المعين كالحجاج وأمثاله وأن يقول كما قال الله تعالى ألا لعنة الله على الظالمين قال وعن طارق بن شهاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال دخل الجنة رجل في ذباب ودخل النار رجل في ذباب قالوا وكيف ذلك يا رسول الله قال مر رجلان على قوم لهم صنم لا يجاوزه أحد حتى يقرب له شيئا فقالوا لأحدهما قرب قال ما عندي شيء قالوا قرب ولو ذبابا فقرب ذبابا فخلوا سبيله فدخل النار وقالوا للآخر قرب قال ما كنت لأقرب لأحد شيئا دون الله عز وجل فضربوا عنقه فدخل الجنة رواه أحمد ش هذا الحديث ذكره المصنف معزوا لأحمد وأظنه تبع ابن القيم في عزوه لأحمد قال ابن القيم قال الإمام أحمد حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن سليمان بن ميسرة عن طارق بن شهاب يرفعه قال دخل رجل الجنة في ذباب الحديث وقد طالعت المسند فما رأيته فيه فلعل الإمام رواه في كتاب الزهد أو غيره قوله عن طارق بن شهاب أي البجلي الأحمسي أبو عبدالله رأى النبي صلى الله عليه وسلم وهو رجل ويقال إنه لم يسمع منه شيئا

161

قال البغوي ونزل الكوفة قال أبو حاتم ليست له صحبة والحديث الذي رواه مرسل وقال أبو داود رأى النبي صلى الله عليه وسلم ولم يسمع منه شيئا قال الحافظ إذا ثبت أنه لقي النبي صلى الله عليه وسلم فهو صحابي على الراجح وإذا ثبت أنه لم يسمع منه فروايته عن مرسل صحابي وهو مقبول على الراجح وقد أخرج له النسائي عدة أحاديث وذلك مصير منه إلى اثباب صحبته وكانت وفاته على ما جزم به ابن حبان سنه ثلاث وثمانين قوله دخل الجنة رجل في ذباب أي من أجل ذباب قوله قالوا وكيف ذلك يا رسول الله سألوا عن هذا الأمر العجيب لأنهم قد علموا أن الجنة لا يدخلها أحد إلا بالاعمال الصالحة كما قال تعالى ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون وأن النار لا يدخلها أحد إلا بالاعمال السيئة فكانهم تقالوا ذلك وتعجبوا واحتقروه فبين لهم النبي صلى الله عليه وسلم ما صير هذا الأمر الحقير عندهم عظيما يستحق هذا عليه الجنة ويستحق الآخر عليه النار ولعل هذين الرجلين من بني اسرائيل فإن النبي صلى الله عليه وسلم يحدثهم عن بني اسرائيل كثيرا قوله فقال مر رجلان من قوم لهم صنم الصنم ما كان منحوتا على صورة قوله لا يجاوزه أي لا يمر به ولا يتعداه حد حتى يقرب له شيئا وإن قل قوله قالوا قرب ولو ذبابا فقرب ذبابا فخلوا سبيله فدخل النار في هذا بيان عظمة الشرك ولو في شيء قليل وأنه يوجب النار ألا ترى إلى هذا لما قرب لهذا الصنم أرذل الحيوان وأخسه وهو الذباب كان جزاؤه النار

162

لاشراكه في عبادة الله إذ الذبح على سبيل القربة والتعظيم عبادة وهذا مطابق لقوله تعالى إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وفيه الحذر من الذنوب وإن كانت صغيرة في الحسبان كما قال أنس إنكم لتعملون أعمالا هي أدق في أعينكم من الشعر كنا نعدها على عهد رسول لله صلى الله عليه وسلم من الموبقات رواه البخاري قال المصنف ما معناه وفيه أنه دخل النار بسبب لم يقصده بل فعله تخلصا من شرهم وفيه أن الذي دخل النار مسلم لأنه لو كان كافرا لم يقل دخل النار في ذباب وفيه أن عمل القلب هو المقصود الأعظم حتى عند عبدة الأوثان قوله وقالوا للآخر قرب قال ما كنت لأقرب لأحد شيئا دون الله عز وجل إلى آخره في هذا بيان فضيلة التوحيد والإخلاص قال المصنف وفيه معرفة قدر الشرك في قلوب المؤمنين كيف صبر على القتل ولم يوافقهم على طلبتهم مع كونهم لم يطلبوا إلا العمل الظاهر وفيه شاهد للحديث الصحيح الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله والنار مثل ذلك قلت وفيه التنبيه على سعة مغفرة الله وشدة عقوبته وأن الأعمال بالخواتيم باب لا يذبح لله بمكان يذبح فيه لغير الله ش أي أن ذلك لا يجوز لما سيذكره المصنف قال وقول الله تعالى لاتقم فيه أبدا الآية

163

ش حاصل كلام المفسرين في الآية أن الله نهى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقوم في مسجد الضرار في الصلاة فيه أبدا والأمة تبع له في ذلك ثم حثه على الصلاة في مسجد قباء الذي أسس من أول يوم بني فيه على التقوى وهي طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وجمعا لكلمة المؤمنين ومعقلا ومنزلا للاسلام وأهله بقوله لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه والسياق إنما هو في مسجد قباء ولهذا جاء في الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال صلاة في مسجد قباء كعمرة وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يزور قباء راكبا وماشيا وقد صرح بأن المسجد المؤسس على التقوى هو مسجد قباء ذكره جماعة من السلف منهم ابن عباس وعروة وعطية والشعبي والحسن وغير واحد وقيل هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم لحديث أبي سعيد قال تمارى رجلان في المسجد الذي اسس على التقوى من أول يوم فقال رجل هو مسجد قباء وقال الآخر هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هو مسجدي هذا رواه مسلم وهو قول عمر وابنه وزيد بن ثابت وغيرهم قال ابن كثير وهذا صحيح ولا منافاة بين الآية وبين هذا لأنه إذا كان مسجد قباء قد اسس على التقوى من أول يوم فمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بطريق الأولى وهذا بخلاف مسجد الضرار الذي اسس على معصية الله تعالى كما قال تعالى والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل وليحلفن إن أردنا إلا الحسني والله يشهد إنهم لكاذبون فلهذه الأمور نهى الله نبيه صلى الله عليه وسلم عن القيام فيه للصلاة وكان المنافقون الذين بنوه جاؤوا إلى النبى قبل خروجه إلى تبوك فسألوه أن يصلي فيه ليحتجوا بصلاته فيه على تقريره وذكروا أنهم إنما بنوه للضعفاء وأهل العلة

164

في الليلة الشاتية فعصمه الله من الصلاة فيه فقال أنا على سفر ولكن إذا رجعنا إن شاء الله فلما قفل عليه السلام راجعا إلى المدينة ولم يبق بينه وبينها إلا يوم أو بعض يوم نزل الوحي بخبر السمجد فبعث إليه فهدمه قبل مقدمه إلى المدينة ووجه الدلالة من الآية على الترجمة من جهة القياس لأنه إذا منع الله رسوله صلى الله عليه وسلم عن القيام لله تعالى في هذا المسجد المؤسس على هذه المقاصد الخبيثة مع أنه لا يقوم فيه إلا لله فكذلك المواضع المعدة للذبح لغير الله لا يذبح فيها الموحد لله لأنها قد اسست على معصية الله والشرك به يؤيده حديث ثابت بن الضحاك الآتي وقوله فيه رجال يحبون أن يتطهروا روى الإمام أحمد وابن خزيمة والطبراني والحاكم عن عويم بن ساعدة الأنصاري أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاهم في مسجد قباء فقال إن الله قد أحسن عليكم الثناء في الطهور في قصة مسجدكم فما هذا الطهور الذي تطهرون به فقالوا والله يا رسول الله ما نعلم شيئا إلا أنه كان لنا جيران من اليهود فكانوا يغسلون أدبارهم من الغائط فغسلنا كما غسلوا وفي رواية عن جابر وأنس مرفوعا هو ذاك فعليكموه رواه ابن ماجه وابن أبي حاتم والدارقطني والحاكم وقوله والله يحب المطهرين أي الذين يتنزهون من القاذورات والنجاسات بعد ما يتنزهون من أوضار الشرك وأقذاره قال أبو العالية إن الطهور بالماء لحسن ولكنهم المتطهرون من الذنوب قال ابن كثير وفيه دليل على استحباب الصلاة مع الجماعة الصالحين المتنزهين عن ملابسة القاذورات المحافظين على إسباغ الوضوء قلت وفيه إثبات المحبة

165

قال عن ثابت بن الضحاك قال نذر رجل أن ينحر إبلا ببوانة فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال هل كان فيه وثن من أوثان الجاهلية يعبد قالوا لا قال فهل كان فيها عيد من أعيادهم قالوا لا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أوف بنذرك فإنه لاوفاء لنذر في معصية الله ولا فيما لا يملك ابن آدم رواه أبو داود وإسناده على شرطهما ش هذا الحديث رواه أبو داود فقال حدثنا داود بن رشيد قال ثنا شعيب بن اسحق عن الأوزاعي قال حدثني يحيى بن أبي كثير قال حدثني أبو قلابة قال حدثني ثابت بن الضحاك قال نذر رجل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينحر إبلا ببوانة فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إني نذرت أن أنحر إبلا ببوانة فقال النبي صلى الله عليه وسلم هل كان فيها وثن الحديث وهذا إسناد جيد وروى أبو داود أيضا عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت إني نذرت أن أذبح بمكان كذا وكذا مكان كان يذبح فيه أهل الجاهلية قال لصنم قالت لا قال لوثن قالت لا قال أوف بنذرك مختصر ومعنى قوله لصنم الى آخره هل يذبحون فيه لصنم أو وثن فيكون كحديث ثابت قوله عن ثابت بن الضحاك أى أن ابن خليفة الأشهلي صحابي مشهور روى عنه أبو قلابة وغيره ومات سنه أربع وستين قوله نذر رجل يحتمل أن يكون هو كردم بن سفيان والد ميمونة لما روى أبو داود عنها قالت خرجت مع أبي في حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت فدنا اليه أبي فقال يا رسول الله إني نذرت إن ولد لي ولد ذكر أن أنحر على رأس بوانة في عقبة من الثنايا عدة من

166

النعم قال لا أعلم إلا أنها قالت خمسين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هل بها من هذه الأوثان شيء قال لا قال فأوف بما نذرت لله وذكر الحديث قوله أن ينحر إبلا في حديث ميمونة قال فأوف بما نذرت لله قال فجمعها فجعل يذبحها فانفلتت منه شاة فطلبها وهو يقول اللهم أوف بنذري فظفر بها فذبحها فيحتمل أن يكون نذر إبلا وغنما ويحتمل أن يكون ذلك قضيتبن قوله ببوانة بضم الباء وقيل بفتحها قال البغوي موضع في أسفل مكة دون يلملم وقال أبو السعادات هضبة من وراء ينبع قوله فقال هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد قال في عروة المفتاح الصنم هو ما له صورة والوثن ما ليس له صورة قلت هذا هو الصحيح في الفرق بينهما وقد جاء عن السلف ما يدل على ذلك وفيه المنع من الوفاء بالنذر إذا كان في المكان وثن من أوثانهم ولو بعد زواله ذكره المصنف قوله فهل كان فيها عيد من أعيادهم قال شيخ الاسلام العيد اسم لما يعود من الاجتماع العام على وجه معتاد عائد إما بعود السنة أو بعود الأسبوع أو الشهر ونحو ذلك والمراد به هنا الاجتماع المعتاد من اجتماع الجاهلية فالعيد يجمع أمورا منها يوم عائد كيوم الفطر ويوم الجمعة ومنها اجتماع فيه ومنها أعمال تتبع ذلك من العبادات والعادات وقد يختص العيد بمكان بعينه وقد يكون مطلقا وكل من هذه الأمور قد يسمى عيدا فالزمان كقول النبي صلى الله عليه وسلم في يوم الجمعة إن هذا يوم جعله الله للمسلمين عيدا والاجتماع والاعمال كقول ابن عباس شهدت العبد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم والمكان كقوله لا تتخذوا قبري عيدا وقد يكون لفظ العيد

167

اسما لمجموع اليوم والعمل فيه وهو الغالب كقول النبي صلى الله عليه وسلم لابي بكر دعهما يا أبا بكر فإن لكل قوم عيدا انتهى وفيه استفصال المفتي والمنع من الوفاء بالنذر إذا كان في المكان عيد من أعياد الجاهلية ولو بعد زواله والحذر من مشابهة المشركين في أعيادهم ولو لم يقصده ذكره المصنف قوله فأوف بنذرك هذا يدل على أن الذبح لله في المكان الذي يذبح فيه المشركون لغيره أو في محل أعيادهم معصية لأن قوله فأوف بنذرك تعقيب للوصف بالحكم بحرف الفاء وذلك يدل على أن الوصف سبب الحكم فيكون سبب الأمر بالوفاء وجود النذر خاليا عن هذين الوصفين فيكونان مانعين من الوفاء ولو لم يكن معصية لجاز الوفاء به ولأنه عقبه بقوله فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله فدل أن الصورة المسؤول عنها مندرجة في هذا اللفظ العام لأن العام إذا أورد على سبب فلا بد أن يكون السبب مندرجا فيه ولأنه لو كان الذبح فيما ذكر جائزا لسوغ صلى الله عليه وسلم للناذر الوفاء به كما سوغ لمن نذرت الضرب بالدف أن تضرب به لأنه عليه السلام استفصل فلما قالوا لا قال له فأوف بنذرك وهذا يقتضي أن كون البقعة مكانا لعيدهم أو بها وثن من أوثانهم مانع من الذبح بها وإن نذر وإلا لما حسن الاستفصال هذا معنى كلام شيخ الإسلام وفيه أن تخصيص البقعة بالنذر لا بأس به إذا خلا من الموانع قوله فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله دليل على أن هذا نذر معصية لا يجوز الوفاء به لما تقدم وعلى أن نذر المعصية لا يجوز الوفاء به وقد أجمع العلماء على ذلك لهذا الحديث وحديث عائشة الآتي وما في معناهما

168

واختلفوا هل تجب فيه كفارة يمين على قولين هما روايتان عن أحمد أحدهما تجب وهو المذهب المشهور عن أحمد وروي عن ابن مسعود وابن عباس وبه قال أبو حنيفة وأصحابه لحديث عائشة مرفوعا لا نذر في معصية وكفارته كفارة يمين رواه أحمد وأهل السنن وأحتج به أحمد واسحق والثاني لا كفارة عليه روي ذلك عن مسروق والشعبي والشافعي لحديث الباب وحديث عائشة الآتي ولم يذكر فيهما كفارة وجوابه أن عدم ذكر الكفارة لا يدل على عدم وجوبها قوله ولا فيما لا يملك ابن آدم قال في شرح المصابيح يعني إذا أضاف النذز إلى معين لا يملكه بأن قال إن شفى الله مريضي فلله علي أن أعتق عبد فلان أو أتصدق بثوبه ونحو ذلك فأما إذا التزم في الذمة شيئا لا يملكه فيصح نذره مثاله إن شفي الله مريضي فلله علي أن أعتق رقبة وهو في ذلك الحال لا يملك رقبة ولا قيمتها فيصح نذره وإذا شفي ثبت النذر في ذمته قوله رواه أبو داود وإسناده على شرطيهما أي شرط البخاري ومسلم وأضمرهما للعلم بذلك وأبو داود اسمه سليمان بن الأشعث بن اسحق بن بشر بن شداد الأزدي السجستاني صاحب الإمام أحمد ومصنف السنن وغيرها ثقة امام حافظ من كبار العلماء مات سنة خمس وسبعين ومائتين باب من الشرك النذر لغير الله ش أي إنه من العبادة فيكون صرفه لغير الله شركا فإذا نذر طاعة

169

وجب عليه الوفاء بها وهو عبادة وقربة إلى الله ولهذا مدح الله الموفين به فإن نذر لمخلوق تقربا إليه ليشفع له عند الله ويكشف ضره ونحو ذلك فقد أشرك في عبادة الله تعالى غيره ضرورة كما أن من صلى لله وصلى لغيره فقد أشرك كذلك هذا لقوله تعالى يوفون بالنذر وجه الدلالة من الآية على الترجمة أن الله تعالى مدح الموفين بالنذر والله تعالى لا يمدح إلا على فعل واجب أو مستحب أو ترك محرم لا يمدح على فعل المباح المجرد وذلك هو العباده فمن فعل ذلك لغير الله متقربا إليه فقد أشرك قال وقوله وما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فإن الله يعلمه وجه الدلالة من الآية على الترجمة أن الله تعالى أخبر بأن ما أنفقناه من نفقة أو نذرناه من نذر متقربين بذلك إليه أنه يعلمه ويجازينا عليه فدل ذلك أنه عبادة وبالضرورة يدري كل مسلم أن من صرف شيئا من انواع العبادة لغير الله فقد أشرك قال ابن كثير يخبر تعالى بأنه عالم بجميع ما يعمله العاملون من الخيرات من النفقات والمنذورات وتضمن ذلك مجازاته على ذلك أوفر الجزاء للعاملين لذلك ابتغاء وجهه ورجاء موعوده إذا علمت ذلك فهذه النذور الواقعة من عباد القبور وأشباههم لم يعتقدون فيه نفعا أو ضرا فيتقرب اليه بالنذر ليقضي حاجته أو ليشفع له كل ذلك شرك في العبادة وهو شبيه بما ذكر الله عن المشركين في قوله وجعلوا لله مما ذرا من الحرث والانعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل الى شركائهم ساء ما يحكمون روى ابن أبي حاتم في

170

الآية يعني جعلوا لله جزءا من الحرث ولشركائهم ولأوثانهم جزءا فما ذهبت به الريح مما سموا لله إلى جزء أوثانهم تركوه وقالوا الله عن هذا غني وما ذهبت به الريح من جزء أوثانهم الى جزء الله أخذوه وعباد القبور يجعلون لله جزءا من أموالهم بالنذر والصدقة وللأموات والطواغيت جزءا كذلك وقد نص غير واحد من العلماء على أن النذر لغير الله شرك قال شيخ الإسلام وأما ما نذره لغير الله كالنذر للأصنام والشمس والقمر والقبور ونحو ذلك فهو بمنزلة أن يحلف بغير الله من المخلوقات والحالف بالمخلوقات لا وفاء عليه ولا كفارة وكذلك الناذر للمخلوق ليس عليه وفاء ولا كفارة فإن كلاهما شرك والشرك ليس له حرمة بل عليه أن يستغفر الله من هذا العقد ويقول ما قال النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال من حلف باللات والعزى فليقل لا إله إلا الله وقال أيضا فيمن نذر للقبور ونحوها دهنا لتنور به ويقول إنها تقبل النذر كما يقول بعض الضالين فهذا النذر معصية باتفاق العلماء لا يجوز الوفاء به وكذلك إذا نذر مالا من النقد أو غيره للسدنة أو المجاورين العاكفين بتلك البقعة فإن هؤلاء السدنة فيهم شبه من السدنة التي كانت للات والعزى ومناة يأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله والمجاورون هناك فيهم شبه من العاكفين الذين قال فيهم إبراهيم الخليل عليه السلام ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون والذين اجتاز بهم موسى عليه السلام وقوله تعالى وجاوزنا ببني اسرائيل التحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم فالنذر لأولئك السدنة والمجاورين في هذه البقاع التي لا فضل للشريعة في في المجاورة فيها نذر معصية وفيه شبه من النذر لسدنة الصلبان المجاورين عندها أو لسدنة الأبدال التي في الهند والمجاورين عندها

171

ثم هذا المال إذا صرفه في جنس تلك العبادة من المشروع مثل أن يصرفه في عمارة المساجد أو للصالحين من فقراء المسلمين يستعينون بالمال على عبادة الله كان حسنا وقد تقدم كلام ابن القيم في قوله ويقولون إنها تقبل النذر أي تقبل العبادة من دون الله فإن النذر عبادة إلى آخره وقال الإمام الأذرعي في شرح منهاج النووي وأما النذر للمشاهد التي بنيت على قبر ولي أو شيخ أو على اسم من حلها من الأولياء أو تردد في تلك البقعة من الأنبياء والصالحين فإن قصد الناذر بذلك وهو الغالب أو الواقع من قصود العاقد في تعظيم البقعة والمشهد والزاوية أو تعظيم من دفن بها أو نسبت اليه أو بنيت على اسمه فهذا النذر باطل غير منعقد فإن معتقدهم أن لهذه الأماكن خصوصيات لأنفسها ويرون أنها مما يدفع به البلاء ويستجلب به النعماء ويستشفى بالنذر لها من الأدواء حتى انهم ينذرون لبعض الأحجار لما قيل إنه جلس اليها أو استند اليها عبد صالح وينذرون لبعض القبور السرج والشموع والزيت ويقولون القبر الفلاني أو المكان الفلاني يقبل النذر يعنون بذلك أنه يحصل به الغرض المأمول من شفاء مريض وقدوم غائب وسلامة مال وغير ذلك من أنواع نذر المجازاة فهذا النذر على هذا الوجه باطل لا شك فيه بل نذر الزيت والشمع ونحوهما للقبور باطل مطلقا من ذلك نذر الشموع الكثيرة العظيمة وغيرها لقبر الخليل عليه السلام ولقبر غيره من الأنبياء والأولياء فإن الناذر لا يقصد بذلك إلا الايقاد على القبر تبركا وتعظيما ظانا أن ذلك قربة فهذا مما لاريب في بطلانه والانقياد المذكور محرم سواء انتفع به هناك منتفع أم لا إلى آخر كلامه وقال الشيخ قاسم الحنفي في شرح درر البحار النذر الذي ينذره

172

أكثر العوام على ما هو مشاهد كأن يكون للانسان غائب أو مريض أو له حاجة ضرورية فيأتي إلى بعض الصلحاء ويجعل على رأسه سترة ويقول ياسيدي فلان إن رد الله غائبي أو عوفي مريضي أو قضيت حاجتي فلك من الذهب كذا أو من الفضة كذا أو من الطعام كذا أو من الماء ومن الشمع والزيت كذا فهذا النذر باطل بالإجماع لوجوه منها أنه نذر لمخلوق والنذر للمخلوق لا يجوز لأنه عبادة والعبادة لا تكون لمخلوق ومنها أن المنذور له ميت والميت لا يملك ومنها أنه ظن أن الميت يتصرف في الأمور دون الله واعتقاد ذلك كفر إلى أن قال إذا علمت هذا فما يؤخذ من الدراهم والشمع والزيت وغيرها وينقل إلى ضرائح الأولياء تقربا إليهم فحرام بإجماع المسلمين نقله عنه ابن نجيم في البحر الرائق في آخر كتاب الصوم ومنه نقله المرشدي أيضا في تذكرته ونقله غيرهما عنه وزاد وقد ابتلي الناس بهذا لاسيما في مولد أحمد البدوي وقال الشيخ صنع الله الحلبي الحنفي في الرد على من أجاز الذبح والنذر للأولياء وأثبت الأجر في ذلك فهذا الذبح والنذر إن كان على اسم فلان وفلان فهو لغير الله فيكون باطلا وفي التنزيل ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وقوله قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له أي صلاتي وذبحي لله كما فسر به قوله فصل لربك وانحر وفي الحديث لا نذر في معصية الله رواه أبو داود وغيره والنذر لغير الله إشراك مع الله إلى أن قال فالنذر لغير الله كالذبح لغيره

173

وقال الفقهاء خمسة لغير الله شرك الركوع والسجود والنذر والذبح واليمين قال والحاصل أن النذر لغير الله فجور فمن أين تحصل لهم الأجور انتهى ملخصا وقال القاضي أبو بكر بن العربي المالكي قد نهي عن النذر وندب إلى الدعاء والسبب فيه أن الدعاء عبادة عاجلة ويظهر به التوجه إلى الله تعالى والتضرع له وهذا بخلاف النذر فإن فيه تأخير العبادة إلى حين الحصول وترك العمل إلى حين الضرورة فقد نص أبو بكر على ان الدعاء والنذر عبادتان ولا يمتري مسلم أن من عبد غير الله فقد اشرك ولكن كما قال تعالى وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون قال وفي الصحيح عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه ش قوله في الصحيح أي صحيح البخاري قوله عن عائشة هي أم المؤمنين وزوج النبي صلى الله عليه وسلم وبنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم وهي بنت سبع سنين ودخل بها وهي بنت تسع سنين وهي أفقه النساء مطلقا وأفضل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم إلا خديجة ففيهما خلاف كثير ماتت سنة سبع وخمسين على الصحيح قاله الحافظ قوله من نذر أن يطيع الله فليطعه أي فليفعل ما نذره من طاعة الله وقد أجمع العلماء على أن من نذر طاعة بشرط يرجوه كقوله إن شفى الله مريضي فعلي أن أتصدق بكذا ونحو ذلك وجب عليه أن يوفي بها مطلقا إذا حصل الشرط إلا أنه حكي عن أبي حنيفة أنه لا يلزمه الوفاء بما لا أصل له في الوجوب كالاعتكاف وعيادة المريض والحديث حجة عليه لأنه لم يفرق

174

بين ما له أصل في الوجوب وما لا أصل له فان نذر ابتداء كقوله لله تعالى علي صوم شهر فالحكم أيضا كذلك في قول الأكثرين وعن بعضهم أنه لا يلزم والحديث حجة عليه أيضا لأنه لم يفرق بين ما علقه على شرط وبين ما نذره ابتداء قوله ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه زاد الطحاوي وليكفر عن يمينه قال ابن القطان عندي شك في رفع هذه الزيادة أي لا يفعل المعصية التي نذرها وقد أجمع العلماء على أنه لا يجوز الوفاء بنذر المعصية قال الحافظ في الفتح واتفقوا على تحريم النذر في المعصية وتنازعوا هل ينعقد موجبا للكفارة أم لا وقد تقدم ذلك في الباب قبله وقد يستدل بقوله ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه بصحة النذر في المباح كما هو مذهب أحمد وغيره يؤيده ما رواه أبو داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ورواه أحمد والترمذي عن بريدة أن امرأة قالت يا رسول الله إني نذرت أن أضرب على رأسك بالدف فقال أوف بنذرك وإذا صححناه فحكمه حكم الحلف على فعله فيخير بين فعله وكفارة اليمين وأما نذر اللجاج والغضب فهو يمين عند أحمد فيخير بين فعله وكفارة اليمين لحديث عمران بن حصين مرفوعا لا نذر في غضب وكفارته كفارة يمين رواه سعيد واحمد والنسائي وله طرق وفيه كلام فان نذر مكروها كالطلاق استحب ان يكفر ولايفعله باب من الشرك الاستعاذة بغير الله الاستعاذه الالتجاء والاعتصام والتحرز وحقيقتها الهرب من شيء

175

تخافه إلى من يعصمك منه ولهذا يسمى المستعاذ به معاذا وملجأ ووزرا فالعائذ بالله قد هرب مما يؤذيه أو يهلكه الى ربه ومالكه وفر اليه وألقى نفسه بين يديه واعتصم به واستجار به والتجأ اليه وهذا تمثيل وتفهيم وإلا فما يقوم بالقلب من الالتجاء إلى الله والاعتصام به والاطراح بين يدي الرب والافتقار اليه والتذلل بين يديه أمر لا تحيط به العبارة هذا معنى كلام ابن القيم وقال ابن كثير الاستعاذة هي الالتجاء إلى الله والالتصاق بجنابه من شر كل ذي شر والعياذ يكون لدفع الشر واللياذ لطلب الخير وهذا معنى كلام غيرهما من العلماء فتبين بهذا أن الاستعاذة بالله عبادة لله ولهذا أمر الله بالاستعاذة به في غير آية وتواترت السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك قال الله تعالى وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم وقال وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين وأعوذ بك رب ان يحضرون وقال فاستعذ بالله انه هو السميع البصير وقال قل اعوذ برب الفلق وقال تعالى قل اعوذ برب الناس ملك الناس إله الناس فإذا كان تعالى هو ربنا وملكنا وإلهنا فلا مفزع لنا في الشدائد سواه ولا ملجأ لنا منه إلا اليه ولا معبود لنا غيره فلا ينبغي أن يدعى ولا يخاف ولا يرجى ولا يحب غيره ولا يذل ولا يخضع لغيره ولا يتوكل إلا عليه لأن من تخافه وترجوه وتدعوه وتتوكل عليه إما أن يكون مربيك والقيم بأمورك ومتولي

176

شأنك فهو ربك فلا رب لك سواه وتكون مملوكه وعبده الحق فهو ملك الناس حقا وكلهم عبيده ومماليكه أو يكون معبودك وإلهك الذي لا تستغني عنه طرفة عين بل حاجتك اليه أعظم من حاجتك الى حياتك وروحك فهو الإ له الحق إله الناس فمن كان ربهم وملكهم وإلههم فهم جديرون أن لا يستعيذوا بغيره ولا يستنصروا بسواه ولا يلجأوا الى غير حماه فهو كافيهم وحسبهم وناصرهم ووليهم ومتولي أمورهم جميعا بربوبيته وملكه وإلهيته لهم فكيف لا يلتجىء العبد عند النوازل ونزول عدوه به الى ربه وملكه وإلهه وهذه طريقه القرآن يحتج عليهم باقرارهم بهذا التوحيد على توحيد الإلهية هذا معنى كلام ابن القيم فاذا تحقق العبد بهذه الصفات الرب والملك والاله وامتثل أمر الله واستعاذ به فلا ريب أن هذه عبادة من أجل العبادات بل هو من حقائق توحيد الالهية فإن استعاذ بغيره فهو عابد لذلك الغير كما أن من صلى لله وصلى لغيره يكون عابدا لغير الله كذلك في الاستعاذة ولا فرق إلا أن المخلوق يطلب منه ما يقدر عليه ويستعاذ به فيه بخلاف ما لايقدر عليه إلا الله فلا يستعاذ فيه إلا بالله كالدعاء فإن الاستعاذة من أنواعه قال وقول الله تعالى وأنه كان رجال من الانس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا ش المعنى والله اعلم على قول أن الانس زادوا الجن باستعاذتهم بهم رهقا أي إثما وطغيانا وشرا فضمير الفاعل على هذا للعائذين من الإنس وضمير المفعول للمستعاذ بهم من الجن وعلى القول الثاني بالعكس وزيادتهم للانس رهقا باغوائهم وإضلالهم وذلك أن الرجل من العرب كان إذا أمسى في

177

واد قفر في بعض مسائره وخاف على نفسه قال اعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه يريد الجن وكبيرهم قال مجاهد كانوا يقولون إذا هبطوا واديا نعوذ بعظيم هذا الوادي فزادوهم رهقا قال زادوا الكفار طغيانا رواه عبد بن حميد وابن المنذر والآثار بذلك عن السلف مشهورة ووجه الاستدلال بالآية على الترجمة أن الله حكى عن مؤمني الجن أنهم لما تبين لهم دين الرسول صلى الله عليه وسلم وآمنوا به ذكروا أشياء من الشرك كانوا يعتقدونها في الجاهلية من جملتها الاستعاذة بغير الله وقد أجمع العلماء على أنه لا تجوز الاستعاذة بغير الله ولهذا نهوا عن الرقى التي لا يعرف معناها خشية ان يكون فيها شيء من ذلك قال ملا علي القاري الحنفي ولا يجوز الاستعاذة بالجن فقد ذم الله الكافرين على ذلك فقال وأنه كان رجال من الانس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا الى إن قال وقال تعالى ويوم يحشرهم جميعا يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس وقال أولياؤهم من الإنس ربنا استمتع بعضنا ببعض الآية فاستمتاع الإنسي بالجني في قضاء حوائجه وامتثال أوامره أو إخباره بشيء من المغيبات واستمتاع الجني بالإنسي تعظيمه إياه واستعاذته به واستغاثته وخضوعه له وفيه أن كون الشيء يحصل به منفعة دنيويه من كف شرا وجلب نفع لا يدل على أنه ليس من الشرك ذكره المصنف قال وعن خولة بنت حكيم قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من نزل منزلا فقال أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم يضره شيء حتى يرحل من منزله ذلك رواه مسلم

178

قوله عن خولة بنت حكيم أي ابن أمية السلمية يقال لها أم شريك ويقال لها خويلة بالتصغير ويقال إنها هي الواهبة وكانت قبل تحت عثمان بن مظعون قال ابن عبد البر وكانت صالحة فاضلة قوله أعوذ بكلمات الله التامات هذا ما شرعه الله لأهل الإسلام أن يستعيذوا به بدلا عما يفعله أهل الجاهلية من الاستعاذة بالجن فشرع الله للمسلمين أن يستعيذوا به أو بصفاته قال القرطبي في المفهم قيل معناه الكاملات اللاتي لا يلحقها نقص ولا عيب كما يلحق كلام البشر وقيل معناه الشافية الكافية وقيل الكلمات هنا هي القرآن فان الله أخبر عنه بأنه هدى وشفاء وهذا الأمر على جهة الارشاد إلى ما يدفع به الأذى ولما كان ذلك استعاذة بصفات الله تعالى والالتجاء اليه كان ذلك من باب المندوب إليه المرغب فيه وعلى هذا فحق المتعوذ بالله تعالى وبأسمائه وصفاته أن يصدق الله في التجائه إليه ويتوكل في ذلك عليه ويحضر ذلك في قلبه فمتى فعل ذلك وصل إلى منتهى طلبه ومغفرة ذنبه وقال غيره وقد اتفق العلماء على أن الاستعاذة بالمخلوق لا تجوز واستدلوا بحديث خولة وقالوا فيه دليل على أن كلمات الله غير مخلوقة وردوا به على الجهيمة والمعتزلة في قولهم بخلق القرآن قالوا فلو كانت كلمات الله مخلوقة لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالاستعاذة بها لان الاستعاذة بالمخلوق شرك وقال شيخ الإسلام وقد نص الأئمة كأحمد وغيره على أنه لا يجوز الإستعاذة بمخلوق وهذا مما استدلوا به على أنه كلام الله غير مخلوق قالوا لأنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه استعاذ بكلمات الله وأمر بذلك ولهذا نهى العلماء عن التعازيم والتعاويذ التي لا يعرف معناها خشية أن يكون

179

فيها شرك وقال ابن القيم ومن ذبح للشيطان ودعاه واستغاث به وتقرب إليه بما يحب فقد عبده وإن لم يسم ذلك عبادة ويسميه استخداما وصدق هو استخدام الشيطان له فيصير من خدم الشيطان وعابديه وبذلك يخدمه الشيطان لكن خدمة الشيطان له ليست خدمة عبادة فإن الشيطان لا يخضع له ويعبده كما يفعل هو به قوله من شر ما خلق أي من كل شر في أي مخلوق قام به الشر من حيوان أو غيره إنسيا كان أو جنيا أو هامة أو دابة أو ريحا أو صاعقة أي نوع كان من أنواع البلاء في الدنيا والآخرة وما ههنها موصولة ليس إلا وليس المراد بها العموم الاطلاقي بل المراد التقييدي الوصفي والمعنى من شر كل مخلوق فيه شر لامن شر كل ما خلقه الله تعالى فإن الجنة والملائكة والانبياء ليس فيهم شر هذا معنى كلام ابن القيم قال والشر يقال على شيئين على الألم وعلى ما يفضي اليه قوله لم يضره شيء حتى يرحل من منزله ذلك قال القرطبي هذا الخبر صحيح وقول صادق علمنا صدقه دليلا وتجربة فإني منذ سمعت هذا الخبر عملت عليه فلم يضرني شيء إلى أن تركته فلدغتني عقرب بالمهدية ليلا فتفكرت في نفسى فإذا بي قد نسيت أن أتعوذ بتلك الكلمات قال المصنف فيه فضيلة هذا الدعاء مع اختصاره باب من الشرك أن يستغيث بغير الله أو يدعو غيره ش قال شيخ الإسلام الاستغاثة هي طلب الغوث وهو إزالة الشدة

180

كالاستنصار طلب النصر والاستعانة طلب العون وقال غيره الفرق بين الاستغاثة والدعاء أن الاستغاثة لا تكون إلا من المكروب كما قال تعالى فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه وقال إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم والدعاء أعم من الاستغاثة لأنه يكون من المكروب وغيره فعلى هذا عطف الدعاء على الاستغاثه من عطف العام على الخاص وقال أبو السعادات الاغاثة الإعانة فعلى هذا تكون الاستغاثة هي الاستعانة ولا ريب أن من استغاثك فأغثته فقد أعنته إلا أن لفظ الاستغاثة مخصوص بطلب العون في حالة الشدة بخلاف الاستعانة وقوله أو يدعو غيره المراد بالدعاء هنا هو دعاء المسألة فيما لا يقدر عليه إلا الله تعالى فإن ذلك شرك لما سيذكره المصنف من الآيات واعلم أن الدعاء نوعان دعاء عبادة ودعاء مسألة كما حققه غير واحد منهم شيخ الاسلام وابن القيم وغيرهما ويراد به في القرآن هذا تارة وهذا تارة ويراد به مجموعهما وهما متلازمان فدعاء المسألة هو طلب ما ينفع الداعي من جلب نفع أو كشف ضر فالمعبود لا بد أن يكون مالكا للنفع والضر ولهذا أنكر الله تعالى على من عبد من دونه مالا يملك ضرا ولا نفعا كقوله قل أتعبدون من دون الله مالا يملك لكم ضرا و لا نفعا والله السميع العليم وقوله ويعبدون من دون الله مالا ينفعهم ولا يضرهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله وذلك كثير في القرآن يبين أن المعبود لابد وأن يكون مالكا للنفع والضر فهو يدعى للنفع والضر دعاء المسألة ويدعى خوفا ورجاء دعاء العبادة فعلم أن النوعين متلازمان فكل دعاء

181

عبادة مستلزم لدعاء المسألة وكل دعاء مسألة متضمن لدعاء العبادة وبهذا التحقيق يندفع عنك ما يقوله عباد القبور إذ احتج عليهم بما ذكر الله في القرآن من الأمر بإخلاص الدعاء له قالوا المراد به العبادة فيقولون في مثل قوله تعالى وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا أي لا تعبدوا مع الله أحدا فيقال لهم وإن أريد به دعاء العبادة فلا ينفي أن يدخل دعاء المسألة في العبادة لأن دعاء العبادة مستلزم لدعاء المسألة كما أن دعاء المسألة متضمن لدعاء العبادة هذا لو لم يرد في دعاء المسألة بخصوصه من القرآن إلا الآيات التي ذكر فيها دعاء العبادة فكيف وقد ذكر الله في القرآن في غير موضع قال الله تعالى ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين وقال تعالى وادعوه خوفا وطمعا وقال تعالى والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله وقال تعالى واسألوا الله من فضله وقال تعالى قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أوتتكم الساعة أغير الله تدعون إن كنتم صادقين بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شاء وتنسون ما تشركون وقال تعالى له دعوة الحق والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه وما دعاء الكافرين إلا في ضلال وقال تعالى عن ابراهيم عليه السلام إن ربي لسميع

182

الدعاء وقال عنه أيضا وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعو ربي عسى أن لا أكون بدعاء ربي شقيا فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله الآية وقال تعالى ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون وقال تعالى قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا وقال تعالى وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفورا وقال تعالى قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى وقال تعالى عن زكريا عليه السلام قال رب إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا ولم أكن بدعائك رب شقيا وقال تعالى وقيل ادعوا شركاءكم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم الآية وقال تعالى فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون فكفى بهذه الآيات نجاة وحجة وبرهانا في الفرق بين التوحيد والشرك عموما وفي هذه المسألة خصوصا وقال تعالى فابتغوا عند الله الرزق وقال تعالى وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيبا اليه ثم إذا خوله نعمة منه نسي ما كان يدعو اليه من قبل وجعل لله أندادا ليضل عن سبيله قل تمتع بكفرك قليلا إنك من أصحاب النار وقال تعالى

183

والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم وقال تعالى وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين وغير ذلك من الآيات وفي الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم مالا يحصى منها قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه عن ربه تبارك وتعالى أنه قال يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم يا عبادي إنكم تخطؤون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعا فاستغفروني أغفر لكم رواه مسلم وقوله صلى الله عليه وسلم ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة الى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر ثم يقول من يدعوني فأستجب له من يسألني فأعطيه من يستغفرني فأغفر له رواه البخاري ومسلم وقوله ليس شيء أكرم على الله من الدعاء رواه أحمد والترمذي وابن ماجة وابن حبان والحاكم وصححه وقوله من لم يدع الله يغضب عليه رواه أحمد وابن أبي شيبه والحاكم وقوله سلوا الله من فضله فإن الله يحب أن يسأل رواه الترمذي وقوله الدعاء سلاح المؤمن وعماد الدين ونور السموات والارض رواه الحاكم وصححه وقوله الدعاء هو العبادة رواه أحمد والترمذي وفي حديث آخر الدعاء مخ العبادة رواه الترمذي وقوله لما سئل أي العبادة أفضل قال دعاء المرء لنفسه رواه البخاري في الأدب وقوله لن ينفع حذر من قدر ولكن الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل فعليكم بالدعاء يا عباد الله رواه أحمد وقوله سلوا الله كل شيء حتى الشسع

184

إذا انقطع فإنه إن لم ييسره لم يتيسر رواه أبو يعلى بإسناد صحيح وقوله ليسأل أحدكم ربه حاجته كلها حتى يسأله شسع نعله إذا انقطع وحتى يسأله الملح رواه البزار بإسناد صحيح وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه إني لا أحمل هم الإجابة ولكن هم الدعاء فإذا ألهمت الدعاء علمت أن الإجابة معه وقال ابن عباس رضي الله عنهما أفضل العبادة الدعاء وقرأ وقال ربكم ادعوني أستجب لكم رواه ابن المنذر والحاكم وصححه وقال مطرف تذكرت ما جماع الخير فاذا الخير كثير الصلاة والصيام وإذا هو في يد الله تعالى وإذا انت لا تقدر على ما في يد الله إلا أن تسأله فيعطيك رواه أحمد والأحاديث والآثار في ذلك لا يحيط بها إلا الله تعالى فثبت بهذا أن الدعاء عبادة من أجل العبادات بل هو أكرمها على الله كما تقدم فإن لم يكن الإشراك فيه شركا فليس في الارض شرك وإن كان في الارض شرك فالشرك في الدعاء أولى أن يكون شركا من الإشراك في غيره من أنواع العبادة بل الإشراك في الدعاء وهو أكبر شرك المشركين الذين بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنهم يدعون الأنبياء والصالحين والملائكة ويتقربون إليهم ليشفعوا لهم عند الله ولهذا يخلصون في الشدائد لله وينسون ما يشركون حتى جاء أنهم إذا جاءتهم الشدائد في البحر يلقون أصنامهم في البحر ويقولون يا الله يا الله لعلمهم أن آلهتهم لا تكشف الضر ولا تجيب المضطر وقال تعالى أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض أإله مع الله قليلا ما تذكرون فهم كانوا يعلمون أن ذلك لله وحده وأن آلهتهم ليس عندها شيء من ذلك ولهذا احتج سبحانه وتعالى عليهم بذلك على أنه هو الإله

185

الحق وعلى بطلان الهية ما سواه وقال تعالى فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم الى البر إذا هم يشركون فهذه حال المشركين الأولين وأما عباد القبور اليوم فلا إله إلا الله كم ذا بينهم وبين المشركين الأولين من التفاوت العظيم في الشرك فإنهم إذا أصابتهم الشدائد برا وبحرا أخلصوا لآلهتهم وأوثانهم التي يدعونها من دون الله واكثرهم قد اتخذ ذكر إلهه وشيخه دبدنه وهجراه إن قام وإن قعد وإن عثر هذا يقول يا علي وهذا يقول يا عبد القادر وهذا يقول يابن علوان وهذا يدعو البدوي وهذا يدعو العيدروس وبالجملة ففي كل بلد في الغالب أناس يدعونهم ويسألونهم قضاء الحاجات وتفريج الكربات بل بلغ الأمر إلى أن سألوهم مغفرة الذنوب وترجيح الميزان ودخول الجنة والنجاة من النار والتثبيت عند الموت والسؤال وغير ذلك من أنواع المطالب التي لا تطلب إلا من الله وقد يسألون ذلك من أناس يدعون الولاية وينصبون أنفسهم لهذه الأمور وغيرها من أنواع النفع والضر التي هي خواص الإلهية ويلفقون لهم من الأكاذيب في ذلك عجائب منها أنهم يدعون أنهم يخلصون من التجأ إليهم ولاذ بحماهم من النار والعذاب فيقول أحدهم إنه يقف عند النار فلا يدع أحدا ممن يرتجيه ويدعوه يدخلها أو نحو هذا وقد قال تعالى لسيد المرسلين صلى الله عليه وعليهم أجمعين أفمن حق عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذ من في النار فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يقدر على تخليص أحد من النار فكيف بغيره بل كيف بمن يدعي نفسه أنه هو يفعل ذلك ومنها أن أكثرهم يلفق حكايات في أن بعض الناس استغاث بفلان فأغاثه أو دعا الولي الفلاني فأجابه أو في كربة ففرج عنه وعند عباد القبور من ذلك شيء كثير من جنس ما عند

186

عباد الأصنام الذين استولت عليهم الشياطين ولعبوا بهم لعب الصبيان بالكرة ويوجد شيء من ذلك في أشعار المادحين لسيد المرسلين صلى الله عليه وسلم الذين جاوزوا الحد في مدحه صلى الله عليه وسلم وعصوه في نهيه من الغلو فيه وإطرائه كما أطرت النصارى ابن مريم وصار حظهم منه صلى الله عليه وسلم هو مدحه بالأشعار والقصائد والغلو الزائد مع عصيانهم له في أمره ونهيه فتجد هذا النوع من أعصى الخلق له صلوات الله عليه وسلامه ويقع من ذلك كثير في مدح غيره فإن عباد القبور لا يقتصرون على بعض من يعتقدون فيه الضر والنفع بل كل من ظنوا فيه ذلك بالغوا في مدحه وأنزلوه منزلة الربوبية وصرفوا له خالص العبودية حتى انهم اذا جاءهم رجل وادعى أنه رأى رؤيا مضمونها أنه دفن في المحل الفلاني رجل صالح بادروا الى المحل وبنوا عليه قبة وزخرفوها بأنواع الزخارف وعبدوها بأنواع من العبادات واما القبور المعروفة أو المتوهمة فأفعالهم معها وعندها لا يمكن حصره فكثير منهم اذا رأوا القباب التي يقصدونها كشفوا الرؤوس فنزلوا عن الاكوار فإذا أتوها طافوا بها واستلموا أركانها وتمسحوا بها وصلوا عندها ركعتين وحلقوا عندها الرؤوس ووقفوا باكين متذللين متضرعين سائلين مطالبهم وهذا هو الحج وكثير منهم يسجدون لها إذا رأوها ويعفرون وجوههم في التراب تعظيما لها وخضوعا لمن فيها فإن كان الإنسان منهم حاجة من شفاء مريض أو غير ذلك نادى صاحب القبر يا سيدي فلان جئتك قاصدا من مكان بعيد لا تخيبنى وكذلك اذا قحط المطر أو عقرت المرأة عن الولد أو دهمهم عدو أو جراد فزعوا الى صاحب القبر وبكوا عنده فإن جرى المقدور بحصول شيء مما يريدون استبشروا وفرحوا ونسبوا ذلك الى صاحب القبر فإن لم يتيسر شيء من ذلك اعتذروا عن

187

صاحب القبر بأنه إما غائب في مكان آخر أو ساخط لبعض أعمالهم أو ان اعتقادهم في الولي ضعيف أو أنهم لم يعطوه نذره ونحو هذه الخرافات ومن بعض أشعار المادحين لسيد المرسلين صلى الله عليه وسلم قول البوصيري يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به سواك عند حلول الحادث العمم ولن يضيق رسول الله جاهك بي إذا الكريم تحلى باسم منتقم فان لي ذمة منه بتسميتي محمدا وهو أوفى الخلق بالذمم إن لم يكن في معادي آخذا بيدي فضلا وإلا فقل يا زلة القدم فتأمل ما في هذه الأبيات من الشرك منها أنه نفى أن يكون له ملاذا إذا حلت به الحوادث إلا النبي صلى الله عليه وسلم وليس ذلك إلا لله وحده لا شريك له فهو الذي ليس للعباد ملاذ إلا هو الثاني أنه دعاه وناداه بالتضرع وإظهار الفاقة والاضطرار اليه وسأل منه هذه المطالب التي لا تطلب الا من الله وذلك هو الشرك في الالهية الثالث سؤاله منه أن يشفع له في قوله ولن يضيق رسول الله البيت وهذا هو الذي أراده المشركون ممن عبدوه وهو الجاه والشفاعة عند الله وذلك هو الشرك وأيضا فان الشفاعة لا تكون إلا بعد إذن الله فلا معنى لطلبها من غيره فإن الله تعالى هو الذي يأذن للشافع أن يشفع لأن الشافع يشفع ابتداء الرابع قوله فان لي ذمة الى آخره

188

كذب على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم فليس بينه وبين من اسمه محمد ذمة إلا بالطاعة لا بمجرد الاشراك في الاسم مع الشرك الخامس قوله إن لم يكن في معادي البيت تناقض عظيم وشرك ظاهر فإنه طلب أولا أن لا يضيق به جاهه ثم طلب هنا أن يأخذ بيده فضلا وإحسانا وإلا فيا هلاكه فيقال كيف طلبت منه أولا الشفاعة ثم طلبت منه هنا أن يتفضل عليك فان كنت تقول إن الشفاعة لا تكون إلا بعد إذن الله فكيف تدعو النبي صلى الله عليه وسلم وترجوه وتسأله الشفاعة فهلا سألتها من له الشفاعة الامن بعد إذانه فهذا يبطل عليك طلب الشفاعة من غير الله وإن قلت ما أريد إلا جاهه وشفاعته بإذن الله قيل فكيف سألته أن يتفضل عليك ويأخذ بيدك في يوم الدين فهذا مضاد لقوله تعالى وما أدراك ما يوم الدين ثم ما أدراك ما يوم الدين يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله فكيف يجتمع في قلب عبد الايمان بهذا وهذا وإن قلت سألته أن يأخذ بيدي ويتفضل علي بجاهه وشفاعته قيل عاد الأمر إلى طلب الشفاعة من غير الله وذلك هو محض الشرك السادس في هذه الأبيات من التبري من الخالق تعالى وتقدس والاعتماد على المخلوق في حوادث الدنيا والآخرة مالا يخفى على مؤمن فأين هذا من

189

قوله تعالى إياك نعبد وإياك نستعين وقوله تعالى فإن تولوا فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم وقوله وتوكل على الحي الذي لا يموت وسبح بحمده وكفى بذنوب عباده خبيرا وقوله تعالى قل إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا قل إني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحدا إلا بلاغا من الله ورسالاته فإن قيل هو لم يسأله أن يتفضل عليه وإنما أخبر أنه إن لم يدخل في عموم شفاعته فيا هلاكه قيل المراد بذلك سؤاله وطلب الفضل منه كما دعاه أول مرة وأخبر أنه لاملاذ له سواه ثم صرح بسؤال الفضل والإحسان بصيغة الشرط والدعاء والسؤال كما يكون بصيغة الطلب يكون بصيغة الشرط كما قال نوح عليه السلام وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين ومن شعر البرعي قوله ماذا تعامل يا شمس النبوة من أضحى إليك من الأشواق في كبدي فامنع جناب صريع لا صريخ له نائي المزار غريب الدار مبتعدي حليف ودك واه الصبر منتظر لغارة منك يا ركني ويا عضدي أسير ذنبي وزلاتي ولا عمل أرجو النجاة به إن أنت لم تجد وجرى في شركه الى أن قال وحل عقدة كربي يا محمد من هم على خطرات القلب مطرد أرجوك في سكرات الموت تشهدني كيما يهون إذ الأنفاس في صعد وإن نزلت ضريحا لا أنيس به فكن أنيس وحيد فيه منفرد

190

وارحم مؤلفها عبد الرحيم ومن يليه من أجله وانعشه وافتقد وإن دعا فأجبه واحم جانبه من حاسد شامت أو ظالم نكد وقوله من أخرى يا رسول الله ياذا الفضل يا بهجة الحشر جاها ومقاما عد على عبد الرحيم الملتجي بحمى عزك ياغوث اليتامى وأقلني عثرتي يا سيدي في اكتساب الذنب فى خمسين عاما وقوله يا سيدي يا رسول الله يا أملي يا موئلي يا ملاذي يوم يلقاني هبني بجاهك ما قدمت من زلل جودا ورجح بفضل منك ميزاني واسمع دعائي واكشف ما يساورني من الخطوب ونفس كل أحزاني فأنت أقرب من ترجى عواطفه عندي وإن بعدت داري وأوطاني إني دعوتك من نيابتي برع وأنت أسمع من يدعوه ذو شان فامنع جنابي وأكرمني وصل نسبي برحمة وكرامات وغفران لقد أنسانا هذا ما قبله وهذا بعينه هو الذي ادعته النصارى في عيسى عليه السلام إلا أن أولئك أطلقوا عليه اسم الإله وهذا لم يطلقه ولكن أتى بلباب دعواهم وخلاصتها وترك الاسم إذ في الاسم نوع تمييز فرأى الشيطان أن الإتيان بالمعنى دون الاسم قرب الى ترويج الباطل وقبوله عند ذوي العقول السخيفة إذ كان من المتقرر عند الأمة المحمدية أن دعوى النصارى في عيسى عليه السلام كفر فلو أتاهم بدعوى النصارى اسما ومعنى لردوه وأنكروه فأخذ المعنى وأعطاه البرعي وأضرابه وترك الاسم للنصارى وإلا فما ندري ماذا أبقى هذا المتكلم الخبيث للخالق تعالى وتقدس من سؤال مطلب أو تحصيل مأرب فالله المستعان

191

وهذا كثير جدا في أشعار المادحين لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو حجة أعداء دينه الذين يجوزون الشرك بالله ويحتجون بأشعار هؤلاء ولم يقتصروا أيضا على طلب ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم بل يطلبون مثل ذلك من غيره كما حدث بعض التقاة أنه رأى في رابية صاحب مشهد من المشاهد هذه راية البحر التيار به أستغيث وأستجير وبه أعوذ من النار وقال بعضهم من قصيدة في بعض آلهتهم يا سيدي ويا صفي الدين يا سندي يا عمدتي بل ويا ذخري ومفتخري أنت الملاذ لما أخشى ضرورته وأنت لي ملجأ من حادث الدهر الى أن قال وامنن علي بتوفيق وعافية وخير خاتمة مهما انقضى عمري وكف عنا أكف الظالمين اذا امتدت بسوء لأمر مؤلم نكري فإنني عبدك الراجي بودك ما أملته يا صفي السادة الغرر قال بعض العلماء فلا ندري أي معنى اختص به الخالق تعالى بعد هذه المنزلة وماذا أبقى هذا المتكلم الخبيث لخالقه من الأمر فان المشركين أهل الأوثان ما يؤهلون من عبدوه لشيء من هذا انتهى وكثير من عباد القبور ينادون الميت من مسافة شهر وأكثر يسألونه حوائجهم ويعتقدون أنه يسمع دعاءهم ويستجيب لهم وتسمع عندهم حال ركوبهم البحر واضطرابه من دعاء الأموات والاستغاثة بهم ما لايخطر على بال وكذلك إذا أصابتهم الشدائد من مرض أو كسوف أو ريح شديدة أو غير ذلك فالولي في ذلك نصب أعينهم والاستغاثة به هي ملاذهم ولو ذهبنا نذكر ما يشبه هذا لطال الكلام اذا عرفت هذا فقد تقدم ذكر دعاء المسألة

192

وأما دعاء العبادة فهو عبادة الله تعالى بأنواع العبادات من الصلاة والذبح والنذر والصيام والحج وغيرها خوفا وطمعا يرجو رحمته ويخاف عذابه وان لم يكن في ذلك صيغة سؤال وطلب فالعابد الذي يريد الجنة ويهرب من النار وهو سائل راغب راهب يرغب في حصول مراده ويذهب من فواته وهو سائل لما يطلبه بامتثال الأمر في فعل العبادة وقد فسر قوله تعالى ادعوني أستجب لكم بهذا وهذا قيل اعبدوني وامتثلوا أمري أستجب لكم وقيل سلوني أعطكم وعلى هذا القول تدل الاحاديث والآثار اذا تبين ذلك فاعلم أن العلماء أجمعو على أن من صرف شيئا من نوعي الدعاء لغير الله فهو مشرك ولو قال لا إله الا الله محمد رسول الله صلى وصام اذ شرط الاسلام مع التلفظ بالشهادتين أن لا يعب الا الله فمن أتى بالشهادتين وعبد غير الله ما أتى بهما حقيقة وان تلفظ بهما كاليهود الذين يقولون لا اله الا الله وهم مشركون ومجرد التلفظ بهما لا يكفي في الاسلام بدون العمل بمعناهما واعتقاده إجماعا ذكر شيء من كلام العلماء في ذلك وإن كنا غنيين بكتاب ربنا وسنة نبينا صلى الله عليه و سلم عن كل كلام إلا أنه قد صار بعض الناس منتسبا إلى طائفة معينة فلو أتيته بكل آية من كتاب الله وكل سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقبل حتى تأتيه بشيء من كلام العلماء أو بشيء من كلام طائفته التي ينتسب اليها قال الامام أبو الوفاء علي بن عقيل الحنبلي صاحب كتاب الفنون الذي ألفه في نحو أربعمائة مجلد وغيره من التصانيف قال في الكتاب المذكور لما صعبت التكاليف على الجهال والطغام عدلوا عن أوضاع الشرع

193

إلى تعظيم أوضاع وضعوها لأنفسهم فسهلت عليهم إذ لم يدخلوا بها تحت أمر غيرهم وهم عندي كفار لهذه الأوضاع مثل تعظيم القبور وخطاب الموتي بالحوائج وكتب الرقاع فيها يا مولاي افعل بي كذا وكذا أو إلقاء الخرق على الشجر اقتداء بمن عبد اللات والعزى نقله غير واحد مقررين له راضين به منهم الامام أبو الفرج بن الجوزي والامام ابن مفلح صاحب كتاب الفروع وغيرهما وقال شيخ الاسلام في الرسالة السنيه فإذا كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم من انتسب إلى الاسلام من مرق منه مع عبادته العظيمة فليعلم أن المنتسب الى الاسلام والسنة في هذه الازمان أيضا قد يمرق أيضا من الاسلام وذلك بأسباب منها الغلو الذي ذمه الله في كتابه حيث قال يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم الآية وكذلك الغلو في بعض المشايخ بل الغلو في علي بن أبي طالب بل الغلو في المسيح عليه السلام فكل من غلا في نبي أو رجل صالح وجعل فيه نوعا من الإلهية مثل أن يقول يا سيدي فلان انصرني أو أغثني أو ارزقني أو اجبرني أو أنا في حسبك ونحو هذه الاقوال فكل هذا شرك وضلال يستتاب صاحبه فإن تاب وإلا قتل فان الله إنما أرسل الرسل وأنزل الكتب ليعبد وحده ولا يدعى معه إله آخر والذين يدعون مع الله آلهة أخرى مثل المسيح والملائكة والاصنام لم يكونوا يعتقدون أنها تخلق الخلائق أو تنزل المطر أو تنبت النبات وإنما كانوا يعبدونهم أو يعبدون قبورهم أو يعبدون صورهم يقولون إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله فبعث الله رسله تنهى

194

ان يدعى أحد من دونه لا دعاء عبادة ولا دعاء استغاثة انتهى وقد نص الحافظ أبو بكر أحمد بن علي المقريزي صاحب كتاب الخطط في كتاب له في التوحيد على أن دعاء غير الله شرك وقال شيخ الاسلام من جعل بينه وبين الله وسائط يتوكل عليهم يدعوهم ويسألهم كفر إجماعا نقله عنه غير واحد مقررين له منهم ابن مفلح في الفروع وصاحب الانصاف وصاحب الغاية وصاحب الاقناع وشارحهم وغيرهم ونقله صاحب القواطع في كتابه عن صاحب الفروع قلت وهو إجماع صحيح معلوم بالضرورة من الدين وقد نص العلماء من أهل المذاهب الأربعة وغيرهم في باب حكم المرتد على أن من أشرك بالله فهو كافر أي عبد مع الله غيره بنوع من أنواع العبادات وقد ثبت بالكتاب والسنة والاجماع أن دعاء الله عبادة له فيكون صرفه لغير الله شركاء وقال الامام ابن النحاس الشافعي في كتاب الكبائر ومنها إيقادهم السرج عند الأحجار والأشجار والعيون والآبار ويقولون انها تقبل النذر وهذه كلها بدع شنيعة ومنكرات قبيحة تجب إزالتها ومحو أثرها فان أكثر الجهال يعتقدون إنها تنفع وتضر وتجلب وتدفع وتشفي المرض وترد الغائب إذا نذر لها وهذا شرك ومحادة لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم قلت فصرح رحمه الله أن الاعتقاد في هذه الأمور أنها تضر وتنفع وتجلب وتدفع وتشفي المريض وترد الغائب إذا نذر لها أن ذلك شرك وإذا ثبت أنه شرك فلا فرق في ذلك بين اعتقاده في الملائكة والنبيين ولا بين اعتقاده في الأصنام والأوثان إذ لا يجوز الاشراك بين الله تعالى وبين مخلوق فيما يختص بالخالق سبحانه كما قال تعالى ولا يأمركم أن

195

تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذا أنتم مسلمون وهذا بعينه هو الذي يعتقده من دعا الأنبياء والصالحين ولهذا يسألونهم قضاء الحاجات وتفريج الكربات وشفاء ذوي الأمراض والعاهات فثبت أن ذلك شرك وقال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في شرح المنازل ومن أنواعه أي الشرك طلب الحوائج من الموتى والاستغاثة بهم والتوجه إليهم وهذا أصل شرك العالم فإن الميت قد انقطع عمله وهو لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا فضلا لمن استغاث به أو سأله أن يشفع إلى الله وهذا من جهله بالشافع والمشفوع عنده فإن الله سبحانه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه والله سبحانه لم يجعل سؤال غيره سببا لأذنه وإنما السبب لأذنه كمال التوحيد فجاء هذا المشرك بسبب يمنع الإذن والميت محتاج إلى من يدعو له كما أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم إذا زرنا قبور المسلمين أن نترحم عليهم وندعو لهم ونسأل لهم العافية والمغفرة فعكس المشركون هذا وزاروهم زيادة العبادة وجعلوا قبورهم أوثانا تعبد فجمعوا بين الشرك بالمعبود وتغيير دينه ومعاداة أهل التوحيد ونسبتهم إلى التنقص بالأموات وهم قد تنقصوا الخالق سبحانه بالشرك وأولياءه الموحدين بذمهم ومعاداتهم وتنقصوا من أشركوا به غاية التنقص إذ ظنوا أنهم راضون منهم بهذا وأنهم أمروهم به وهؤلاء هم أعداء الرسل في كل زمان ومكان وما أكثر المستجيبين لهم ولله در خليله ابراهيم عليه الصلاة والسلام حيث قال واجنبني وبني أن نعبد الأصنام رب إنهن أضللن كثيرا من الناس وما نجا من أشرك بهذا الشرك الأكبر إلا من جرد توحيده لله وعادى المشركين في الله وتقرب بمقتهم إلى الله

196

وقال الأمام الحافظ ابن عبد الهادي في رده على البكي وقوله أي قول البكي إن المبالغة في تعظيمه أي تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم واجبة يراد بها المبالغة بحسب ما يراه كل أحد تعظيما حتى الحج إلى قبره والسجود له والطواف به واعتقاد أنه يعلم الغيب وأنه يعطي ويمنع ويملك لمن استغاث به من دون الله الضر والنفع وأنه يقضي حوائج السائلين ويفرج كربات المكروبين وأنه يشفع فيمن يشاء ويدخل الجنة من يشاء فدعوى المبالغة في هذا التعظيم مبالغة في الشرك وانسلاخ من جملة الدين قلت هذا هو اعتقاد عباد القبور فيمن هو دون الرسول صلى الله عليه وسلم فضلا عن الرسول صلى الله عليه وسلم كما تقدم بعض ذلك والأمر أعظم وأطم من ذلك وفي الفتاوى البزازية من كتب الحنفية قال علماؤنا من قال أرواح المشايخ حاضرة تعلم يكفر فإن أراد بالعلماء علماء الشريعة فهو حكاية للاجماع على كفر معتقد ذلك وان اراد علماء الحنفية خاصة فهو حكاية لاتفاقهم على كفر معتقد ذلك وعلى التقديرين تأمله تجده صريحا في كفر من دعى أهل القبور لأنه ما دعاهم حتى اعتقد أنهم يعلمون ذلك ويقدرون على إجابة سؤاله وقضاء مأموله وقال الشيخ صنع الله الحلبي الحنفي في كتابه الذي ألفه في الرد على من ادعى ان للأولياء تصرفا في الحياة وبعد الممات على سبيل الكرامة هذا وانه قد ظهر الآن فيما بين المسلمين جماعات يدعون أن للأولياء تصرفات في حياتهم وبعد الممات ويستغاث بهم في الشدائد والبليات وبهممهم تكشف المهمات فيأتون قبورهم وينادونهم في قضاء الحاجات مستدلين على أن ذلك منهم كرامات وقالوا منهم أبدال ونقباء وأوتاد ونجباء وسبعون وسبعة وأربعون وأربعة والقطب هو الغوث للناس وعليه المدار بلا التباس وجوزوا لهم الذبائح والنذور وأثبتوا لهم فيها الأجور قال وهذا

197

الكلام فيه تفريط وإفراط بل فيه الهلاك الأبدي والعذاب السرمدي لما فيه من روائح الشرك المحقق ومصادمة الكتاب العزيز المصدق ومخالف لعقائد الأئمة وما اجتمعت عليه الأمة وفي التنزيل ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصير الى أن قال الفصل الاول فيما انتحلوه من الإفك الوخيم والشرك العظيم إلى أن قال فأما قولهم إن للأولياء تصرفات في حياتهم وبعد الممات فيرده قوله تعالى أإله مع الله ألا له الخلق والأمر لله ملك السموات والأرض ونحوه من الآيات الداله على أنه المنفرد بالخلق والتدبير والتصرف والتقدير ولا شيء لغيره في شيء ما بوجه من الوجوه فالكل تحت ملكه وقهره تصرفا وملكا وإحياء وإماتة وخلقا وتمدح الرب سبحانه بانفراده في ملكه بآيات من كتابه كقوله هل من خالق غير الله والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير وذكر آيات في هذا المعنى ثم قال فقوله في الآيات كلها من دونه أي من غيره فإنه عام يدخل فيه من اعتقدته من ولي وشيطان تستمده فإن من لم يقدر على نصر نفسه كيف يمد غيره إلى أن قال فكيف يتصور لغيره من ممكن أن يتصرف إن هذا من السفاهة لقول وخيم وشرك عظيم إلى أن قال وأما القول بالتصرف بعد الممات فهو أشنع وأبدع من القول بالتصرف في الحياة قال جل ذكره إنك ميت وإنهم ميتون الله يتوفى الأنفس حين

198

موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت كل نفس ذائقة الموت كل نفس بما كسبت رهينة وفي الحديث أذا مات ابن آدم انقطع عمله الحديث فجميع ذلك وما هو نحوه دال على انقطاع الحس والحركة من الميت وأن أرواحهم ممسكة وأن أعمالهم منقطعة عن زيادة ونقصان فدل ذلك أن ليس للميت تصرفا في ذاته فضلا عن غيره بحركة وأن روحه محبوسة مرهونة بعملها من خير وشر فاذا عجز عن حركة نفسه فكيف يتصرف في غيره فالله سبحانه يخبر أن الأرواح عنده وهؤلاء الملحدون يقولون إن الأرواح مطلقة متصرفة قل أأنتم أعلم أم الله قال وأما اعتقادهم أن هذه التصرفات لهم من الكرامات فهو من المغالطة لأن الكرامة شيء من عند الله يكرم بها أولياءه لا قصد لهم فيه ولا تحدي ولا قدرة ولا علم كما في قصة مريم بنت عمران وأسيد بن حضير وأبي مسلم الخولاني قال وأما قولهم فيستغاث بهم في الشدائد فهذا أقبح مما قبله وأبدع لمصادمته قوله جل ذكره أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض ءإله مع الله قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر وذكر آيات في هذا المعنى ثم قال فإنه جل ذكره قرر أنه الكاشف للضر لا غيره وأنه المتعين لكشف الشدائد والكرب وأنه المتفرد بإجابة المضطرين وأنه المستغاث لذلك كله وأنه القادر على دفع الضر والقادر على إيصال الخير فهو المنفرد بذلك فإذا تعين هو جل ذكره خرج

199

غيره من ملك ونبي وولي قال والاستغاثة تجوز في الأسباب الظاهرة العادية من الأمور الحسية في قتال أو إدراك عدو أو سبع ونحوه كقولهم يا لزيد يا لقوم يا للمسلمين كما ذكروا ذلك في كتب النحو بحسب الأسباب الظاهرة بالفعل وأما الاستغاثة بالقوة والتأثير أو في الأمور المعنوية من الشدائد كالمرض وخوف الغرق والضيق والفقر وطلب الرزق ونحوه فمن خصائص الله فلا يطلب فيها غيره قال وأما كونهم معتقدين التأثير منهم في قضاء حاجاتهم كما تفعله جاهلية العرب والصوفية الجهال وينادونهم ويستنجدون بهم فهذا من المنكرات إلى أن قال فمن اعتقد أن لغير الله من نبي أو ولي أو روح أو غير ذلك في كشف كربه أو قضاء حاجته تأثيرا فقد وقع في وادي جهل خطير فهو على شفا حفرة من السعير وأما كونهم مستدلين على أن ذلك منهم كرامات فحاشى لله أن تكون أولياء الله بهذه المثابة فهذا ظن أهل الأوثان كذا أخبر الرحمن هؤلاء شفعاؤنا عند الله ما نعبدهم إلا ليقربونا الى الله زلفى ءأتخذ من دونه الهة إن يردن الرحمن بضر لاتغن عني شفاعتهم شيئا ولا ينقذون فان ذكر ما ليس من شأنه النفع ولا دفع الضر من نبي وولي وغيره على وجه الإمداد منه إشراك مع الله إذ لا قادر على الدفع غيره ولا خير إلا خيره قال وأما ما قالوه من أن منهم أبدالا ونقباء وأوتادا ونجباء وسبعين وسبعة وأربعين وأربعة والقطب هو الغوث للناس فهذا من موضوعات إفكهم كما ذكره القاضي المحدث ابن العربي في سراج المريدين وابن الجوزي وابن تيمية انتهى باختصار

200

ومثل هذا يوجد في كلام غيرهم من العلماء والمقصود ان أهل العلم ما زالوا ينكرون هذه الأمور ويبينون أنها شرك وإن كان بعض المتأخرين ممن ينتسب إلى العلم والدين ممن اصيب في عقله ودينه قد يرخص في بعض هذه الأمور وهو مخطىء في ذلك ضال مخالف لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وإجماع المسلمين فكل أحد مأخوذ من قوله ومتروك إلا قول ربنا وقول رسوله صلى الله عليه وسلم فإن ذلك لا يتطرق إليه الخطأ بحال بل واجب على الخلق اتباعه في كل زمان على أنه لو أجمع المتأخرون على جواز هذا لم يعتد باجماعهم المخالف لكلام الله وكلام رسوله في محل النزاع لأنه إجماع غير معصوم بل هو من زلة العالم التي حذرنا من اتباعها وأما الإحماع المعصوم فهو إجماع الصحابة والتابعين وما وافقه وهو السواد الأعظم الذي ورد الحث على اتباعه وإن لم يكن عليه إلا الغرباء الذين أخبر بهم صلى الله عليه وسلم في قوله بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء رواه مسلم لا ما كان عليه العوام والطغام والخلف المتأخرون الذين يقولون مالا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون قال وقول الله تعالى ولا تدع من دون الله مالا ينفعك ولا يضرك فان فعلت فإنك اذا من الظالمين وإن يمسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو ش قال ابن عطية معناه قيل لي ولا تدع فهو عطف على أقم وهذا الأمر والمخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم إذا كانت هكذا فأحرى أن يتحذر من ذلك غيره وقال غيره فإن فعلت معناه فإن دعوت من دون الله ما لاينفعك ولا يضرك فكني عنه بالفعل إيجازا فإنك إذا من الظالمين إذا جزاء للشرط

201

وجواب لسؤال مقدر كأن سائلا سأل عن تبعة عبادة الأوثان وجعل من الظالمين لأنه لا ظلم أعظم من الشرك إن الشرك لظلم عظيم قلت حاصل كلام المفسرين أن الله تعالى نهى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يدعو من دونه مالا ينفعه ولا يضره والمراد به كل ما سوى الله فإنهم لا ينفعون ولا يضرون وساء في ذلك الأنبياء والصالحون وغيرهم كما قال تعالى وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا وقال النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك رواه الترمذي وقال حسن صحيح وفي الآية تنبيه على أن المدعو لابد أن يكون مالكا للنفع والضرر حتى يعطي من دعاه أو يبطش بمن عصاه وليس ذلك إلا لله وحده فتعين أن يكون هو المدعو دون ما سواه والآية شاملة لنوعي الدعاء وقوله فإن فعلت فإنك إذا من الظالمين أي المشركين وهذا كقوله فلا تدع مع الله إلها آخر فتكون من المعذبين وقوله ولقد أوحي اليك والى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين وقوله في الأنبياء ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون فإذا كان هذا الأمر لا يصدر من الأنبياء وحاشاهم من ذلك لم يفكوا أنفسهم من عذاب الله فما ظنك بغيرهم فلم يبق شيء يقرب الى الله ويباعد من سخطه إلا توحيده والعمل بما يرضاه لا الاعتماد على شخص أو قبر أو صنم او وثن أو مال أو غير ذلك من

202

الاسباب ومن يدع مع الله الها آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكافرون والآية نص في أن دعاء غير الله والاستغاثة به شرك أكبر ولهذا قال وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله لأنه المتفرد بالملك والقهر والعطاء والمنع ولازم ذلك إفراده بتوحيد الإلهية لأنهما متلازمان وإفراده بسؤال كشف الضر وجلب الخير لأنه لا يكشف الضر إلا هو ولا يجلب الخير إلا هو ما يفتح الله للناس من رحمه فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم فتعين أن لا يدعى لذلك إلا هو وبطل دعاء من سواه ممن لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا فضلا عن غيره وهذا ضد ما عليه عباد القبور فإنهم يعتقدون أن الأولياء والطواغيت الذين يسمونهم المجاذيب ينفعون ويضرون ويمسون بالضر ويكشفونه وأن لهم التصرف المطلق في الملك أي على سبيل الكرامة وهذا فوق شرك كفار العرب وإما على سبيل الوساطة بينهم وبين الله بالشفاعة وهذا شرك الذين قالوا ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى وفي الآية دليل على أن أصلح الناس لو يفعله إرضاء لغيره صار من الظالمين ذكره المصنف وقوله يصيب به من يشاء من عباده فلا يرده عنه راد لأنه العزيز الذي لا يغالب ولا يمانع ولا راد لقضائه ولا معقب لحكمه فأي فائدة في دعاء غيره لشفاعة أو غيرها فإنه تعالى فعال لما يريد لا يغنبه عنه شفيع ولا غيره بل لا يتكلم أحد عنده إلا باذنه ولا يشفع أحد إلا باذنه ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع أفلا

203

تتذكرون وقوله وهو الغفور الرحيم أي لمن تاب إليه وأقبل عليه حتى ولو كان من الشرك قال وقوله فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه الآية ش أمر الله تعالى بابتغاء الرزق عنده لا عند غيره ممن لا يملك رزقا من الأوثان والأصنام وغيرها كما قال في أول الآية إنما تعبدون من دون الله أوثانا وتخلقون إفكا قال ابن كثير وهذا أبلغ في الحصر كقوله إياك نعبد وإياك نستعين رب ابن لي عندك بيتا في الجنة ولهذا قال فابتغوا عند الله الرزق أي لا عند غيره لأنه المالك له وغيره لا يملك شيئا من ذلك فاعبدوه أي أخلصوا له العبادة وحده لا شريك له واشكروا له أي على ما أنعم عليكم وإليه ترجعون أي فيجازي كل عامل بعمله قلت في الآية الرد على المشركين الذين يدعون غير الله ليشفعوا لهم عنده في جلب الرزق فما ظنك بمن دعاهم أنفسهم واستغاث بهم ليرزقوه وينصروه كما هو الواقع من عباد القبور وقال المصنف وفيه أن طلب الرزق لا ينبغي إلا من الله كما أن الجنة لا تطلب إلا منه قال وقوله ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له الى يوم القيامة الآيتين ش حاصل كلام المفسرين أن الله تعالى حكم بأنه لا أضل ممن يدعو

204

من دون الله لا دعاء عبادة ولا دعاء مسألة واستغاثة من هذه حاله ومعنى الاستفهام فيه إنكار أن يكون في الضلال كلهم أبلغ ضلالا ممن عبد غير الله ودعاه حيث يتركون دعاء السميع المجيب القادر على تحصيل كل بغية ومرام ويدعون من دونه من لا يستجيب لهم ولا قدرة به على استجابة أحد منهم ما دام في الدنيا وإلى أن تقوم القيامة كما قال تعالى له دعوة الحق والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه وما دعاء الكافرين إلا في ضلال وقوله وهم عن دعائهم غافلون أي لا يشعرون بدعاء من دعاهم لأنهم إما عباد مسخرون مشتغلون بأحوالهم كالملائكة وإما أموات كالأنبياء والصالحين وإما أصنام وأوثان وقوله وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء أي إذا قامت القيامة وحشر الناس للحساب عادوهم وكانوا بعبادتهم الدعاء وغيره من أنواع العبادة كافرين كما قال تعالى واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا فليسوا في الدارين إلا على نكد ومضرة لا تتولاهم بالاستجابة في الدنيا وتجحد عبادتهم في الآخرة وهم أحوج ما كانوا إليها وفي الآيتين مسائل نبه عليها المصنف أحدها أنه لا أضل ممن دعا غير الله الثانية أنه غافل عن دعاء الداعي لا يدري عنه الثالثة أن تلك الدعوة سبب لبغض المدعو للداعي وعداوته له الرابعة تسمية تلك الدعوة عبادة للمدعو الخامسة كفر المدعو بتلك العبادة السادسة أن هذه الأمور هي سبب كونه اضل الناس

205

قال وقوله أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ش يقرر تعالى أنه الاله الواحد الذي لا شريك له ولا معبود سواه مما يشترك في معرفته المؤمن والكافر لأن القلوب مفطورة على ذلك فمتى جاء الاضطرار رجعت القلوب الى الفطرة وزال ما ينازعها فالتجأت إليه وأنابت إليه وحده لا شريك له كما قال تعالى ثم إذا مسكم الضر فاليه تجأرون ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون وقال تعالى فإذا مس الانسان ضر دعا ربه منبيا اليه ثم اذا خوله نعمة منه ننسي ما كان يدعو إليه من قبل وجعل لله أندادا ليضل عن سبيله قل تمتع بكفرك قليلا إنك من أصحاب النار ومثل هذا كثير في القرآن يبين تعالى أنه المدعو عند الشدائد الكاشف للسوء وحده فيكون هو المعبود وحده وكذا قال في هذه الآية أمن يجيب المضطر إذا دعاه أي من هو الذي لا يلجأ المضطر إلا اليه والذي لا يكشف ضر المصطرين سواه ومن المعلوم أن المشركين كانوا يعلمون أنه لا يقدر على هذه الأمور إلا الله وحده وإذا جاءتهم الشدائد أخلصوا الدعاء لله كما قال تعالى فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم الى البر اذا هم يشركون فتبين أن من اعتقد في غير الله أنه يكشف السوء أو يجيب دعوة المضطر أو دعاه لذلك فقد اشرك شركا أكبر من شرك العرب كما هو الواقع من عباد القبور

206

قال وروى الطبراني باسناده أنه كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم منافق يؤذي المؤمنين فقال بعضهم قوموا بنا نستغيث برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا المنافق فقال النبي صلى الله عليه وسلم إنه لا يستغاث بي وإنما يستغاث بالله ش قوله روى الطبراني هو الإمام الحافظ الثقة سليمان بن أحمد ابن أيوب بن مطير اللخمي الطبراني صاحب المعاجم الثلاثة وغيرها روى عن النسائي واسحق بن ابراهيم الديري وخلق كثير ومات سنة ستين وثلاثمائة وقد بيض المصنف لاسم الراوي وكأنه والله أعلم نقله عن غيره أو كتبه من حفظه والحديث عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قوله أنه كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم منافق يؤذي المؤمنين هذا المنافق لم أقف على تسميته ويحتمل أن يكون هو عبدالله بن أبي فانه معروف بالأذى للمؤمنين بالكلام في أعراضهم ونحو ذلك أما أذاهم ينحو ضرب أو زجر فلا نعلم منافقا بهذه الصفة قوله فقال بعضهم أي بعض المؤمنين وهذا البعض القائل لذلك يحتمل أن يكون واحدا وان يكون جماعة والظاهر أنه واحد وأظن في بعض الروايات أنه أبو بكر الصديق رضي الله عنه قوله قوموا بنا نستغيث برسول الله صلى الله عليه وسلم مرادهم الاستغاثة به فيما يقدر عليه بكف المنافق عن أذاهم بنحو ضربه أو زجره لا الاستغاثة به فيما لا يقدر عليه إلا الله قوله إن لا يستغاث بي وإنما يستغاث بالله قال بعضهم فيه التصريح بأنه لا يستغاث بالنبي صلى الله عليه وسلم في الأمور وإنما يستغاث بالله والظاهر أن مراده صلى الله عليه وسلم إرشادهم الى التأدب مع الله في الالفاظ لإن استغاثتهم به

207

صلى الله عليه وسلم من المنافق من الأمور التي يقدر عليها إما بزجره أو تعزيره ونحو ذلك فظهر أن المراد بذلك الإرشاد إلى حسن اللفظ والحماية منه صلى الله عليه وسلم لجانب التوحيد وتعظيم الله تبارك وتعالى فإذا كان هذا كلامه صلى الله عليه وسلم في الاستغاثة به فيما يقدر عليه فكيف بالاستغاثة به أو بغيره في الأمور المهمة التي لا يقدر عليها أحد إلا الله كما هو جار على ألسنة كثير من الشعراء وغيرهم وقل من يعرف أن ذلك منكر فضلا عن معرفة كونه شركا فإن قلت ما الجمع بين هذا الحديث وبين قوله تعالى فاستغاثه الذين من شيعته على الذي من عدوه فإن ظاهر الحديث المنع من إطلاق لفظ الاستغاثة على المخلوق فيما يقدر عليه وظاهر الآية جوازه قيل تحمل الآية على الجواز والحديث على الأدب والاولى والله أعلم وقد تبين بما ذكر في هذا الباب وشرحه من الآيات والأحاديث واقوال العلماء أن دعا الميت والغائب والحاضر فيما لا يقدر عليه إلا الله والاستفاثة بغير الله في كشف الضر أو تحويله هو الشرك الاكبر بل هو أكبر انواع الشرك لأن الدعاء مخ العبادة ولأن من خصائص الإلهية إفراد الله بسؤال ذلك إذ معنى الإله هو الذي يعبد لأجل هذه الأمور ولأن الداعي إنما يدعو إلهه عند انقطاع مله مما سواه وذلك هو خلاصة التوحيد وهو انقطاع الأمل مما سوى الله فمن صرف شيئا من ذلك لغير الله فقد ساوى بينه وبين الله وذلك هو الشرك ولهذا يقول المشركون لآلهتم وهم في الحيم ج تالله إن كنا لفي ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين ولكن لعباد القبور على هذا شبهات ذكر المصنف كثيرا منها في كشف الشبهات ونحن نذكر هنا ما

208

لم يذكره فمن ذلك أنهم احتجوا بحديث رواه الترمذي في جامعه حيث قال حدثنا محمود بن غيلان ثنا عثمان بن عمرو ثنا شعبة عن أبي جعفر عن عمارة بن خزيمة بن ثابت عن عثمان بن حنيف أن رجلا ضرير البصر أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال ادع الله أن يعافيني قال إن شئت دعوت وإن شئت صبرت فهو خير لك قال فادعه فأمره أن يتوضا ويحسن وضوءه ويدعو بهذا الدعاء اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة إني توجهت به إلى ربي في حاجتي هذه لتقضي اللهم فشفعه في قال هذا حديث حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من رواية أبي جعفر وهو غير الخطمي هكذا رواه الترمذي ورواه النسائي وابن شاهين والبيهقي كذلك وفي بعض الروايات يا محمد إني أتوجه إلى آخره وهذه اللفظة هي التي تعلق بها المشركون وليست عند هؤلاء الأئمة قالوا فلو كان دعاء غير الله شركا لم يعلم النبي صلى الله عليه وسلم الأعمى هذا الدعاء الذي فيه نداء غير الله والجواب من وجوه الأول أن هذا الحديث من أصله وإن صححه الترمذي فإن في ثبوته نظرا لأن الترمذي يتساهل في التصحيح كالحاكم لكن الترمذي أحسن نقدا كما نص على ذلك الأئمة ووجه عدم ثبوته أنه قد نص أن أبا جعفر الذي عليه مدار هذا الحديث هو غير الخطمي وإذا كان غيره فهو لا يعرف ولعل عمدة الترمذي في تصحيحه أن شعبة لا يروي إلا عن ثقة وهذا فيه نظر فقد قال عاصم بن علي سمعت شعبة يقول لو لم أحدثكم إلا عن ثقة لم أحدثكم إلا عن ثلاثة وفي نسخة عن ثلاثين ذكره الحافظ العراقي وهذا اعتراف منه بأنه يروي عن الثقة وغيره فينظر في حاله و يتوقف الاحتجاج به على ثبوب صحته الثاني أنه في غير محل النزاع فأين طلب الأعمى من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو له وتوجهه بدعائه مع حضوره من دعاء الأموات والسجود لهم ولقبورهم والتوكل عليهم

209

والاتجاء إليهم في الشدائد والنذرو والذبح لهم وخاطبهم بالحوائج من الأمكنة البعيدة يا سيدي يا مولاي افعل في كذا فحديث الأعمى شيء ودعاء غير الله تعالى والاستغاثة به شيء آخر فليس في حديث الأعمى شيء غير انه طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو له ويشفع له فهو توسل بدعائه وشفاعته ولهذا قال في آخره اللهم فشفعه في فعلم أنه شفع له وفي رواية أنه طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو له فدل الحديث على أنه صلى الله عليه وسلم شفع له بدعائه وأن النبي صلى الله عليه وسلم أمره هو أن يدعو الله ويسأله قبول شفاعته فهذا من أعظم الأدلة أن دعاء غير الله شرك لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يسأل قبول شفاعته فدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يدعى ولأنه صلى الله عليه وسلم لم يقدر على شفائه الا بدعاء الله له فأين هذا من تلك الطوام والكلام إنما هو في سؤال الغائب أو سؤال المخلوق فيما لا يقدر عليه إلا الله أما أن تأتي شخصا يخاطبك فتسأله أن يدعو لك فلا إنكار في ذلك على ما في حديث الأعمى فالحديث سواء كان صحيحا او لا وسواء ثبت قوله فيه يا محمد او لا لا يدل على سؤال الغائب ولا على شؤال المخلوق فيما لا يقدر عليه إلا الله بوجه من وجوه الدلالات ومن ادعى ذلك فهو مفتر على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم لأنه إن كان سأل النبي صلى الله عليه وسلم نفسه فهو لم يسأل منه إلا ما يقدر عليه وهو أن يدعو له وهذا لا إنكار فيه وإن كان توجه به من غير سؤال منه نفسه فهو لم يسأل منه وإنما سأل من الله به سواء كان متوجها بدعائه كما هو نص أول الحديث وهو الصحيح أو كان متوجها بذاته على قول ضعيف فإن التوجه بذوات المخلوقين والإقسام بهم على الله بدعة منكرة لم تأت عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من أصحابه والتابعين لهم بإحسان ولا الأئمة الأربعة ونحوهم من أئمة الدين قال أبو حنيفة لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به وقال أبو يوسف أكره بحق فلان

210

وبحق أنبيائك ورسلك وبحق البيت والمشعر الحرام وقال القدوري المسألة بحق المخلوق لا تجوز فلا يقول أسألك بفلان أو بملائكتك أو أنبيائك ونحو ذلك لأنه لا حق للمخلوق على الخالق واختاره العز بن عبدالسلام إلا في حق النبي صلى الله عليه وسلم خاصة إن ثبت الحديث يشير إلى حديث الأعمى وقد تقدم أنه على تقدير ثبوته ليس فيه إلا أنه توسل بدعائه لابذاته وقد ورد في ذلك حديث رواه الحاكم في مستدركه فأبعد النجة من طريق عبد الرحمن بن زيد بن أسلم لما أذنب آدم الذنب الذي أذنبه رفع رأسه إلى العرش فقال أسألك بحق محمد إلا غفرت لي الحديث وهو حديث ضعيف بل موضوع لأنه مخالف للقرآن قال تعالى قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين فهذا هو الذي قاله آدم قال الذهبي في هذا الحديث أظنه موضوعا وعبدالرحمن بن زيد متفق على ضعفه قال ابن معين ليس حديثه بشيء الثالث أن قوله يا محمد إني أتوجه الخ لم تثبت في اكثر الروايات وبتقدير ثبوتها لا يدل على جواز دعاء غير الله لأن هذا خطاب لحاضر معين يراه ويسمع كلامه ولا إنكار في ذلك فإن الحي يطلب منه الدعاء كما يطلب منه ما يقدر عليه فأين هذا من دعاء الغائب والميت لو كان أهل البدع والشرك يعلمون واحتجوا ايضا بحديث رواه أبو يعلى وابن السني في عمل اليوم والليلة فقال ابن السني حدثنا أبو يعلى ثنا الحسن بن عمر وبن شقيق ثنا معروف بن حسان ثنا أبو معاذ السمرقندي عن سعيد عن قتادة عن أبي بردة عن أبيه عن عبدالله بن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا انفلتت دابة أحدكم بأرض فليناد يا عباد الله احبسوا هكذا في كتاب ابن السني وفي الجامع الصغير فإن لله عز وجل في الأرض

211

حاضرا سيحبسه عليكم والجواب أن هذا الحديث مداره على معروف ابن حسان وهو أبو معاذ السمرقندي فقوله في الأصل ثنا أبو معاذ السمرقندي خطأ أظنه من الناسخ قال ابن عدي منكر الحديث وقال الذهبي في الميزان قال ابن عدي منكر الحديث قد روى عن عمرو بن ذر نسخة طويلة كلها غير محفوظة وقال السيوطي حديث ضعيف وأقول بل هو باطل إذ كيف يكون عند سعيد عن قتاده ثم يغيب عن أصحاب سعيد الحفاظ الأثبات مثل يحيى القطان واسمعيل بن علية وأبي أسامة وخالد ابن الحارث وأبي خالد الأحمر وسفيان وشعبة وعبدالوارث وابن المبارك والأنصاري وغندر وابن أبي عدي ونحوهم حتى يأتي به هذا الشيخ المجهول المنكر الحديث فهذا من أقوى الأدلة على وضعه وبتقدير ثبوته لا دليل فيه لأن هذا من دعاء الحاضر فيما يقدر عليه كما قال فإن لله في الأرض حاضرا سيحبسه عليكم واحتجوا أيضا بحديث رواه الطبراني في المعجم الكبير فقال حدثنا طاهر بن عيسى بن قيرس المصري ثنا أصبغ بن الفرج ثنا ابن وهب عن أبي سعيد المكي عن روح بن القاسم عن أبي جعفر الخطمي المديني عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف أن رجلا كان يختلف إلى عثمان بن عفان في حاجة له فكان عثمان لا يلتفت إليه ولا ينظر في حاجته فلقي ابن حنيف فشكا إليه ذلك فقال له عثمان بن حنيف أئت الميضأة فتوضأ ثم أئت المسجد فصل فيه ركعتين ثم قل اللهم إني أسألك وأتوجه اليك بنبينا محمد نبي الرحمة يا محمد إني أتوجه بك إلى ربك ليقضي لي حاجتي الحديث والجواب من وجوه الأول أن راوية طاهر بن عيسى ممن لا يعرف بالعدالة بل هو مجهول قال الذهبي طاهر بن عيسى بن قيرس أبو الحسين المصري المؤدب عن سعيد

212

ابن أبي مريم ويحيى بن بكير وأصبغ بن الفرج وعنه الطبراني توفي سنة اثنتين و تسعين ومائتين ولم يذكر فيه حرجا ولا تعديلا فهو إذا مجهول الحال لا يجوز الاحتجاج بخبره لا سيما فيما يخالف نصوص الكتاب والسنة الثاني قوله عن أبي سعيد المكي أشد جهالة من الأول فإن مشايخ ابن وهب المكيين معروفون كداود بن عبدالرحمن وزمعة بن صالح وابن عيينة وطلحة بن عمرو الحضرمي وابن جريج وعمر بن قيس ومسلم بن خالد الزنجي وليس فيهم من يكنى ابا سعيد فتبين أنه مجهول الثالث إن قلنا بتقدير ثبوته فليس فيه دليل على دعاء الميت والغائب غاية ما فيه أنه توجه به في دعائه فأين هذا من دعاء الميت فإن التوجه بالمخلوق سؤال به لا سؤال منه والكلام إنما هو في سؤال المخلوق نفسه ودعائه والاستغاثة به فيما لا يقدر عليه إلا الله وكل أحد يفرق بين سؤال الشخص وبين السؤال به فإنه في السؤال به قد أخلص الدعاء لله ولكن توجه على الله بذاته أو بدعائه وأما في سؤاله نفسه مالا يقدر عليه إلا الله فقد جعله شريكا لله في عبادة الدعاء فليس في حديث الأعمى وحديث ابن حنيف هذا إلا إخلاص الدعاء لله كما هو صريح فيه إلا قوله يا محمد إني أتوجه بك وهذا ليس فيه المخاطبة لميت فيما لا يقدر عليه إنما فيه مخاطبته مستحضرا له في ذهنه كما يقول المصلي السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته الرابع أنهم زعموا أنه دليل على دعاء كل غائب وميت من الصالحين فخرجوا عما فهموه من الحديث بفهمهم الفاسد الى أنه دليل على دعاء كل غائب وميت صالح ولا دليل فيه اصلا على دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم بعد موته ولا في حياته فيما لا يقدر عليه ثم لو كان فيه دليل على ذلك لم يكن فيه دليل على دعاء الغائب والميت مطلقا لأن هذا قياس مع وجود الفارق وهو باطل

213

الإجماع إذا ما ثبت للنبي صلى الله عليه وسلم من الفضائل والكرامات لا يساويه فيه أحد فلا يجوز قياس غيره عليه وأيضا فالقياس إنما يجوز للحاجة ولا حاجة إلى قياس غيره عليه فبطل قياسهم بنفس مذهبهم هذا غاية ما احتجوا به مما هو موجود في بعض الكتب المعروفة وما سوى هذه الأحاديث الثلاثة فهو مما وضعوه بأنفسهم كقولهم إذا أعيتكم الأمور فعليكم بأصحاب القبور وقولهم لو حسن أحدكم ظنه بحجر لنفعه قال ابن القيم وهو من وضع المشركين عباد الأوثان باب قول الله تعالى أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون ولا يستطيعون لهم نصرا الآية ش المراد من هذه الترجمة بيان حال المدعوين من دون الله أنهم لا ينفعون ولا يضرون وسواء في ذلك الملائكة والأنبياء والصالحون والأصنام فكل من دعي من دون الله فهذه حاله كما قال تعالى يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب ما قدروا الله حق قدره إن الله لقوي عزيز ويكفيك في ذلك قوله تعالى لأكرم الخلق قل إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا قل إني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحدا إلا بلاغا من الله ورسالاته وقال قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون وقال واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون ولا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا

214

ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا ومن المعلوم أنهم كانوا قد عبدوا الملائكة والأنبياء والصالحين ولهذا أخبر سبحانه وتعالى عن الملائكة أنه يتبرؤون منهم يوم القيامة كما قال تعالى ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون إذا تبين ذلك فحاصل كلام المفسرين على الآية المترجم لها أن قوله تعالى أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون توبيخ وتعنيف للمشركين بأنهم يعبدون مع الله تعالى عبادا لا تخلق شيئا وليس فيها ما تستحق به العبادة من الخلق والرزق والنصر لأنفسهم أو لمن عبدهم وهم مع ذلك مخلوقون محدثون ولهم خالق خلقهم وإن خرج الكلام مخرج الاستفهام فالمراد به ما ذكرناه وقوله ولا يستطيعون لهم نصرا ولا أنفسهم ينصرون أي ويشركون به ويعبدون من هذه حاله لا يستطيع نصر عابديه ولا نصر نفسه بأن يدفع عن نفسه من أراد به الضر ومن هذه حاله فهو في غاية العجز فكيف يكون إلها معبودا وجميع الأنبياء والملائكة والصالحين وغيرهم داخلون في هذه الأوصاف فلا يقدر أحد منهم أن يخلق شيئا ولا يستطيعون لمن عبدهم نصرا ولا ينصرون أنفسهم وإذا كان كذلك بطلت دعوتهم من دون الله قال وقوله تعالى والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير الآية ش حاصل كلام المفسرين كابن كثير وغيره انه تعالى يخبر عن حال

215

المدعوين من دونه من الملائكة والأنبياء والأصنام وغيرها بما يدل على عجزهم وضعفهم وأنهم قد انتفت عنهم الشروط التي لا بد أن تكون في المدعو وهي الملك وسماع الدعاء والقدرة على استجابته فمتى عدم شرط بطل أن يكون مدعوا فكيف اذا عدمت كلها فنفى عنهم الملك بقوله ما يملكون من قطمير قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة وعطاء والحسن وقتادة القطمير اللفافة التي تكون على نواة التمر أي ولا يملكون من السموات والأرض شيئا ولا بمقدار هذا القطمير كما قال ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقا من السموات والأرض شيئا ولا يستطيعون وقال قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض الآية فمن كان هذا حاله فكيف يدعى من دون الله ونفى عنهم سماع الدعاء بقوله إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم يعني أن الآلهة التي تدعونها لا يسمعون دعاءكم لأنهم أموات أو ملائكة مشغولون بأحوالهم مسخرون لما خلقوا له أو جماد فلعل المشرك يقول هذا في الأصنام أما الملائكة والأنبياء والصالحون فيسمعون ويستجيبون فنفى سبحانه ذلك بقوله ولو سمعوا ما استجابوا لكم أي لا يقدرون على ما تطلبون منهم وما خص تعالى الأصنام بل عم جميع من يدعى من دونه ومن المعلوم أنهم كانوا يعبدون الملائكة والأنبياء والصالحين كما ذكر الله تعالى ذلك في كتابه فلم يرخص في دعاء أحد منهم لا استقلالا ولا وساطة بالشفاعة وقوله ويوم القيامة

216

يكفرون بشرككم كقوله واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا وهذا نص صريح على ان من دعا غير الله فقد أشرك بشرطه وان المدعوين يكفرون به يوم القيامة ويتبرؤون منهم كقوله تعالى إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الاسباب فهل على كلام رب العزة استدراك ولهذا قال ولا ينبئك مثل خبير أي ولا يخبرك بعواقب الامور ومآلها وما تصير اليه مثل خبير بها قال قتادة يعني نفسه تبارك وتعالى فإنه أخبر بالواقع لا محالة قال وفي الصحيح عن أنس قال شج النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد فقال كيف يفلح قوم شجوا نبيهم فنزلت ليس لك من الأمر شيء ش قوله في الصحيح أي الصحيحين فعلقه البخاري عن حميد وثابت عن أنس ووصله أحمد والترمذي والنسائي عن حميد عن أنس به ووصله مسلم عن ثابت عن أنس وقال ابن اسحق في المغازي حدثني حميد الطويل عن أنس قال كسرت رباعية النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد وشج في وجهه فجعل الدم يسيل على وجهه وجعل يمسح الدم وهو يقول كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم وهو يدعوهم الى ربهم فأنزل الله الآية قوله شج النبي صلى الله عليه وسلم قال أبو السعادات الشج في الرأس خاصة في الأصل وهو أن يضربه بشيء فيجرحه فيه ويشقه ثم استعمل في غيره من الأعضاء وذكر ابن هشام من حديث أبي سعيد الخدري أن عتبة بن أبي

217

وقاص هو الذي كسر رباعية النبي صلى الله عليه وسلم السفلى وجرح شفته السفلى وأن عبدالله بن شهاب الزهري هو الذي شجه في جبهته وأن عبدالله بن قمئة جرحه في وجنته فدخلت حلقتان من حلق المغفر في وجنته وأن مالك بن سنان مص الدم من وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ازدرده فقال له لن تمسك النار وروى الطبراني من حديث أبي أمامة قال رمى عبدالله بن قمئة رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد فشجه في وجهه وكسر رباعيته فقال خذها وأنا ابن قمئة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مالك أقمأك الله فسلط الله عليه تيس جبل فلم يزل ينطحه حتى قطعه قطعة قطعة قال القرطبي والرباعية بفتح الراء وتخفيف الياء وهي كل سن بعد ثنية قال النووي وللانسان أربع رباعيات قال الحافظ والمراد أنها كسرت فذهب منها فلقة ولم تقلع من أصلها قلت فظهر بهذا أن قول بعضهم إنه شج في رأسه فيه نظر قال النووي وفي هذا وقوع الاسقام والابتلاء بالانبياء صلوات الله وسلامه عليهم لينالوا جزيل الأجر والثواب ولتعرف أممهم وغيرهم ما أصابهم ويتأسوا بهم قال القرطبي وليعلم أنهم من البشر تصيبهم محن الدنيا ويطرأ على أجسامهم ما يطرأ على أجسام البشر ليتيقنوا أنهم مخلوقون مربوبون ولا يفتتن بما ظهر على أيديهم من المعجزات ويلبس الشيطان من أمرهم ما لبسه على النصارى وغيرهم قوله يوم أحد جبل معروف إلى الآن كانت عنده الواقعة المشهورة فأضيفت اليه قوله فقال كيف يفلح قوم شجوا نبيهم زاد مسلم من طريق ثابت عن أنس وكسروا رباعيته وأدموا وجهه

218

قوله فأنزل الله ليس لك من الامر شيء قال ابن عطية كان النبي صلى الله عليه وسلم لحقه في تلك الحال يأس من فلاح كفار قريش فمالت نفسه إلى أن يستأصلهم الله ويريح منهم فقيل له بسبب ذلك ليس لك من الأمر شيء أي عواقب الأمور بيد الله فامض أنت لشأنك ودم على الدعاء لربك وقال غيره المعنى أن الله تعالى مالك أمرهم فإما أن يهلكهم أو يكبتهم أو يتوب عليهم إن أسلموا أو يعذبهم إن أصروا وليس لك من أمرهم شيء وإنما أنت عبد مأمور بانذارهم وجهادهم فعلى هذا يكون قوله ليس لك من الأمر شيء اعتراض المعطوف والمعطوف عليه وقال ابن اسحق أي ليس لك من الحكم بشيء في عبادي إلا ما أمرتك به فيهم قال وفيه عن ابن عمر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا رفع رأسه من الركوع في الركعة الأخيره من الفجر اللهم العن فلانا وفلانا بعد ما يقول سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد فأنزل الله ليس لك من شيء في رواية يدعو على صفوان بن أمية وسهيل بن عمرو والحارث بن هشام فنزلت ليس لك من الأمر شيء ش قوله وفيه أي في الصحيح والمراد به صحيح البخاري ورواه النسائي قوله عن ابن عمر هو عبدالله بن عمر بن الخطاب صحابي جليل من عباد الصحابة شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلاح مات سنة ثلاث وسبعين في آخرها أو أول التي تليها قوله إنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى آخره هذا القنوت على هؤلاء هو بعد ما شج وكسرت رباعيته يوم أحد قوله اللهم العن فلانا وفلانا قال أبو السعادات أصل اللعن

219

الطرد والابعاد من الله ومن الخلق السب و الدعاء قلت الظاهر أنه من الخلق طلب طرد الملعون وإبعاده من الله بلفظ اللعن لا مطلق السب والشتم قوله فلانا وفلانا يعني صفوان بن أمية وسهيل بن عمرو والحارث ابن هشام كما بينه في الرواية التي بعدها وفيه جواز الدعاء على المشركين في الصلاة وتسمية المدعو عليهم ولهم بأسمائهم في الصلاة وأن ذلك لا يضر الصلاة قوله بعد ما يقول سمع الله لمن حمده قال أبو السعادات اي أجاب حمده وتقبله وقال السهيلي مفعول سمع محذوف لأن السمع متعلق بالأقوال والأصوات دون غيرها فاللام تؤذن بمعنى زائد وهو الاستجابة المقارنة للسمع فاجتمع في الكلمة الإيجاز والدلالة على الزائد وهو الاستجابة لمن حمده وقال ابن القيم رحمه الله تعالى ما معناه عدى سمع الله لمن حمده باللام لتضمنه معنى استجاب له ولا حذف هناك وإنما هو مضمن قوله ربنا ولك الحمد في بعض روايات البخاري باسقاط الواو قال النووي لا ترجيح لأحداهما على الأخرى وقال ابن دقيق العيد كأن إثباتها دال على معنى زائد لأنه يكون التقدير مثلا ربنا استجب ولك الحمد فيشتمل على معنى الدعاء ومعنى الخبر قال شيخ الاسلام والحمد ضد الذم والحمد يكون على محاسن المحمود مع المحبة له كما أن الذم يكون على مساوئه مع البغض له وكذا قال ابن القيم وفرق بينه وبين المدح بأن الاخبار عن محاسن الغير إما أن يكون إخبارا مجردا عن حب وإرادة أو مقرونا بحبه وإرادته فإن كان الأول فهو المدح وإن كان الثاني فهو الحمد فالحمد إخبار عن محاسن المحمود مع حبه وإجلاله وتعظيمه ولهذا كان خبرا يتضمن الإنشاء بخلاف المدح فإنه خبر مجرد فالقائل إذا قال الحمد

220

لله او قال ربنا ولك الحمد تضمن كلامه الخبر عن كل ما يحمد عليه تعالى باسم جامع محيط متضمن لكل فرد من أفراد الجملة المحققة والمقدرة وذلك يستلزم إثبات كل كمال يحمد عليه الرب تعالى ولهذا لا تصلح هذه اللفظة على هذا الوجه ولا تنبغي إلا لمن هذا شأنه وهو الحميد المجيد وفيه التصريح بأن الإمام يجمع بين التسميع والتحميد وهو قول الشافعي وأحمد وأبي يوسف وخالف في ذلك مالك وأبو جنيفة فقالا يقتصر على قول سمع الله لمن حمده قوله وفي رواية يدعو على صفوان بن أمية وسهيل بن عمرو والحارث ابن هشام إنما دعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنهم رؤساء المشركين يوم أحد والسبب في تلك الأفاعيل التي جرت على سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم هم وابو سفيان ومع ذلك فما استجيب له فيهم بل أنزل الله عليه ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون فتاب الله عليهم وآمنوا مع أنهم فعلوا أشياء لم يفعلها أكثر الكفار منها غزوهم نبيهم صلى الله عليه وسلم في بلاده وشجهم له وكسر رباعيته وقتلهم بني عمهم المؤمنين وقتلهم الأنصار والتمثيل بقتلى المسلمين وإعلانهم بشركهم وكفرهم ومع هذا كله لم يقدر النبي صلى الله عليه وسلم أن يدفعهم عن نفسه ولا عن أصحابه كما قال تعالى قل إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا قل اني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحدا إلا بلاغا من الله ورسالاته بل لجأ صلى الله عليه وسلم الى ربه المالك القادر على النفع والضر وإهلاكهم ودعا عليهم صلى الله عليه وسلم في الصلاة المكتوبة جهرا وخلفه سادات الأولياء يؤمنون على دعائه ومع هذا كله ما استجاب الله له فيهم بل تاب عليهم وآمنوا فلو كان عنده صلى الله عليه وسلم من النفع والضر شيء لكان يفعل بهم ما يستحقونه على هذه الأفعال العظيمة ولكن الأمر كما قال تعالى هذا

221

بلاغ للناس ولينذروا به وليعلموا أنما هو إله واحد وليذكر أولوا الألباب فأين هذا مما يعتقده عباد القبور في الأولياء والصالحين بل في الطواغيت الذين يسمونهم المجاذيب والفقراء أنهم ينفعون من دعاهم وينصرون من لاذ بحماهم ويدعونهم برا وبحرا في غيبتهم وحضرتهم قال وفيه عن أبي هريرة قال قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزل الله عليه وأنذر عشيرتك الأقربين قال يا معشر قريش أو كلمة نحوها اشتروا أنفسكم لا أغني عنكم من الله شيئا يا عباس بن عبدالمطلب لا أغني عنك من الله شيئا يا صفية عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا إغني عنك من الله شيئا ويا فاطمة بنت محمد سليني من مالي ما شئتي لا أغني عنك من الله شيئا ش قوله وفيه أي في صحيح البخاري قوله عن أبي هريرة اختلف الحفاظ في اسمه على أكثر من ثلاثين قولا صحح النووي أن اسمه عبدالرحمن بن صخر كما رواه الحاكم في المستدرك عن أبي هريرة قال كان اسمي في الجاهلية عبد شمس بن صخر فسميت في الاسلام عبد الرحمن وقال غيره اسمه عبدالله بن عمرو وقيل ابن عامر وقال ابن الكلبي اسمه عمير بن عامر ويقال كان اسمه في الجاهلية عبد شمس وكنيته أبو الأسود فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبدالله وكناه أبا هريرة وروى الدولابي بإسناده عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم سماه عبدالله وهو دوسي من فضلاء الصحابة وحفاظهم وعلمائهم حفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم أكثر مما حفظه غيره وروي له في كتب السنة أكثر من خمسة آلاف حديث ومات سنة سبعة أو ثمان أو تسع وخمسين وهو ابن ثمان وسبعين سنة قوله قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصحيح من رواية ابن عباس صعد النبي

222

صلى الله عليه وسلم على الصفا قوله حين أنزل الله عليه وأنذر عشيرتك الأقربين عشيرة الرجل هم بنو أبيه الأدنون أو قبيلته والأقربين أي الأقرب فالأقرب منهم لأنهم أحق الناس ببرك وإحسانك الديني والدنيوي كما قال تعالى يا أيها الذين آمنوا قو أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة الآية وقال النبي صلى الله عليه وسلم لمن قال له من ابر قال أمك قال ثم من قال ثم أباك ثم أختك وأخاك ولأنه إذا قام عليهم في أمر الله كان أدعى لغيرهم إلى الانقياد والطاعة له ولئلا يأخذه ما يأخذ القريب للقريب من الرأفة والمحاباة فيحابيهم في الدعوة والتخويف ولذلك أمر بانذارهم خاصة وقد أمره الله أيضا بالنذارة العامة كما قال لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا وقال لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم فهم غافلون ولا تنافي بينهما لأن النذارة الخاصة فرد من أفراد العامة قوله يا معشر قريش المعشر كمسكن الجماعة قوله أو كلمة نحوها هو بنصب كلمة على أنه معطوف على ما قبله أي أو قال كلمة نحو قوله يا معشر قريش أي بمعناها قوله اشتروا أنفسكم أي بتوحيد الله وإخلاص العبادة له وعدم الإشراك به وطاعته فيما أمر والانتهاء عما عنه زجر فإن جميع ذلك ثمن النجاة والخلاص من عذاب الله لا الاعتماد على الأنساب وترك الأسباب فإن ذلك غير نافع عند رب الأرباب ودفع بقوله لا أغني عنكم من الله شيئا ما عساه أن يتوهم بعضهم أنه يغني عنهم من الله شيئا

223

بشفاعته فإذا كان لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا ولا يدفع عن نفسه عذاب ربه لو عصاه كما قال تعالى قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم فكيف يملك لغيره نفعا أو ضرا أو يدفع عنه عذاب الله وأما شفاعته صلى الله عليه وسلم في بعض العصاة فهو أمر من الله ابتداء فضلا عليه وعليهم لا أنه يشفع فيمن يشاء ويدخل الجنة من يشاء وفي صحيح البخاري بعد قوله لا أغني عنكم من الله شيئا يا بني عبد مناف لا أغني عنكم من الله شيئا فلعل المصنف اختصرها قوله يا عباس بن عبدالمطلب بنصب ابن و يجوز في عباس الرفع والنصب وكذا القول في قوله ويا صفية عمة رسول الله ويا فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم قوله سليني من مالي ما شئت في رواية مسلم عن عائشة قالت لما نزلت وأنذر عشيرتك الأقربين قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا فاطمة بنت محمد يا صفية بنت عبد المطلب يا بني عبدالمطلب سلوني من مالي ما شئتم فبين صلى الله عليه وسلم أنه لا ينجيهم من عذاب الله ولا يدخلهم الجنة ولا يقربهم إلى الله وإنما الذي يقرب إلى الله ويدخل الجنة وينجي من النار برحمة الله هو طاعة الله وأما ما يقدر عليه صلى الله عليه وسلم من أمور الدنيا فلا يبخل بها عنهم كما قال سلوني مالي ما شئتم وكما قال ألا إن لكم رحما سأبلها ببلالها رواه أحمد وعبد بن حميد وابن المنذر وهو عند مسلم في حديث آخر فإذا صرح وهو سيد المرسلين لأقاربه المؤمنين وغيرهم خصوصا سيدة نساء العالمين وعمه وعمته وآمن الانسان أنه لا يقول إلا الحق ثم نظر إلى ما وقع في قلوب كثير من الناس من الاعتقاد فيه وفي غيره من

224

الانبياء والصالحين أنهم ينفعون ويضرون ويغنون من عذاب الله حتى يقول صاحب البردة فإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم تبين له التوحيد وعرف غربة الدين فأين هذا من قول صاحب البردة والبرعي وأضرابهما من المادحين له صلى الله عليه وسلم بما هو يتبرأ منه ليلا ونهارا ويبين اختصاصه بالخالق تعالى وتقدس كما قال تعالى قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لا ستكثرت من الخير وما مسني السوء إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون كذلك حقت كلمة ربك على الذين فسقوا أنهم لا يؤمنون تالله لقد تاهت عقول تركت كلام ربها وكلام نبيها لوساوس صدرها وما ألقاه الشيطان في نفوسها ومن العجب أن اللعين كادهم مكيدة أدرك بها مأموله فأظهر لهم هذا الشرك في صورة محبته صلى الله عليه وسلم وتعظيمه ومحبة الصالحين وتعظيمهم ولعمر الله ان تبرئتهم من هذا التعظيم والمحبة هوالتعظيم لهم والمحبة وهوالواجب المتعين وأظهر لهم التوحيد والإخلاص في صورة بغض النبي صلى الله عليه وسلم وبغض الصالحين والتنقص بهم وما شعروا أنهم تنقصوا الخالق سبحانه وتعالى وبخسوه حقه وتنقصوا النبي صلى الله عليه وسلم والصالحين بذلك أما تنقصهم للخالق تعالى فلأنهم جعلوا المخلوق العاجز مثل الرب القادر في القدرة على النفع والضر وأما بخسهم حقه تعالى فلأن العبادة بجميع أنواعها حق لله تعالى فإذا جعلوا شيئا منها لغيره فقد بخسوه حقه

225

وأما تنقصهم للنبي صلى الله عليه وسلم وللصالحين فلأنهم ظنوا أنهم راضون منهم بذلك أو أمروهم به وحاشا لله أن يرضوا بذلك أو يأمروا به كما قال تعالى وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي اليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون وفي الحديث من الفوائد غير ما تقدم جده صلى الله عليه وسلم في هذا الأمر بحيث فعل ما نسب به إلى الجنون وكذلك لو يفعله مسلم الآن قاله المصنف وفيه دليل على الاجتهاد في الأعمال وترك البطالة والاعتماد على مجرد الانتساب إلى الأشخاص كما يفعله أهل الطيش والحمق ممن ينتسب إلى نبي أو صالح ونحو ذلك لأنه صلى الله عليه وسلم إذا خاطب بنته وعمه وعمته وقرابته بهذا الخطاب كان تنبيها لذريتهم ونحوهم على ذلك لأنه إذا كان لا يغني عن هؤلاء شيئا كان ذريتهم أولى أن لا يغني عنهم من الله شيئا وقد قال تعالى لمن اكتفى بالانتساب إلى الأنبياء عن متابعتهم تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون وفيه أن أولى الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم هم أهل طاعته ومتابعته في محياه ومماته كما قال صلى الله عليه وسلم ألا إن آل أبي يعني فلانا ليسوا لي بأولياء إنما وليي الله وصالح المؤمنين رواه مسلم وروى عبد بن حميد عن الحسن أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع أهل بيته قبل موته فقال ألا إن لي عملي ولكم عملكم ألا إني لا أغني عنكم من الله شيئا ألا إن أوليائي منكم المتقون ألا لا إعرفنكم يوم القيامة تأتون بالدنيا تحملونها على رقابكم ويأتي الناس يحملون الآخرة باب قول الله تعالى حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا

226

الحق وهو العلي الكبير ش أراد المصنف رحمه الله بهذه الترجمة بيان حال الملائكة الذين هم أقوى وأعظم من عبد من دون الله فإذا كان هذا حالهم مع الله تعالى وهيبتهم منه وخشيتهم له فكيف يدعوهم أحد من دون الله وإذا كانوا لا يدعون مع الله تعالى لا استقلالا ولا وساطة بالشفاعة فغيرهم ممن لا يقدر على شيء من الأموات والأصنام أولى أن لا يدعى ولا يعبد ففيه الرد على جميع فرق المشركين الذين يدعون مع الله من لا يداني الملائكة ولا يساويهم في صفة من صفاتهم وقد قال تعالى فيهم وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون فهذه حالهم و صفاتهم وليس لهم من الربوبية والإلهية شيء بل ذلك لله وحده لا شريك له وكذا قال في هذه الآية حتى إذا فزع عن قلوبهم أي زال الفزع عنها قاله ابن عباس وابن عمر وأبو عبدالرحمن السلمي والشعبي والحسن وغيرهم والضمير عائد على ما عادت عليه الضمائر التي للغيبة في قوله لا يملكون وفي أموالهم وماله منهم وحتى تدل على الغاية وليس في الكلام ما يدل على أن غاية له فقال ابن عطية في الكلام حذف يدل عليه الظاهر كأنه قال ولاهم شفعاء كما تزعمون أنتم بل هم عبدة مسلمون أبدا يعني منقادون حتى إذا فزع عن قلوبهم والمراد الملائكة على ما اختاره ابن جرير وغيره قال ابن كثير وهو الحق الذي لامرية فيه لصحة الأحاديث فيه والآثار وقال أبو حيان تظاهرت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قوله

227

حتى إذا فزع عن قلوبهم إنما هي في الملائكة إذا سمعت الوحي الى جبريل يأمر الله به سمعت كجر سلسلة الحديد على الصفوان فتفزع عند ذلك تعظيما وهيبة قال وبهذا المعنى من ذكر الملائكة في صدر الآيات تتسق هذه الآية على الأولى ومن يشعر أن الملائكة مشار اليهم من أول قوله الذين زعمتم لم تتصل له هذه الآية بما قبلها وقال ابن كثير هذا مقام رفيع في العظمة وهو أنه تعالى إذا تكلم بالوحي فسمع أهل السموات كلامه أرعدوا من الهيبة حتى يلحقهم مثل الغشي قاله ابن مسعود ومسروق وغيرهما وقوله قالوا الحق أي قالوا قال الله الحق وذلك لأنهم إذا سمعوا كلام الله وصعقوا ثم أفاقوا أخذوا يتساءلون فيقولون ماذا قال ربكم فيقولون قال الحق قوله وهو العلي أي العالي فهو فوق كل شيء فهو تعالى على العرش الذي هو فوق السموات كما قال الرحمن على العرش استوى قال في الصحيح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله كأنه سلسلة على صفوان ينفذهم ذلك حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير فيسمعها مسترق السمع ومسترق السمع هكذا بعضه فوق بعض وصفه سفيان بكفه فحرفها وبدد بين أصابعه فيسمع الكلمة فيلقيها إلى من تحته ثم يلقيها الآخر إلى من تحته حتى يلقيها على لسان الساحر والكاهن فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها وربما ألقاها قبل أن يدركه فيكذب معها مائة كذبة فيقال أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا فيصدق بتلك الكلمة التي سمعت من السماء ش قوله في الصحيح أي صحيح البخاري

228

قوله إذا قضى الله الأمر في السماء أي إذا تكلم الله بأمره الذي قضاه في السماء مما يكون كما روى سعيد بن مصنور وأبو داود وابن جرير عن ابن مسعود قال إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماوات صلصلة كجر السلسلة على الصفوان وروى ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال لما أوحى الجبار إلى محمد صلى الله عليه وسلم دعا الرسول من الملائكة ليبعثه بالوحي فسمعت الملائكة صوت الجبار يتكلم بالوحي فلما كشف عن قلوبهم سألوا عما قال الله فقالوا الحق وعلموا أن الله لا يقول الا حقا قوله ضربت الملائكة بأجنحتها حضعانا لقوله أي لقول الله تعالى قال الحافظ خضعانا بفتحتين من الخضوع وفي رواية بضم أوله وسكون ثانيه وهو مصدر بمعنى خاضعين قوله كأنه سلسلة على صفوان أي كأن الصوت المسموع سلسلة على صفوان وهو الحجر الأملس قال الحافظ هو مثل قوله في بدء الوحي صلصلة كصلصلة الجرس وهو صوت الملك بالوحي وقد روى ابن مردويه من حديث ابن مسعود رفعه إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السموات صلصلة كصلصلة السلسلة على الصفوان الحديث قوله ينفذهم ذلك هو بفتح التحتية وسكون النون وضم الفاء والذال المعجمة ذلك أي القول والضمير في ينفذهم عائد على الملائكة اي ينفذ الله ذلك القول إلى الملائكة أي يلقيه أليهم وقيل وهو أظهر أي يخلص ذلك القول ويمضى في قلوب الملائكة حتى يفزعوا من ذلك كما في حديث النواس وفي حديث ابن عباس عن ابن مردويه من طريق عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عنه فلا ينزل على أهل سماء الا صعقوا وفي حديث ابن مسعود عند أبي داود وغيره مرفوعا إذا تلكم الله بالوحي سمع أهل السماء

229

الدنيا صلصلة كجر السلسلة على الصفا فيصعقون فلا يزالون كذلك حتى يأتيهم جبريل الحديث قوله حى إذا فزع عن قلوبهم أي أزيل عنها الخوف والغشي قوله قالوا ماذا قال ربكم أي قال الملائكة بعضهم لبعض ماذا قال ربكم قوله قالوا الحق أي قالوا قال الله الحق علموا أن الله لا يقول إلا حقا قوله فيسمعها مسترق السمع أي يسمع الكلمة التي قضاها الله مسترق السمع وهم الشياطين يركب بعضهم بعضا فيسمعون أصوات الملائكة بالأمر يقضيه الله كما قال تعالى وحفظناها من كل شيطان رجيم إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين وفي صحيح البخاري عن عائشة مرفوعا إن الملائكة تنزل في العنان وهو السحاب فتذكر الأمر قضي في السماء فتسترق الشياطين السمع فتسمعه فتوحيه إلى الكهان فيكذبون معها مائة كذبة من عند أنفسهم وظاهر هذا أنهم لا يسمعون كلام الملائكة الذين في السماء الدنيا وإنما يسمعون كلام الملائكة الذين في السحاب قوله وصفه سفيان بكفه أي وصف ركوب بعضهم فوق بعض وسفيان هو بن عيينة أو محمد الهلالي الكوفي ثم المكي ثقة حافظ فقيه إمام حجة إلا أنه تغير حفظه بأخره وربما دلس لكن عن الثقات مات سنة ثمان وتسعين ومائة وله إحدى وتسعون سنة قوله فحرفها بحاء مهملة وراء مشددة وفاء

230

قوله وبدد أي فرق بين أصابعه قوله فيسمع الكلمة فيلقيها إلى من تحته أي يسمع المسترق الفوقاني الكلمة من الوحي فيلقيها إلى الشيطان الذي تحته ثم يلقيها الآخر من تحته حتى يلقيها على لسان الساحر والكاهن وحينئذ يقع الرجم قوله فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها الشهاب هو النجم الذي يرمى به أي ربما أدرك المسترق الشهاب إذا رمى به قبل أن يلقي الكلمة إلى من تحته وربما ألقاها المسترق قبل أن يدركه الشهاب وهذا يدل على أن الرجم بالنجوم كان قبل المبعث كما روى أحمد ومسلم والترمذي والنسائي عن معمر عن الزهري عن علي ابن حسين عن أبن عباس قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا في نفر من اصحابه فرمى بنجم فاستنار فقال ما كنتم تقولون إذا كان هذا في الجاهلية قالوا كنا نقول يولد عظيم أو يموت عظيم قال فإنها لا يرمى بها لموت أحد ولا لحياته ولكن ربنا إذا قضى أمرا سبح حملة العرش ثم سبح أهل السماء الذين يلون حملة العرش فيقول الذين يلون حملة العرش لحملة العرش ماذا قال ربكم فيخبرونهم ويخبر أهل كل سماء سماء حتى ينتهي الخبر الى هذه السماء وتخطف الجن السمع فيرمون فما جاؤوا به على وجهه فهو حق ولكنهم يحرفونه ويزيدون فيه قال معمر قلت للزهري أكان يرمى بها في الجاهلية قال نعم قال أرأيت وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا قال غلظت وشدد أمرها حين بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيه الرد على المنجمين الذين ينسبون الخير والشر والاعطاء والمنع إلى الكواكب بحسب السعود منها والنحوس وعلى حسب كونها في البروج الموافقة أو المنافرة ونحو ذلك لما في الرمي بها من الدلالة على تسخيرها

231

لما خلقت له كما قال تعالى إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره الا له الخلق والامر تبارك الله رب العالمين قوله فيكذب معها مائة كذبة أي يكذب الكاهن أو الساحر مع الكلمة التي ألقاها إليه وليه من الشياطين مائة كذبة بفتح الكاف وسكون الذال المعجمة أو يكذب الشيطان مع الكلمة التي استرقها مائة كذبة ويخبر بالجميع وليه من الانس فما جاؤوا به على وجهه فهو صدق وما خلط فيه فهو كذب ومع هذا فيفتتن الانس بالانس الساحر والكاهن ويفتتنان بوليهما من الشياطين ويقبلون ما جاؤوا به من الصدق والكذب لكونهم قد يصدقون فيما يأتون به من خبر السماء قوله فيقال أليس قد قال لنا يوم كذا كذا هكذا بيض المصنف في هذا الموضع ولفظ الحديث في الصحيح فيقال أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا هكذا والمعنى أن الذين يأتون الكهان يصدقونهم في كذبهم ويستدلون على ذلك بكونهم يصدقون بعض الأحيان فيما سمعوه من الوحي ويذكرون أنه أخبرهم بشيء مرة فوجدوه حقا وتلك الكلمة من الحق كما في الصحيح عن عائشة قلت يا رسول الله إن الكهان كانوا يحدثونا بالشيء فنجده حقا قال تلك الكلمة الحق يخطفها الجني فيقذفها في أذن وليه ويزيد فيها مائة كذبة وفيه قبول النفوس للباطل كيف يتعلقون بواحدة ولا يعتبرون بمائة كذبة ذكره المصنف وفيه أن الشيء اذا كان فيه نوع من الحق لا يدل على أنه حق كله بل لا يدل على إباحته كما في الكهانة والسحر والتنجيم قوله فيصدق بتلك الكلمة التي سمعت من المساء أي يستدلون على صدقها

232

قال وعن النواس بن سمعان قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد الله تعالى أن يوحي بالأمر تكلم بالوحي أخذت السموات منه رجفة أو قال رعدة شديدة خوفا من الله عز وجل فإذا سمع ذلك أهل السموات صعقوا وخروا لله سجدا فيكون أول من يرفع رأسه جبريل فيكلمه الله من وحيه بما أراد ثم يمر جبريل على الملائكة كلما مر بسماء يسأله ملائكته ماذا قال ربنا يا جبريل فيقول جبريل قال الحق وهو العلي الكبير قال فيقولون كلهم مثل ما قال جبريل فينتهي جبريل بالوحي إلى حيث أمره الله عز وجل ش قوله عن النواس بن سمعان بكسر السين أي ابن خالد الكلابي ويقال الأنصاري صحابي ويقال إن أباه صحابي أيضا قال أبو حاتم الرازي سكن الشام قوله إذا أراد الله أن يوحي بالأمر الخ هذا والله أعلم في جميع الأمور التي يقضيها الرب تبارك وتعالى كما يدل عليه عموم اللفظ ويدل على ذلك أيضا حديث أبي هريرة الذي تقدم وغيره من الأحاديث المتقدمة قوله أخذت السموات منه رجفة هو برفع رجفة على أنه فاعل أي أصاب السموات منه رجفة أي ارتجفت كما روى ابن أبي حاتم عن عكرمة قال إذا قضى الله أمرا تكلم تبارك وتعالى رجفت السموات والأرض والجبال وخرت الملائكة كلهم سجدا قوله أو قال رعدة شديدة يعني أن الراوي شك هل قال النبي صلى الله عليه وسلم رجفة أو قال رعدة وهو بفتح الراء بمعنى الأول قوله خوفا من الله عز وجل لا ينكر أن السموات والأرض ترجف وترتعد خوفا من الله عز وجل فقد قال تعالى تسبح له السموات السبع

233

والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا وقال تعالى فقال لها وللأرض أتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين وقال تعالى تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا وقال تعالى وإن من الحجارة لما يتفجر منه الانهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله وما الله بغافل عما تعملون وفي البخاري عن ابن مسعود قال كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل وفي حديث أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ في يده حصيات فسمع لهن تسبيح كحنين النحل وكذا في يد أبي بكر وعمر وعثمان وهو حديث مشهور في المسانيد وكذلك في الصحيح قصة حنين الجذع الذي كان يخطب عليه النبي صلى الله عليه وسلم قبل اتخاذ المنبر ومثل هذا كثير قوله صعقوا وخروا لله سجدا أي يقع منهم الأمران الصعق وهو الغشي والسجود والله أعلم أيهما قبل الآخر فإن الواو لا تقتضي ترتيبا قوله فيكون أول من يرفع رأسه جبريل معنى جبريل عبدالله كما روى ابن جرير وأبو الشيخ الأصبهاني عن علي بن حسين قال اسم جبريل عبدالله واسم ميكائيل عبيدالله واسرافيل عبدالرحمن وكل شيء راجع الى إيل فهو معبد لله عز وجل وفيه دليل على فضيلة جبريل عليه السلام كما قال تعالى إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين قال أبو صالح في قوله عند ذي العرش مكين قال جبريل يدخل في سعبن حجابا من نور بغير إذن وقد ورد في صفة جبريل أحاديث صحيحة منها ما رواه أحمد

234

باسناد صصحيح عن عبدالله بن مسعود قال رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل في صورته وله ستمائة جناح كل جناح منها قد سد الأفق يسقط من جناحه من التهاويل والدر والياقوت والله به عليم قوله ثم يمر جبريل على الملائكة إلى آخره معناه ظاهر فإذا كان هذا حال الملائكة الذين هم أقوى وأعظم ممن عبد من دون الله وشدة خشيتهم من الله وهيبتهم له مع ما أعطاهم الله من القوة العظيمة التي لا يعلمها إلا الله ومع هذا فقد نفى عنهم الشفاعة بغير إذنه كما قال وكم من ملك في السموات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى وأخبر أنهم لا يملكون كشف الضر عمن دعاهم ولا تحويله فقال قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا وفي ضمن ذلك النهي عن دعائهم وعبادتهم الشفاعة أو غيرها كما قال تعالى أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أو لو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون قل لله الشفاعة جميعا فكيف يدعوهم المشرك ويظن أنهم يشفعون له عند الله كما يشفع الوزراء عند الملوك وإذا بطلت دعوتهم مع أنهم أحياء ناطقون مقربون عند الله فدعاء غيرهم من الأموات الذين لا يستطيعون سمعا ولا يملكون ضرا ولا نفعا أولى بالبطلان إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين وقال والذين تدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون أموات غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون إلهكم إله واحد فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرةر وهم مستكبرون

235

قوله ثم ينتهي جبريل بالوحي إلى حيث أمره الله عز وجل قد بيض المصنف رحمه الله بعد هذا ولعله أراد أن يكتب تمام الحديث ومن رواه وتمامه إلى حيث أمره الله عز وجل من السماء والأرض ورواه ابن جرير وابن خزيمة وابن أبي حاتم والطبراني وفي الحديث من الفوائد إثبات الكلام خلافا للجهمية وإثبات الصوت خلافا لهم وللأشاعرة باب الشفاعة لما كان المشركون في قديم الزمان وحديثه إنما وقعوا في الشرك لتعلقهم بأذيال الشفاعة كما قال تعالى ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله وقال تعالى والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى وكذلك قطع الله أطماع المشركين منها وأخبر أنه شرك ونزه نفسه عنه ونفى أن يكون للخلق من دونه ولي أو شفيع كما قال تعالى الله الذي خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع أفلا تتذكرون أراد المصنف في هذا الباب إقامة الحجج على أن ذلك هو عين الشرك وأن الشفاعة التي يظنها من دعا غير الله ليشفع له كما يشفع الوزير عند الملك منتفيه دنيا وأخرى وإنما الله هو الذي يأذن للشافع ابتداء لا يشفع ابتداء

236

كما يظنه أعداء الله فإن قلت اذا كان من اتخذ شفيعا عند الله إنما قصده تعظيم الرب تعالى وتقدس أن يتوصل اليه بالشفعاء فلما كان هذا القدر شركا قيل قصده للتعظيم لا يدل على أن ذلك تعظيم لله تعالى فكم من يقصد التعظيم لشخص ينقصه بتعظيمه ولهذا قيل في المثل المشهور يضر الصديق الجاهل ولا يضر العدو العاقل فإن اتخاذ الشفعاء والأنداد من دون الله هضم لحق الربوبية وتنقص للعظمة الإلهية وسوء ظن برب العالمين كما قال تعالى ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الظانين بالله ظن السوء عليهم دائرة السوء الآية فإنهم ظنوا به ظن السوء حتى أشركوا به ولو أحسنوا به الظن لوحدوه حق توحيده ولهذا أخبر سبحانه وتعالى عن المشركين إنهم ما قدروه حق قدره وكيف يقدره حق قدره من اتخذ من دونه ندا أو شفيعا يحبه ويخافه ويرجوه ويذل له ويخضع له ويهرب من سخطه ويؤثر مرضاته ويدعوه ويذبح له وينذر وهذه هي التسوية التي أثبتها المشركون بين الله وبين آلهتهم وعرفوا وهم في النار أنها كانت باطلا وضلالا فيقولون وهم في النار تالله إن كنا لفي ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين ومعلوم أنهم ما ساووهم به في الذات والصفات والأفعال ولا قالوا إن آلهتكم خلقت السموات والأرض وانها تحيي وتميت و إنما ساووهم به في المحبة والتعظيم والعبادة كما ترى عليه أهل الإشراك ممن ينتسب إلى الإسلام وإنما كان ذلك هضما لحق الربوبيه وتنقصا لعظمة الإلهية وسوء ظن برب العالمين لأن المتخذ للشفعاء والأنداد إما أن يظن أن الله سبحانه يحتاج إلى من يدبر أمر العالم معه من وزير أو ظهير أو معين وهذا أعظم التنقص لمن هو

237

غني عن كل ما سواه بذاته وكل ما سواه فقير إليه بذاته وإما أن يظن أن الله سبحانه إنما تتم قدرته بقدرة الشفيع وإما أن يظن أنه لا يعلم حتى يعلمه الشفيع أو لا يرحم حتى يجعله الشفيع يرحم أو لا يكفي وحده أو لا يفعل ما يريد العبد حتى يشفع عنده كما يشفع عند المخلوق أولا يجيب دعاء عباده حتى يسألوا الشفيع أن يرفع حاجتهم إليه كما هو حال ملوك الدنيا وهذا أصل شرك الخلق أو يظن أنه لا يسمع حتى يرفع الشفيع إليه ذلك أو يظن أن للشفيع عليه حقا فهو يقسم عليه بحقه ويتوسل إليه بذلك الشفيع كما يتوسل الناس إلى الأكابر والملوك بمن يعز عليهم ولا تمكنهم مخالفته وكل هذا تنقص للربوبية وهضم لحقها ذكر معناه ابن القيم فلهذه الأمور وغيرها أخبر سبحانه وتعالى أن ذلك شرك ونزه نفسه عنه فقال ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبؤن الله بما لا يعلم في السموات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون فإن قلت إنما حكم سبحانه وتعالى بالشرك على من عبد الشفعاء أما من دعاهم للشفاعة فقط فهو لم يعبدهم فلا يكون ذلك شركا قيل مجرد اتخاذ الشفعاء ملزوم للشرك والشرك لازم له كما أن الشرك ملزوم لتنقص الرب سبحانه وتعالى والتنقص لازم له ضرورة شاء المشرك أم أبى وعلى هذا فالسؤال باطل من أصله لا وجود له في الخارج وإنما هو شيء قدره المشركون في أذهانهم فإن الدعاء عبادة بل هو مخ العبادة فإذا دعاهم للشفاعة فقد عبدهم وأشرك في عبادة الله شاء أم أبى قال وقول الله عز وجل وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع

238

ش الإنذار هو الاعلام بموضع المخافة وقوله به قال ابن عباس بالقرآن وقوله الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم أي أنذر يا محمد بالقرآن الذي هم من خشية ربهم مشفقون الذين يخشون ربهم ويخافون سوء الحساب وهم المؤمنون كما روي ذلك عن ابن عباس والسدي وعن الفضيل بن عياض ليس كل خلقه عاتب إنما عاتب الذين يعقلون فقال وأنذر به الذين يخافون أن يحشرون إلى ربهم أي وهم المؤمنون أصحاب القلوب الواعية فإنهم المقصودون والمنظور اليهم لا أصحاب التجمل والسيادة فإن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر الى قلوبكم وأعمالكم وقوله ليس لهم من دون الله ولي ولا شفيع قال الزجاج موضع ليس نصب على الحال كأنه قال متخلين من ولي وشفيع والعامل فيه يخافون وقال ابن كثير ليس لهم من دونه يؤمئذ ولي ولا شفيع من عذابه إن أرادهم به لعلهم يتقون فيعلمون في هذه الدار عملا ينجيهم الله به من عذابه يوم القيامة قلت فنفى سبحانه وتعالى عن المؤمنين أن يكون لهم ولي أو شفيع من دون الله كما هو دين المشركين فمن اتخذ من دون الله شفيعا فليس من المؤمنين ولا تحصل له الشفاعة وليس في الآية دليل على نفي الشفاعة لأهل الكبائر باذن الله كما ادعته المعتزلة بل فيها دليل على نفي اتخاذ الشفعاء من المؤمنين وعلى نفيها بغير إذن الله ولهذا أثبت الشفاعة بإذنه في مواضع كما قال ما من شفيع إلا من بعد إذنه ذلكم الله ربكم فاعبدوه أفلا تذكرون قال وقوله قل لله الشفاعة جميعا

239

ش هكذا أوردها المصنف ونتكلم عليها وعلى الآية التي قبلها ليتضح المعنى قال الله تعالى أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أو لو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون قل لله الشفاعة جميعا له ملك السموات والأرض ثم اليه ترجعون فقوله أم اتخذوا أي بل اتخذوا اي المشركون والهمزة للانكار من دون الله شفعاء أي أتشفع لهم عند الله بزعمهم كما قال ويعبدون من دون الله مالا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله الآية وقال والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ان الله يحكم بينهم فيما هم فيه يختلفون ان الله لا يهدي من هو كاذب كفار فكذبهم وكفرهم بذلك وقال تعالى فلولا نصرهم الذين اتخذوا من دون الله قربانا آلهة بل ضلوا عنهم وذلك إفكهم وما كانوا يفترون فهذا هو مقصود المشركين ممن عبدوهم وهو الشفاعة لهم عند الله قوله من دون الله أي من دون إذنه وأمره والحال أنه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه وأن يكون المشفوع له مرتضى وههنا الشرطان مفقودان فإن الله سبحانه لم يجعل اتخاذ الشفعاء ودعاءهم من دونه سببا لإذنه ورضاه بل ذلك سبب لمنعه وغضبه قوله قل أو لو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون أي أيشفعون ولو كانوا على هذه الصفة كما تشاهدونهم جمادات لا تقدر ولا تعلم أو أموات كذلك حتى ولا يملكون الشفاعة كما قال قل لله الشفاعة

240

جميعا أي هو مالكها كلها فليس لمن تدعونهم منها شيء قال البيضاوي لعله رد لما عسى يجيبون به وهو أن الشفعاء أشخاص مقربون هي تماثيلهم والمعنى أنه مالك الشفاعة كلها لا يستطيع أحد شفاعة إلا بإذنه ولا يستقل بها وقوله له ملك السموات والارض تفرير لبطلان اتخاذ الشفعاء من دونه بانه مالك الملك كله لا يملك أحد أن يتكلم في أمره دون إذنه ورضاه فاندرج في ذلك ملك الشفاعة فإذا كان هو مالكها بطل اتخاذ الشفعاء من دونه كائن من كان وقوله ثم اليه ترجعون أي فتعلمون أنهم لا يشفعون ويخيب سعيكم في عبادتهم بل يكونون عليكم ضدا ويتبرؤون من عبادتكم كما قال تعالى كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا وقال تعالى ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركاؤكم فزيلنا بينهم وقال شركاؤهم ما كنتم ايانا تعبدون فكفى بالله شهيدا بيننا وبينكم ان كنا عن عبادتكم لغافلين قال وقوله من ذا الذي يشفع عنده إلا باذنه في هذه الآية رد على المشركين الذين اتخذوا الشفعاء من دون الله من الملائكة والأنبياء والأصنام المصورة على صور الصالحين وغيرهم وظنوا أنهم يشفعون عنده بغير إذنه فأنكر ذلك عليهم وبين عظيم ملكوته وكبريائه وأن أحدا لا يتمالك أن يتكلم يوم القيامة إلا إذا أذن له في الكلام كقوله لا يتكلمون

241

إلا لمن أذن له الرحمن وقوله يوم يأت لا تكلم نفس إلا بأذنه قال ابن جرير في هذه الآية نزلت لما قال الكفار ما نعبد أوثاننا هذه إلا ليقربونا إلى الله زلفي فقال الله تعالى له ما في السموات وما في الأرض وتقرر في هذه الآية أن الله يأذن لمن يشاء في الشفاعة وهم الأنبياء والعلماء وغيرهم والاذن راجع الى الأمر فيما نص عليه كمحمد صلى الله عليه وسلم اذا قيل له اشفع تشفع وكذلك قاله غير واحد من المفسرين قال وقوله وكم من ملك في السموات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن ياذن الله لمن يشاء ويرضى ش قال أبو حيان كم خبرية ومعناها التكثير وهي في موضع رفع بالابتداء والخبر لا تغني والغناء جلب النفع ودفع الضر بحسب الأمر الذي يكون فيه الغني وكم لفظها مفرد ومعناها جمع وإذا كانت الملائكة المقربون لا تغني شفاعتهم إلا بعد إذن الله وررضاه أن يرضاه أهلا للشفاعة فكيف تشفع الاصنام لمن عبدها قلت في هذه الآيات من الرد على من عبد الملائكة والصالحين لشفاعة أو غيرها مالا يخفى لأنهم إذا كلوا لا يشفعون إلا بإذن من الله ابتداء فلأي معنى يدعون ويعبدون وأيضا فإن الله لا يأذن إلا لمن ارتضى قوله وعمله وهو الموحد لا المشرك كما قال يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا لمن أذن له الرحمن ورضي له قولا والله لا يرتضي الا التوحيد كما قال ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين وقال النبي صلى الله عليه وسلم أسعد الناس بشفاعتي من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه فلم يقل أسعد الناس بشفاعتي من

242

دعاني فإن قال المشرك أنا أعلم أنهم لا يشفعون إلا بإذنه لكن أدعوهم ليأذن الله لهم في الشفاعة لي قيل فإن الله لم يجعل الشرك به ودعاء غيره سببا لإذنه ورضاه بل ذلك سبب لغضبه ولهذا نهى عن دعاء غيره في غير آية كقوله ولا تدع من دون الله مالا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فانك إذا من الظالمين فتبين أن دعاء الصالحين من الملائكة والأنبياء وغيرهم شرك كما كان المشركون الأولون يدعونهم ليشفعوا لهم عند الله فأنكرالله عليهم ذلك وأخبر أنه لا يرضاه ولا يأمر به كما قال تعالى ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون وقال تعالى إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب الآية قال ابن كثير تبرأت منهم الملائكة الذين كانوا يزعمون أنهم يعبدونهم في الدنيا فتقول الملائكة تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون وقال تعالى وإذ قال الله يا عيسى بن مريم ءأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق الآية وقال تعالى قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا الآية روى سعيد ابن منصور والبخاري والنسائي وابن جرير عن ابن مسعود في الآية كان نفر من الانس يعبدون نفرا من الجن فأسلم نفر من الجن وتمسك الإنسيون بعبادتهم فأنزل الله أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة كلاهما بالياء وروى ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في الآية

243

لكان أهل الشرك يعبدون الملائكة والمسيح وعزيرا وفي رواية عنه عندهما في قوله فلا يملكون كشف الضر عنكم قال عيسى وأمه وعزير وقال تعالى إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون إلى قوله إن الذين سبقت لهم منا الحسنى الآية قال ابن اسحق لما ذكر قصة ابن الزبعرى ومخاصمته لرسول الله صلى الله عليه وسلم عند نزول هذه الآية قال وأنزل الله إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون الآيتين أي عيسى وعزير ومن عبد من الأحبار والرهبان الذين مضوا على أمر الله فاتخذهم من يعبدهم من أهل الضلالة أربابا من دون الله وقال تعالى وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان الآيات وروى ابن أبي حاتم عن الزهري قال نزلت سورة النجم وكان المشركون يقولون لو كان هذا الرجل يذكر آلهتنا بخير أقررناه وأصحابه ولكنه لا يذكر من خالف دينه من اليهود والنصارى بمثل الذي يذكر آلهتنا من السب والشتم والشر وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اشتد عليه ما نال أصحابه من أذاهم وتكذيبهم واحزنه ضلالتهم فكان يتمنى هداهم فلما أنزل الله سورة النجم قال أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الاخرى ألقى الشيطان عندها كلمات حين ذكر الطواغيت فقال تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى وكان ذلك من سجع الشيطان وفتنته فوقعت هاتان الكلمتان في قلب كل مشرك بمكة وذلت بها ألسنتهم وتباشروا بها وقالوا إن محمدا

244

قد رجع إلى دينه الأول ودين قومه فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم آخر النجم سجد وسجد كل من حضر من مسلم ومشرك ففشت تلك الكلمة في الناس وأظهرها الشيطان حتى بلغت أرض الحبشة فأنزل الله وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته الآيات فلما بين الله قضاءه وبرأه من سجع الشيطان انقلب المشركون بعداوتهم وضلالتهم للمسلمين واشتدوا عليه وهي قصة مشهورة صحيحة رويت عن ابن عباس من طرق بعضها صحيح ورويت عن جماعة من التابعين بأسانيد صحيحة منهم عروة وسعيد بن جبير وأبو العالية وأبو بكر بن عبدالرحمن وعكرمة والضحاك وقتادة ومحمد بن كعب القرظي ومحمد بن قيس والسدي وغيرهم وذكرها أيضا أهل السير وغيرهم وأصلها في الصحيحين والمقصود منها قوله تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى فإن الغرانيق هي الملائكة على قول وعلى آخر هي الأصنام ولا تنافي بينهما فإن المقصود بعبادتهم الأصنام الملائكة والصالحين كما تقدم عن البيضاوي فلما سمع المشركون هذا الكلام المقتضى لجواز عبادة الملائكة رجاء شفاعتهم عند الله ظنوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاله فرضوا عنه وسجدوا معه وحكموا بأنه قد وافقهم على دينهم من دعاء الملائكة والأصنام للشفاعة حتى طارت الكلمة كل مطار وبلغ المهاجرين إلى الحبشة أنهم صالحوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرفت أن الفارق بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم هي مسألة الشفاعة لأنهم يقولون نريد من الملائكة والأصنام المصورة على صورهم بزعمهم أن يشفعوا لنا عند الله والرسول صلى الله عليه وسلم قد

245

أتاهم بإبطال ذلك والنهي عنه وتكفير من دان به وتضليلهم وتسفيه عقولهم ولم يرخص لهم في سؤال الشفاعة من الملائكة ولا من الأنبياء ولا الأصنام بل أتاهم بقوله تعالى قل لله الشفاعة جميعا وقوله أأتخذ من دونه آلهة إن يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئا ولا ينقذون إني إذا لفي ضلال مبين وهذا كثير جدا لمن تتبعه والمقصود أن المشركين الأولين يدعون الملائكة والصالحين ليشفعوا لهم عند الله كما تشهد به نصوص القرآن وكتب التفسير والسير والآثار طافحة بذلك ويكفي العاقل المنصف قوله تعالى ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون قال وقوله قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض الآيتين ش هذه الآية هي التي قال فيها بعض العلماء إنها تقطع عروق شجرة الشرك من القلب لمن عقلها قال ابن القيم في الكلام عليها وقد قطع الله الأسباب التي يتعلق بها المشركون جميعها قطعا يعلم من تأمله وعرفه أن من اتخذ من دون الله وليا فمثله كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت فالمشرك إنما يتخذ معبدوه لما يحصل له به من النفع والنفع لا يكون إلا ممن يكون فيه خصلة من هذه الأربع إما مالك لما يريد عابده منه فإن لم يكن مالكا كان

246

شريكا للمالك فإن لم يكن شريكا له كان معينا له وظهيرا فإن لم يكن معينا ولا ظهيرا كان شفيعا عنده فنفى سبحانه المراتب الأربع نفيا مرتبا منتقلا من الأعلى إلى ما دونه فنفى الملك والشركة والمظاهرة والشفاعة التي يطلبها المشرك وأثبت شفاعة لا نصيب فيها لمشرك وهي الشفاعة بإذنه قال فهو الذي يأذن للشافع وإن لم يأذن له لم يتقدم في الشفاعة بين يديه كما يكون في حق المخلوقين فإن المشفوع عنده يحتاج إلى الشافع ومعاونته له فيقبل شفاعته وإن لم يأذن له فيها وأما كل ما سواه فقير إليه بذاته وهو الغني بذاته عن كل ما سواه فكيف يشفع عنده أحد بدون إذنه فكفى بهذه الآية نورا وبرهانا ونجاة وتجريدا للتوحيد وقطعا لأصول الشرك ومواده لمن عقلها والقرآن مملوء من أمثالها ونظائرها ولكن أكثر الناس لا يشعرون بدخول الواقع تحته وتضمنه له ويظنه في نوع وقوم قد خلوا من قبل ولم يعقبوا وارثا وهذا الذي يحول بين القلب وبين فهم القرآن ولعمر الله إن كان أولئك قد خلوا فقد ورثهم من هو مثلهم وشر منهم ودونهم وتناول القرآن لهم كتناوله لأولئك ولكن الأمر كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لم يعرف الجاهلية وهذا لأنه إذا لم يعرف الجاهلية والشرك وما دعا به القرآن وذمه وقع فيه وأقره ودعا إليه وصوبه وحسنه وهو لا يعرف أنه الذي كان عليه الجاهلية أو نظيره أو شر منه أو دونه فتنتقض بذلك عرى الإسلام ويعود المعروف منكرا والمنكر معروفا والبدعة سنة والسنة بدعة ويكفر الرجل بمحض الإيمان و تجريد التوحيد ويبدع بتجريد متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم ومفارقة الأهواء والبدع ومن له بصيرة وقلب حي يرى ذلك عيانا فالله المستعان وقال

247

الله تعالى حاكيا عن أسلاف هؤلاء المشركين والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم فيما هم فيه يختلفون إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار فهذه حال من اتخذ من دون الله وليا يزعم أنه يقربه إلى الله تعالى وما أعز من يخلص من هذا بل ما اعز من يعادي من أنكره والذي في قلوب هؤلاء المشركين وسلفهم أن آلهتهم تشفع لهم عند الله وهذا عين الشرك وقد أنكره الله عليهم في كتابه وأبطله وأخبر أن الشفاعة كلها له وأنه لا يشفع عنده أحد إلا لمن أذن الله تعالى أن يشفع له فيه ورضي قوله وعمله وهم أهل التوحيد الذين لم يتخذوا من دون الله شفعاء فإنه سبحانه وتعالى يأذن في الشفاعة فيهم لمن يشاء حيث لم يتخذوهم شفعاء من دونه فيكون أسعد الناس بشفاعته من يأذن الله تعالى له صاحب التوحيد الذي لم يتخذ شفيعا من دون الله والشفاعة التي أثبتها الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم هي الشفاعة الصادرة عن إذنه لمن وحده والتي نفاها الله تعالى هي الشفاعة الشركية التي في قلوب المشركين المتخذين من دون الله شفعاء فيعاملون بنقيض مقصودهم من شفاعتهم ويفوز بها الموحدون انتهى ولكن تأمل الآية كيف أمرهم تعالى بدعاء الملائكة أمر تعجيز والمراد بيان أنهم لا يملكون شيئا فلا يدعون لا لشفاعة ولا غيرها ثم أخبر أنهم هم الذين اتخذوهم بزعمهم شفعاء فنسبه إلى زعمهم وإفكهم الذي ابتدعوه من غير برهان ولا حجة من الله وهذه الآية نزلت في دعوة الملائكة ودخول غيرهم فيها من باب الأولى كما روى ابن أبي حاتم عن السدي في قوله وما له منهم من ظهير يقول من عون من الملائكة وكما يدل عليه قوله تعالى حتى

248

إذا فزع عن قلوبهم كما تقدم فإذا كان اتخاذ الملائكة شفعاء من دون الله شركا فكيف باتخاذ الأموات كما يفعله عباد القبور أم كيف باتخاذ الفجار والفساق إخوان الشياطين من المجاذيب الذين جذبهم إبليس إلى جانبه وطاعته شفعاء وأعظم من ذلك اعتقاد الربوبية في هؤلاء الملاعين مع ما يشاهده الناس منهم من الفجور وأنواع الفسوق وترك الصلوات وفعل المنكرات والمشي في الأسواق عراة كما قال بعض المتأخرين كقوم عراة في ذرى مصر ما على عورة منهم هناك ثياب يدورون فيها كاشفين لعورة تواتر هذا لا يقال كذاب يعدونهم في مصر هم فضلاءهم دعاؤهم فيما يرون مجاب ومن العجب أنهم لم يأتوا بشيء يدل على كون هؤلاء الشياطين من جملة المسلمين فضلا عن كونهم أولياء فضلا عن كونهم يدعون ويستغاث بهم إلا بشيء من المخاريق والسحر والشعبذة يدعون أن لهم كرامات وأنهم أولياء لما ليظهرونه من المخاريق واعلم أن الضلال والكفر إنما استولى على أكثر المتأخرين بسبب نبذهم كتاب الله وراء ظهورهم وإحسان الظن بمن سحرهم ودعا إلى نفسه واقتصارهم على القوانين والدعاوي والأوضاع التي وضعوها لأنفسهم وإلا فلو قرؤوا كتاب الله وعلموا بما فيه ورجعوا عند الاختلاف إليه لوجدوا فيه الهدى والشفاء والنور ولكن نبذوه وراء ظهورهم و اشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون وتقدم الكلام على بقية الآية

249

قال المؤلف قال أبو العباس نفى الله عما سواه كل ما يتعلق به المشركون فنفى أن يكون لغيره ملك أو قسط منه أو يكون عونا لله ولم يبق إلا الشفاعة فبين أنها لا تنفع إلا لمن أذن له الرب كما قال ولا يشفعون إلا لمن ارتضى فهذه الشفاعة التي يظنها المشركون هي منتفية يوم القيامة كما نفاها القرآن وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه يأتي فيسجد لربه ويحمده لا يبدأ بالشفاعة أولا ثم يقال له ارفع رأسك وقل يسمع واسأل تعط واشفع تشفع وقال له أبو هريرة من أسعد الناس بشفاعتك قال من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه فقتلك الشفاعة لأهل الإخلاص بإذن الله ولاتكون لمن أشرك بالله وحقيقته أن الله سبحانه هو الذي يتفضل على أهل الإخلاص فيغفر لهم بواسطة دعاء من أذن له أن يشفع ليكرمه وينال المقام المحمود فالشفاعة التي نفاها القرآن ما كان فيها شرك ولهذا أثبت الشفاعة بإذنه في مواضع وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أنها لا تكون إلا لأهل التوحيد والإخلاص انتهى كلامه ش قوله قال أبو العباس هو شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن عبدالسلام بن تيمية الإمام المشهور صاحب المصنفات شهرته وإمامته في علوم الإسلام وتفننه تغني عن الإطناب في وصفه قال الذهبي لم يأت قبله بخمس مائة سنة مثله وفي رواية بأبع مائة وقال أيضا لو حلفت بين الركن والمقام لحلفت أني لم أر مثله وما رأى بعينيه مثل نفسه رحمه الله وقال ابن دقيق العيد لما اجتمعت بابن تيمية رأيت رجلا كل العلوم بين عينيه يأخذ ما يشاء ويدع ما يشاء وبالجملة فما أتى بعد عصر الإمام أحمد له نظير وكانت وفاته سنة ثمان وعشرين وسبع مئة

250

قوله نفى الله عما سواه كل ما يتعلق به المشركون أي ان الله تعالى نفى في الآية المذكورة قبل ما يتعلق به المشركون من الاعتقاد في غير الله من الملك والشركة فيه والمعاونة والشفاعة فهذه الأمور الأربعة هي التي يتعلق بها المشركون قوله فنفى أن يكون لغيره ملك وذلك في قوله تعالى لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض ومن لا يملك هذا المقدار فليس بأهل أن يدعى قوله أو قسط منه أي من الملك والقسط بكسر القاف هو النصيب من الشيء وذلك في قوله وما لهم فيهما من شرك أي ما لمن تدعون من الملائكة وغيرهم فها أي في السموات والأرض من شرك ومن ليس بمالك ولا شريك للمالك فكيف يدعى من دون الله قوله أو أن يكون عونا لله وذلك في قوله وما لهم منهم من ظهير أي ما لله من تدعونهم عوين قوله ولم يبق إلا الشفاعة فتبين أنها لا تنفع إلا لمن أدن له الرب الخ جملة الشروط التي لا بد وان يكون أحدها في المدعو أربعة حتى يقدر على إجابة من دعاه الاول الملك فنفاه بقوله لايملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض

251

الثاني إذا لم يكن مالكا فيكون شريكا للمالك فنفاه بقوله وما لهم فيهما من شرك الثالث إذا لم يكن مالكا ولا شريكا للمالك فيكون عونا ووزيرا فنفاه بقوله وما له منهم من ظهير الرابع إذا لم يكن مالكا ولا شريكا ولا عوينا فيكون شفيعا فنفى سبحانه وتعالى الشفاعة عنده إلا بإذنه فهو الذي يأذن للشافع ابتداء فيشفع فبنفي هذه الأمور بطلت دعوة غير الله إذ ليس عند غيره من النفع والضر ما يوجب قصده بشيء من العبادة كما قال تعالى واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ولا يملكون موتا ولاحياة ولا نشورا وقال تعالى واتخذوا من دون الله آلهة لعلهم ينصرون لا يستطيعون نصرهم وهم لهم جند محضرون وقال تعالى ويعبدون من دون الله مالا ينفعهم ولا يضرهم وكان الكافر على ربه ظهيرا قوله فهذه الشفاعة التي يظنها المشركون هي منتفية يوم القيامة كما نفاها القرآن يعني أن الشفاعة التي يطلبها المشركون من الشفعاء والأنبياء من دون الله منتفية دنيا وأخرى كما قال تعالى عن مؤمن يس أأتخذ من دونه آلهة إن يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئا ولا ينقذون إني إذا لفي ضلال مبين وقال تعالى عن مؤمن آل فرعون

252

لاجرم أنما تدعونني إليه ليس له دعوة في الدنيا ولا في الآخرة وقال تعالى فلولا نصرهم الذين اتخذوا من دون الله قربانا آلهة بل ضلوا عنهم وذلك إفكهم وما كانوا يفترون وقال تعالى فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء لما جاء أمر ربك وما زادوهم غير تتبيب وقال تعالى ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتكم ما خولناكم وراء ظهوركم وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون وقال تعالى وقيل ادعوا شركاءكم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم ورأوا العذاب لو أنهم كانوا يهتدون فهذه حال كل من دعي من دون الله لشفاعة أو غيرها في الدنيا والآخرة قوله وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه يأتي فيسجد لربه ويحمده لا يبدأ بالشفاعة أولا إلى آخره هذا ثابت في الصحيحين وغيرهما من حديث أنس وغيره عنه صلى الله عليه وسلم في حديث الشفاعة قال فأقوم فأمشي بين سماطين من المؤمنين حتى أستأذن على ربي فإذا رأيته وقعت له أو خررت ساجدا لربي فيدعني ما شاء الله أن يدعني ثم قال ارفع محمد قل يسمع واشفع تشفع وسل تعطه فأرفع رأسي فأحمد بتحميد يعلمنيه ثم أشفع فيحد لي حدا فأدخلهم الجنة ثم أعود اليه الثانية فإذا رأيت ربي وقعت له أو خررت ساجدا لربي فيدعني ما شاء الله أن يدعني ثم يقول ارفع محمد قل يسمع فتعطه واشفع تشفع فأرفع رأسي فأحمده بتحميد يعلمنيه ثم أشفع فيحد لي حدا فأدخلهم الجنة ثم أعود الثالثة فإذا رأيت ربي وقعت له أو خررت ساجدا لربي فيدعني ما شاء الله

253

الله أن يدعين ثم يقال ارفع محمد قل يسمع وسل تعطه واشفع تشفع فأرفع راسي فأحمده بتحميد يعلمنيه ثم أشفع فيحد لي حدا فأدخلهم الجنة ثم أعود الرابعة فأقول يا رب ما بقي إلا من حبسه القرآن الحديث فبين صلى الله عليه وسلم أنه لا يشفع إلا بعد الإذن في الشفاعة وفي المشفوع فيهم كما قال فيحد لي حدا فأدخلهم الجنة قوله وقال أبو هريرة من أسعد الناس بشفاعتك إلى آخره هذا الحديث رواه البخاري ومسلم والنسائي عن أبي هريرة قال قلت يا رسول الله من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة فقال لقد ظننت يا أبا هريرة أن لا يسألني عن هذا الحديث أحد أول منك لما رأيت من حرصك على الحديث أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال لا إله إلا الله خالصا من قبل نفسه وفي رواية خالصا مخلصا من قلبه أو نفسه رواه أحمد من طريق آخر وصححه ابن حبان وفيه وشفاعتي لمن شهد أن لا إله إلا الله مخلصا يصدق قلبه لسانه ولسانه قلبه قال شيخ الإسلام فجعل أسعد الناس بشفاعته أكملهم إخلاصا وقال في الحديث الصحيح من سأل الله لي الوسيلة حلت عليه شفاعتي يوم القيامة ولم يقل كان أسعد الناس بشفاعتي فعلم أنما يحصل للعبد بالتوحيد والإخلاص من شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم وغيرها مالا يحصل بغيره من الأعمال وإن كان صالحا لسؤال الوسيلة للرسول صلى الله عليه وسلم فكيف بما لم يأمر به من الأعمال بل نهى عنه فذلك لا ينال به خير لا في الدنيا ولا في الآخرة مثل غلو النصارى في المسيح فإنه يضرهم ولا ينفعهم ونظير هذا في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال لكل نبي دعوة مستجابة وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة فهي نائلة إن شاء الله من مات لا يشرك بالله شيئا وكذلك في أحاديث الشفاعة كلها إنما يشفع في أهل التوحيد فبحسب توحيد العبد لربه

254

وإخلاصه دينه لله تعالى يستحق كرامة الله بالشفاعة وغيرها وقال ابن القيم ما معناه تأمل هذا الحديث كيف جعل أعظم الأسباب التي تنال بها شفاعته تجريد التوحيد عكس ما عند المشركين من أن الشفاعة تنال باتخاذهم شفعاء وعبادتهم وموالاتهم من دون الله فقلب النبي صلى الله عليه وسلم ما في زعمهم الكاذب وأخبر أن سبب الشفاعة تجريد التوحيد فحينئذ يأذن الله للشافع أن يشفع ومن جهل المشرك اعتقاده أن من اتخذه وليا أو شفيعا أنه يشفع له وينفعه عند الله كما يكون خواص الملوك والولاة تنفع من والاهم ولم يعلموا أن الله لا يشفع عنده إحد إلا بإذنه ولا يأذن في الشفاعة الا من رضي قوله وعمله كما قال تعالى في الفصل الأول من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه وفي الفصل الثاني ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وبقي فصل ثالث وهو أنه لا يرضى من القول والعمل إلا توحيده واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم فهذه ثلاثة فصول تقطع شجرة الشرك من قلب من وعاها وعقلها انتهى ملخصا وقال الحافظ المراد بهذه الشفاعة المسؤول عنها هنا بعض أنواع الشفاعة هي التي يقول صلى الله عليه وسلم أمتي أمتي فيقال له أخرج من النار من كان في قلبه وزن كذا من الإيمان فأسعد الناس بهذه الشفاعة حتى يكن إيمانه أكمل ممن دونه وأما الشفاعة العظمى فالاراحة من كرب الموقف فأسعد الناس بها من يسبق إلى الجنة وهم الذين يدخلونها بغير حساب ثم الذين يلونهم وهو من يدخلها بغير عذاب بعد أن يحاسب ويستحق العذاب ثم من يصيبه لفح من النار ولا يسقط وأعم أن شفاعته صلى الله عليه وسلم في القيامة ستة أنواع كما ذكره ابن القيم الأول الشفاعة الكبرى التي يتأخر عنها أولو العزم عليهم الصلاة والسلام حتى تنتهي اليه فيقول أنا لها وذلك حين يرغب الخلائق إلى

255

الانبياء ليشفعوا لهم إلى ربهم حتى يريحهم من مقامهم في الموقف وهذه شفاعة يختص بها لا يشركه فيها أحد الثاني شفاعته لأهل الجنة في دخولها وقد ذكرها أبو هريرة في حديثه الطويل المتفق عليه الثالث شفاعته لقوم من العصاة من أمته قد استوجبوا النار فيشفع لهم ان لا يدخلوها الرابع شفاعته في العصاة من أهل التوحيد الذين دخلوا النار بذنوبهم والاحاديث بها متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد أجمع عليها الصحابة وأهل السنة قاطبة وبدعوا من أنكرها وصاحوا به من كل جانب ونادوا عليه بالضلال الخامس شفاعته لقوم من أهل الجنة في زيادة ثوابهم ورفع درجتهم وهذه مما لم ينازع فيها أحد السادس شفاعته في بعض الكفار من أهل النار حتى يخفف عذابه وهذه خاصة بأبي طالب وحده قوله وحقيقته أي حقيقة الأمر أي أمر الشفاعة أن الله سبحانه هو الذي يتفضل على أهل الإخلاص فيغفر لهم بواسطة دعاء من أذن له أن يشفع ليكرمه وينال المقام المحمود فهذا هو حقيقة الشفاعة لا كما يظن المشركون والجهال أن الشفاعة هي كون الشفيع يشفع ابتداء فيمن شاء فيدخله الجنة وينجيه من النار ولهذا يسألونها من الأموات وغيرهم إذا زاروهم وذلك أنهم قالوا إن الميت المعظم الذي لروحه قرب ومزية عند الله لا تزال تأتيه الألطاف من الله وتفيض على روحه الخيرات فإذا علق الزائر روحه به وأدناها منه فاض من روح المزور على روح الزائر من تلك

256

الألطاف بواسطتها كما ينعكس الشعاع من المرآة الصافية والماء ونحوه على الجسم المقابل له قالوا فتمام الزيارة أن يتوجه الزائر بروحه وقلبه إلى الميت ويعكف بهمته عليه ويوجه قصده كله وإقباله عليه بحيث لا يبقى فيه التفات إلى غيره وكل ما كان جمع الهمة والقلب عليه أعظم كان أقرب إلى انتفاعه به وشفاعته له قال ابن القيم وقد ذكر هذه الزيارة على هذا الوجه ابن سينا والفارابي وغيرهما وصرح بها عباد الكواكب في عبادتها وقالوا إذا تعلقت النفس الناطقة بالأرواح العلوية فاض عليها منها النور وبهذا السر عبدت الكواكب واتخذت لها الهياكل وصنفت لها الدعوات واتخذت الأصنام المجسدة لها وهذا بعينه هو الذي أوجب لعباد القبور اتخاذ أعياد وتعليق الستور عليها وإيقاد السرج عليها وبناء المساجد عليها وهو الذي قصد الرسول صلى الله عليه وسلم إبطاله ومحوه بالكلية وسد الذرائع المفضية إليه فوقف المشركون في طريقه وناقضوه في قصده وكان صلى الله عليه وسلم في شق وهؤلاء في شق وهذا الذي ذكره هؤلاء المشركون في زيارة القبور هو الشفاعة التي ظنوا أن آلهتهم تنفعهم بها وتشفع لهم عند الله قالوا فإن العبد إذا تعلقت روحه بروح الوجيه المقرب عند الله وتوجه بهمته اليه وعكف بقلبه عليه صار بينه وبينه اتصال يفيض به عليه منه نصيب مما يحصل له من الله وشبهوا ذلك بمن يخدم ذا جاه وحظوة وقرب من السلطان فهو شديد التعلق به فما يحصل لذلك السلطان من الإنعام والإفضال ينال ذلك المتعلق بحسب تعلقه به فهذا سر عبادة الأصنام وهو الذي بعث الله رسله وأنزل كتبه بإبطاله وتكفير أصحابه ولعنهم واباح دماءهم وأموالهم وسبي ذراريهم واوجب لهم النار والقرآن من أوله إلى

257

آخره مملوء من الرد على أهله وإبطال مذهبهم انتهى قوله وينال المقام المحمود أي المقام الذي يحمده فيه الخلائق كلهم وخالقهم تبارك وتعالى قال ابن جرير قال أكثر أهل التأويل ذلك المقام الذي يقومه صلى الله عليه وسلم الشفاعة للناس ليريحهم ربهم مما هم فيه من شدة ذلك اليوم وقال ابن عباس المقام المحمود مقام الشفاعة وكذا قال ابن ابي نجيح عن مجاهد وقال قتادة هو أول من تنشق عنه الارض وأول شافع وكان أهل العلم يرون أنه المقام المحمود قوله فالشفاعة التي نفاها القرآن ما كان فيها شرك يعني أن الشفاعة التي نفاها الله في القرآن هي الشفاعة التي فيها شرك بالله من دعاء غير الله وعبادته ليشفع له عند الله فإن الله سبحانه نفى هذه الشفاعة وأخبر أنها لا تكون أبدا بل أخبر أن ذلك شرك ونزه نفسه عنه ونفى أن يكون للمؤمنين ولي أو شفيع من دونه مع أن الشفاعة يوم القيامة لهم بإذنه لا للمشركين كما قال تعالى يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا فنفى سبحانه أن تنفع الشفاعة أحدا الا من أذن له الرحمن ورضي قوله وعمله وهو المؤمن المخلص وأما المشرك الداعي لغير الله ليشفع له فلا تنفعه الشفاعة ولا يؤذن لأحد في الشفاعة فيه كما قال فما تنفعهم شفاعة الشافعين وقال تعالى وقيل ادعوا شركاءكم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم ورأوا العذاب لو أنهم كانوا يهتدون قوله وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم إلى آخره تقدم ما يتعلق بذلك والله أعلم

258

باب قول الله تعالى إنك لا تهدي من أحببت الآية أراد المصنف رحمه الله الرد على عباد القبور الذين يعتقدون في الأنبياء والصالحين أنهم ينفعون ويضرون فيسألونهم مغفرة الذنوب وتفريج الكروب وهداية القلوب وغير ذلك من أنواع المطالب الدنيوية والأخروية ويعتقدون أن لهم التصرف بعد الموت على سبيل الكرامة وقد وقفت على رسالة لرجل منهم في ذلك ويحتجون على ذلك بقوله لهم ما يشاؤون عند ربهم يقول قائلهم في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم فإذا عرف الانسان معنى هذه الآية ومن نزلت فيه تبين له بطلان قولهم وفساد شركهم لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل الخلق وأقربهم من الله وأعظمهم جاها عنده ومع ذلك حرص واجتهد على هداية عمه أبي طالب في حياة أبي طالب وعند موته فلم يتيسر ذلك ولم يقدر عليه ثم استغفر له بعد موته فلم يغفر له حتى نهاه الله عن ذلك ففي هذا أعظم البيان وأوضح البرهان على أنه صلى الله عليه وسلم لا يملك ضرا ولا نفعا ولا عطاء ولا منعا وأن الأمر كله بيد الله فهو الذي يهدي من يشاء ويضل من يشاء ويعذب من يشاء ويرحم من يشاء ويكشف الضر عمن يشاء ويصيب به من يشاء من عباده وهو الغفور الرحيم وهو الذي من جوده الدنيا والآخرة وهو بكل شيء عليم ولو كان عنده صلى الله عليه وسلم من هداية القلوب ومغفرة الذنوب وتفريج الكروب شيء لكان أحق الناس به وأولاهم

259

من قام معه أتم القيام ونصره وأحاطه من بلوغه ثمان سنين وإلى ما بعد النبوة بثمان سنين أو أكثر بل قال تعالى قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون وقال تعالى قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحى إلي الآية فهل يجتمع في قلب عبد الإيمان بهذه الآيات وما أشبهها والإيمان بذلك البيت وما أشبههه ولكن قاتل الله أعداءه الذين جاوزوا الحد في إطرائه والغلو فيه وأما معنى الآية فقال ابن كثير يقول تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم إنك يا محمد لا تهدي من أحببت أي ليس إليك ذلك إنما عليك البلاغ والله يهدي من يشاء وله الحكمة البالغة والحجة الدامغة كما قال تعالى ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء وقال وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين وهذه الآية أحض من هذا كله فإنه قال إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين أي أعلم بمن يستحق الهداية ممن يستحق الغواية وقد ثبت في الصحيحين أنها نزلت في أبي طالب وقد كان يحوطه وينصره ويقوم في حقه ويحبه حبا طبعيا لا حبا شرعيا فلما حضرته الوفاة وحان أجله دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الايمان والدخول في الإسلام فسبق القدر فيه واختطف من يده فاستمر على ما كان عليه من الكفر ولله الحجة البالغة فإن قلت قال الله تعالى وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم فالجمع بينها وبين الآية المترجم لها قيل الهداية التي تصح نسبتها لغير الله بوجه ما هي

260

هداية الإرشاد والدلالة كما قال وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم اي ترشد وتبين والهداية المنفية عن غير الله هي هداية التوفيق وخلق القدرة على الطاعة ذكره بعضهم بمعناه قال في الصحيح عن ابن المسيب عن أبيه قال لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده عبدالله بن أبي أمية وابو جهل فقال يا عم قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله فقالا له أترغب عن ملة عبدالمطلب فأعاد عليه النبي صلى الله عليه وسلم فأعادا فكان آخر ما قال هو على ملة عبدالمطلب وأبى أن يقول لا اله الا الله فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأستغفرن لك ما لم أنه عنك فأنزل الله عز وجل ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى وأنزل الله في أبي طالب انك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء ش قوله في الصحيح أي الصحيحين قوله عن ابن المسيب هو سعيد بن المسيب بن حزن بن أبي وهب بن عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم القرشي المخزومي أحد العلماء الأثبات الفقهاء الكبار الحافظ العباد اتفقوا على أن مرسلاته أصح المراسيل وقال ابن المديني لا أعلم في التابعين أوسع علما منه مات بعد التسعين وقد ناهز الثمانين وابوه المسيب صحابي بقي الى خلافة عثمان رضي الله عنه وكذلك جده حزن صحابي استشهد باليمامة قوله لما حضرت أبا طالب الوفاة أي حضرت علامات الوفاة وإلا فلو كان انتهى إلى المعاينة لم ينفعه الإيمان لو آمن ويدل على ذلك ما وقع من المراجعة بينه وبينهم ويحتمل أن يكون انتهى إلى تلك الحالة لكن رجا

261

النبي صلى الله عليه وسلم أنه إذا أقر بالتوحيد ولو في تلك الحالة أن ذلك ينفعه يخصوصه ويسوغ فيه شفاعته صلى الله عليه وسلم ولهذا قال أجادل لك بها وأشهد لك بها وأحاج لك بها ويدل على الخصوصية أنه بعد أن امتنع من الإقرار بالتوحيد ومات على الامتناع منه لم يترك النبي صلى الله عليه وسلم الشفاعة له بل شفع له حتى خفف عنه العذاب بالنسبة إلى غيره وكان ذلك من الخصائص في حقه قوله جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم يحتمل أن يكون المسيب حضر هذه القصة فإن المذكورين من بني مخزوم وهو أيضا مخزومي وكانوا يومئذ كفارا فمات أبو جهل على كفره وأسلم الآخران وقول بعض الشراح إن هذا الحديث من مراسيل الصحابة مردود وفي هذا جواز عيادة المشرك إذا رجي إسلامه وجواز حمل العلم إذا كان فيه مصلحة راجحة على عدمه قوله يا عم منادى مضاف يجوز فيه إثبات الياء وحذفها قوله قل لا إله إلا الله أي قل هذه الكلمة عارفا لمعناها معتقدا له في هذه الحال وإن لم تعمل به إذ لا يمكن عند الموت إلا ذلك ولا بد مع ذلك من شهادة أن محمدا رسول الله قوله كلمة قال القرطبي أحسن ما تقيد كلمة بالنصب على أنه بدل من لا إله إلا الله ويجوز رفعها على احتمال المبتدأ قوله أحاج لك بها عند الله هو بتشديد الجيم من المحاجة وهي مفاعلة من الحجة والجيم مفتوحة على الجزم وجواب الأمر أي أشهد لك بها عند الله كما في الرواية الأخرى وفيه دليل على أن الأعمال بالخواتيم لأنه لو قالها لنفعته وإن مات على التوحيد نفعته الشفاعة وان لم يعمل شيئا غير ذلك وأن من كان كافرا يجحدها إذا قالها عند الموت أجريت عليه أحكام الإسلام فإن كان صادقا من قلبه نفعته عند الله إلا فليس لنا إلا الظاهر بخلاف من كان

262

يتكلم بها في حال كفره قوله فقالا له أترغب عن ملة عبدالمطلب ذكراه الحجة الملعونة التي يتعلق بها المشركون من الأولين والآخرين ويردون بها على الرسل وهي تقليد الآباء والكبراء وأخرجا الكلام مخرج الاستفهام مبالغة في الإنكار لعظمة هذه الحجة في قلوب الضالين وكذلك اكتفيا بها في المجادلة مع مبالغته صلى الله عليه وسلم وتكريره فلأجل عظمتها ووضوحها عندهم اقتصرا عليها قال المصنف وفيه تفسير لا إله الا الله بخلاف ما عليه أكثر من يدعي العلم وفيه أن ابا جهل ومن معه يعرفون مراد النبي صلى الله عليه وسلم اذا قال الرجل قل لا اله الا الله فقبح الله من أبو جهل أعلم منه بأصل الإسلام قوله فأعاد عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأعادا أي أعاد عليه النبي صلى الله عليه وسلم مقالته وأعادا عليه مقالتهما مبالغة منه صلى الله عليه وسلم وحرصا على اسلام عمه ومع ذلك لم يقدر النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك ولا على تخليصه من عذاب الله بل سبق فيه القضاء المحتوم واستمر على كفره ليعلم الناس أن لا إله إلا الله فلو كان عن النبي صلى الله عليه وسلم من هداية القلوب وتفريج الكروب شيء لكان أحق الناس بذلك وأولاهم عمه الذي فعل معه ما فعل وفيه الحرص في الدعوة إلى الله والصبر على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وان رد ذلك على صاحبه وتكريره وعدم الاكتفاء بمرة واحدة قوله فكان آخر ما قال هو بنصب آخر على الظرفية أي آخر زمن تكليمه اياهم ويجوز رفعه قوله هو على ملة عبدالمطلب الظاهر أن ابا طالب قال أنا فغيره الراوي أنفة أن يحكي كلام أبي طالب استقباحا للفظ المذكور وهي من

263

المتصرفات الحسنة قاله الحافظ وقد رواه الإمام أحمد بلفظ أنا فدل على ما ذكرناه قوله وأبى أن يقول لا إله إلا الله قال الحافظ هذا تأكيد من الراوي في نفي وقوع ذلك من أبي طالب وكأنه استند في ذلك إلى عدم سماعه منه في تلك الحال كذا قال وفيه نظر بل نفيه مستند إلى إباء أبي طالب عن قولها بقوله وهو على ملة عبد المطلب قال المصنف وفيه الرد على من زعم إسلام عبدالمطلب وأسلافه ومضرة أصحاب السوء على الإنسان ومضرة تعظيم الأسلاف والأكابر أي زيادة على المشروع بحيث يجعل أقوالهم حجة يرجع اليها عند التنازع قوله فقال النبي لاستغفرن لك ما لم أنه عنك أقسم صلى الله عليه وسلم ليسغفرن له إلا أن ينهى عن ذلك كما في رواية مسلم أما والله لأستغفرن لك قال النووي وفيه جواز الحلف من غير استحلاف وكأن الحلف هنا لتأكيد العزم على الاستغفار وتطييبا لنفس أبي طالب وكانت وفاة أبي طالب بمكة قبل الهجرة بقليل قال ابن فارس مات أبو طالب ولرسول الله صلى الله عليه وسلم تسع وأربعون سنة وثمانية أشهر وأحد عشر يوما وتوفيت خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها بعد موت أبي طالب بثمانية أيام قوله فأنزل الله ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين أي ما ينبغي لهم ذلك وهو خبر بمعنى النهي وقد روى الطبراني عن عمرو بن دينار قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم استغفر إبارهيم لأبيه وهو مشرك فلا أزال أستغفر لأبي طالب حتى نهاني عنه ربي فقال أصحابه نستغفر بائنا كما استغفر نبيا لعمه فنزل ما كان للنبي والذين آمنوا أن

264

يستغفروا للمشكرين ولو كانوا أولي قربى من عبد ما تبين أنهم لهم أصحاب الجحيم وما كان استغفار إبراهيم لآبيه الا عند موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه وهذا فيه إشكال لأن وفاة أبي طالب بمكة قبل الهجرة اتفاقا وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى قبر أمه لما اعتمر فاستأذن ربه أن يستغفر لها فنزلت هذه الآية وفيه دلالة على تأخر نزول الآية عن وفاة أبي طالب ولكن يحتمل أن يكون نزول الآية تأخر وإن كان سببها تقدم ويكون لنزولها سببان متقدم وهو أمر أبي طالب ومتأخر وهو أمر أمه ويؤيد تأخر النزول استغفاره صلى الله عليه وسلم للمنافقين حتى نزل النهي عن ذلك فإن ذلك يقتضي تأخر النزول وإن تقدم السبب ويشير إلى ذلك أيضا قوله في حديث الباب وأنزل الله في أبي طالب إنك لا تهدي من أحببت لأنه يشعر بأن الأولى نزلت في أبي طالب وفي غيره والثانية فيه وحده ويؤيد تعدد السبب ما أخرج أحمد عن علي قال سمعت رجلا يستغفر لوالديه وهما مشركان فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله ما كان للنبي الآية قاله الحافظ وفيه تحريم الاستغفار للمشركين وتحريم موالاتهم ومحبتهم لأنه إذا حرم الاستغفار لهم فموالاتهم ومحبتهم أولى باب ما جاء أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم وهو الغلو في الصالحين أما تركهم فهو مجرور عطفا على المضاف إليه ولما ذكر المصنف رحمه الله بعض ما يفعله عباد القبور مع الأموات من الشرك أراد أن يبين السبب

265

في ذلك ليحذر وهو الغلو مطلقا لا سيما في الصالحين فإنه أصل الشرك قديما وحديثا لقرب الشرك بالصالحين من النفوس فإن الشيطان يظهره في قالب المحبة والتعظيم وقول الله عز وجل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم قال العلماء الغلو هو مجاوز الحد في مدح الشيء أو ذمه وضابطه تعدي ما أمر الله به وهو الطغيان الذي نهى الله عنه في قوله ولا تطغوا فيه فيحل عليكم غضبي وكذا قال تعالى في هذه الآية يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم أي لاتتعددوا ما حدد الله لكم وأهل الكتاب هنا هم اليهود والنصارى فنهاهم عن الغلو في الدين ونحن كذلك كما قال تعالى فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنه بما تعملون بصير والغلو كثير في النصارى فإنهم غلوا في عيسى عليه السلام فنقلوه من حيز النبوة إلى أن اتخذوه إلها من دون الله يعبدونه كما يعبدون الله بل غلوا فيمن زعم أنه على دينه من أتباعه فادعوا فيهم العصمة فاتبعوهم في كل ما قالوه سواء كان حقا أو باطلا وناقضتهم اليهود في أمر عيسى عليه السلام فغلوا فيه فحطوه من منزلته حتى جعلوه ولد بغي قال شيخ الإسلام ومن تشبه من هذه الأمة بالهيود والنصارى وغلا في الدين بإفراط فيه أو تفريط وضاهاهم في ذلك فقد شابههم كالخوارج المارقين من الإسلام الذين خرجوا في خلافة علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقاتلهم حين خرجوا على المسلمين بأمر النبي صلى الله عليه وسلم كما ثبت ذلك من عشرة أوجه في الصحاح والمساند وغير ذلك وكذلك من غلا في دينه من الرافضة والقدرية

266

والجهمية والمعتزلة والأشاعرة وقال أيضا فإذا كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم من انتسب إلى الإسلام وقد مرق منه مع عبادته العظيمة فليعلم أن المنتسب إلى الإسلام والسنة في هذه الأزمان قد يمرق أيضا من الإسلام وذلك بأسباب منها الغلو الذي ذمه الله في كتابه حيث قال يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه حرق الغالية من الرافضة فأمر بأخاديد خدت لهم عند باب كندة فقذفهم فيها واتفق الصحابة رضي الله عنهم على قتلهم لكن ابن عباس كان مذهبه أن يقتلوا بالسيف من غير تحريق وهو قول أكثر العلماء قال في الصحيح عن بن عباس في قول الله تعالى وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا قال هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح فلما هلكوا أوحى الشيطان الى قومهم أن أنصبوا الى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابا وسموها بأسمائهم ففعلوا ولم تعبد حتى اذا هلك أولئك ونسي العلم عبدت ش قوله في الصحيح أي صحيح البخاري وهذا الأثر اختصره المصنف وقد رواه البخاري عن ابن عباس ولفظه صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح ف العرب بعد أما ود فكانت لكلب بدومة الجندل وأما سواع فكانت لهذيل وأما يغوث فكانت لمراد ثم لبني غطيف بالجرف عند سبأ وأما يعوق فكانت لهمدان وأما نسر فكانت لحمير لآل ذي الكلاع أسماء رجال صالحين في قوم نوح إلى آخره وهكذا روي عن عكرمة والضحاك وابن اسحق نحو هذا وقال ابن جرير حدثنا بن حميد حدثنا مهران عن سفيان عن موسى عن محمد بن قيس أن يغوث ويعوق ونسر كانوا قوما

267

صالحين من بني آدم وكان لهم أتباع يقتدون بهم فلما ماتوا قال أصحابهم الذين كانوا يقتدون بهم لو صورناهم كانوا اشوق لنا إلى العبادة إذا ذكرناهم فصوروهم فلما ماتوا وجاء آخرون دب إليهم إبليس فقال إنما كانوا يعبدونهم وبهم يسقون المطر فعبدوهم قال سفيان عن أبيه عن عكرمة قال كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام وروى ابن أبي حاتم عن عروة ابن الزبير أنهم كانوا أولاد آدم لصلبه وكان ود أكبرهم وأبرهم به هكذا رواه عمر بن شيبة في أخبار مكة من طريق محمد بن كعب القرظي وذكر السهيلي في التعريف أن يغوث بن شيث بن آدم فيما قيل وكذا سواع وما بعده فكانوا يتبركون بدعائهم وكلما مات منهم أحد مثلوا صورته وتمسحوا بها إلى زمن مهلاييل فعبدوها بتدريج الشيطان لهم ثم صارت سنة في العرب في الجاهلية ولا أدري من أين سرت تلك الأسماء أمن قبل الهند فقد قيل إنهم كانوا المبدأ في عبادة الأصنام بعد نوح عليه السلام أم الشيطان الهم العرب ذلك انتهى وقد روى الفاكهي عن ابن الكلبي قال كان لعمرو بن ربيعة رئي من الجن فأتاه فقال أجب أبا ثمامة وادخل بلا ملامة ثم أئت سيف جدة تجد بها أصناما معده ثم أوردها تهامة ولا تهب ثم ادع العرب إلى عبادتها تجب قال فأتى عمرو ساحل جدة فوجد بها وردا وسواعا ويغوث ويعوق ونسرا وهي الأصنام التي عبدت على عهد نوح وإدريس ثم إن الطوفان طرحها هناك فسفى عليها الرمل فاستثارها عمرو وخرج بها إلى تهامة وحضر الموسم ودعا إلى عبادتها فأجيب

268

وعمرو بن ربيعة هو عمرو بن لحي قاله الحافظ قلت وهو سيد خزاعة وكان أول من سيب السوائب وغير دين ابراهيم عليه السلام وكانت العرب قبله على دين أبيهم إبراهيم عليه السلام حتى نشأ فيهم عمرو فأحدث الشرك كما روى ابن جرير عن أبي هريرة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأكثم بن الجون يا أكثم رأيت عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف يجر قصبه في النار فما رايت رجلا أشبه برجل منك به ولا به منك فقال أكثم أتخشى أن يضرني شبهه يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنك مؤمن وهو كافر إنه أول من غير دين إبراهيم وبجر البحيرة وسيب السائبة وحمى الحامي إسناده حسن وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة مرفوعا رأيت عمرو بن عامر الخزاعي يجر قصبه في النار كان أول من سيب السوائب قوله أن انصبوا بكسر الصاد المهملة قوله أنصابا جمع نصب وأصله ما نصب كغرض ونحوه والمراد به هنا الأصنام المصورة على صورهم المنصوبة في مجالسهم قوله حتى إذا هلك أولئك أي الذين نصبوها ليكون أشوق إليهم إلى العبادة وليتذكروا برؤيتها أفعال أصحابها قوله ونسي العلم أي زالت المعرفة بحالها وما قصده من صورها وغلب الجهال الذين لا يميزون بين التوحيد والشرك وذهب العلماء الذين يعرفون ذلك قوله عبدت تقدم انه دب اليهم إبليس فقال إنما كانوا يعبدونهم وبهم يسقون المطر فعبدوهم وفي رواية أنهم قالوا ما عظم أولنا هؤلاء إلا وهم يرجون شفاعتهم عند الله فعبدوهم فهذا هو السبب في عبادة هؤلاء

269

الصالحين وهو رجاء شفاعتهم عند الله وكذلك هو السبب في عبادة صورهم وهذه هي الشبهة التي ألقاها الشيطان على المشركين من الأولين والآخرين وقد بين الله ذلك في القرآن بيانا شافيا وتقدم في هذا الكتاب من الكلام على ذلك ما يكفي لمن هداه الله قال وقال ابن القيم قال غير واحد من السلف لما ماتوا عكفوا على قبورهم ثم صوروا تماثيلهم ثم طال عليهم الأمر فعبدوهم ش قوله وقال ابن القيم هو الإمام العلامة محمد بن أبي بكر بن أيوب الزرعي الدمشقي المعروف بابن قيم الجوزية تلميذ شيخ الإسلام وصاحب المصنفات الكثيرة في فنون العلم قال الحافظ السخاوي في حقه العلامة الحجة المتقدم في سعة العلم ومعرفة الخلاف وقوة الجنان المجمع عليه بين الموافق والمخالف صاحب التصانيف السائرة والمحاسن الجمة مات سنة احدى وخمسين وسبعمائة قوله قال غير واحد من السلف إلى آخره الظاهر أن ابن القيم ذكر ذلك بالمعنى لا باللفظ وقد روى عن غير واحد من السلف معنى ذلك منهم ابو جعفر الباقر وغيره وتقدم ما يدل على ذلك قوله ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم أي طال عليهم الزمان ونسوا ما قصده الأولون بتصوير صورهم فعبدوهم فتبين أن مبدأ الشرك بالصالحين هو الغلو فيهم كما أن سبب الشرك بالنجوم هو الغلو فيها واعتقاد النحوس فيها والسعود ونحو ذلك وهذا هو الغالب على الفلاسفة ونحوهم كما أن ذاك هو الغالب على عباد القبور ونحوهم وهو أصل عبادة الأصنام فإنهم عظموا الأموات تعظيما مبتدعا فصوروا صورهم وتبركوا بها فآل الأمر إلى أن عبدت الصور ومن صورته وهذا أول شرك حدث في الأرض وهو الذي أوحاه الشيطان إلى عباد القبور في هذه الأزمان فإنه ألقى اليهم أن البناء

270

على القبور والعكوف عليها من محبة الصالحين وتعظيمهم وأن الدعاء عندها أرجى في الاجابة من الدعاء في المسجد الحرام والمساجد فاعتادوها لذلك فإذا تقرر ذلك عندهم نقلهم منه إلى الدعاء به والاقسام على الله به قال ابن القيم رحمه الله تعالى وهذا أعظم من الذي قبله فإن شان الله اعظم من أن يقسم عليه أو يسأل بأحد من خلقه فإذا تقرر ذلك عندهم نقلهم منه إلى دعائه وعبادته وسؤاله الشفاعة من دون الله واتخاذ قبره وثنا يعكف عليه وتعلق عليه القناديل والستور ويطاف به ويستلم ويقبل ويحج إليه ويذبح عنده فإذا تقرر ذلك عندهم نقله منه إلى دعاء الناس إلى عبادته واتخاذه عيدا ومنسكا ورأوا أن ذلك أنفع لهم في دنياهم وأخراهم وكل هذا مما قد علم بالاضطرار من دين الإسلام أنه مضاد لما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم من تجريد التوحيد لله وأن لا يعبد إلا الله فإذا تقرر ذلك عندهم نقلهم منه إلى أن من نهى عن ذلك فقد تنقص أهل الرتب العالية وحطهم عن منزلتهم وزعم أنهم لا حرمة لهم ولا قدر وغضب المشركون واشمأزت قلوبهم كما قال تعالى واذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة واذا ذكر الذين من دونه اذا هم يستبشرون وسرى ذلك في نفوس كثير من الجهال والطغام وكثير ممن ينتسب إلى العلم والدين حتى عادوا أهل التوحيد ورموهم بالعظائم ونفروا الناس عنهم ووالوا أهل الشرك وعظموهم وزعموا أنهم أولياء الله وأنصار دينه ورسوله ويأبى الله ذلك وما كانوا أولياءه إن أولياؤه الا المتقون قلت وفي القصة فوائد نبه المنصف على بعضها منها ان من فهم هذا الباب وما بعده تبين له غربة الإسلام ورأى من

271

قدرة الله وتقليبه القلوب العجب ومنها معرفة أن أول شرك حدث في الأرض بشبهة محبة الصالحين ومنها معرفة أول شيء غير به دين الأنبياء ومنها معرفة سبب قبول البدع من كون الشرائع والفطر تنكرها ومنها أن سبب ذلك كله مزج الحق بالباطل فالأول محبة الصالحين والثاني فعل أناس من أهل العلم والدين شيئا أرادوا به خيرا فظن من بعدهم انهم رادوا غيره ومنها معرفة جبلة الانسان في كون الحق ينقص في قلبه والباطل يزيد ومنها أن فيها شاهدا لما نقل عن بعض السلف أن البدعة سبب للكفر وأنها أحب إلى ابليس من المعصية لأن المعصية يتاب منها والبدعة لا يتاب منها ومنها معرفة الشيطان بما تؤول اليه البدعة ولو حسن قصد الفاعل ومنها معرفة القاعدة الكلية وهي النهي عن الغلو ومعرفة ما يؤول اليه ومنها مضرة العكوف على قبر لأجل عمل صالح ومنها معرفة النهي عن التماثيل والحكمة في إزالتها ومنها معرفة عظم شأن هذه القصة وشدة الحاجة اليها مع الغفلة عنها ومنها وهي أعجب قرائتهم اياها في كتب التفسير الحديث ومعرفتهم بمعنى الكلام وكون الله حال بين قلوبهم حتى اعتقدوا أن فعل قوم نوح هو أفضل العبادات واعتقدوا أن نهي الله ورسوله هو الكفر المبيح للدم والمال ومنها التصريح أنهم لم يريدوا إلا الشفاعة ومنها ظنهم أن العلماء الذين صوروا الصور أرادوا ذلك ومنها التصريح بأنها لم تعبد حتى نسي العلم ففيها معرفة قدر وجوده ومضرة فقده

272

ومنها أن سبب فقد العلم موت العلماء انتهى بمعناه ومنها شدة حاجة الخلق بل ضرورتهم إلى الرسالة وأن ضرورتهم اليها أشد وأعظم من ضرورتهم إلى الطعام والشراب ومنها الرد على من يقدم الشبهات التي يسميها عقليات على ما جاء من عند الله لأن ذلك الذي أوقع المشركين في الشرك ومنها مضرة التقليد وكيف آل بأهله إلى المروق من الإسلام قال وعن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم إنما أنا عبد فقولوا عبدالله ورسوله أخرجاه ش قوله عن عمر هو بن الخطاب بن نفيل بنون وفاء مصغرا بن عبد العزى بن رياح بتحتانية بن عبدالله بن قرط بضم القاف بن رزاح براء ثم زاي خفيفة بن عدي بن كعب القرشي العدوي أمير المؤمنين وأفضل الصحابة بعد الصديق رضي الله عنهما ولي الخلافة عشر سنين ونصفا فامتلأت الدنيا عدلا وفتحت في أيامه ممالك كسرى وقيصر واستشهد في ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين قوله لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم الإطراء مجاوزة الحد في المدح والكذب فيه قاله أبو السعادات وقال غيره لا تطروني بضم التاء وسكون الطاء المهملة من الاطراء أي لا تمدحوني بالباطل أو لا تجاوزوا الحد في مدحي قوله إنما أنا عبد فقولوا عبدالله ورسوله أي لا تمدحوني فتغلوا في مدحي كما غلت النصارى في عيسى فادعوا فيه الربوبية وإنما أنا عبدلله فصفوني بذلك كما وصفني به ربي وقولوا عبدالله ورسوله فأبى عباد القبور إلا مخالفة لأمره وارتكابا لنهيه وناقضوه اعظم المناقضة وظنوا أنهم إذا وصفوه بأنه عبدالله ورسوله وأنه لا يدعى ولا يستغاث به ولا ينذر له ولا يطاف بحجرته وأنه ليس له من الأمر شيء ولا يعلم من الغيب إلا ما علمه الله أن

273

في ذلك هضما لجنابه وغضا من قدره فرفعوه فوق منزلته وادعوا فيه ما ادعت النصارى في عيسى أو قريبا منه فسألوه مغفرة الذنوب وتفريج الكروب وقد ذكر شيخ الاسلام في كتب الاستغاثة عن بعض أهل زمانه أنه جوز الاستغاثة بالرسول صلى الله عليه وسلم في كل ما يستغاث فيه بالله وصنف فيه مصنفا وكان يقول إن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم مفاتيح الغيب التي لا يعلمها إلا الله وحكي عن آخر من جنسه يباشر التدريس وينسب إلى الفتيا أنه كان يقول ان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم ما يعلمه الله ويقدر على ما يقدر الله عليه وإن هذا السر انتقل بعده إلى الحسن ثم انتقل في ذرية الحسن إلى أبي الحسن الشاذلي وقالوا هذا مقام القطب الغوث الفرد الجامع ومن هؤلاء من يقول في قول الله تعالى وسبحوه بكرة وأصيلا إن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي يسبح بكرة وأصيلا ومنهم من يقول نحن نعبد الله ورسوله فيجعلون الرسول معبودا قلت وقال البوصيري فإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم فجعل الدنيا والآخرة من جوده وجزم بأنه يعلم ما في اللوح المحفوظ وهذا هو الذي حكاه شيخ الإسلام عن ذلك المدرس وكل ذلك كفر صريح ومن العجب أن الشيطان أظهر لهم ذلك في صورة محبته عليه السلام وتعظيمه ومتابعته وهذا شأن اللعين لابد وأن يمزج الحق بالباطل ليروج على أشباه الأنعام اتباع كل ناعق الذين لم يستضيؤا بنور العلم ولم يلجؤوا إلى ركن وثيق لأن هذا ليس بتعظيم فإن التعظيم محله القلب واللسان والجوارح وهم أبعد الناس منه فإن التعظيم بالقلب ما يتبع اعتقاد كونه عبدا رسولا من تقديم محبته على النفس والولد والوالد والناس أجمعين ويصدق هذه المحبة أمران

274

أحدهما تجريد التوحيد فإنه صلى الله عليه وسلم كان أحرص الخلق على تجريده حتى قطع أسباب الشرك ووسائله من جميع الجهات حتى قال له رجل ما شاء الله وشئت قال أجعلتني لله ندا بل ما شاء الله وحده ونهى أن يحلف بغير الله وأخبر أن ذلك شرك ونهى أن يصلى إلى القبر أو يتخذ مسجدا أو عيدا أو يوقد عليه سراج بل مدار دينه على هذا الأصل الذي هو قطب رحا النجاة ولم يقرر أحد ما قرره صلى الله عليه وسلم بقوله وفعله وسد الذرائع المنافية له فتعظيمه صلى الله عليه وسلم بموافقته على ذلك لا بمناقضته فيه الثاني تجريد متابعته وتحكيمه وحده في الدقيق والجليل من أصول الدين وفروعه والرضى بحكمه والانقياد له والتسليم والاعراض عما خالفه وعدم الالتفات إلى ما خالفه حتى يكون وحده هو الحاكم المتبع المقبول قوله المردود ما خالفه كما كان ربه تعالى وحده هو المعبود المألوه المخوف المرجو المستغاث به المتوكل عليه الذي اليه الرغبة والرهبة الذي يؤمل وحده لكشف الشدائد ومغفرة الذنوب الذي من جوده الدنيا والآخرة الذي خلق الخلق وحده ورزقهم وحده ويبعثهم وحده ويغفر ويرحم ويهدي ويضل ويسعد ويشقي وحده وليس لغيره من الأمر شيء كائنا من كان لا النبي صلى الله عليه وسلم ولا جبريل عليه السلام ولا غيرهما فهذا هو التعظيم الحق المطابق لحال المعظم النافع للمعظم في معاشه ومعاده والذي هو لازم إيمانه وملزومه أما التعظيم باللسان فهو الثناء عليه بما هو أهله مما أثنى به عليه ربه وأنثى على نفسه من غير غلو ولا تقصير كما فعل عباد القبور فإنهم غلوا في مدحه إلى الغاية وأما التعظيم بالجوارح فهل العمل بطاعته والسعي في إظهار دينه ونصر ما جاء به وجهاد ما خالفه وبالجملة فالتعظيم النافع هو التصديق فيما أخبر وطاعته فيما أمر والانتهاء

275

عما عنه نهى وزجر والموالاة والمعاداة والحب والبعض لأجله وتحكيمه وحده والرضى بحكمه وأن يتخذ من دونه طاغوت يكون التحاكم إلى أقواله فما وافقها من قوله صلى الله عليه وسلم قبله وما خالفها رده أو تأوله أو أعرض عنه والله سبحانه يشهد وكفى به شهيدا وملائكته ورسله وأولياؤه أن عباد القبور وخصوم الموحدين ليسوا كذلك والله المستعان وقال المصنف قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إياكم والغلو فانما أهلك من كان قبلكم الغلو ش هكذا ثبت هذا البياض في أصل المصنف وذكره أيضا غير معزو والحديث رواه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه عن ابن عباس وهذا لفظ ابن ماجه حدثنا علي بن محمد حدثنا أبو أسامة عن عوف عن زياد ابن الحصين عن أبي العالية عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم غداة العقبة وهو على ناقته القظ لي حصى فلقطت له سبع حصيات هن حصى الحذف فجعل ينفضهن في كفه ويقول أمثال هؤلاء فارموا وإياكم والغلو في الدين فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين وهذا إسناد صحيح وعوف هو الأعرابي ثقة مشهور قوله إياكم والغلو إلى آخره قال شيخ الاسلام هذا عام في جميع أنواع الغلو في الاعقادات والأعمال وسبب هذا اللفظ العام رمي الجمار وهو داخل فيه مثل الرمي بالحجارة الكبار بناء على أنه أبلغ من الصغار ثم علله بما يقتضي مجانبة هديهم أي هدي من كان قبلنا إبعادا عن الوقوع فيما هلكوا به وأن المشارك لهم في بعض هديهم يخاف عليه من الهلاك قال ولمسلم عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال هلك المتنطعون قالها ثلاثا

276

ش قوله هلك المتنطعون قال الخطابي المتنطع المتعمق في الشيء المتكلف البحث عنه على مذاهب أهل الكلام الداخلين فيما لا يعنيهم الخائضين فيما لا تبلغه عقولهم وقال أبو السعادات هم المتعمقون الغالون في الكلام المتكلمون بأقصى حلوقهم مأخوذ من النطع وهو الغار الأعلى من الفم ثم استعمل في كل متعمق قولا وفعلا وقال غيره هم الغالون في عبادتهم بحيث تخرج عن قوانين الشريعة ويسترسل مع الشيطان في الوسوسة وكل هذه الأقوال صحيحة فإن المتكلفين من أهل الكلام متنطعون والمتقعرون في الكلام ومخارج الحروف متنطعون والغالون في عبادتهم متنطعون وبالجملة فالتنطع التعمق في قول أو فعل كما قال أبو السعادات وقال النووي فيه كراهة المتقعر في الكلام بالتشدق وتكلف الفصاحة واستعمال وحشي اللغة ودقائق الإعراب في مخاطبة العوام ونحوهم قوله قالها ثلاثا أي قال هذه الكلمة ثلاث مرات مبالغة في التحذير والتعليم فصلوات الله وسلامه على من بلغ البلاغ المبين فما ترك شيئا يقرب من الجنة ويباعد من النار إلا أخبرنا به وإنما ضل الأكثرون بمخالفة هذه الأحاديث وما في معناها فغلوا وتنطعوا فهلكوا ولو اقتصروا على ما جاءهم من ربهم على يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم لسلموا وسعدوا قال تعالى أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم مؤمنون باب ما جاء من التغليظ فيمن عبد الله عند قبر رجل صالح فكيف اذا عبده

277

أي عبد القبر أو الرجل الصالح ولما كان عباد القبور إنما دهوا من حيث ظنوا أنهم محسنون فرأوا أن أعمالهم القبيحة حسنة كما قال تعالى أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا الآية نوع المصنف التحذير من الافتتان بالقبور وأخرجه في أبواب مختلفة ليكون أوقع في القلب وأحسن في التعليم وأعظم في الترهيب فإذا كان قصد قبور الصالحين لعبادة الله عندها فيه من النهي والوعيد ما سيمر بك إن شاء الله فكيف بعبادة أربابها من دون الله واعتيادها لذلك في اليوم والأسبوع والشهر مرات كثيرة قال في الصحيح عن عائشة أن أم سلمة ذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم كنيسة رأتها بأرض الحبشة وما فيها من الصور فقال أولئك اذا مات فيهم الرجل الصالح أو العبد الصالح بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله فهؤلاء جمعوا بين الفتنتين فتنة القبور وفتنة التماثيل ش قوله في الصحيح أي في الصحيحين قوله أن أم سلمة هي هند بنت أبي أمية بن المغيرة بن عبدالله بن عمرو بن مخزوم القرشية المخزومية تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم بعد أبي سلمة سنة أربع وقيل ثلاث وكانت قد هاجرت مع أبي سلمة إلى الحبشة ماتت سنة اثنتين وستين قوله ذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم كان ذكر أم سلمة هذه الكنيسة للنبي صلى الله عليه وسلم في مرض موته كما جاء مبينا في رواية في الصحيح وفي الصحيحين أن أم حبيبة وأم سلمة ذكرتا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم قوله كنيسة وفي رواية يقال لها مارية وهي بفتح الكاف

278

وكسر النون معبد النصارى قوله أولئك بفتح الكاف وكسرها قوله إذا مات فيهم الرجل الصالح أو العبد الصالح هذا والله أعلم شك من بعض رواة الحديث هل قال النبي صلى الله عليه وسلم هذا أو هذا ففيه التحري في الرواية وجواز رواية الحديث بالمعنى قوله ينبوا على قبره مسجدا أي موضعا للعبادة وإن لم يسم مسجدا كالكنائس والمشاهد قوله وصوروا فيه تلك الصور الإشارة بتلك الصور إلى ما ذكرت أم سلمة وأم حبيبة من التصاوير التي في الكنيسة كما في بعض ألفاظ الحديث فذكرتا من حسنها وتصاوير فيها قوله أولئك شرار الخلق عند الله مقتضى هذا تحريم ما ذكر لا سيما وقد ثبت اللعن عليه قال البيضاوي لما كانت اليهود والنصارى يسجدون لقبور الأنبياء تعظيما لشأنهم ويجعلونها قبلة يتوجهون في الصلاة نحوها واتخذوها أوثانا لعنهم النبي صلى الله عليه وسلم ومنع المسلمين عن مثل ذلك قال القرطبي وإنما صور أوائلهم الصور ليتأسوا بها ويتذكروا أفعالهم الصالحة فيجتهدون كاجتهادهم ويعبدون الله عند قبورهم ثم خلفهم قوم جهلوا مرادهم ووسوس لهم الشيطان أن أسلافكم كانوا يعبدون هذه الصور ويعظمونها فحذر النبي صلى الله عليه وسلم عن مثل ذلك سدا للزريعة المؤدية إلى ذلك قوله فهؤلاء جمعوا بين الفتنتين إلى آخره هذا من كلام شيخ الإسلام ذكره المصنف عنه يعني ان الذين بنوا هذه الكنيسة جمعوا فيها بين فتنتين ضل بها كثير من الخلق الأولى فتنة القبور لأنهم افتتنوا بقبور الصالحين وعظموها تعظيما مبتدعا فآل بهم إلى الشرك وهي أعظم

279

الفتنتين بل هي مبدأ الفتنة الثانية وهي فتنة التماثيل اي الصور فإنهم لما افتتنوا بقبور الصالحين وعظموها وبنوا عليها المساجد وصوروا فيها الصور للقصد الذي ذكره القرطبي فآل الأمر إلى أن عبدت الصور ومن هي صورته من دون الله وهاتان الفتنتان هما سبب عبادة الصالحين كاللات وود وسواع ويغوث ويعوق ونسر وغيرهم من الصالحين قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى وهذه العلة التي لأجلها نهى الشارع عن اتخاذ المساجد على القبور وهي التى أوقعت كثيرا من الأمم اما في الشرك الأكبر أو فيما دونه من الشرك فإن النفوس قد أشركت بتماثيل القوم الصالحين وتماثيل يزعمون أنها طلاسم لكواكب ونحو ذلك فإن الشرك بقبر الرجل الذي يعتقد صلاحه أقرب إلى النفوس من الشرك بخشبه أو حجر ولهذا تجد أهل الشرك يتضرعون عندها ويخشعون ويخضعون ويعبدون بقلوبهم عبادة لا يفعلونها في بيوت الله ولا وقت السحر ومنهم من يسجد لها وأكثرهم يرجون من بركة الصلاة عندها والدعاء ما لا يرجونه في المساجد فلأجل هذه المفسدة حسم النبي صلى الله عليه وسلم مادتها حتى نهى عن الصلاة في المقبرة مطلقا وإن لم يقصد المصلي بركة البقعة بصلاته كما يقصد بصلاته بركة المساجد كما نهى عن الصلاة وقت طلوع الشمس وغروبها لأنها أوقات يقصد المشركون فهيا الصلاة للشمس فنهى أمته عن الصلاة حينئذ وإن لم يقصد ما قصده المشركون سدا للذريعة قال وأما إذا قصد الرجل الصلاة عند القبور متبركا بالصلاة في تلك البقعة فهذا عين المحادة لله ورسوله والمخالفة لدينه وابتداع دين لم يأذن به الله فإن المسلمين قد أجمعوا على ما علموه بالاضطرار من دين رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الصلاة عند القبور منهي عنها وأنه لعن من اتخذها مساجد فمن أعظم المحدثات وأسباب الشرك الصلاة عندها واتخاذها مساجد وبناء المساجد عليها فقد تواترت النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم

280

بالنهي عن ذلك والتغليظ فيه وقد صرح عامة الطوائف بالنهي عن بناء المساجد عليها متابعة منهم للسنة الصحيحة الصريحة وصرح أصحاب أحمد وغيرهم من أصحاب مالك والشافعي بتحريم ذلك وطائفة أطلقت الكراهة والذي ينبغي ان تحمل على كراهة التحريم إحسانا للظن بالعلماء وأن لا يظن بهم أن يجوزوا فعل ما تواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن فاعله والنهي عنه قال ولهما عنها قالت لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم طفق يطرح خميصة له على وجهه فإذا اغتم بها كشفها فقال وهو كذلك لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما صنعوا ولولا ذلك أبرز قبره غير أنه خشي أن يتخذ مسجدا أخرجاه ش هكذا ثبت في أول هذا الحديث ولهما وفي آخره أخرجاه بخط المصنف وأحد اللفظين يغني عن الآخر لأن المراد صاحبا الصحيحين قوله لما نزل هو بضم النون وكسر الزاي أي نزل به ملك الموت والملائكة الكرام عليهم السلام قوله طفق بكسر الفاء وفتحها والكسر أفصح وبه جاء القرآن ومعناه جعل قوله خميصة بفتح المعجمة كساء له أعلام قوله فإذا اغتم بها كشفها أي إذا احتبس نفسه عن الخروج كشفها عن وجهه قوله لعن الله اليهود والنصارى إلى آخره لعنهم صلى الله عليه وسلم على هذا الفعل بعينه وهو اتخاذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد أي كنائس وبيع يتعبدون ويسجدون فيها لله وإن لم يسموها مساجد فإن الاعتبار بالمعنى لا بالاسم ومثل ذلك القباب والمشاهد المبينة على قبور الأنبياء والصالحين فإنها هي

281

المساجد الملعون من بناها على قبورهم وإن لم يسمها من بناها مساجد وفيه رد على من أجاز البناء على قبور العلماء والصالحين تمييزا لهم عن غيرهم فإذا كان صلى الله عليه وسلم لعن من بنى المساجد على قبور الأنبياء فكيف بمن بناها على قبور غيرهم قوله يحذر ما صنعوا الظاهر أن هذا من كلام عائشة رضي الله عنها أي أن الرسول صلى الله عليه وسلم لعن اليهود والنصارى على ذلك تحذيرا لأمته أن تصنع ما صنعوا قال القرطبي وكل ذلك لقطع الذريعة المؤدية إلى عبادة من فيها كما كان السبب في عبادة الأصنام قوله ولولا ذلك أي لولا تحذير النبي صلى الله عليه وسلم ما صنعوا ولعن من فعل ذلك قوله لأبرز قبره أي لدفن خارج بيته ومنه الحديث كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما بارزا للناس أي جالسا خارج بيته قوله غير أنه خشي أن يتخذ مسجدا روي بفتح الخاء وضمها بالبناء للفاعل والمفعول قالوا فأما رواية الفتح فإنها تقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي أمرهم بذلك وأما رواية الضم فيحتمل أن تكون عائشة هي التي خشيت كما في لفظ آخر غير أني أخشى أو هي ومن معها من الصحابة قلت وهذا أظهر ورواية غير أني أخشى لا تخالفه قال القرطبي ولهذا بالغ المسلمون في سد الذريعة في قبر النبي صلى الله عليه وسلم فأعلو حيطان تربته وسدوا المداخل اليها وجعلوها محدقة بقبره ثم خافوا أن يتخذ موضع قبره قبلة إذا كان مستقبل المصلين فتصور الصلاة إليه بصورة العبادة فبنوا جدارين من ركني القبر الشماليين وحرفوهما حتى التقيا على زاوية مثلثة من ناحية الشمال حتى لا يتمكن أحدا من استقبال قبره

282

قلت وفي الحديثين مسائل نبه المصنف على بعضها منها ما ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم فيمن بني مسجدا يعبد الله فيه على قبر رجل صالح ولو صحت نية الفاعل ومنها النهي عن التماثيل بتغليظ الأمر ومنها نهيه عن فعله عند قبره قبل أن يوجد القبر ومنها أنه من سنن اليهود والنصارى في قبور أنبيائهم ومنها لعنه إياهم على ذلك ومنها مراده بذلك تحذيره إيانا عن قبره ومنها العلة في عدم إبراز قبره ومنها ما بلي به صلى الله عليه وسلم من شدة النزع قلت ومنها التنبيه على علة تحريم ذلك وعلة لعن من فعله قال ولسلم عن جندب بن عبدالله قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس وهو يقول إني إبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل فان الله قد اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا ولو كنت متخذا من أمتي خليلا لا تخذت أبا بكر خليلا ألا وان من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد إني أنهاكم عن ذلك فقد نهى عنه وهو في آخر حياته ثم إنه لعن وهو في السياق من فعله والصلاة عندها من ذلك وان لم يبن مسجدا وهو معنى قوله أخشى أن يتخذ مسجدا فإن الصحابة لم يكونوا ليبنوا حول قبره مسجدا وكل موضع قصدت الصلاة فيه فقد اتخذ مسجدا بل كل موضع يصلى فيه يسمى مسجدا كما قال صلى الله عليه وسلم جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ش قوله عن جندب بن عبدالله أي ابن سفيان البجلي أبو عبدالله وينسب إلى جده صحابي مشهور مات بعد الستين قوله إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل أي أمتنع من هذا وأنكره والخليل هو المحبوب غاية المحبة مشتق من الخلة بفتح

283

الخاء وهي تخلل المودة في القلب كما قال الشاعر قد تخللت مسلك الروح مني وبذا سمي الخليل خليلا هذا هو الصحيح في معناه كما ذكره شيخ الإسلام وابن القيم وابن كثير وغيرهم قال القرطبي وإنما كان في ذلك لأن قلبه صلى الله عليه وسلم قد امتلأ من محبة الله وتعظيمه ومعرفته فلا يسع لمخالة غيره قوله فإن الله قد اتخذني خليلا فيه التصريح بأن الخلة أكمل من المحبة قال ابن القيم وأما ما يظنه بعض الغالطين من أن المحبة أكمل من الخلة وأن ابراهيم خليل الله ومحمد صلى الله عليه وسلم حبيب الله فمن جهلهم فإن المحبة عامة والخلة خاصة وهي نهاية المحبة قال وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الله قد اتخذه خليلا ونفى أن يكون له خليل غير ربه مع إخباره بحبه لعائشة ولأبيها ولعمر بن الخطاب رضي الله عنهم وغيرهم وأيضا فإن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين ويحب الصابرين وخلته خاصة بالخليلين وفيه جواز ذكر الانسان ما فيه من الفضل إذا دعت الحاجة الشرعية إلى ذلك قوله ولو كنت متخذا من أمتي خليلا لاتخذت ابا بكر خليلا فيه دليل على أن الصديق أفضل الصحابة حيث صرح صلى الله عليه وسلم أنه لو اتخذ خليلا غير ربه لاتخذ ابا بكر ففيه رد على الرافضة وعلى الجهمية الذين هم شر أهل البدع بل أخرجهم بعض السلف من الثنتين والسبعين فرقة وبسبب الرافضة حدث الشرك وعبادة القبور وهم أول من بنى عليها المساجد قاتلهم الله قاله المصنف وفيه اشارة إلى خلافته لأن من كانت محبته لشخص أشد فهو أحق الناس بالنيابة عنه لا سيما وقد قال ذلك في مرض موته خصوصا وقد استخلفه على الصلاة بالناس وغضب لما صلى بهم عمر واسم أبي بكر عبدالله ابن عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تميم بن مرة الصديق

284

الأكبر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأفضل الصحابة باجماع من يعتد به من اهل السنة مات في جمادى الأولى سنة ثلاث عشرة وله ثلاث وستون سنة قوله ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد إلى آخر الحديث قال الخلخالي وإنكار النبي صلى الله لعيه وسلم صنيعهم هذا يخرج على وجهين أحدهما أنهم يسجدون لقبور الأنبياء تعظيما لهم والثاني أنهم يجوزون الصلاة في مدافن الأنبياء والسجود في مقابرهم والتوجه إليها حالة الصلاة نظرا منهم بذلك إلى عبادة الله والمبالغة في تعظيم الأنبياء والأول هو الشرك الجلي والثاني الخفي فلذلك استحقوا اللعن قلت الحديث أعم من ذلك فيشمله ويشمل بناء المساجد والقباب عليها قوله فقد نهى عنه في آخر حياته أي كما في حديث جندب قوله ثم انه لعن وهو في السياق من فعله أي كما في حديث عائشة قوله والصلاة عندها من ذلك وإن لم يبن مسجدا يعني أن الصلاة عند القبور وإليها من اتخاذها مساجد الملعون من فعله وإن لم يبن مسجدا فتحرم الصلاة في المقبرة وإلى القبور بل لا تنعقد أصلا لما في هذه الأحاديث الصحيحة وغيرها من لعن من اتخذها مساجد وروى مسلم عن أبي مرثد الغنوي رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا اليها وعن أبي سعيد الخدري مرفوعا الأرض كلها مسجد الا المقبرة والحمام رواه أحمد وأهل السنن وصححه ابن حبان والحاكم من طرق على شرط الشيخين وفي صحيح البخاري أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رأى أنس بن مالك يصلي عند قبر فقال القبر القبر وهذا يدل على أنه كان من المستقر عند الصحابة ما نهاهم عنه نبيهم صلى الله عليه وسلم من الصلاة عند القبور وفعل

285

انس لا يدل على اعتقاد جوازه فإنه لعله لم يره ولم يعلم أنه قبر أو ذهل عنه فلما نبهه عمر تنبه وفي هذا كله إبطال قول من زعم أن النهي عن الصلاة فيها لأجل النجاسة فهذا أبعد شيء عن مقاصد الرسول صلى الله عليه وسلم بل العلة في ذلك الخوف على الأمة أن يقعوا فيما وقعت فيه اليهود والنصارى وعباد اللات والعزى من الشرك ويدل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن اليهود والنصارى على اتخاذ قبور أنبيائهم مساجد ومعلوم قطعا أن هذا ليس لأجل النجاسة لأن قبور الأنبياء من اطهر البقاع فإن الله حرم على الأرض أن تأكل أجسادهم فهم في قبورهم طريون وقد لعن النبي صلى الله عليه وسلم متخذي المساجد عليها وموقدي السرج عليها ومعلوم أن إيقاد السرج عليها إنما هو لعن فاعله لكونه وسيلة إلى تعظيمها وجعلها نصبا يوفض اليها المشركون كما هو الواقع فهكذا اتخاذ المساجد عليها قال ابن القيم وبالجملة فمن له معرفة بالشرك وأسبابه وذرائعه وفهم عن الرسول صلى الله عليه وسلم مقاصده جزم جزما لا يحتمل النقيض أن هذه المبالغة واللعن والنهي بصيغتيه صيغة لا تفعلوا وصيغة إني أنهاكم ليس لأجل النجاسة بل هو لأجل نجاسة الشرك اللاحقة بمن عصاه وارتكب ما عنه نهاه واتبع هواه ولم يخش ربه ومولاه وقل نصيبه أو عدم من تحقيق لا إله الا الله فإن هذا وأمثاله من النبي صلى الله عليه وسلم صيانة لحمى التوحيد أن يلحقه الشرك ويغشاه وتجريد له وغضب لربه أن يعدل به سواه فأبى المشركون إلا معصية لأمره وارتكابا لنهيه وغرهم الشيطان بأن هذا التعظيم لقبور المشايخ والصالحين وكلما كنتم أشد لهاتعظيما وأشد فيهم غلوا كنتم بقربهم أسعد ومن أعدائهم أبعد ولعمر الله من هذا الباب بعينه دخل على عباد يغوث ويعوق ونسر ودخل على عباد الأصنام منذ كانوا إلى يوم القيامة فجمع المشركون بين الغلو فيهم والطعن في طريقتهم وهدى الله أهل التوحيد

286

لسلوك طريقهم وإنزالهم منازلهم التي أنزلهم الله إياها من العبودية وسلب خصائص الالهية قلت وممن علل بخوف الفتنة والشرك الشافعي وأبو بكر الأثرم وأبو محمد المقدسي وشيخ الاسلام وغيرهم وهو الحق قوله فإن الصحابة لم يكونوا ليبنوا حول قبره مسجدا أي لما علموا من تشديده في ذلك وتغليظه ولعن من فعله فكيف يتخذون على قبره مسجدا وإنما خشوا أن يعتاده بعض الجهال للصلاة عنده من غير شعور من الصحابة بذلك فلذلك دفنوه في بيته قوله وكل موضع قصدت الصلاة فيه فقد اتخذ مسجدا أي وإن لم يبن مسجدا قوله بل كل موضع يصلى فيه يسمى مسجدا الظاهر أن الأول في الأمكنة المعدة للصلاة وإن لم يبن فيها مسجدا وهذا في أي موضع صلى فيه وإن يعد لذلك كالمواضع التي يصلي فيها المسافر ونحو ذلك فعلى هذا إذا صلى عند القبور ولو مرة واحدة وإن لم يكن هناك مسجد فقد اتخذها مساجد قوله كما قال صلى الله عليه وسلم جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا أي فسمى الأرض مسجدا وليست مسجد مبنيا لكن لما كانت يسجد فيها سميت مسجدا فدل هذا الحديث أن من صلى عند القبور أو اليها فقد اتخذها مساجد وهذا الحديث طرف من حديث صحيح متفق عليه عن جابر قال البغوي في شرح السنة أراد أن أهل الكتاب لم تبح لهم الصلاة إلا في بيعهم وكنائسهم واباح الله لهذه الأمة الصلاة حيث كانوا تخفيفا عليهم وتيسيرا ثم خص من جميع المواضع الحمام والمقبرة والمكان النجس وقوله طهورا أراد به التيمم وفي حديث جندب من الفوائد أيضا

287

العبرة في مبالغته صلى الله عليه وسلم في النهي عن بناء المساجد على القبور كيف بين لهم ذلك أولا ثم قبل موته بخمس قال ما قال ثم لما كان في النزع لم يكتف بما تقدم بل لعن من فعل ذلك فدلت هذه الأحاديث الصحيحة الصريحة على تحريم البناء على القبور مطلقا فلذلك اكتفى المصنف بايرادها عن غيرها كحديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يجصص القبر وأن يقعد عليه وأن يبنى عليه رواه مسلم وغره وزاد أبو داوود والحاكم وأن يكتب عليه قال ولأحمد بسند جيد عن ابن مسعود مرفوعا ان من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء والذين يتخذون القبور مساجد رواه أبو حاتم في صحيحه ش قوله إن من شرار الناس هو بكسر الشين جمع شر قوله من تدركهم الساعة وهم أحياء أي من تقوم عليهم الساعة بحيث ينفخ في الصور وهم احياء وهذا كحديثه الآخر الذي في مسلم لا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق فإن قلت ما الجمع بين هذا وبين حديث ثوبان لا تزال طائفة من أمتي على الحق وما في معناه قيل حديث ثوبان مستغرق للأزمنة عام فيها وهذا مخصص وسيأتي زيادة لذلك عند الكلام على حديث ثوبان إن شاء الله تعالى قوله والذين يتخذون القبور مساجد الذين في محل نصب عطفا على من الموصولة أي إن من شرار الناس الذين يتخذون القبور مساجد بالصلاة عندها وإليها وبناء المساجد عليها وهذا المعنى متواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم معلوم بالاضطرار من دينه وكل ذلك شفقة على الأمة وخوفا عليهم أن يقودهم ذلك إلى الشرك بها وبأصحابها كما قاد إلى ذلك اليهود

288

والنصارى فأبى عباد القبور إلا الضرب بهذه الأحاديث الجدار ونبذها وراء الظهر أو الدفع في صدورها وأعجازها بحمل ذلك على غير قبور الأنبياء والصالحين أما قبورهم فتجوز الصلاة إليها وعندها وبناء المساجد والقباب عليها رجاء أن تصل اليهم العواطف الروحانية ولا ريب أن هذا مراغمة ومحادة لله ورسوله وهذا هو قول اليهود سمعنا وعصينا فإن النبي صلى الله عليه وسلم إنما لعن من اتخذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد كما هو نص حديث عائشة رضي الله عنها وغيره وقبور غيرهم إنما أخذ النهي عن البناء عليها من هذه الأحاديث ونحوها بقياس الأولى أو من عموم أحاديث أخر فمن أعظم المراغمة والمناسبة والمحادة لله ورسوله أن تحمل على غير ما وردت فيه ويباح ما وردت بالنهي عنه ولعن من فعله ولكن هذا شأن عباد القبور إنما يتبعون اهواءهم ومن اضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله ان الله لا يهدي القوم الظالمين وقد أجمع العلماء على النهي عن البناء على القبور وتحريمه ووجوب هدمه لهذه الأحاديث الصحيحة الصريحة التي لا مطعن فيها بوجه من الوجوه ولا فرق في ذلك بين البناء في مقبرة مسبلة أو مملوكة إلا أنه في المملوكة أشد ولا عبرة بمن شذ من المتأخرين فأباح ذلك إما مطلقا واما في المملوكة قال الإمام أبو محمد بن قدامة ولا يجوز اتخاذ المساجد على القبور لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما صنعوا ولأن تخصيص القبور بالصلاة عندها يشبه تعظيم الأصنام بالسجود لها والتقرب اليها وقد روينا أن ابتداء عبادة الأصنام تعظيم الأموات باتخاذ صورهم والتمسح بها والصلاة عندها وقال شيخ الإسلام أما بناء المساجد على القبور فقد صرح عامة علماء الطوائف بالنهي عنه متابعة للأحاديث

289

الصحيحة وصرح أصحابنا وغيرهم من أصحاب مالك والشافعي بتحريمه قال ولا ريب في القطع بتحريمه ثم ذكر الأحاديث في ذلك إلى أن قال فهذه المساجد المبنية على قبور الأنبياء والصالحين أو الملوك وغيرهم تتعين إزالتها بهدم أو بغيره هذا مما لا أعلم فيه خلافا بين العلماء المعروفين وقال ابن القيم يجب هدم القباب التي على القبور لأنها أسست على معصية الرسول صلى الله عليه وسلم وقال أبو حفص تحرم الحجرة بل تهدم فإذا كان هذا كلامه في الحجرة فكيف بالقبة وقال الشافعي أكره أن يعظم مخلوق حتى يجعل قبره مسجدا مخافة الفتنة عليه وعلى من بعده من الناس وقال أيضا تسطح القبور ولا تبنى ولا ترفع وتكون على وجه الأرض وقد أفتى جماعة من الشافعية بهدم ما في القرافة من الأبنيه منهم من بن الجميزى والظهير الترميني وغيرهما وقال القاضي بن كج ولا يجوز أن تجصص القبور ولا أن يبنى عليها قباب ولا غير قباب والوصية بها باطلة وقال الأذرعي وما بطلان الوصية ببناء القباب وغيرها من الأبنية العظيمة وإنفاق الأموال الكثيرة فلا ريب في تحريمه قلت وجزم النووي في شرح المهذب بتحريم البناء مطلقا وذكر في شرح مسلم نحوه أيضا وقال القرطبي في حديث جابر نهى أن يجصص القبر أو يبنى عليه وبظاهر هذا الحديث قال مالك وكره البناء والجص على القبور وقد أجازه غيره وهذا الحديث حجة عليه ووجه النهي عن البناء والتجصيص في القبور أن ذلك مباهاة واستعمال زينة الدنيا في أول منازل الآخرة وتشبه بمن كان يعبد القبور ويعظمها وباعتبار هذه المعاني وبظاهر هذا النص ينبغي أن يقال هو حرام كما قال به بعض أهل العلم وقال ابن مرشد كره مالك البناء على القبر وجعل البلاطة المكتوبة وهو من بدع أهل الطول احدثوه إرادة الفخر

290

والمباهاة والسمعة وهو مما لا اختلاف فيه وقال الزيلعي في شرح الكنز ويكره أن يبني على القبر وفي الخلاصة ولا يجصص القبر ولا يطين ولا يرفع عليه بناء وذكر أيضا قاضي خان أنه لا يجصص القبر ولا يبنى عليه لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن التجصيص وعن البناء فوق القبر والمراد بالكراهة عند الحنفية كراهة التحريم التي هي في مقابلة ترك الواجب وقد ذكر ذلك ابن نجيم في شرح الكنز ومثل هذا كثير في كلام العلماء أتباع الأئمة الأربعة وغيرهم والمقصود أن كلام العلماء موافق لما دلت عليه السنة الصحيحة في النهي عن البناء على القبور واعلم أنه قد وقع بسبب البناء على القبور من المفاسد التي لا يحيط بها على التفصيل إلا الله ما يغضب لله من أجله كل من في قلبه رائحة إيمان كما نبه عليه ابن القيم وغيره فمنها اعتيادها للصلاة عندها وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك ومنها تحري الدعاء عندها ويقولون من دعا الله عند قبر فلان استجاب له وقبر فلان الترياق المجرب وهذا بدعة منكرة ومنها ظنهم ان لها خصوصيات بأنفسها في دفع البلاء وجلب النعماء ويقولون إن البلاء يدفع عن اهل البلدان بقبور من فيها من الصالحين ولا ريب أن هذا مخالف للكتاب والسنة والاجماع فالبيت المقدس كان عنده من قبور الأنبياء والصالحين ما شاء الله فلما عصوا الرسول وخالفوا ما أمرهم الله به سلط الله عليهم من انتقم منهم وكذلك أهل المدينة لما تغيروا بعض التغير جرى عليهم عام الحرة من النهب والقتل وغير ذلك من المصائب ما لم يجر عليهم قبل ذلك وهذا أكثر من أن يحصر ومنها الدخول في لعنة رسول الله صلى الله عليه وسلم باتخاذ المساجد عليها وإيقاد السرج عليها ومنها أن ذلك يتضمن عمارة المشاهد وخراب المساجد كما هو الواقع ودين الله بضد ذلك ومنها اجتماعهم لزيارتها واختلاط النساء

291

بالرجال وما يقع في ضمن ذلك من الفواحش وترك الصلوات ويزعمون أن صاحب التربة تحملها عنهم بل اشتهر أن البغايا يسقطن أجرتهن على البغاء في أيام زيادة المشايخ كالبدوي وغيره تقربا إلى الله بذلك فهل بعد هذا في الكفر غاية ومنها كسوتها بالثياب النفيسة المنسوجة بالحرير والذهب والفضة ونحو ذلك ومنها جعل الخزائن والأموال ووقف الوقوف لما يحتاج اليه من ترميمها ونحو ذلك ومنها إهداء الأموال ونذر النذور ولسدنتها العاكفين عليها الذين هم أصل كل بلية وكفر فإنهم الذين يكذبون على الجهال والطغام بأن فلانا دعا صاحب التربة فأجابه واستغاثه فأغاثه ومرادهم بذلك تكثير النذر والهدايا لهم ومنها جعل السدنة لها كسدنة عباد الأصنام ومنها الاقسام على الله في الدعاء بالمدفون فيها ومنها أن كثيرا من الزوار إذا رأى البناء الذي على قبر صاحب التربة سجد له ولا ريب أن هذا كفر بنص الكتاب والسنة وإجماع الأمة بل هذا هو عبادة الأوثان لأن السجود للقبة عبادة لها وهو من جنس عبادة النصارى للصور التي في كنائسهم على صور من يعبدونه بزعمهم الباطل فإنهم عبدوها ومن هي صورته وكذلك عبادة القبور لما بنوا القباب على القبور آل بهم إلى أن عبدت القباب ومن بنيت عليه من دون الله عز وجل ومنها النذر للمدفون فيها وفرض نصيب من المال والولد وهذا هو الذي قال الله فيه وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا الآية بل هذا أبلغ فإن المشركين ما كانوا يبيعون أولادهم لأوثانهم ومنها أن المدفون فيها أعظم في قلوب عباد القبور من الله وأخوف ولهذا

292

لو طلبت من أحدهم اليمين بالله تعالى أعطاك ما شئت من الأيمان كاذبا أو صادقا وإذا طلبت بصاحب التربة لم يقدم إن كان كاذبا ولا ريب أن عباد الأوثان ما بلغ شركهم إلى هذا الحد بل كانوا إذا أرادوا تغليظ اليمين غلظوها بالله كما في قصة القسامة وغيرها ومنها سؤال الميت قضاء الحاجات وتفريج الكربات والاخلاص له من دون الله في اكثر الحالات ومنها التضرع عند مصارع الأموات والبكاء بالهيبة والخشوع لمن فيها أعظم مما يفعلونه مع الله في المساجد والصلوات ومنها تفضيلها على خير البقاع وأحبها إلى الله وهي المساجد فيعتقدون أن العبادة والعكوف فيها أفضل من العبادة والعكوف في المساجد وهذا أمر ما بلغ اليه شرك الأولين فإنهم يعظمون المسجد الحرام أعظم من بيوت الأصنام يرون فضله عليها وهؤلاء يرون العكوف المشاهد أفضل من العكوف في المساجد ومنها أن الذي شرعه الرسول صلى الله عليه وسلم في زيارة القبور إنما هو تذكرة الآخرة كما قال روا القبور فإنها تذكركم الآخرة والإحسان إلى المزور بالترحم عليه والدعاء له والاستغفار وسؤال العافية له فيكون الزائر محسنا إلى نفسه وإلى الميت فقلب عباد القبور الأمر وعكسوا الدين وجعلوا المقصود بالزيارة الشرك بالميت ودعاءه والدعاء به وسؤاله حوائجهم ونصرهم على الأعداء ونحو ذلك فصاروا مسيئين إلى نفوسهم وإلى الميت ولو لم يكن إلا بحرمانه بركة ما شرعه الله من الدعاء والترحم عليه والاستغفار له ومنها إيذاء أصحابها بما يفعله عباد القبور بها فإنه يؤذيهم ما يفعلونه عند قبورهم ويكرهونه غاية الكراهة كما أن المسيح عليه السلام يكره ما يفعله النصارى

293

وكذلك غيره من الأنبياء والأولياء يؤذيهم ما يفعله أشباه النصارى عند قبورهم ويوم القيامة يتبرؤون منهم كما قال تعالى ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب لهم إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون واذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين ومنها محادة الله ورسوله ومناقضة ما شرعه فيها ومنها التعب العظيم مع الوزر الكبير والإثم العظيم وكل هذه المفاسد العظيمة وغيرها مما لم يذكر إنما حدثت بسبب البناء على القبور ولهذا تجد القبور التي ليس عليها قباب لا يأتيها أحد ولا يعتادها لشيء مما ذكر إلا ما شاء الله وصاحب الشرع أعلم بما يؤول إليه هذا الأمر فلذلك غلظ فيه وأبدأ وأعاد ولعن من فعله فالخير والهدى في طاعته والشر والضلال في معصيته ومخالفته والعجب ممن يشاهد هذه المفاسد العظيمة عند القبور ثم يظن أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما نهى عن اتخاذ المساجد عليها لأجل النجاسة كما يظنه بعض متاخري الفقهاء ولو كان ذلك لأجل النجاسة كما يظنه بعض متأخري الفقهاء ولو كان ذلك لأجل النجاسة لكان ذكر المجازر والحشوش بل ذكر التحرز من البول والغائط أولى وإنما ذلك لأجل نجاسة الشرك التي وقعت من عباد القبور لما خالفوا ذلك ونبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون باب ما جاء أن الغلو في قبور الصالحين يصيرها أوثانا تعبد من دون الله ش أراد المصنف رحمه الله بهذه الترجمة أمورا الأول التحذير من الغلو في قبور الصالحين الثاني أن الغلو فيها يؤول إلى عبادتها الثالث

294

أنها اذا عبدت سميت اوثانا ولو كانت قبور الصالحين الرابع التنبيه على العلة في المنع من البناء عليها واتخاذها مساجد والأوثان هي المعبودات التي لا صورة لها كالقبور والأشجار والعمد والحيطان والأحجار ونحوها وقد تقدم بيان ذلك وقيل الوثن هو الصنم والصنم هو الوثن وهذا غير صحيح إلا مع التجريد فأحدهما قد يعنى به الآخر وأما مع الاقتران فيفسر كل واحد بمعناه قال روى مالك في الموطا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ش هذا الحديث رواه مالك في باب جامع الصلاة مرسلا عن زيد ابن أسلم عن عطاء بن يسار ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قاله ورواه ابن أبي شيبة في مصنفه عن أبي خالد الأحمر عن ابن عجعلان عن زيد بن أسلم به ولم يذكر عطاء ورواه البزار عن عمر بن محمد عن زيد عن عطاء عن أبي سعيد الخدري مرفوعا وعمر بن محمد بن زيد بن عبدالله بن عمر بن الخطاب ثقة من أشراف أهل المدينة روى عنه مالك والثوري وسليمان بن بلال فالحديث صحيح عند من يحتج بمراسيل الثقات وعند من قال بالمسند لإسناد عمر بن محمد له بلفظ الموطأ سواء وهو ممن تقبل زيادته وله شاهد عند الإمام أحمد والعقيلي من طريق سفيان عن حمزة بن المغيرة عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة رفعه اللهم لاتجعل قبري وثنا يعبد لعن الله قوما اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد قوله روى مالك في الموطأ هو الإمام مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر بن عمر الأصبحي أبو عبدالله المدني الفقيه إمام دار الهجرة وأحد الأئمة الأربعة وأحد المتقنين في الحديث حتى قال البخاري أصح الأسانيد

295

كلها مالك عن نافع عن ابن عمر مات سنة تسع وسبعين ومائة وكان مولده سنة ثلاث وتسعين وقال الواقدي بلغ تسعين سنة قوله اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد قد استجاب الله دعاء رسوله صلى الله عليه وسلم فمنع الناس من الوصول إلى قبره لئلا يعبد استجابة لدعاء رسوله صلى الله عليه وسلم كما قال ابن القيم فأجاب رب العالمين دعاءه وأحاطه بثلاثة الجدران ودل الحديث عن أن قبر الرسول صلى الله عليه وسلم لو عبد لكان وثنا فما ظنك بقبر غيره من القبور التي عبدت هي واربابها من دون الله وإذا أريد تغيير شيء من ذلك انف عبادها واشمأزت قلوبهم واستكبرت نفوسهم وقالوا تنقص أهل الرتب العالية ورموهم بالعظائم فماذا يقولون لو قيل لهم إنها أوثان تعبد من دون الله فالله المستعان على غربة الإسلام وهذه هي الفتنة العظمى التي قال فيها عبد الله بن مسعود كيف انتم إذا لبستكم فتنة يهرم فيها الكبير وينشأ فيها الصغير تجري على الناس يتخذونها سنة إذا غيرت قيل غيرت السنة ويؤخذ من الحديث المنع من تتبع آثار الأنبياء والصالحين كقبورهم ومجالسهم ومواضع صلاتهم للصلاة والدعاء عندها فإن ذلك من البدع أنكره السلف من الصحابة والتابعين وغيرهم ولا نعلم أحدا أجازه أو فعله إلا ابن عمر على وجه غير معروف عند عباد القبور وهو إرادة التشبه برسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة فيما صلى فيه ونحو ذلك ومع ذلك فلا نعلم أحدا وافقه عليه من الصحابة بل خالفه أبوه وغيره لئلا يفضي ذلك إلى اتخاذها أوثانا كما وقع قال ابن عبد الباقي في شرح الموطأ روى أشهب عن مالك أنه كره لذلك ان يدفن في المسجد قال وإذا منع من ذلك فسائر آثاره أحرى بذلك وقد كره مالك طلب موضع شجرة بيعة الرضوان مخالفة لليهود والنصارى انتهى وقال ابن وضاح سمعت عيسى بن يونس يقول أمر عمر بن الخطاب

296

بقطع الشجرة التي بويع تحتها النبي صلى الله عليه وسلم فقطعها لأن الناس كانوا يذهبون فيصلون تحتها فخاف عليهم الفتنة قال عيسى بن يونس وهو عندنا من حديث ابن عون عن نافع أن الناس كانوا يأتون الشجرة فقطعها عمر رضي الله عنه وقال المعرور بن سويد صليت مع عمر بن الخطاب في طريق مكة صلاة الصبح فقرأ فيها ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل و لإيلاف قريش ثم رأى الناس يذهبون مذاهب فقال أين يذهب هؤلاء فقيل يا أمير المؤمنين مسجد صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فهم يصلون فيه فقال إنما أهلك من كان قبلكم بمثل هذا كانوا يتتبعون آثار أنبيائهم ويتخذونها كنائس وبيعا فمن أدركته الصلاة في هذه المساجد فليصل ومن لا فليمض ولا يتعمدها وفي مغازي بن اسحق من زيادات يونس بن بكير عن أبي خلدة خالد بن دينار حدثنا أبو العالية قال لما فتحنا تستر وجدنا في بيت مال الهرمزان سريرا عليه رجل ميت عند رأسه مصحف فأخذنا المصحف فحملناه إلى عمر فدعا له ركعبا فنسخه بالعربية فأنا أول رجل قرأه من العرب قرأته مثل ما أقرأ القرآن فقلت لأبي العالية ما كان فيه قال سيرتكم وأموركم ولحون كلامكم وما هو كائن بعد قلت فما صنعتم بالرجل قال حضرنا له بالنهار ثلاثة عشرة قبرا متفرقة فلما كان بالليل دفناه وسوينا القبور كلها لنعمينه على الناس لا ينبشونه قلت وما يرجون منه قال كانت السماء إذا حبست عنهم برزوا بسريره فيمطرون فقلت من كنتم تظنون الرجل قال رجل يقال له دانيال فقلت منذ كم وجدتموه مات قال منذ ثلاث مائة سنة قلت ما كان تغير منه شيء قال لا إلا شعيرات من قفاه إن لحوم الأنبياء لا تبليها الأرض قال ابن القيم رحمه الله تعالى ففي هذه القصة ما فعله المهاجرون والأنصار من تعمية قبره

297

لئلا يفتتن به ولم يبرزوه للدعاء عنده والتبرك به ولو ظفر به المتأخرون لجالدوا عليه بالسيوف ولعبدوه من دون الله قال شيخ الإسلام رحمه الله وهو إنكار منهم لذلك فمن قصد بقعة يرجو الخير بقصدها ولم يستحب الشارع قصدها فهو من المنكرات وبعضه أشد من بعض سواء قصدها ليصلي عندها أو ليدعو عندها أو ليقرأ عندها أو ليذكر الله عندها أو ليسك عندها بحيث يخص تلك البقعة بنوع من العبادة التى لم يشرع تخصيصها به لا نوعا ولا عينا لأن ذلك قد يجوز بحكم الاتفاق لا لقصد الدعاء فيها من يدعو الله في طريقه ويتفق أن يمر في طريقه بالقبور أو كمن يزورها ويسلم عليها ويسأل العافية له وللموتى كما جاءت به السنة فإن ذلك ونحوه لا بأس به وأما تحري الدعاء عندها بحيث يستشعر أن الدعاء هناك أجوب منه في غيره فهذا هو المنهي عنه والفرق بين النوعين ظاهر فإن الرجل لو كان يدعو الله واجتاز في ممره بصنم أو صليب أو كنيسة أو دخل إليها ليبيت فيها مبيتا جائزا ودعا الله في الليل أو أتى بعض أصدقائه ودعا الله في بيته لم يكن بهذا بأس ولو تحرى الدعاء عند هذه المواضع لكان من العظائم بل قد يكون كفرا قوله اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد هذه الجملة بعد الأولى تنبيه على سبب لحوق اللعن بهم وهو توسلهم بذلك إلى أن تصير أوثانا تعبد ففيه إشارة إلى ما ترجم له المصنف وفيه تحريم البناء على القبور وتحريم الصلاة عندها وقد روى أصحاب مالك عنه أنه كره أن يقول القائل زرت قبر النبي صلى الله عليه وسلم وعلل وجه الكراهة بقوله اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد فكره إضافة هذا اللفظ إلى القبر لئلا يقع التشبه بفعل أولئك سدا للذريعة وحسما للباب ذكره الطبري وفيه أنه صلى الله عليه وسلم لم يستعذ إلا مما

298

يخاف وقوعه ذكره المصنف قال ولأبن جرير بسنده عن سفيان عن منصور عن مجاهد أفرأيتم اللات والعزى قال كان يلت لهم السويق فمات فعكفوا على قبره وكذا قال أبو الجوزاء عن ابن عباس كان يلت السويق للحاج ش قوله ولابن جرير هو الإمام الحافظ محمد بن جرير بن يزيد الطبري صاحب التفسير والتاريخ وغيرهما قال ابن خزيمة لا اعلم على الأرض أعلم من محمد بن جرير وكان من الأئمة المجتهدين لا يقلد أحدا وله أصحاب يتفقهون على مذهبه ولد سنة اربع وعشرين ومائتين ومات ليومين بقيا من شوال سنة عشر وثلاثمائة قوله عن سفيان هو أحد السفيانيين إما ابن عيينة وإما الثوري فإن كان ابن عيينة فقد تقدمت ترجمته وإن كان الثوري وهو الأظهر فهو سفيان بن سعيد بن مسروق أبو عبدالله الكوفي ثقة حافظ فقيه إمام حجة عابد وكان مجتهدا له أتباع وأصحاب يتفقهون على مذهبه مات سنة إحدى وستين ومائة وله أربع وستون سنة قوله عن منصور هو ابن المعتمر بن عبد الله السلمي أو عتاب بمثناة ثقيلة ثم موحدة الكوفي ثقة ثبت فقيه مات سنة اثنتين وثلاثين ومائة قوله عن مجاهد هو ابن جبر بالجيم والموحدة أبو الحجاج المخزومي مولاهم المكي ثقة إمام في التفسير والعلم أخذ التفسير عن ابن عباس وغيره مات سنة أربع ومائة قاله يحيى القطان وقال ابن حبان مات سنة اثنتين أو ثلاث ومائة وهو ساجد وكان مولده سنة إحدى وعشرين في خلافة عمر رضي الله عنه

299

قوله كان يلت لهم السويق فمات فعكفوا على قبره لت السويق هو خلطه بسمن ونحوه وقد قيل إن اسم الرجل صرمة بن غنم وعن ابن عباس كان يلت السويق على الحجر فلا يشرب منه أحد إلا سمن فعبدوه رواه ابن أبي حاتم وعن مجاهد كان اللات رجلا في الجاهلية وكان له غنم فكان يسلو من رسلها ويأخذ من زبيب الطائف والاقط فيجعل منه حيسا ويطعم من يمر من الناس فلما مات عبدوه وقالوا هو اللات وكان يقرأ اللات مشددة رواه سعيد بن منصور والفاكهي قوله وكذا قال أبو الجوزاء إلى آخره هو أوس بن عبدالله الربعي بفتح الراء والباء ثقة مشهور مات سنة ثلاث وثمانين وهذا الاثر ذكره المصنف ولم يعزه وقد رواه البخاري ولا تخالف بين هذا التفسير والقراءة وبين قراءة من قرأ بالتخفيف وقال إنه كان حجر فعبدوه واشتقوا له من اسم الله الإله كما تقدم تقريره في باب من تبرك بشجرة وأيضا فيجاب على الأول بأن أصله التشديد وخفف لكثرة الاستعمال وأما كونهم اشتقوا هذا الاسم من اسم الله الاله فلا ينافي ذلك أيضا فقد رأيت أن سبب عبادة اللات هو الغلو في قبره حتى صار وثنا يعبد كما كان ذلك هو السبب في عبادة الصالحين ود وسواع ويغوث ويعوق نسر وغيرهم وكما كان ذلك هو السبب في عبادة الصالحين من الأموات وغيرهم اليوم فإنهم غلوا فيهم وبنوا على قبورهم القباب والمشاهد وجعلوها ملاذا لقضاء المآرب وبالجملة فالغلو أصل الشرك في الأولين والأخرين إلى يوم القيامة وقد أمرنا الله تعالى بمحبة أوليائه وإنزالهم منازلهم من العبودية وسلب خصائص الإلهية عنهم وهذا غاية تعظيمهم وطاعتهم ونهانا عن الغلو فيهم

300

فلا نرفعهم فوق منزلتهم ولا نحطهم منها لما يعلمه تعالى في ذلك من الفساد العظيم فما وقع الشرك إلا بسبب الغلو فيهم فإن الشرك بهم غلو فيهم وأنزلوهم منازل الالهية وعصوا أمرهم وتنقصوهم في صورة التعظيم لهم فتجد أكثر هؤلاء الغالين فيهم العاكفين على قبورهم معرضين عن طريقة من فيها وهديه وسنته عائبين لها مشتغلين بقبورهم عما أمروا به ودعوا إليه وتعظيم الانبياء والصالحين ومحبتهم إنما هي باتباع ما دعوا اليه من العلم النافع والعمل الصالح واقتفاء آثارهم وسلوك طريقتهم دون عبادتهم وعبادة قبورهم والعكوف عليها كالذين يعكفون على الاصنام واتخاذها أعيادا ومجامع للزيارات والفواحش وترك الصلوات فإن من اقتفى آثارهم كان متسببا في تكثير أجورهم باتباعه لهم ودعوته الناس إلى اتباعهم فإذا أعرض عما دعوا إليه واشتغل بضده حرم نفسه وحرمهم ذلك الأجر فأي تعظيم لهم واحترام في هذا قال وعن ابن عباس قال لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج رواه أهل السنن ش قوله لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور أي من النساء وهذا يدل على تحريم زيارة القبور عليهن كما هو مذهب أحمد وطائفة وقيل في تعليل ذلك أنه يخرجها إلى الجزع والندب والنياحة والافتتان بها وبصورتها وتأذي الميت ببكائها كما في حديث آخر فإنكن تفتن الحي وتؤذن الميت وإذا كان زيارة النساء مظنة وسببا للأمور المحرمة في حقهن وحق الرجال وتقدير ذلك غير مضبوط لأنه لا يمكن حد المقدار الذي لا يفضي إلى ذلك ولا التمييز بين نوع ونوع ومن أصول الشريعة أن الحكمة إذا كانت خفية أو منتشرة علق الحكم

301

بمظنتها فتحرم سدا للذريعة كما حرم النظر إلى الزينة الباطنة لما في ذلك من الفتنة وكما حرمت الخلوة بالأجنبية وليس في زيارتها من المصلحة ما يعارض هذه المفسدة لأنه ليس في زيارتها إلا دعواها للميت أو اعتبارها به وذلك ممكن في بيتها وقد روى الامام أحمد وابن ماجة والحاكم عن حسان بن ثابت مرفوعا لعن الله زوارات القبور وعن أبي هريرة أن رسول الله صلىالله عليه وسلم لعن زوارات القبور رواه أحمد وابن ماجه والترمذي وصححه وضعفه عبدالحق وحسنة ابن القطان ولا يعارض هذا حديث كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها رواه مسلم وغيره لأن هذا إن سلم دخول النساء فيه فهو عام والأول خاص والخاص مقدم عليه وأيضا ففي دخول النساء في خطاب الذكور خلاف عندالأصوليين قوله والمتخذين عليها المساجد تقدم في الباب قبله شرحه وتعليله قوله والسرج هذا دليل على تحريم اتخاذ السرج على القبور قال أبو محمد المقدسي لو أبيح اتخاذ السرج عليها لم يلعن من فعله لأن فيه تضييعا للمال في غير فائدة وإفراطا في تعظيم القبور أشبه تعظيم الأصنام وقال ابن القيم اتخاذها مساجد وايقاد السرج عليها من الكبائر ووجه إيراد المصنف هذا الحديث في هذا الباب دون الذي قبله هو أنه لعن المتخذين عليها المساجد والسرج وقرن بينهما فهما قرينان في اللعنة فدل ذلك على أنه ليس المنع من اتخاذ المساجد عليها لأجل النجاسة بل لأجل نجاسة الشرك ولذلك قرن بينه وبين من لا سراج عليها وليس النهي عن الاسراج لأجل النجاسة فكذلك البناء

302

قوله رواه أهل السنن يعني هنا أبا داود وابن ماجه والترمذي فقط ولم يروه النسائي باب ما جاء في حماية المصطفى صلى الله عليه وسلم جناب التوحيد وسده كل طريق يوصل إلى الشرك الجناب هو الجانب واعلم أن في الأبواب المتقدمة شيئا من حمايته صلى الله عليه وسلم لجناب التوحيد ولكن أراد المصنف هنا بيان حمايته الخاصة ولقد بالغ صلى الله عليه وسلم وحذر وأنذر وأبدأ وأعاد وخص وعم في حماية الحنيفية السمحة التي بعثه الله بها فهي حنيفية في التوحيد سمحة في العمل كما قال بعض العلماء هي أشد الشرائع في التوحيد والابعاد عن الشرك وأسمح الشرائع في العمل قال وقوله تعالى لقد جاءكم رسول من أنفسكم الآية ش قوله لقد جاءكم رسول هذا خطاب من الله تعالى للعرب في قول الجمهور وهذا على جهة تعديده نعمه عليهم إذ جاءهم بلسانهم وبما يفهمونه من الأغراض والفصاحة وشرفوا به أبد الآبدين وقوله رسول أي رسول عظيم أرسله الله اليكم من أنفسكم أي ترجعون معه إلى نفس واحدة لأنه وأنتم من أب قريب كما قال تعالى عن ابراهيم عليه السلام أنه قال ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم

303

آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم وذلك أقرب وأسرع إلى فهم الحجة وأبعد من المحك واللجاجة وهذا يقتضي مدحا لنسب النبي صلى الله عليه وسلم وأنه من صميم العرب قال جعفر بن محمد في قوله من أنفسكم قال لم يصبه شيء من ولادة الجاهلية وقوله عزيز عليه أي شديد عليه جدا ما عنتم أي عنتكم وهو لحاق الأذى الذي يضيق به الصدر ولا يهتدي للمخرج وهي هنا لفظ عام أي ما شق عليكم من كفر وضلال وقتل وأسر وامتحان بسبب الحق و ما مصدرية وهي مبتدأ و عزيز خبر مقدم ويجوز أن يكون ما عنتم فاعلا به عزيز و عزيز صفة للرسول وهذا أصوب وقوله حريص عليكم أي بليغ الحرص عليكم أي على نفعكم وإيمانكم وهداكم والحرص شدة طلب الشيء على الاجتهاد فيه وروى الطبراني باسناد جيد عن أبي ذر رضي الله عنه قال تركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما طائر يقلب جناحيه في الهوى إلا وهو يذكر لنا منه علما قال وقال ما بقي شيء يقرب من الجنة ويباعد من النار إلا وقد بينته لكم وروى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثلي كمثل رجل استوقد نارا فلما أضاءت ما حولها جعل الفراش وهذه الدواب التي في النار يقعن فيها وجعل يحجزهن ويغلبنه فيتقحمن فيها قال فذلك مثلي ومثلكم أنا آخذ بحجزكم عن النار هلم عن النار هلم عن النار فتغلبونني وتقحمون فيها

304

وقوله بالمؤمنين أي لا بغيرهم كما يفيده تقديم الجار رؤوف أي بليغ الشفقة قال أبو عبيدة الرأفة أرق الرحمة رحيم أي بليغ الرحمة كما هو اللائق بشريف منصبه وعظيم خلقه فتأمل هذه الآية وما فيها من أوصافه الكريمة ومحاسنه الجمة التي تقتضي أن ينصح لأمته ويبلغ البلاغ المبين ويسد الطرق الموصلة إلى الشرك ويحمي جناب التوحيد غاية الحماية ويبالغ أشد المبالغة في ذلك لئلا تقع الأمة في الشرك وأعظم ذلك الفتنة بالقبور فإن الغلو فيها هو الذي جر الناس في قديم الزمان وحديثه إلى الشرك لاجرم فعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك وحمى جناب التوحيد حتى في قبره الذي هو أشرف القبور حتى نهى عن جعله عيدا ودعا الله أن لا يجعله وثنا يعبد وفي الآية مسائل منها التنبيه على هذه النعمةالعظيمة وهي إرسال الرسول صلى الله عليه وسلم فينا كما قال تعالى لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين ومنها كونه منا نعمة أخرى عظيمة ومنها كونه بهذه الصفات نعم متعددة ومنها مدح نسبه صلى الله عليه وسلم فهو أشرف العرب بيتا ونسبا ومنها رأفته بالمؤمنين ومنها غلظته على الكفار والمنافقين قال عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تجعلوا بيوتكم قبورا ولا تجعلوا قبري عيدا وصلوا علي فان صلاتكم تبلغني حيث كنتم رواه أبو داود بإسناد حسن رواته ثقات ش قوله لا تجعلوا بيوتكم قبورا قال شيخ الإسلام نور الله ضريحه أي لاتعطلوها من الصلاة فيها والدعاء والقراءة فتكون بمنزلة القبور فأمر بتحري العبادة في البيوت ونهى عن تحريها عند القبور عكس ما يفعله

305

المشركون من النصارى ومن تشبه بهم وفي الصحيحين عن ابن عمر مرفوعا اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم ولا تتخذوها قبورا وفي صحيح مسلم عن ابن عمر مرفوعا لا تجعلوا بيوتكم مقابر فإن الشيطان يفر من البيت الذي يسمع سورة البقرة تقرأ فيه وفيه أن الصلاة في المقبرة لا تجوز وأن التطوع في البيت أفضل منه في المسجد وفي حديث أبي هريرة الذي ذكرنا كراهة القراءة في المقابر وكل هذا إبعاد لأمته عن الشرك قوله ولا تجعلوا قبري عيدا قال شيخ الإسلام العيد اسم لما يعود من الاجتماع العام على وجه معتاد عائدا إما بعود السنة أو بعود الأسبوع أو الشهر ونحو ذلك وتقدم ذلك وقال ابن القيم رحمه الله تعالى العيد ما يعتاد مجيئه وقصده من زمان ومكان مأخوذ من المعاودة والاعتياد فإن كان اسما للمكان فهو المكان الذي يقصد فيه الاجتماع وانتيابه للعبادة أو لغيرها كما أن المسجد الحرام ومنى ومزدلفة وعرفة والمشاعر جعلها الله عيدا للحنفاء ومثابة كما جعل أيام العيد فيها عيدا وكان للمشركين أعياد زمانية ومكانية فلما جاء الله بالاسلام أبطلها وعرض الحنفاء منها عيد الفطر وعيد النحر وأيام منى كما عوضهم عن أعياد المشركين المكانية بالكعبة ومنى ومزدلفة وعرفة والمشاعر وقال غيره هذا أمر بملازمة قبره والعكوف عنده واعتياد قصده وانتيابه ونهى أن يجعل كالعيد الذي إنما يكون في العام مرة أو مرتين فكأنه قال لا تجعلوه كالعيد الذي يكون من الحول إلى الحول واقصدوه كل ساعة وكل وقت قال ابن القيم رحمه الله وهذا مراغمة ومحادة ومناقضة لما قصده الرسول صلى الله عليه وسلم

306

وقلب للحقائق ونسبه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى التلبيس والتدليس بعدالتناقض فقاتل الله أهل الباطل أنى يؤفكون ولا ريب أن من أمر الناس باعتياد أمر وملازمته وكثرة انتيابه بقوله لا تجعلوا عيدا فهو إلى التلبيس وضد البيان أقرب منه إلى الدلالة والبيان وهكذا غيرت أديان الرسل ولولا أن الله أقام لدينه الأنصار والأعوان الذابين عنه لجرى عليه ما جرى على الأديان قبله ولو أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قاله هؤلاء الضلال لم ينه عن اتخاذ قبور الأنبياء مساجد ويلعن فاعل ذلك فإنه إذا لعن من اتخذها مساجد يعبد الله فيها فكيف يأمر بملازمتها والعكوف عندها وأن يعتاد قصدها وانتيابها ولا تجعل كالعيد الذي يجيء من الحول إلى الحول وكيف يسال ربه أن لا يجعل قبره وثنا يعبد وكيف يقول أعلم الخلق بذلك ولولا ذلك لأبرز قبره ولكن خشي أن يتخذ مسجدا وكيف يقول لا تجعلوا قبري عيدا وصلوا علي حيثما كنتم وكيف لم يفهم أصحابه وأهل بيته من ذلك ما فهمه هؤلاء الضلال الذين جمعوا بين الشرك والتحريف وهذا أفضل التابعين من أهل بيته علي بن الحسين رضي الله عنهما نهى ذلك الرجل ان يتحرى الدعاء عند قبره صلى الله عليه وسلم واستدل بالحديث وهو الذي رواه وسمعه من أبيه الحسين عن جده علي رضي الله عنهما هوأعلم بمعناه من هؤلاء الضلال وكذلك ابن عمه الحسن بن الحسن شيخ أهل بيته كره أن يقصد الرجل القبر إذا لم يكن يريد المسجد ورأى أن ذلك من اتخاذه عيدا انتهى قلت وكيف يريد النبي صلى الله عليه وسلم هذا المعنى ويعبر عنه بهذا الكلام مع أنه أفصح الخلق وأنصحهم وكان يمكنه أن يقول أكثروا زيارة قبري أو اجعلوه عيدا تعتادون المجيء إليه والعبادة عنده فظهر بطلان هذا القول اذا تبين ذلك فمعنى الحديث نهيه عن زيارة قبره على وجه مخصوص

307

واجتماع معهود كالعيد الذي يكون على وجه مخصوص في زمان مخصوص وذلك يدل على المنع في جميع القبور وغيرها لأن قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل قبر على وجه الأرض وقد نهى عن اتخاذه عيدا فقبر غيره أولى بالنهي كائنا من كان قال المصنف وفيه النهي عن الاكثار من الزيارة قوله وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم قال شيخ الإسلام يشير بذلك إلى أن ما ينالني منكم من الصلاة والسلام يحصل مع قربكم من قبري وبعدكم فلا حاجة بكم إلى اتخاذه عيدا انتهى وقد روى أبو داود عن أبي هريرة مرفوعا ما من احد يسلم علي الا رد الله على روحي حتى أرد عليه السلام وعن أوس بن أوس مرفوعا أكثروا من الصلاة علي يوم الجمعة وليلة الجمعة فإن صلاتكم معروضة علي قالوا يا رسول الله كيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت قال إن الله حرم على الأرض أن تأكل لحوم الأنبياء رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه فهذه الأحاديث وغيرها تدل على أن صلاتنا عليه تبلغه سواء كنا عند قبره أو لم نكن فلا مزية لمن سلم عليه أو صلى عند قبره كما قال الحسن بن الحسن ما أنتم ومن بالأندلس الاسواء وأما حديث من صلى علي عند قبري سمعته ومن صلى علي غائبا بلغته فرواه البيهقي وغيره من حديث العلى بن عمرو الحنفي حدثنا أبو عبدالرحمن عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره قال البيهقي أبو عبدالرحمن هذا هو محمد بن مروان السدي فيما أرى وفيه نظر قلت محمد بن مروان السدي الصغير قال فيه يحيى بن معين ليس بثقة وقال الجوزجاني ذاهب الحديث وقال النسائي متروك الحديث وكذلك قال أبو حاتم الرازي والازدي وقال صالح بن محمد كان يضع الحديث على أن معناه صحيح معلوم من أحاديث أخر كاخباره بسماع الموتى لسلام من يسلم عليهم اذا

308

مر على قبورهم فان قيل اذا سمع سلام المسلم عليه عند قبره حصلت المزية بسماعه قيل هذا لو حصل الوصول الى قبره أما وقد منع الناس من الوصول إليه بثلاثة الجدران فلا تحصل مزية فسواء سلم عليه عند قبره أو في مسجده اذا دخله أو في أقصى المشرق والمغرب فالكل يبلغه كما وردت به الأحاديث وليس في شيء منها أنه يسمع صوت المصلي والمسلم بنفسه إنما فيها أن ذلك يعرض عليه ويبلغه صلى الله عليه وسلم ومعلوم أنه أراد بذلك الصلاة والسلام الذي أمر الله به سواء صلى عليه في مسجده أو في مدينته أو في مكان آخر فعلم أن ما أمر الله به من ذلك فإنه يبلغه وأما من سلم عليه عند قبره فانه يرد عليه وذلك كالسلام على سائر المؤمنين ليس هو من خصائصه ولكن لا يوصل إلى قبره صلى الله عليه وسلم قال وعن على بن الحسين أنه رأى رجلا يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيدخل فيها فيدعو فنهاه وقال ألا أحدثكم حديثا سمعته من أبي عن جدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا تتخذوا قبري عيدا ولا بيوتكم قبورا فإن تسليمكم يبلغني أين كنتم رواه في المختارة ش هذان الحديثان جيدان حسنا الاسنادين أما الحديث الأول فرواه أبو داود وغيره من حديث عبا الله بن نافع الصائغ قال أخبرني ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن أبي هريرة فذكره ورواته ثقات مشاهير لكن عبدالله بن نافع فيه لين لا يمنع الاحتجاج به قال ابن معين هو ثقه وقال أبو زرعة لا بأس به وقال أبو حاتم الرازي ليس بالحافظ تعرف وتنكر قال شيخ الإسلام رحمه الله ومثال هذا قد يخاف أن يغلط أحيانا فاذا كان لحديثه شواهد علم أنه محفوظ وهذا له شواهد متعددة وقال الحافظ ابن عبدالهادي

309

هو حديث حسن جيد الإسناد وله شواهد كثيرة يرتقى بها إلى درجة الصحة وأما الحديث الثاني فرواه أبو يعلى والقاضي اسماعيل والحافظ الضياء في المختارة قال أبو يعلى حدثنا أبو بكر ابن أبي شيبة ثنا زيد بن الحباب ثنا جعفر ابن ابراهيم من ولد ذي الجناحين ثنا علي بن عمر عن أبيه عن علي بن حسين فذكره وعلي بن عمر هو علي بن عمر بن علي بن الحسين قال شيخ الإسلام فانظر كيف هذه السنة كيف مخرجها من أهل المدينة وأهل البيت الذين لهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم قرب النسب وقرب الدار لأنهم الى ذلك أحوج من غيرهم فكانوا أضبط قلت وللحديثين شواهد منها ما رواه ابن أبي شيبة حدثنا أبو خالد الأحمر عن ابن عجلان عن سهيل عن جبير بن حنين قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تتخذوا قبري عيدا ولا بيوتكم قبورا وصلوا علي حيث ما كنتم فإن صلاتكم تبلغني وقال سعيد بن منصور حدثنا عبدالعزيز ابن محمد أخبرني سهيل بن أبي سهيل قال أتى الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عند القبر فناداني وهو في بيت فاطمة يتعشى فقال هلم إلى العشاء فقلت لا أريده فقال ما لي رأيتك عند القبر فقلت سلمت على النبي صلى الله عليه وسلم فقال اذا دخلت المسجد فسلم ثم قال إن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لاتتخذوا قبري عيدا ولا تتخذوا بيوتكم مقابر وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث ما كنتم لعن الله اليهود اتخذوا قبور انبيائهم مساجد ما أنتم ومن بالأندلس الا سواء ورواه القاضي اسماعيل في كتاب فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ولم يذكر ما أنتم ومن بالأندلس إلا سواء وقال سعيد أيضا حدثنا حبان ابن علي ثنا محمد بن عجلان عن أبي سعيد مولى المهري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تتخذوا قبري عيدا ولا بيوتكم قبورا وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني قال شيخ الإسلام فهذان المرسلان من هذين الوجهين المختلفين يدلان على

310

ثبوت الحديث لا سيما وقد احتج به من أرسله وذلك يقتضي ثبوته عنده هذا لو لم يرو من وجوه مسنده غير هذين فكيف وقد تقدم مستدا قوله عن علي بن الحسين أي ابن علي بن أبي طالب المعروف بزين العابدين رضي الله عنه وهو أفضل التابعين من أهل بيته وأعلمهم قال الزهري ما رأيت قرشيا أفضل منه مات سنة ثلاث وتسعين على الصحيح وأبوه الحسين سبط النبي صلى الله عليه وسلم وريحانته حفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم واستشهد يوم عاشوراء سنة إحدى وستين وله ست وخمسون سنة قوله انه رأى رجلا يجيء إلى فرجة هو بضم الفاء وسكون الراء واحدة الفرج وهي الكوة في الجدار والخوخة ونحوهما قوله فيدخل فيها فيدعو فنهاه إلى آخر الحديث هذا يدل على النهي عن قصد القبور والمشاهد لأجل الدعاء والصلاة عندها كما تقدم بعض ذلك لأن ذلك من اتخاذها عيدا كما فهمه علي بن الحسين من الحديث فنهى ذلك الرجل عن المجيء إلى قبر النبي صلى الله علعه وسلم للدعاء عنده فكيف بقبر غيره ويدل أيضا على أن قصد الرجل القبر لأجل السلام إذا لم يكن يريد المسجد من اتخاذه عيدا المنهي عنه ولهذا لما رأى الحسن بن الحسن سهيلا عند القبر نهاه عن ذلك وذكر له الحديث مستدلا به وأمر بالسلام عليه عند دخول المسجد قال شيخ الإسلام ما علمت أحدا أي من علماء السلف رخص فيه لأن ذلك نوع من اتخاذه عيدا ويدل أيضا على أن قصد القبر للسلام إذا دخل المسجد ليصلي منهي عنه لأن ذلك من اتخاذه عيدا وكره مالك لأهل المدينة كلما دخل انسان المسجد أن يأتي قبر النبي صلى الله عليه وسلم لأن السلف لم يكونوا يفعلون ذلك قال ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها بل كان الصحابة والتابعون يأتون إلى مسجده صلى الله عليه وسلم فيصلون خلف أبي بكر وعمر وعثمان وعلي

311

رضي الله عنهم ثم إذا قضوا الصلاة قعدوا أو خرجوا ولم يكونوا يأتون القبر للسلام لعلمهم أن الصلاة والسلام عليه في الصلاة أكمل وأفضل وأما دخولهم عند قبره للصلاة والسلام عليه هناك أو للصلاة والدعاء فلم يشرعه لهم بل نهاهم بقوله لا تتخذوا قبري عيدا وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني فبين أن الصلاة تصل اليه من بعد وكذلك السلام ولعن من اتخذ قبور الأنبياء مساجد وكانت الحجرة في زمانهم يدخل اليها من الباب إذ كانت عائشة فيها وبعد ذلك إلى أن بني الحائط الآخر وهم مع ذلك التمكن من الوصول إلى قبره لا يدخلون اليه لا لسلام ولا لصلاة ولا لدعاء لأنفسهم ولا لغيرهم ولا لسؤال عن حديث أو علم ولا كان الشيطان يطمع فيهم حتى يسمهم كلاما او سلاما فيظنون أنه هو كلمهم وأفتاهم وبين لهم الأحاديث أو أنه قد رد عليهم السلام بصوت يسمع من خارج كما طمع الشيطان في غيرهم فأضلهم عن قبره وقبر غيره حتى ظنوا أن صاحب القبر يأمرهم وينهاهم ويفتيهم ويحدثهم في الظاهر وأنه يخرج من القبر ويرونه خارجا من القبر ويظنون أن نفس أبدان الموتى خرجت تكلمهم وأن روح الميت تجسدت لهم فرأوها كما رآهم النبي صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج والمقصود أن الصحابة ما كانوا يعتادون الصلاة والسلام عليه عند قبره كما يفعله من بعدهم من الخلوف وإنما كان بعضهم يأتي من خارج فيسلم عليه إذا قدم من سفر كما كان ابن عمر رضي الله عنه يفعل قال عبيد الله بن عمر عن نافع كان ابن عمر إذا قدم من سفر أتى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال السلام عليك يا رسول الله السلام عليك يا أبا بكر السلام عليك يا أبتاه ثم ينصرف قال عبيد الله ما نعلم أحدا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك إلا ابن عمر وهذا يدل على أنه لا يقف عند القبر للدعاء إذا سلم كما يفعله كثير قال شيخ الإسلام إن ذلك لم ينقل عن أحد من الصحابة فكان بدعة محضة وفي

312

المبسوط قال مالك لا أرى أن يقف عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم ولكن ليسلم ويمضي والحكاية التي رواها القاضي عياض بإسناده عن مالك في قصته مع المنصور وأنه قال لمالك يا أبا عبدالله استقبل القبلة وأدعو أم استقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ولم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم إلى الله يوم القيامة بل استقبله واستشفع به يشفعه الله فيك فهذه الرواية ضعيفة أو موضوعة لأن في إسنادها من يتهم محمد بن حميد ومن تجهل حاله ونص أحمد أنه يستقبل القبلة ويجعل الحجرة عن يساره لئلا يستدبره وذلك بعد تحيته والسلام عليه فظاهر هذا أنه يقف للدعاء بعد السلام وذكر أصحاب مالك أنه يدعو مستقبلا القبلة يوليه ظهره وبالجملة فقد اتفق الأئمة على أنه إذا دعا لا يستقبل القبر وتنازعوا هل يستقبله عند السلام عليه أم لا ومن الحجة في ذلك ما روى ابن زبالة وهو في أخبار المدينة عن عمر بن هارون عن سلمة بن وردان وهما ساقطان قال رأيت أنس بن مالك يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم ثم يسند ظهره إلى جدار القبر ثم يدعو وفي الحديث دليل على منع شد الرحال إلى قبره صلى الله عليه وسلم وإلى غيره من القبور والمشاهد لأن ذلك من اتخاذها أعيادا بل من أعظم الأسباب الإشراك بأصحابها كما وقع من عباد القبور الذين يشدون اليها الرحال وينفقون في ذلك الكثير من الأموال وليس لهم مقصود إلا مجرد الزيارة للقبور تبركا بتلك القباب والجدران فوقعوا في الشرك هذه المسألة التي أفتى فيها شيخ الإسلام اعني من سافر لمجرد زيارة قبور الأنبياء والصالحين ومشاهدهم ونقل فيها اختلاف العلماء في الإباحة والمنع فمن مبيح لذلك كأبي حامد الغزالي وأبي محمد المقدسي ومن مانع لذلك كابن بطة وابن عقيل وأبي محمد الجويني والقاضي عياض وهو قول الجمهور نص عليه مالك ولم يخالفه أحد من الأئمة وهو الصواب فقام عليه بعض المعاصرين له كالسبكي ونحوه فنسبه

313

إلى إنكار الزيارة مطلقا وهو لم ينكر منها إلا ما كان بشد رحل كما أنكره جمهور العلماء قبله أوالزيارة التي يكون فيها دعاء الأموات والإستغاثة بهم في الملمات مع ما ينضم إلى ذلك من أنواع المنكرات ومما يدل على النهي عن شد الرحال إلى القبور ونحوها ما أخرجاه في الصحيحين عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى فدخل في ذلك شدها لزيارة القبور والمشاهد فإما أن يكون نهيا وإما أن يكون نفيا للإستحباب وقد جاء في رواية في الصحيح بصيغة النهي صريحا فتعين أن يكون للنهي ولهذا فهم منه الصحابة المنع كما في الموطأ والسنن عن بصرة بن أبي بصرة الغفاري أنه قال لأبي هريرة وقد أقبل من الطور لو أدمتك قبل أن تخرج اليه لما خرجت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى وروى الإمام أحمد وعمر بن شبة في أخبار المدينة بإسناد جيد عن قزعة قال اتيت ابن عمر فقلت إني أريد الطور فقال إنما تشد الرحال إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام ومسجد المدينة والمسجد الأقصى فدع عنك الطور فلا تأته وروى أحمد وعمر بن شبة أيضا عن شهر بن حوشب قال سمعت أبا سعيد وذكر عنده الصلاة في الطور فقال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينبغي للمطي أن تشد رحالها الى مسجد يبتغى فيه الصلاة غير المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى فأبو سعيد جعل الطور مما نهى عن شد الرحال إليه مع أن اللفظ الذي ذكره إنما فيه النهي عن شدها إلى المساجد فدل على أنه علم أن غير المساجد أولى بالنهي والطور إنما يسافر من يسافر اليه لفضيلة البقعة وأن الله تعالى سماه الوادي المقدس

314

والبقعة المباركة وكلم الله موسى هناك وهذا ظاهر لا يخفى على أحد ممن يقول بفحوى الخطاب وتنبيهه وهم الجمهور الأئمة الأربعة وأتباعهم ولهذا لم يوجبوا على من نذر ان يسافر إلى أثر نبي من الأنبياء قبورهم أو غير قبورهم الوفاء بذلك بل لو سافر إلى مسجد قباء من بلد بعيد لم يكن هذا مشروعا باتفاق الأئمة الأربعة مع أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأتيه كل سبت راكبا وماشيا وإن كان في وجوب الوفاء بنذر إتيانه خلاف والجمهور على أنه لا يجب وقد صرح مالك وغيره بأن من نذر السفر إلى المدينة النبوية إن كان مقصوده الصلاة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم أوفي بنذره وإن كان مقصوده مجرد زيارة القبر من غير صلاة في المسجد لم يف بنذره قال لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد ذكره إسماعيل ابن اسحق في المبسوط ومعناه في المدونة والجلاب وغيرهما من كتب أصحاب مالك وبالجملة فقد تنازع العلماء في جواز شد الرحال إلى غير المساجد الثلاثة فالجمهور على المنع وطائفة من المتأخرين على الجواز فاستحباب شد الرحال إلى القبور والمشاهد والتقرب به إلى الله كما ظنه السبكي وغيره قول مبتدع مخالف للإجماع قبله والأحاديث التي احتج بها كحديث من زارني بعد وفاتي فكأنما زارني في حياتي ونحوها لا يصح منها شيء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من أصحابه البتة بل هي ما بين ضعيف وموضوع أو كلها موضوعة كما قد بين عللها شيخ الإسلام وغيره وكثير منها لا يدل على محل النزاع إذ ليس فيه إلا مطلق الزيارة وذلك لا ينكره شيخ الاسلام ولا غيره من العلماء لأنه محمول على الزيارة الشرعية الجارية على وفق مراد النبي صلى الله عليه وسلم وهي التي لا يكون فيها شرك ولا شد رحل إلى قبر وبتقدير ثبوتها لا تدل على شد الرحال إلى قبر غيره والسبكي أجاز ذلك

315

في سائر القبور فخالف الأحاديث وخرق الإجماع والله أعلم قال المصنف وفيه أنه صلى الله عليه وسلم في البرزخ تعرض عليه أعمال أمته في الصلاة والسلام قوله رواه في المختارة المختارة كتاب جمع فيه مؤلفه الأحاديث الجياد الزائدة على الصحيحين ومؤلفه هو أبو عبدالله محمد بن عبدالواحد المقدسي الحافظ ضياء الدين الحنبلي أحد الأعلام وحفاظ الحديث قال الذهبي أفنى عمره في هذا الشأن مع الدين المتين والورع والفضيلة التامة والثقة والإتقان انتفع الناس بتصانيفه والمحدثون بكتبه فالله يرحمه ويرضى عنه وقال شيخ الإسلام تصحيحه في مختارته خير من تصحيح الحاكم بلا ريب مات سنة ثلاث واربعين وستمائة باب ما جاء أن بعض هذه الأمة يعبد الأوثان ش أراد المصنف بهذه الترجمة الرد على عباد القبور الذين يفعلون الشرك ويقولون أنه لا يقع في هذه الأمة المحمدية وهم يقولون لا إله إلا الله محمد رسول الله فبين في هذا الباب من كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم ما يدل على تنوع الشرك في هذه الأمة ورجوع كثير منها إلى عبادة الأوثان وإن كانت طائفة منها لا تزال على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله تبارك وتعالى قال وقوله تعالى ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب

316

يؤمنون بالجبت والطاغوت ش يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا أي أعطوا نصيبا أي خطا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت روى الإمام أحمد عن ابن عباس قال لما قدم كعب بن الأشرف مكة قالت قريش ألا ترى إلى هذا الصنبر المنتبر من قومه يزعم أنه خير منا ونحن أهل الحجيج وأهل السدنة وأهل السقاية قال أنتم خير قال فنزلت فيهم إن شانئك هو الأبتر ونزل ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب إلى نصير وروى ابن أبي حاتم عن عكرمة قال جاء حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف إلى أهل مكة فقالوا لهم أنتم أهل الكتاب وأهل العلم فأخبرونا عنا وعن محمد فقال ما أنتم وما محمد فقالوا نحن نصل الأرحام وننحر الكوماء ونسقي الماء على اللبن ونفك العناة ونسقي الحجيج ومحمد صنبور قطع أرحامنا واتبعه سراق الحجيج من غفار فنحن خير أم هو فقالوا أنتم خير وأهدى سبيلا فأنزل الله ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه الجبت السحر والطاغوت الشيطان وكذلك قال ابن عباس وأبو العالية ومجاهد والحسن وغيرهم وعن ابن عباس وعكرمة وأبي مالك الجبت الشيطان زاد ابن عباس بالحبشية وعن ابن عباس أيضا الجبت الشرك وعنه الجبت الأصنام وعنه الجبت حيي بن أخطب وعن الشعبي الجبت الكاهن وعن مجاهد الجبت كعب بن الأشرف قلت الظاهر أنه يعم ذلك كله كما قال الجوهري الجبت كلمة تقع على الصنم

317

والكاهن والساحر ونحو ذلك وفي الحديث الطيرة والعيافة والطرق من الجبت قال وهذا ليس من محض العربية لإجتماع الجيم والباء في حرف واحد من غير حرف ذو لقي قال المصنف وفيه معرفة الإيمان بالجبت والطاغوت في الموضع هل هو اعتقاد قلب أو هو موافقة أصحابها مع بغضها ومعرفة بطلانها وأما الطاغوت فتقدم الكلام عليه في أول الكتاب قال وقوله تعالى قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت ش يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم قل يا محمد لهؤلاء الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا من أهل الكتاب الطاعنين في دينكم الذي هو توحيد الله وإفراده بالعبادة دون ما سواه قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله أي هل أخبركم بشر جزاء عند الله يوم القيامة مما تظنونه بناهم أنتم أيها المتصفون بهذه الصفات المذمومة المفسرة بقوله من لعنه الله أي أبعده وطرده من رحمته وغضب عليه أي غضبا لا يرضى بعده وجل منهم القردة والخنازير أي مسخ منهم الذين عصوا أمره فجعلهم قردة وخنازير كما قال تعالى ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين وذلك أن الله تعالى أخذ عليهم تعظيم السبت والقيام بأمره وترك الاصطياد فيه وكانت الحيتان لا تأتيهم إلا يوم السبت فتحيلوا على اصطيادها فيه بما وضعوه لها من الشصوص والحبائل والبرك قبل يوم السبت فلما جاءت الحيتان يوم السبت على عادتها نشبت تلك الحبائل فلم تخلص منها يومها ذلك فلما كان الليل أخذوها بعد انقضاء السبت فلما فعلوا ذلك مسخهم الله

318

تعالى إلى صورة القردة وهي أشبه شيء بالأناسي في الشكل الظاهر وليست بانسان حقيقة فكذلك أعمال هؤلاء وحيلتهم كانت مشابهة للحق في الظاهر ومخالفة له في الباطن فكان جزاؤهم من جنس عملهم قال العوفي عن ابن عباس في قوله فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين فجعل الله منهم القردة والخنازير فزعم أن شباب القوم صاروا قردة والمشيخة صاروا خنازير وروى مسلم في صحيحه عن ابن مسعود قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القردة والخنازير أهي مما مسخ الله فقال إن الله لم يهلك قوما أو قال لم يمسخ قوما فيجعل الله لهم نسلا ولا عاقبة وإن القردة والخنازير كانت قبل ذلك وفي هذه القصة دليل قاطع على تحريم الحيل التي يتوصل بها إلى تحليل الحرام وتحريم الحلال ونحو ذلك وقوله وعبد الطاغوت قال شيخ الإسلام الصواب أنه معطوف على قوله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير فهو فعل ماض معطوف على ما قبله من الأفعال الماضية أي من لعنه الله ومن غضب عليه ومن جعل منهم القردة والخنازير ومن عبد الطاغوت لكن الأفعال المقدمة الفاعل فيها هو اسم الله مظهرا ومضمرا وهنا الفاعل اسم من عبد الطاغوت وهو الضمير في عبد ولم يعد سبحانه لفظ من لأنه جعل هذه الأفعال كلها صفة لصنف واحد وهم اليهود قال وقوله قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجدا ش يخبر تعالى عن الذين غلبوا على أمر أصحاب الكهف أنهم قالوا هذه المقالة لنتخذن عليهم مسجدا وقد حكى ابن جرير في القائلين في ذلك قولين

319

أحدهما أنهم المسلمون والثاني أنهم المشركون وعلى القولين فهم مذمومون لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد يحذر ما فعلوا رواه البخاري ومسلم ولما يفضي إليه ذلك من الإشراك بأصحابها كما هو الواقع ولهذا لما فعلته اليهود والنصارى جرهم ذلك إلى الشرك فدل ذلك على أن هذه الأمة تفعله كما فعلته اليهود والنصارى فيجرها ذلك إلى الشرك لأن ما فعلته اليهود والنصارى ستفعله هذه الأمة شبرا بشبر وذراعا بذراع كما أخبر بذلك الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى وبهذا يظهر وجه استشهاد المصنف بهذه الآيات قال عن ابي سعيد ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه قالوا يا رسول الله اليهود والنصارى قال فمن أخرجاه ش هذا الحديث أورده المصنف بهذا اللفظ معزوا للصحيحين ولعله نقله عن غيره ولفظهما والسياق لمسلم عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لاتبعتموهم قلنا يا رسول الله اليهود والنصارى قال فمن ويحتمل أن يكون مرويا عند غيرهما باللفظ الذي ذكره المصنف وأراد أصله لا لفظه قوله لتتبعن هو بضم العين وتشديد النون قوله سنن بفتح المهملة أي طريق من كان قبلكم اي الذين قبلكم قال المهلب الفتح أولى وقال ابن التين قرأناه بضمها قوله حذو القذة بالقذة هو بنصب حذو على المصدر والقذة بضم القاف واحدة القذذ وهي ريش السهم وله قذتان متساويتان أي

320

لتفعلن أفعالهم ولتتبعن طرائقهم حتى تشبهوهم وتحاذوهم كما تشبه قذة السهم القذة الأخرى ثم ان هذا لفظ خبر معناه النهي عن متابعتهم ومنعهم من الالتفات لغير دين الإسلام لأن نوره قد بهر الأنوار وشريعته نسخت الشرائع وهذا من معجزاته فقد اتبع كثير من أمته سنن اليهود والنصارى وفارس في شيمهم ومراكبهم وملابسهم وإقامة شعارهم في الأديان والحروب والعادات من زخرفة المساجد وتعظيم القبور واتخاذها مساجد حتى عبدوها ومن فيها من دون الله وإقامة الحدود والتعزيرات على الضعفاء دون الأقوياء وترك العمل يوم الجمعة والتسليم بالأصابع وعدم عيادة المريض يوم السبت والسرور بخميس البيض وأن الحائض لا تمس عجينا واتخاذ الأحبار والرهبان اربابا من دون الله والإعراض عن كتاب الله والإقبال على كتب الضلال من السحر والفلسفة والكلام والتكذيب بصفات الله التي وصف الله بها نفسه أو وصفه بها رسوله صلى الله عليه وسلم ووصفه بما لا يليق به من النقائص والعيوب إلى غير ذلك مما اتبعوا فيه اليهود والنصارى قوله حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه الجحر بضم الجيم بعدها حاء مهملة معروف وفي حديث آخر حتى لو كان فيهم من أتى أمه علانية لكان في أمتي من يصنع ذلك وفي حديث آخر حتى لو أن أحدهم جامع امرأته في الطريق لفعلتموه صحت بذلك الأحاديث فأخبر أن امته ستفعل ما فعلته اليهود والنصارى وفارس من الأديان والعادات والإختلاف قال شيخ الإسلام هذا خرج مخرج الخبر والذم لمن يفعله كما كان يخبر عما يكون بين يدي الساعة من الأشراط والأمور المحرمة وقال غيره وجمع ذلك أن كفر اليهود أشد من جهة عدم العمل بعلمهم فهم يعلمون الحق ولا يتبعونه عملا ولا قولا وكفر النصارى من جهة عملهم بلا علم فهم يجتهدون في أصناف العبادات بلا شريعة من الله ويقولون مالا يعلمون ففي هذه الأمة من يحذو حذو الفريقين ولهذا كان السلف كسفيان بن عيينة يقولون من فسد من علمائنا ففيه شبه من اليهود ومن فسد من عبادنا ففيه شبه من النصارى

321

وقضاء الله نافذ بما أخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم بما سبق في علمه لكن ليس الحديث إخبارا عن جميع الأمة لما تواتر عنه أنها لا تجتمع على ضلالة قوله قالوا يا رسول الله اليهود والنصارى قال فمن هو برفع اليهود خبر مبتدأ محذوف اي أهم اليهود والنصارى الذين نتبع سنتهم وقوله قال فمن استفهام إنكار أي فمن هم غير أولئك ثم إنه فسر هنا باليهود والنصارى وفي رواية أبي هريرة في البخاري بفارس والروم ولا تعارض كما قال بعضهم لاختلاف الجواب بحسب اختلاف المقام فحيث قيل فارس والروم كان ثم قرينة تتعلق بالحكم بين الناس وسياسة الرعية وحيث قيل اليهود والنصارى كان هناك قرينة تتعلق بأمور الديانات صولها وفروعها كذا قال ولا يلزم وجود قرينة بل الظاهر أنه أخبر أن هذه الأمة ستفعل ما فعلته الأمم قبلها من الديانات والعادات والسياسات مطلقا والتفسير ببعض الأمم لا ينفي التفسير بأمة أخرى إذ المقصود التمثيل لا الحصر ووجه مطابقة الحديث للترجمة واضح لأن الأمم قبلنا وجد فيها الشرك فكذلك يوجد في هذه الأمة كما هو الواقع قال ولمسلم عن ثوبان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وإن أمتي سيبلغ ملكها ما ذوي لي منها وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنة عامة وأن لا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم وإن ربي قال يا محمد إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة عامة ولا أسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم ولو اجتمع عليهم من أقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضا ويسبي بعضهم بعضا ورواه البرقاني في صحيحه وزاد وإنما أخاف

322

على امتي الأئمة المضلين وإذا وقع عليهم السيف لم يرفع إلى يوم القيامة ولا تقوم الساعة حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين وحتى تعبد فئام من أمتي الأوثان وإنه سيكون في أمتي كذابون ثلاثون كلهم يزعم أنه نبي وأنا خاتم النبيين لا نبي بعدي ولا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله تبارك وتعالى ش هذا الحديث رواه أبو داود في سننه وابن ماجه بالزيادة التي ذكرها المصنف ورواه الترمذي مختصرا ببعضها قوله عن ثوبان هو ثوبان مولى النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه ولازمه ونزل بعده الشام ومات بحمص سنة أربع وخمسين قوله زوى لي الأرض قال التوربشتي زويت الشيء جمعته وقبضته يريد به تقريب البعيد منها حتى اطلع عليه اطلاعه على القريب وحاصله أن الله طوى له الأرض وجعلها مجموعة كهيئة كف في مرآة نظره وقال القرطبي أي جمعها لي حتى أبصرت ما تملك أمتي من أقصى المشارق والمغارب منها وظاهر هذا اللفظ يقتضي أن الله تعالى قوى إدراك بصره ورفع عنه الموانع المعتادة فادرك البعيد من موضعه كما أدرك بيت المقدس من مكة وأخذ يخبرهم عن آياته وهو ينظر إليه وكما قال إني لأبصر قصر المدائن الأبيض ويحتمل أن يكون مثلها الله له والأول أولى قوله وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها قال القرطبي هذا الخبر وجد مخبره كما قاله فكان ذلك من دلائل نبوته وذلك أن ملك أمته اتسع إلى أن بلغ أقصى بحر طنجة بالنون والجيم الذي هو منتهى عمارة المغرب إلى أقصى المشرق ما وراء خرسان والنهر وكثير من بلاد الهند والسند والصغد ولم يتسع ذلك الإتساع من جهة الجنوب والشمال

323

ولذلك لم يفكر عليه السلام أنه أريه ولا أخبر أن ملك أمته يبلغه وقوله زوي يحتمل أن يكون مبنيا للفاعل وأن يكون مبنيا للمفعول والأول أظهر قوله وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض قال القرطبي يعني بهما كنز كسرى وهو ملك الفرس وكنز قيصر وهو ملك الروم وقصورهما وبلادهما وقد دل على ذلك قوله عليه السلام حين أخبر عن هلاكهما والذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله وعبر بالأحمر عن كنز قيصر لأن الغالب عندهم كان الذهب وبالأبيض عن كنز كسرى لأن الغالب عندهم كان الجوهر والفضة وقد ظهر ذلك ووجد كذلك في زمان الفتوح في أمارة عمر رضي الله عنه فإنه سيق اليه تاج كسرى وحليته وما كان في بيوت أمواله وجميع ما حوته مملكته على سعتها وعظمتها وكذلك فعل الله بقيصر لما فتحت بلاده كذا قال في الغالب على كنوز كسرى وقيصر وعكس ذلك التوربشتي والخلخالي والأبيض والأحمر منصوبان على البدل قوله وإني سألت ربي لأمتي أن يهلكها بسنة بعامة هكذا ثبت في أصل المصنف بعامة بالباء هي رواية صحيحية في أصل مسلم وفي بعض أصوله بسنة عامة بحذفها قال القرطبي وكأنها زائدة لأن عامة صفة لسنة فكأنه قال بسنة عامة ويعني بالسنة الجدب العام الذي يكون به الهلاك العام ويسمى الجدب والقحط سنة ويجمع على سنين كما قال تعالى ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين أي بالجدب المتوالي قوله من سوى أنفسهم أي من غيرهم يعني الكفار

324

قوله فيستبيح بيضتهم قال الجوهري بيضة كل شيء حوزته وبيضة القوم ساحتهم وعلى هذا فيكون معنى الحديث ان الله تعالى لا يسلط العدو على كافة المسلمين حتى يستبيح جميع ما حازوه من البلاد والأرض ولو اجتمع عليهم كل من بين اقطار الأرض وهو جوانبها وقيل بيضتهم معظمهم وجماعتهم قلت وهذا هو الظاهر وأن الله تعالى لا يسلط الكفار على معظم المسلمين وجماعتهم وإمامهم ما داموا بضد هذه الأوصاف المذكورة في قوله حتى يكون بعضهم يهلك بعضا فأما إذا وجدت هذه الأوصاف فقد يسلط الكفار على جماعتهم ومعظمهم وإمامهم كما وقع قوله وإن ربي قال يا محمد إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد قال بعضهم أي إذا حكمت حكما مبرما فإنه نافذ لا يرد بشيء ولا يقدر احد على رده بل كل جميع الخلق تمضي عليهم الأقدار طوعا وكرها كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لا راد لما قضيت قلت الظاهر أنه سواء في ذلك المبرم والمعلق فالكل لا يرد فإن هذا إخبار عن عدم الرد لجنس القضاء والنبي صلى الله عليه وسلم سأل ذلك مطلقا فأجيب بهذا واستجاب له دعاءه ما لم يوجد الشرط المقتضي لتسليط العدو فإذا وجد ذلك وجد القضاء المعلق قوله حتى يكون بعضهم يهلك بعضا إلى آخره أي حتى يوجد ذلك منهم فإن وجد فإنه يسلط عليهم عدوهم من الكفار فيستبيح جماعتهم وإمامهم ومعظمهم لا كل الأمة ثم ايضا تكون العاقبة لهذه الأمة إن رجعوا عما هم فيه من الأسباب الموجبة للتسليط وكذلك وقع فإن هذه الأمة لما جعل بأسها بينها اقتتلوا فأهلك بعضهم بعضا وسبى بعضهم بعضا فلما فعلوا ذلك تفرقت جماعتهم واشتغل بعضهم ببعض عن جهاد العدو واستولوا عليهم كما وقع ذلك في المائة السابعة في المشرق والمغرب فاختلف ملوك

325

المشرق وتخاذلوا واستولى التتار على غالب أرض خرسان وعلى العراق وديار الروم وقتلوا الخليفة والعلماء والملوك الكبار وكذلك ملوك المغرب اختلفوا وتخاذلوا واستولت الإفرنج على جميع بلاد الأندلس والجزر القريبة منها فهي في أيديهم إلى اليوم بل استولوا على كثير من بلدان الشام حتىاستنقذها منهم صلاح الدين ابن أيوب وغيره قوله ورواه البرقاني في صحيحه البرقاني هو الحافظ الكبير أبو بكر محمد بن أحمد بن غالب الخوارزمي الشافعي ولد سنة ست وثلاثين وثلاثمائة ومات سنة خمس وعشرين وأربع مائة قال الخطيب كان ثبتا ورعا لم نر في شيوخنا أثبت منه عارفا بالفقه كثير التصنيف صنف مسندا ضمنه ما اشتمل عليه الصحيحان وجمع حديث الثوري وحديث شعبة وطائفة وكان حريصا على العلم منصرف الهمة اليه قلت وهذا المسند الذي ذكره الخطيب هو صحيحه الذي عزا اليه المصنف قوله وانما أخاف على امتي الأئمة المضلين أي الأمراء والعلماء والعباد الذين يقتدي بهم الناس ويحكمون فيهم بغير علم فيضلون ويضلون فهم ضالون عن الحق مضلون لغيرهم كما قال تعالى عن أهل النار حتى إذا اداركوا فيها جميعا قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابا ضعفا من النار وقال تعالى ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا وقال تعالى قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ولشدة الضرورة إلى اتباع أئمة الهدى ومعرفتهم والتفريق بينهم وبين أئمة الضلال المغضوب عليهم والضالين

326

أمرنا الله أن نسأله الهداية إلى سلوك صراط أئمة الهدى وهم المنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين غير المغضوب عليهم الذين يعلمون الحق ولا يعملون به ولا الضالين الذين يعملون على غير شرع من الله بل بما تهوى أنفسهم فصراط المنعم عليهم هو الجامع بين العلم بالهدى والعمل به وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم أئمة الهدى لما ذكر التفرق من بعده بأنهم الذين كانوا على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كما رواه أبو داوود وغيره فمن كان على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فهو من الأئمة المهديين ومن خالفهم فهو من الضالين كالذي يقول لأصحابه من كانت له حاجة فليأت إلى قبري فإني أقضيها له ولا خير في رجل يحجبه عن أصحابه ذراع من تراب أو نحو هذا كالذي يدعي أنه يخلص أصحابه ومريديه من النار وأنه يحفظ الناس ويكلأهم إذا اعتقدوه ويضر بهم إذا كفروا به وحاربوه ويدعي أن ذلك من كراماته وكالذي يمشي في الأسواق عريانا ولا يشهد بصلاة ولا ذكر الله ولا علما بل يعيب علماء الشرع ويغمزهم ويسميهم أهل علم الظاهر ويدعي أنه صاحب علم الباطن وربما يدعي أنه يسعه الخروج من شريعة محمد صلى الله عليه وسلم كما وسع الخضر الخروج عن شريعة موسى عليه السلام ونحو ذلك من الكفر والهذيان وكالذين يدعي أن العبد يصل مع الله إلى حال تسقط عنه التكاليف أو يدعي أن الأولياء يدعون ويستغاث بهم في حياتهم ومماتهم وأنهم ينفعون ويضرون ويدبرون الأمور على سبيل الكرامة او أنه يطلع على اللوح المحفوظ ويعلم أسرار الناس وما في ضمائرهم أو يجوز بناء المساجد على قبور الأنبياء والصالحين وايقادها بالسرج والشموع وكسوتها بالحرير والديباج والفرش النفيسة أو يدعي أن من عمل بالقرآن والسنة في أصول الدين وفروعه فقد ضل وأضل وابتدع او ان ظواهر القرآن في آيات الصفات تشبيه وتمثيل وأن الهدى

327

لا يؤخذ منه في هذا الباب ولا في غيره وإنما يؤخذ من الشبهات الوهمية التي يسميها بزعمه براهين عقلية فكل هؤلاء وأشباههم من أئمة الضلال الذين خاف النبي صلى الله عليه وسلم على أمته وحذر منهم والضابط في الفرق بين أئمة المتقين وبين الأئمة المضلين قوله تعالى قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يجببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين فافهم عن ربك وكن على بصيرة ولا يغرك جلالة شخص أو عظمته في النفوس فربك أعظم واتباعك لكلامه وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم هوالقرض والعصمة منتفية عن غير الرسول وربك أدرى بما في الضمائر فرب من تعتقده إمام هدى ليس كذلك وقد قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع اهواء الذين لا يعلمون فكل من أتى بشيء يخالف ما جاء عن الله وعن رسوله فهو من أهواء الذين لا يعلمون ومن لم يستجب للرسول صلى الله عليه وسلم فإنما يتبع هواه قال الله تعالى فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين وقال تعالى اتبعوا ما أنزل اليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون وعن زياد بن حدير قال قال لي عمر هل تعرف ما يهدم الإسلام قلت لا قال يهدمه زلة العالم وجدال المنافق بالكتاب وحكم الأئمة المضلين رواه الدرامي وقال يزيد بن عميرة كان معاذ بن جبل لا يجلس مجلسا للذكر إلا قال حين يجلس الله حكم قسط هلك المرتابون الحديث وفيه واحذروا زيغة الحكيم فإن الشيطان قد يقول الضلالة على لسان الحكيم وقد يقول المنافق كلمة الحق قلت لمعاذ ما يدريني

328

رحمك الله أن الحكيم قد يقول كلمة الضلالة وأن المنافق قد يقول كلمة الحق قال لي اجتنب من كلام الحكيم المشتبهات التي يقال ما هذه ولا يثنيك ذلك عنه فإنه لعله يراجع الحق وتلق الحق إذا سمعته فإن على الحق نورا رواه أبو داود وغيره وما أحسن ما قال ابن المبارك رضي الله عنه وهل أفسد الدين إلا الملو ك وأحبار سوء ورهبانها قوله وإذا وقع عليهم السيف لم يرفع إلى يوم القيامة أي إذا وقعت الفتنة والقتال بينهم بقي إلى يوم القيامةوكذلك وقع فإن السيف لما وضع فيهم بقتل عثمان رضي الله عنه لم يرتفع إلى اليوم وكذلك يكون إلى يوم القيامة ولكن يكثر تارة ويقل أخرى ويكون في جهة ويرتفع عن أخرى قوله ولا تقوم الساعة حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين الحي واحد الأحياء وهي القبائل وفي رواية أبي داود ولا تقوم الساعة حتى يلحق قبائل من أمتي بالمشركين والمعنى أنهم ينزلون معهم في ديارهم ويصيرون منهم بالردة ونحوها قوله وحتى تعبد فئام من أمتي الأوثان الفئام مهموز الجماعات الكثيرة قاله أبو السعادات وفي رواية أبي داود وحتى تعبد قبائل من أمتي الأوثان ومعناه ظاهر وهذا هو شاهد الترجمة ففيه الرد على من قال بخلافه من عباد القبور الذين ينكرون وقوع الشرك وعبادة الأوثان في هذه الأمة وفي معنى هذا ما في الصحيحين عن أبي هريرة مرفوعا لا تقوم الساعة حتى تضطرب أليات لنساء دوس على ذي الخلصة قال وذو الخلصة طاغية دوس التي كانوا يعبدون في الجاهلية وروى ابن حبان عن معمر قال إن عليه الآن بيتا مبنيا مغلقا وفي صحيح مسلم عن عائشة مرفوعا لا يذهب الليل

329

والأنهار حتى تعبد اللات والعزى وقيل إن القبر المنسوب إلى ابن عباس بالطائف إنه قبر اللات وكانوا يعبدونه ويطوفون به ويقربون إليه القرابين وينذرون له النذور ويسألونه قضاء حاجتهم وتفريج كربتهم قوله وإنه سيكون في أمتي كذابون ثلاثون كلهم يزعم أنه نبي قال القرطبي وقد جاء عددهم معينا في حديث حذيفة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يكون في أمتي كذابون دجالون سبع وعشرون منهم أربع نسوة أخرجه أبو نعيم وقال هذا حديث غريب تفرد به معاوية بن هشام قلت حديث ثوبان اصح من هذا قال القاضي عياض عدد من تنبأ من زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الآن ممن اشتهر بذلك وعرف واتبعه جماعة على ضلالته فوجد هذا العدد فيهم ومن طالع كتب الأخبار والتواريخ عرف صحة هذا وقال الحافظ قد ظهر مصداق ذلك في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فخرج مسيلمة الكذاب باليمامة والأسود العنسي باليمن ثم خرج في خلافة أبي بكر طليحة بن خويلد في بني أسد بن خزيمة وسجاح التميمية في بني تميم وقتل الأسود قبل أن يموت النبي صلى الله عليه وسلم وقتل مسيلمة الكذاب في خلافة أبي بكر رضي الله عنه وتاب طليحة ومات على الإسلام على الصحيح في زمن عمر رضي الله عنه ويقال إن سجاح تابت أيضا ثم خرج المختار بن أبي عبيد الثقفي وغلب على الكوفة في أول خلافة ابن الزبير فأظهر محبة أهل البيت ودعا الناس إلى طلب قتلة الحسين فاتبعهم فقتل كثيرا ممن باشر ذلك أو أعان عليه فأحبه الناس ثم إنه زين له الشيطان أن يدعي النبوة وزعم أن جبريل عليه السلام يأتيه ومنهم الحارث الكذاب خرج في خلافة عبدالملك بن مروان فقتل وخرج في خلافة بني العباس جماعة وليس المراد بالحديث من ادعى النبوة مطلقا فإنهم لا يحصون كثرة لكون

330

غالبهم ينشأ عن جنون أو سوداء وإنما المراد من قامت له شوكة وبدت له شبهة كمن وصفنا وقد أهلك الله تعالى من وقع له منهم ذلك وبقي منهم من يلحقه بأصحابه وآخرهم الدجال الأكبر قوله وأنا خاتم النبيين الخاتم بفتح التاء بمعنى الطابع وبكسرها بمعنى فاعل الطبع والختم قال الحسن خاتم الذي ختم به أي آخر النبيين كما قال تعالى ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين وإنما ينزل عيسى بن مريم عليه السلام في آخر الزمان حاكما بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم مصليا إلى قبلته فهو كآحاد أمته كما قال النبي صلى الله عليه وسلم والذي نفسي بيده لينزلن فيكم ابن مريم حكما مقسطا فليكسرن الصليب وليقتلن الخنزير وليضعن الجزية قوله ولا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة لا يضرهم من خذلهم لا من خالفهم قال يزيد بن هارون وأحمد بن حنبل إن لم يكونوا أهل الحديث فلا أدري من هم وكذلك قال انهم أهل الحديث عبدالله بن المبارك وعلي بن المديني وأحمد بن سنان والبخاري وغيرهم وقال ابن المديني في رواية هم العرب واستدل برواية من روى هم أهل الغرب وفسر الغرب بالدلو العظيمة لأن العرب هم الذين يستقون بها قلت ولا تعارض بين القولين إذ يمتنع أن تكون الطائفة المنصورة لا تعرف الحديث ولا سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم بل لا يكون منصورا على الحق إلا من عمل بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وهم اهل الحديث من العرب وغيرهم فإن قيل فلم خصصه بالعرب قيل المراد التمثيل لا الحصر أي أن العرب ان استقاموا على العمل بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فهم الطائفة المنصورة حال استقامتهم قال القرطبي وفيه دليل

331

على أن الاجماع حجة لأن الأمة اذا أجمعت فقد دخل فيهم الطائفة المنصورة وقال المصنف وفيه الآية العظيمة أنهم مع قلتهم لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم والبشارة بأن الحق لا يزول بالكلية كما زال فيما مضى بل لا تزال عليه طائفة قوله حتى يأتي أمر الله الظاهر أن المراد بأمر الله ما روي من قبض من بقي من المؤمنين بالريح الطيبة ووقوع الآيات العظام ثم لا يبقى إلا شرار الناس كما روى الحاكم وأصله في مسلم عن عبدالرحمن بن شماسة أن عبدالله ابن عمرو قال لا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق هم شرار من أهل الجاهلية فقال عقبة بن عامر لعبد الله أعلم ما تقول وأما أنا فسمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول لا تزال عصابة من أمتي يقاتلون على أمر الله ظاهرين لا يضرهم من خالفهم حتى تأتيهم الساعة على ذلك فقال عبد الله ويبعث الله ريحا ريحها المسك ومسها مس الحرير فلا تترك أحدا في قلبه مثقال حبة من إيمان إلا قبضته ثم يبقى شرار الناس فعليهم تقوم الساعة وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود مرفوعا لا تقوم الساعة إلا على شرار الناس وفي صحيحه أيضا لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض الله الله وذلك إنما يقع بعد طلوع الشمس من مغربها وخروج الدابة وسائر الآيات العظام وقد ثبت أن الآيات العظام مثل السلك إذا انقطع تناثر الخرز بسرعة رواه أحمد ويؤيده حديث عمران بن حصين مرفوعا لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين على من ناوأهم حتى يقاتل آخرهم الدجال رواه أبو داود والحاكم وعلى هذا فالمراد بقوله في حديث عقبة وما أشبهه من الآحاديث حتى تأتيهم الساعة ساعتهم وهي وقت موتهم بهبوب الريح ذكره الحافظ وهو المعتمد وقد اختلف في محل هذه الطائفة فقال ابن بطال إنها تكون

332

ببيت المقدس حتى إلى أن تقوم الساعة كما روى الطبري من حديث أبي امامة قيل يا رسول الله وأين هم قال ببيت المقدس وقال معاذ بن جبل رضي الله عنه هم بالشام وهذا قول اكثر الشارحين وفي كلام الطبري ما يدل على أنه لا يجب أن تكون في الشام أو في أول بيت المقدس دائما إلى أن يقاتلوا الدجال بل قد تكون في موضع آخر لكن لا تخلوا الأرض منها حتى يأتي أمر الله قلت وهذا هو الحق فإنه ليس في الشام منذ أزمان أحد بهذه الصفات بل ليس فيه إلا عباد القبور وأهل الفسق وأنواع الفواحش والمنكرات ويمتنع أن يكونوا هم الطائفة المنصورة وأيضا فهم منذ أزمان لا يقاتلون أحدا من أهل الكفر وإنما بأسهم وقتالهم بينهم وعلى هذا فقوله في الحديث هم ببت المقدس وقول معاذ هم بالشام المراد أنهم يكونون فيه بعض الأزمان دون بعض وكذلك الواقع فدل على ما ذكرنا قوله تبارك وتعالى قال ابن القيم البركة نوعان أحدهما بركة وهي فعله تبارك وتعالى والفعل منها بارك ويتعدى بنفسه تارة وبأداة على تارة وبأداة في تارة والمفعول منها مبارك وهو ما جعل كذلك فكان مباركا بجعله تعالى والنوع الثاني بركة تضاف إليه إضافة الرحمة والعزة والفعل منها تبارك ولهذا لا يقال لغيره ذلك ولا يصلح إلا له عز وجل فهو سبحانه المتبارك وعبده ورسوله المبارك كما قال المسيح عليه السلام جعلني مباركا أينما كنت فمن بارك الله فيه وعليه فهو المبارك وأما صفة تبارك فمختصه به كما أطلقها على نفسه بقوله تبارك الله رب العالمين تبارك

333

الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير أفلا تراها كيف اطردت في القرآن جارية عليه مختصة به لا تطلق على غيره وجاءت على بناء السعة والمبالغة كتعالى وتعاظم ونحوه فجاءت تبارك على بناء تعالى الذي هو دال على كمال العلو ونهايته فكذلك تبارك دال على كمال بركته وعظمتها وسعتها وهذا معنى قول من قال من السلف تبارك تعاظم وقال ابن عباس جاء بكل بركة وأعلم أن هذا الحديث بجملته مما عد من الأدلة على الشهادتين فإن كل جملة منه وقعت كما أخبر بها صلى الله عليه وسلم باب ما جاء في السحر ش السحر في اللغة عبارة عما خفي ولطف سببه ولهذا جاء في الحديث إن من البيان لسحرا وسمي السحور سحورا لأنه يقع خفيا آخر الليل وقال تعالى سحروا أعين الناس أي اخفوا عنهم علمهم ولما كان السحر من أنواع الشرك إذ لا يأتي السحر بدونه ولهذا جاء في الحديث ومن سحر فقد أشرك أدخله المصنف في كتاب التوحيد ليبين ذلك تحذيرا منه كما ذكر غيره من أنواع الشرك قال أبو محمد المقدسي في الكافي السحر عزائم ورقى وعقد يؤثر في القلوب والأبدان فيمرض ويقتل ويفرق المرء وزوجته ويأخذ احد الزوجين عن صاحبه قال الله تعالى فيتعلمون منهما ما يفرق بين المرء وزوجه وقال سبحانه

334

قل اعوذ برب الفلق إلى قوله ومن شر النفاثات في العقد يعني السواحر اللاتي يعقدون في سحرهن وينفثن في عقدهن ولولا أن للسحر حقيقة لم يأمر بالاستعاذة منه وروت عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم سحر حتى انه ليخيل إليه أنه يفعل الشيء وما يفعله وانه قال لها ذات يوم أتاني ملكان فجلس أحدهما عند رأسي والآخر عند رجلي فقال ما وجع الرجل قال مطبوب قال من طبه قال لبيد بن أعصم في مشط ومشاطة في جف طلعة ذكر في بئر ذي اروان رواه البخاري انتهى وقد زعم قوم من المعتزلة وغيرهم أن السحر تخييل لا حقيقة له هذا ليس بصحيح على إطلاقه بل منه ما هو تخييل ومنه ما له حقيقة كما يفهم مما تقدم قال وقول الله تعالى ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ش أي ولقد علم اليهود الذين استبدلوا السحر عن متابعة الرسل والإيمان بالله لمن اشتراه أي استبدل ما تتلوا الشياطين بكتاب الله ومتابعة رسله ما له في الأخرة من خلاق قال ابن عباس من نصيب قال قتادة وقد علم أهل الكتاب فيما عهد الله اليهم أن الساحر لا خلاق له في الآخرة وقال الحسن ليس له دين فدلت الآية على تحريم السحر وهو كذلك بل هو محرم في جميع أديان الرسل عليهم السلام كما قال تعالى ولا يفلح الساحر حيث اتى واستدل بها بعضهم على كفر الساحر لعموم قوله لمن اشتراه يدل عليه قوله فيتعلمون منها ما يفرقون به

335

بين المرء وزوجه وقد نص أصحاب أحمد على أنه يكفر بتعلمه وتعليمه وروى عبدالرزاق عن صفوان بن سليم قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من تعلم شيئا من السحر قليلا كان أو كثيرا كان آخر عهده من الله وهذا مرسل واختلفوا هل يكفر الساحر أولا فذهب طائفة من السلف إلى أنه يكفر وبه قال مالك وأبو حنيفة وأحمد قال أصحابه إلا أن يكون سحره بأدوية وتدخين وسقي شيء يضر فلا يكفر وقيل لا يكفر إلا أن يكون في سحره شرك فيكفر وهذا قول الشافعي وجماعته قال الشافعي رحمه الله إذا تعلم السحر قلنا له صف لنا سحرك فإن وصف ما يوجب الكفر مثل ما اعتقده أهل بابل من التقرب إلى الكواكب السبعة وأنها تفعل ما يلتمس منها فهو كافر وإن كان لا يوجب الكفر فإن اعتقد اباحته كفر وعند التحقيق ليس بين القولين اختلاف فإن من لم يكفر لظنه أنه يتأتى بدون الشرك وليس كذلك بل لا يأتي السحر الذي من قبل الشياطين إلا بالشرك وعبادة الشيطان والكواكب ولهذا سماه الله كفرا في قوله انما نحن فتنة فلا تكفر وقوله وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا وفي حديث مرفوع رواه رزين الساحر كافر وقال أبو العالية السحر من الكفر وقال ابن عباس في قوله إنما نحن فتنة فلا تكفر وذلك أنهما علماه الخير والشر والكفر والإيمان فعرفا أن السحر من الكفر وقال ابن جريج في الآية لا يجترىء على السحر إلا الكافر وأما سحر الأدوية والتدخين ونحوه فليس بسحر وإن سمي سحرا فعلى سبيل المجاز كتسمية القول البليغ والنميمة سحرا ولكنه يكون حراما لمضرته يعزر من يفعله تعزيرا بليغا قال وقوله يؤمنون بالجبت والطاغوت

336

ش تقدم الكلام عليها في الباب الذي قبله ووجه إيرادها هنا ظاهر لأن السحر من الجبت كما قال عمر بن الخطاب قال المصنف قال عمر بن الخطاب الجبت السحر والطاغوت الشيطان ش هذا الأثر رواه ابن أبي حاتم وغيره وفيه معرفة الجبت والطاغوت والفرق بينهما قال وقال جابر الطواغيت كهان كان ينزل عليهم الشيطان في كل حي واحد هذا ش هذا الأثر رواه ابن أبي حاتم بنحوه مطولا عن وهب بن منبه قال سألت جابر بن عبدالله عن الطواغيت التي كانوا يتحاكمون إليها قال إن في جهينة واحدا وفي أسلم واحدا وفي هلال واحدا وفي كل حي واحدا وهم كهان تنزل عليهم الشياطين قوله قال جابر هو ابن عبدالله بن عمرو بن حرام أبو عبدالله الأنصاري ثم السلمي بفتحتين صحابي جليل ابن صحابي جليل مكثر عن النبي صلى الله عليه وسلم مات بالمدينة بعد السبعين وقد كف بصره وله أربع وتسعون سنة قوله الطواغيت كهان إلى آخره المراد بهذا أن الكهان من الطواغيت لا أنهم الطواغيت لا غير وقوله كان ينزل عليهم الشيطان أراد الجنس لا الشيطان الذي هو ابليس فقط بل تتنزل عليهم الشياطين ويخاطبونهم ويخبرونهم ببعض الغيب مما يسترقونه من السمع فيصدقون مرة ويكذبون مائة قوله في كل حي واحد الحي واحد الأحياء وهم القبائل أي في كل قبيلة من قبائل العرب كاهن يتحاكمون إليه ويسألونه عن الغيب وكذلك كان الأمر قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم فأبطل الله ذلك بالإسلام وحرست السماء

337

بالشهب ومطابقة هذا للترجمة ظاهر من جهة أن الساحر طاغوت من الطواغيت إذ كان هذا الاسم يطلق على الكاهن فالساحر أولى لأنه أشر وأخبث قال عن أبي هريرة ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال اجتنبوا السبع الموبقات قالوا يا رسول الله وما هن قال الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله قتلها إلا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات ش هكذا أورد المصنف هذا الحديث غر معزو وقد رواه البخاري ومسلم قوله اجتنبوا السبع أي ابعدوا وهو أبلغ من لا تفعلوا لأن نهي القربان أبلغ من نهي المباشرة ذكره الطيبي قوله السبع الموبقات بموحدة وقاف أي المهلكات وسميت الكبائر موبقات لأنها تهلك فاعلها في الدنيا بما يترتب عليها من العقوبات وفي الآخرة من العذاب قلت هكذا ثبت في هذه الرواية عن السبع الموبقات وكذلك في كتاب عمرو بن حزم الذي أخرجه النسائي وابن حبان في صحيحه والطبراني من طريق سليمان بن داود عن الزهري عن أبي بكر بن محمد بن عمرو ابن حزم عن أبيه عن جده قال كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاب الفرائض والديات والسنن وبعث به مع عمرو بن حزم إلى اليمن الحديث بطوله وفيه وكان في الكتاب وإن اكبر الكبائر الشرك فذكر مثل حديث أبي هريرة سواء وأخرجه البزار وابن المنذر من طريق عمرو بن أبي سلمة بن عبدالرحمن عن أبيه عن أبي هريرة رفعه الكبائر الشرك بالله وقتل النفس الحديث وذكر بدل السحر الانتقال إلى الأعرابية بعد الهجرة وكذلك في حديث عند الطبراني وقال عبد الرزاق انبأنا

338

معمر عن الحسن قال الكبائر الإشراك بالله فذكر مثل الأول سواء الا أنه قال اليمين الفاجرة بدل السحر وفي حديث ابن عمر عند البخاري في الأدب المفرد والطبري في التفسير وعبدالرزاق مرفوعا وموقوفا قال الكبائر تسع فذكر السبع المذكورة وزاد رد الالحاد في الحرم وعقوق الوالدين واخرج اسماعيل القاضي بسند صحيح إلى سعيد بن المسيب قال هن عشر فذكر السبع التي في الاصل وزاد عقوق الوالدين واليمين الغموس وشرب الخمر ولابن أبي حاتم عن علي قال الكبائر فذكر السبع إلا مال اليتيم وزاد العقوق والتعرب بعد الهجرة وفراق الجماعة ونكث الصفقة وللطبراني عن أبي أمامة أنهم تذاكروا الكبائر فقالوا الشرك ومال اليتيم والفرار من الزحف والسحر والعقوق وقول الزور والغلول والربا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فأين تجعلون الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا وقد جاء في أحاديث غير ما ذكرنا جملة من الكبائر منها اليمين الغموس وشهادة الزور والامن من مكر الله والقنوط من رحمة الله وسوء الظن بالله والزنا والسرقة وغير ذلك قال الحافظ ويحتاج عند هذا إلى الجواب عن الحكمة في الاقتصار على سبع ويجاب بأن مفهوم العدد ليس بحجة وهو جواب ضعيف أو بأنه أعلم أولا بالمذكورات ثم أعلم بما زاد فيجب الاخذ بالزائد أو أن الاقتصار وقع بحسب المقام بالنسبة للسائل أو من وقعت له واقعة ونحو ذلك وقد أخرج الطبري واسماعيل القاضي عن ابن عباس أنه قيل له الكبائر سبع فقال هن أكثر من سبع وفي رواية عنه هي إلى السبعين أقرب وفي رواية

339

الى السبع مئة وإذا تقرر ذلك عن فساد من عرف الكبيرة بأنها ما وجب فيها الحد لأن اكثر المذكورات لا يجب فيها الحد انتهى وسيأتي مزيد لذلك إن شاء الله قوله قال الشرك بالله هو أن يجعل لله ندا يدعوه كما يدعو الله ويرجوه كما يرجو الله ويخافه كما يخاف الله وبدأ به لانه أعظم ذنب عصي الله به كما في الصحيحين عن ابن مسعود سألت النبي صلى الله عليه وسلم اي الذنب اعظم عند الله قال ان تجعل لله ندا وهو خلقك قوله والسحر تقدم معناه وهذا وجه إيراد المصنف لهذا الحديث في الباب قوله وقتل النفس التي حرم الله أي حرم قتلها إلا بالحق أي بفعل موجب للقتل كقتل المشرك المحارب والنفس بالنفس والزاني بعد الإحصان كما قال تعالى ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما وسواء في ذلك القتل عمدا أو شبه عمد كما صرح به طائفة من الشافعية بخلاف قتل الخطأ فإنه لا كبيرة ولا صغيرة لأنه غير معصية قلت ويلتحق بذلك قتل المعاهد كما صح في الحديث من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة الحديث قوله وأكل الربا أي تناوله بأي وجه كان كما قال تعالى الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس إلى قوله ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون قال ابن

340

دقيق العيد وهو مجرب لسوء الخاتمة نعوذ بالله من ذلك قوله وأكل مال اليتيم يعنى التعدي فيه وعبر بالأكل لأنه أهم وجوه الانتفاع كما قال تعالى إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا قوله والتولي يوم الزحف أي الادبار من وجوه الكفار وقت ازدحام الطائفتين في القتال وإنما يكون كبيرة إذا فر إلى غير فئة أو غير منحرف لقتال كما قال تعالى يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير قوله وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات هو بفتح الصاد المحفوظات من الزنا وبكسرها الحافظات فروجهن منه والمراد الحرائر العفيفات ولا يختص بالمتزوجات بل حكم البكر كذلك بالاجماع كما ذكره الحافظ إلا إن كانت دون تسع سنين والمراد رميهن بزنا أو لواط والغافلات أي عن الفواحش وما رمين به لا خبر عندهن من ذلك فهو كناية عن البريئات لأن الغافل بريء عما بهت به من الزنا والمؤمنات أي بالله تعالى احترازا عن قذف الكافرات فإنه من الصغائر قال وعن جندب مرفوعا حد الساحر ضربه بالسيف رواه الترمذي وقال الصحيح أنه موقوف ش هذا الحديث رواه الترمذي كما قال المصنف من طريق اسماعيل ابن مسلم المكي وقال بعد أن رواه لا نعرفه مرفوعا إلا من هذا الوجه واسماعيل بن مسلم المكي يضعف في الحديث من قبل حفظه واسماعيل بن

341

مسلم العبدي البصري قال وكيع هو ثقة ويروى عن الحسن أيضا والصحيح عن جندب موقوف انتهى ورواه أيضا الدارقطني والبيهقي والحاكم وقال صحيح غريب وقال الترمذي في العلل سألت عنه محمدا يعني البخاري فقال هذا لا شيء واسماعيل ضعيف جدا وقال الذهبي في الكبائر إنه من قول جندب وأشار مغلطاي إلى أنه وإن كان ضعيفا يتقوى بكثرة طرقه وقال خرجه جمع منهم البغوي الكبير والصغير والطبراني والبزار ومن لا يحصى كثرة قوله عن جندب ظاهر صنيع الطبراني في الكبير أنه جندب بن عبدالله البجلي لا جندب الخير الأزدي قاتل الساحر فإنه رواه في ترجمة جندب البجلي من طريق خالد العبد عن الحسن عن جندب عن النبي صلى الله عليه وسلم وذكره وخالد العبد ضعيف قال الحافظ والصواب أنه غيره فقد رواه ابن قانع والحسن بن سفيان من وجهين عن الحسن عن جندب الخير أنه جاء إلى ساحر فضربه بالسيف حتى مات وقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فذكره وجندب الخير هو جندب بن كعب وقيل جندب بن زهير وقيل هما واحد كما قاله ابن حبان أبو عبد الله الأزدي الغامدي صحابي وروى ابن السكن من حديث بريدة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يضرب ضربة فيكون أمة وحده قوله حد الساحر ضربه بالسيف روى بالهاء وبالتاء وكلاهما صحيح وبهذا الحديث أخذ أحمد ومالك وأبو حنيفة فقالوا يقتل الساحر وروي ذلك عن عمر وعثمان وابن عمر وحفصة وجندب بن عبدالله وجندب بن كعب وقيس بن سعد وعمر بن عبدالعزيز ولم ير الشافعي عليه القتل بمجرد السحر إلا إن عمل في سحره ما يبلغ الكفر وبه قال ابن المنذر وهو رواية

342

عن أحمد والأول أولى للحديث ولأثر عمر الذي ذكره المصنف وعمل به الناس في خلافته من غير نكير فكان إجماعا قال وفي صحيح البخاري عن بجالة بن عبدة قال كتب عمر ابن الخطاب أن اقتلوا كل ساحر وساحرة قال فقلنا ثلاث سواحر ش هذا الأثر رواه البخاري كما ذكره المصنف لكنه لم يذكر قتل السحرة ولفظه عن بجالة بن عبدة قال كنت كاتبا لجزء بن معاوية عم الأحنف فأتانا كتاب عمر بن الخطاب قبل موته بسنة فرقوا بين كل محرم من المجوس ولم يكن عمر أخذ الجزية من المجوس حتى شهد عبدالرحمن بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها من مجوسي هجر وعلى هذا فعزو المصنف إلى البخاري يحتمل أنه أراد أصله لا لفظه ورواه الترمذي والنسائي مختصرا ورواه عبدالرزاق وأحمد وأبو داود والبيهقي مطولا ورواه القطيعي في الجزء الثاني من فوائده بزيادة فقال حدثنا أبو علي بشر بن موسى الأسدي ثنا هوذة بن خليفة ثنا عوف عن عمار مولى بني هاشم عن بجالة بن عبدة قال كتب إلينا عمر بن الخطاب أن اعرضوا على من كان قبلكم من المجوس أن يدعوا نكاح أمهاتهم وبناتهم وأخواتهم ويأكلوا جميعا كيما نلحقهم بأهل الكتاب ثم اقتلوا كل كاهن وساحر قلت وإسناده حسن قوله عن بجالة هو بفتح الموحدة بعدها جيم ابن عبدة بفتحتين التيمي العنبري بصري ثقة قوله كتب إلينا عمر بن الخطاب أن اقتلوا كل ساحر وساحرة إلى آخره صريح في قتل الساحر والساحرة وهو من حجج الجمهور القائلين بأنه يقتل وظاهره أنه يقتل من غير استتابة وهو كذلك على المشهور عن أحمد وبه قال مالك إن الصحابة لم يستتيبوهم ولأن علم السحر لا يزول بالتوبة

343

وعن أحمد يستتاب فإن تاب قبلت توبته وخلي سبيله وبه قال الشافعي لأن ذنبه لا يزيد على الشرك والمشرك يستتاب وتقبل توبته فكذلك الساحر وعلمه بالسحر لا يمنع توبته بدليل ساحر أهل الكتاب إذا أسلم ولذلك صح إيمان سحرة فرعون وتوبتهم قلت الأول أصح لظاهر عمل الصحابة فلو كانت الاستتابة واجبه لفعلوها أو بينوها وأما قياسه على المشرك فلا يصح لأنه أكثر فسادا وتشبيها من المشرك وكذلك لا يصح قياسه على ساحر أهل الكتاب لأن الاسلام يجب ما قبله وهذا الخلاف إنما هو في اسقاط الحد عنه بالتوبة أما فيما بينه وبين الله فإن كان صادقا قبلت توبته قال وصح عن حفصة أنها أمرت بقتل جارية لها سحرتها ش هذا الأثر رواه مالك في الموطأ عن محمد بن عبدالرحمن بن سعد بن زرارة أنه بلغه أن حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قتلت جارية لها سحرتها وكانت قد دبرتها فأمرت بها فقتلت ورواه عبدالرزاق وحفصة هي أم المؤمنين بنت عمر بن الخطاب تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم بعد خنيس بن حذافة سنة ثلاث وماتت سنة خمس واربعين قال وكذا صح عن جندب ش المراد به هنا قطعا جندب الخير الأزدي قاتل الساحر وهو جندب ابن كعب بن عبدالله قال أبو حاتم جندب بن كعب قاتل الساحر ويقال جندب بن زهير فجعلها واحدا وفرق بينهما ابن الكلبي وغيره قال ابن عبد البر ذكر الزبير أن جندب بن زهير قاتل الساحر والصحيح أنه غيره وأشار المصنف بهذا إلى قتله الساحر كما رواه البخاري في تاريخه عن أبي عثمان النهدي قال كان عند الوليد رجل يلعب فذبح إنسانا وأبان رأسه فعجبنا فأعاد رأسه فجاء جندب الأزدي فقتله ورواه البيهقي في

344

الدلائل مطولا وفيه فقال الناس سبحان الله يحيى الموتى وراه رجل صالح من المهاجرين فنظر إليه فلما كان من الغد اشتمل على سيفه فذهب يلعب لعبه ذلك فاخترط الرجل سيفه فضرب عنقه وقال إن كان صادقا فليحيي نفسه فأمر به الوليد فسجن وذكر القصة بتمامها ولها طرق كثيرة قوله قال أحمد عن ثلاثة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ش أحمد هو الامام أحمد بن محمد بن حنبل وقوله عن ثلاثة أي صح قتل الساحر عن ثلاثة أوجاء قتل الساحر عن ثلاثة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يعني عمر وحفصة وجندبا والله اعلم باب بيان شيء من أنواع السحر لما ذكر المصنف ما جاء في السحر أراد هنا أن يبين شيئا من أنواعه لكثرة وقوعها وخفائها على الناس حتى اعتقد كثير من الناس أن من صدرت عنه هذه الأمور فهو من الأولياء وعدوها من كرمات الأولياء وآل الأمر إلى أن عبد أصحابها ورجي منهم النفع والضر والحفظ والكلاءة والنصر أحياء وأمواتا بل اعتقد كثير في أناس من هؤلاء أن لهم التصرف التام المطلق في الملك ولا بد من ذكر فرقان يفرق به المؤمن بين ولي الله وبين عدو الله من ساحر وكاهن وعائف وزاجر ومتطير ونحوهم ممن قد يجري على يده شيء من الخوارق فاعلم أنه ليس كل من جرى على يده شيء من خوارق العادة يجب أن يكون وليا لله تعالى لأن العادة تنخرق بفعل

345

الساحر والمشعوذ وخبر المنجم والكاهن بشيء من الغيب مما يخبره به الشياطين المسترقون للسمع وفعل الشياطين بأناس ممن ينتسبون إلى دين وصلاح ورياضة مخالفة للشريعة كأناس من الصوفية وكرهبان النصارى ونحوهم فيطيرون بهم في الهواء ويمشون بهم على الماء ويأتون بالطعام والشراب والدراهم وقد يكون ذلك بعزائم ورقى شيطانية وبحيل وأدوية كالذين يدخلون النار بحجر الطلق ودهن النارنج وقد يكون برؤيا صادقة فيها وما يستدل به على وقوع ما لم يقع وهذه مشتركة بين ولي الله وعدوه وقد يكون ذلك بنوع طيرة يجدها الانسان في نفسه فتوافق القدر وتقع كما أخبر وقد يكون بعلم الرمل والضرب بالحصى وقد يكون ذلك استدراجا والأحوال الشيطانية كثيرة وقد فرق الله بين أوليائه وأعدائه في كتابه فاعتصم به وحده لا إله إلا هو فإنه لا يضل من اعتصم به ولا يشقى قال الله تعالى إلا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون فذكر تعالى أن أولياءه الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون هم المؤمنون المتقون ولم يشترط ان يجري على أيديهم شيء من خوارق العادة فدل أن الشخص قد يكون وليا لله وإن لم يجر على يديه شيء من الخوارق إذا كان مؤمنا متقيا وقال تعالى قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم فأولياء الله المحبوبون عند الله هم المتبعون للرسول صلى الله عليه وسلم باطنا وظاهرا ومن كان بخلاف هذا فليس بمؤمن فضلا عن أن يكون وليا لله تعالى وإنما أحبهم الله تعالى لأنهم والوه فأحبوا ما يحب وأبغضوا ما يبغض ورضوا بما يرضى وسخطوا ما يسخط وأمروا بما يأمر ونهوا عما ينهى وأعطوا من يجب أن يعطى ومنعوا من

346

يجب أن يمنع وأصل الولاية المحبة والقرب وأصل العداوة البغض والبعد وبالجملة فأولياء الله هم أحبابه المقربون اليه بالفرائض والنوافل وترك المحارم الموحدون له الذين لا يشركون بالله شيئا وإن لم تجر على أيديهم خوارق فإن كانت الخوارق دليلا على ولاية الله فلتكن دليلا على ولاية الساحر والكاهن والمنجم والمتفرس ورهبان اليهود والنصارى وعباد الاصنام فإنهم يجري لهم من الخوارق ألوف ولكن هي من قبل الشياطين فإنهم يتنزلون عليهم لمجانستهم لهم في الأفعال والأقوال كما قال تعالى قل هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم وقال تعالى ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين وقد طارت الشياطين ببعض من ينتسب إلى الولاية فقال لا إله إلا الله فسقط وتجد عمدة كثير من الناس في اعتقادهم الولاية في شخص أنه قد صدر عنه مكاشفة في بعض الأمور أو بعض الخوارق للعادة مثل أن يشير إلى شخص فيموت أو يطير في الهواء إلى مكة أو غيرها أحيانا أو يمشي على الماء أو يملأ ابريقا من الهواء أو يخبر في بعض الأوقات بشيء من الغيب أو يختفي أحيانا عن أعين الناس أو يخبر بعض الناس بما سرق له أو بحال غائب أو مريض أو أن بعض الناس استغاث به وهو غائب أو ميت فرآه قد جاء فقضى حاجته أو نحو ذلك وليس في شيء من هذه الأمور ما يدل على أن صاحبها مسلم فضلا من أن يكون وليا لله بل قد اتفق أولياء الله على أن الرجل لو طار في الهواء ومشى على الماء لم يغتر به حتى ينظر متابعته لرسول الله صلى الله عليه وسلم وموافقته لأمره ونهيه ومثل هذه الأمور قد يكون صاحبها وليا لله وقد يكون عدوا له فإنها قد تكون لكثير من الكفار والمشركين واليهود والنصارى والمنافقين وأهل البدع وتكون

347

لهؤلاء من قبل الشياطين أو تكون استدراجا فلا يجوز أن يظن أن كل من كان له شيء من هذه الأمور فهو ولي لله بل يعرف أولياء الله بصفاتهم وأحوالهم وأفعالهم التي دل عليها الكتاب والسنة وأكثر هذه الأمور قد توجد في أشخاص يكون أحدهم لا يتوضأ ولا يصلي المكتوبة ولا يتنظف ولا يتطهر الطهارة الشرعية بل يكون ملابسا للنجاسات معاشرا للكلاب يأوي إلى المزابل رائحته خبيثة ركابا للفواحش يمشي في الأسواق كاشفا لعورته غامزا للشرع مستهزئا به وبحملته يأكل العقارب والخبائث التي تحبها الشياطين كافرا بالله ساجدا لغير الله من القبور وغيرها يكره سماع القرآن وينفر منه ويؤثر سماع الأغاني والأشعار ومزامير الشيطان على كلام الرحمن فلو جرى على يدي شخص من الخوارق ماذا عساه أن يجري فلا يكون وليا لله محبوبا عنده حتى يكون متبعا لرسوله صلى الله عليه وسلم باطنا وظاهرا فإن قلت فعلى هذا ما الفرق بين الكرامة وبين الاستدراج والأحوال الشيطانية قيل إن علمت ما ذكرنا عرفت الفرق لأنه إذا كان الشخص مخالفا للشرع فما يجري له من هذه الأمور ليس بكرامة بل هي إما استدراج وإما من عمل الشياطين ويكون سببها هو ارتكاب ما نهى الله عنه ورسوله صلى الله عليه وسلم فإن المعاصي لا تكون سببا لكرامة الله ولا يستعان بالكرامات عليها فإذا كانت لا تحصل بالصلاة والذكر وقراءة القرآن والدعاء بل تحصل بما تحبه الشياطين كالاستغاثة بغير الله أو كانت مما يستعان بها على ظلم الخلق وفعل الفواحش فهي من الأحوال الشيطانية لا من الكرامات الرحمانية وكلما كان الإنسان أبعد عن الكتاب والسنة كانت الخوارق الشيطانية له اقوى وأكثر من غيره فإن الجن الذي يقترنون بالإنس

348

من جنسهم فإن كان كافرا ووافقهم على ما يختارونه من الكفر والفسوق والضلال والإقسام عليهم بأسماء من يعظمونه وللسجود لهم وكتابة اسماء الله أو بعض كلامه بالنجاسة فعلوا معه كثيرا مما يشتهيه بسبب ما برطلهم به من الكفر وقد يأتونه بما يهواه من امرأة وصبي بخلاف الكرامة فإنها لا تحصل إلا بعبادة الله والتقرب إليه ودعائه وحده لا شريك له والتمسك بكتابه واجتناب المحرمات فما يجري من هذا الضرب فهو كرامة وقد اتفق على هذا الفرق جميع العلماء وبالجملة فإن عرفت الأسباب التي بها تنال ولاية الله عرفت أهلها وعرفت أنهم أهل الكرامة وإن كنت ممن يسمع بالأولياء وهو لا يعرف الولاية ولا اسبابها ولا أهلها بل يميل مع كل ناعق وساحر وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون ولشيخ الإسلام كتاب الفرقان بين اولياء الرحمن وأولياء الشيطان فراجعه فإنه أتى فيه بالحق المبين قال رحمه الله قال أحمد حدثنا محمد بن جعفر ثنا عوف ثنا حبان بن العلاء وثنا قطن بن قبيصة عن أبيه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم قال إن العيافة والطرق والطيرة من الجبت قال العوف العيافة زجر الطير والطرق الخط يخط في الأرض والجبت قال الحسن رنة الشيطان إسناده جيد ولأبي داود والنسائي وابن حبان في صحيحه المسند منه ش قوله قال احمد هو الإمام أحمد بن محمد بن حنبل ومحمد بن جعفر هو المشهور بغندر الهذلي البصري ثقة مشهور ثبت في شعبة حتى فضله علي بن المديني فيه على عبدالرحمن بن مهدي بل أقر له ابن مهدي بذلك مات سنة ست ومائتين وعوف هو ابن أبي جميلة بفتح الجيم العبدي

349

البصري المعروف بعوف الأعرابي ثقة مات سنة ست أو سبع وأربعين ومائة وله ست وثمانون سنة وحبان بن العلاء هو بالتحية ويقال حيان بن مخارق ابو العلاء البصري مقبول وقطن بفتحتين أبو سهلة البصري صدوق قوله عن أبيه هو قبيصة بفتح أوله وكسر الموحدة ابن المخارق بضم الميم وتخفيف المعجمة أبو عبدالله الهلالي صحابي نزل البصرة قوله إن العيافة والطرق والطيرة من الجبت قال عوف العيافة زجر الطير هذا التفسير ذكره غير واحد كما قال عوف وهو كذلك قال أبو السعادات العيافة زجر الطير والتفاؤل بأسمائها وأصواتها وممرها وهو من عادة العرب كثيرا وهو كثير في أشعارهم يقال عاف يعيف عيفا إذا زجر وحدس وظن قوله والطرق الخط يخط في الأرض هكذا فسره عوف وهو تفسير صحيح وقال أبو السعادات هو الضرب بالحصى الذي يفعله النساء قلت وايا ما كان فهو من الجبت وأما الطيرة فسيأتي الكلام عليها في بابها إن شاء الله تعالى قوله من الجبت أي من أعمال السحر قال القاضي والجبت في الاصل الفشل الذي لا خير فيه ثم استعير لما يعبد من دون الله وللساحر والسحر وقال الطيبي من فيه إما ابتدائية أو تبعيضية فعلى الأول المعنى الطيرة ناشئة من الساحر وعلى الثاني المعنى الطيرة من جملة السحر والكهانة أو من جملة عبادة غير الله أي الشرك يؤيده قوله في الحديث الآتي الطيرة شرك انتهى وفي الحديث دليل على تحريم التنجيم لأنه إذا كان الحظ ونحوه الذي هو من فروع النجامة من الجبت فكيف بالنجامة قوله قال الحسن رنة الشيطان لم أجد فيه كلاما

350

قوله ولابي داود والنسائي وابن حبان في صحيحه المسند منه يعني أن هؤلاء رووا الحديث واقتصروا على المرفوع منه ولم يذكروا التفسير الذي فسره به عوف وقد رواه أبو داود في التفسير المذكرو بدون كلام الحسن والنسائي هوالإمام الحافظ أحمد بن شعيب بن علي بن سنان بن بحر بن دينار أبو عبدالرحمن صاحب السنن وغيرها من المصنفات روى عن محمد بن المثنى وابن بشار وقتيبة بن سعيد وخلق وكان اليه المنتهى في الحفظ والعلم لعلل الحديث مات سنة ثلاث وثلاث مئة وله ثمان وثمانون سنة قال وعن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من اقتبس شعبة من النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر زاد ما زاد رواه ابو داود بإسناد صحيح ش هذا الحديث رواه أبو داود كما قال المصنف باسناد صحيح وكذا صححه النووي والذهبي ورواه أحمد وابن ماجه قوله من اقتبس قال أبو السعادات قبست العلم واقتبسته إذا تعلمته انتهى وعلى هذا فالمعنى من تعلم قوله شعبة أي طائفة وقطعة من النجوم والشعبة الطائفة من الشيء والقطعة منه ومنه الحديث الحياء شعبة من الإيمان أي جزء منه قوله فقد اقتبس شعبة من السحر أي المعلوم تحريمه قال شيخ الإسلام فقد صرح رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن علم النجوم من السحر وقد قال الله تعالى ولا يفلح الساحر حيث أتى وهكذا الواقع فإن الاستقراء يدل على أن أهل النجوم لا يفلحون في الدنيا ولا في الآخرة قوله زاد ما زاد يعني كلما زاد من علم النجوم زاد له من الأثم مثل إثم

351

الساحر أو زاد اقتباس شعب السحر ما زاد اقتباس علم النجوم قلت والقولان متلازمان لأن زيادة الإثم فرع عن زيادة السحر وذلك لأنه تحكم على الغيب الذي استأثر الله بعلمه فعلم أن تأثير النجوم باطل محرم وكذا العمل بمقتضاه كالتقرب إليها بتقريب القرابين لها كفر قاله ابن رجب قال وللنسائي من حديث أبي هريرة من عقد عقدة ثم نفث فيها فقد سحر ومن سحر فقد أشرك ومن تعلق شيئا وكل اليه ش هذا الحديث ذكره المصنف من حديث أبي هريرة وعزاه للنسائي ولم يبين هل هو موقوف أو مرفوع وقد رواه النسائي مرفوعا وذكر المصنف عن الذهبي أنه قال لا يصح وحسنه ابن مفلح قوله من عقد عقدة ثم نفث فيها فقد سحر اعلم أن السحرة إذا أرادوا عمل السحر عقدوا الخيوط ونفثوا على كل عقدة حتى ينعقد ما يريدونه من السحر ولهذا أمر الله بالاستعاذة من شرهم في قوله ومن شر النفاثات في العقد يعني السواحر اللاتي يفعلن ذلك والنفث هو النفخ مع ريق وهو دون التفل وهو مرتبة بينهما والنفث فعل الساحر فإذا تكيفت نفسه بالخبث والشر الذي يريده بالمسحور ويستعين عليه بالأرواح الخبيثة نفخ في تلك العقد نفخا معه ريق فيخرج من نفسه الخبيثة نفس مماذج للشر والأذى مقترن بالريق الممازج لذلك وقد تساعد هو والروح الشيطانية على أذى المسحور فيصيبه السحر بإذن الله الكوني الشرعي لا الإذن القدري قاله ابن القيم قوله ومن سحر فقد أشرك نص في أن الساحر مشرك إذ لا يتأتى السحر بدون الشرك كما حكاه الحافظ عن بعضهم

352

قوله ومن تعلق شيئا وكل اليه أي من تعلق قلبه شيئا بحيث يتوكل عليه ويرجوه وكله الله إلى ذلك الشيء فإن تعلق العبد على ربه والهه وسيده ومولاه رب كل شيء ومليكه وكله اليه فكفاه ووقاه وحفظه وتولاه ونعم المولى ونعم النصير كما قال تعالى أليس الله بكاف عبده ومن تعلق على السحر والشياطين وكله الله اليهم فأهلكوه في الدنيا والآخرة وبالجملة فمن توكل على غير الله كائنا من كان وكل اليه وأتاه الشر في الدنيا والآخرة من جهته مقابلة له بنقيض قصده وهذه سنة الله في عباده التي لا تبدل وعادته التي لا تحول أن من اطمأن إلى غيره أو وثق بسواه أو ركن إلى مخلوق يدبره أجرى الله تعالى له بسببه أو من جهته خلاف ما علق به أماله وهذا أمر معلوم بالنص والعيان ومن تأمل ذلك في أحوال الخلق بعين البصيرة النافذة رأى ذلك عيانا وفائدة هذه الجملة بعد ما قبلها الإشارة إلى أن الساحر متعلق على غير الله فإنه متعلق على الشياطين قال وعن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ألا هل أنبئكم ما العضه هي النميمة القالة بين الناس رواه مسلم ش قوله هل أنبئكم أي أخبركم قوله ما العضه هو بفتح العين المهملة وسكون المعجمة قال أبو السعادات هكذا تروى في كتب الحديث والذي جاء في كتب الغريب ألا أنبئكم ما العضة بكسر العين وفتح الضاد وفي حديث آخر اياكم والعضة قال الزمخشري أصلها العضهة فعلة من العضه وهو البهت فحذفت لامه كما حذفت من السنة والشفة وتجمع على عضين ثم فسره بقوله هي النميمة القالة بين الناس وعلى هذا فاطلق عليها العضة لأنها لا تنفك عن الكذب والبهتان غالبا ذكره

353

القرطبي قلت ظاهر ايراد المصنف لهذا الحديث هنا يدل على أن معنى العضه عنده هنا هو السحر ويدل على ذلك حديث كادت النميمة أن تكون سحرا رواه ابن لال في مكارم الأخلاق بإسناد ضعيف وذكر ابن عبد البر عن يحيى بن أبي كثير قال يفسد النمام والكذاب في ساعة مالا يفسد الساحر ف يسنة وقال ابو الخطاب في عيون المسائل ومن السحر السعي بالنميمة والإفساد بين الناس قال في الفروع ووجهه أنه يقصد الأذى بكلامه وعلمه على وجه المكر والحيلة أشبه السحر ولهذا يعلم بالعرف والعادة أنه يؤثر وينتج ما يعمله الساحر أو أكثر فيعطى حكمه تسوية بين المتماثلين أو المتقاربين لكنه يقال الساحر إنما كفر لوصف السحر وهو امر خاص ودليله خاص وهذا ليس بساحر وإنما يؤثر عمله ما يؤثره فيعطى حكمه إلا فيما اختص به من الكفر وعدم قبول التوبة انتهى ملخصا وبه يظهر مطابقة الحديث للترجمة والحديث دليل على تحريم النميمة وهو كذلك بالاجماع وقد قال أبو محمد بن حزم اتفقوا على تحريم الغيبة والنميمة في غير النصيحة الواجبة وفيه دليل على أنها من الكبائر وقوله القالة بين الناس قال أبو السعادات أي كثرة القول وايقاع الخصومة بين الناس بما يحكى للبعض عن البعض ومنه الحديث ففشت القالة بين الناس قال ولهما عن ابن عمر أن رسول الله صلىالله عليه وسلم قال إن من البيان لسحرا ش البيان البلاغة والفصاحة قال صعصعة بن صوحان صدق نبي الله أما قوله إن من البيان لسحر فالرجل يكون عليه الحق وهو الحن الحجج من صاحب الحق فيسحر القوم ببيانه فيذهب بالحق وقال ابن عبد البر

354

تأولته طائفة على الذم لأن السحر مذموم وذهب أكثر أهل العلم وجماعة أهل الأدب إلى أنه على المدح لأن الله تعالى مدح البيان قال وقد قال عمر بن عبدالعزيز لرجل سأله عن حاجة فأحسن المسألة فأعجبه قوله فقال هذا والله السحر الحلال قلت الأول أصح وهو أنه خرج مخرج الذم لبعض البيان لا كله وهو الذي فيه تصويب الباطل وتحسينه حتى يتوهم السامع انه حق أو يكون فيه بلاغة زائدة عن الحد أو قوة في الخصومة حتى يسحر القوم ببيانه فيذهب بالحق ونحو ذلك فسماه سحرا لأنه يستميل القلوب كالسحر ولهذا قال صلى الله عليه وسلم لما جاءه رجلان من المشرق فخطبا فعجب الناس لبيانهما فقال رسول الله صلى الله عيله وسلم إن من البيان لسحرا كما رواه مالك والبخاري وغيرهم وأما جنس البيان فمحمود بخلاف الشعر فجنسه مذموم إلا ما كان حكما ولكن لا يحمد البيان إلا إذا لم يخرج إلى حد الإسهاب والإطناب أو تصوير الباطل في صورة الحق فإذا خرج إلى هذا الحد فهو مذموم وعلى هذا تدل الاحاديث كقوله صلى الله عليه وسلم إن الله يبغض البليغ من الرجال الذي يتخلل بلسانه كما تتخلل البقرة بلسانها رواه أحمد وأبو داود وقوله لقد رأيت أو لقد أمرت أن أتجوز في القول فإن الجواز هو خير رواه أبو داود باب ما جاء في الكهان ونحوهم اعلم ان الكهان الذين يأخذون عن مسترقي السمع موجودون إلى اليوم لكنهم قليل بالنسبة لما كانوا عليه في الجاهلية لأن الله تعالى حرس

355

السماء بالشهب ولم يبق من استراقهم إلا ما يخطفه الأعلى فيلقيه الى الأسفل قبل أن يصيبه الشهاب وأما ما يخبر به الجني مواليه من الانس بما غاب عن غيره مما لا يطلع عليه الانسان غالبا فكثير جدا في أناس ينتسبون الى الولاية والكشف وهم من الكهان إخوان الشياطين لا من الأولياء ولما ذكر المصنف شيئا مما يتعلق بالسحر ذكر ما جاء في الكهان ونحوهم كالعراف لمشابهة هؤلاء للسحرة والكهانة ادعاء علم الغيب كالاخبار بما سيقع في الأرض مع الاستناد إلى سبب والأصل فيه استراق الجن السمع من كلام الملائكة فتلقيه في اذن الكاهن والكاهن لفظ يطلق على العراف والذي يضرب الحصى والمنجم وقال في المحكم الكاهن القاضي بالغيب وقال الخطابي الكهان فيما علم بشهادة الامتحان قوم لهم أذهان حادة ونفوس شريرة وطبائع نارية فهم يفزعون إلى الجن في أمورهم ويستفتونهم في الحوادث فيلقون اليهم الكلمات قال وروى مسلم في صحيحه عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من أتى عرافا فسأله عن شيء فصدقه لم تقبل له صلاة أربعين يوما ش هذا الحديث رواه مسلم كما قال المصنف ولفظه حدثنا محمد بن المثنى العنزي ثنا يحيى بن سعيد عن عبيد الله في نسخة عبدالله عن نافع عن صفية عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من أتى عرافا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة اربعين يوما وليلة هكذا رواه وليس فيه فصدقه قوله عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم هي حفصة على ما ذكره أبو مسعود الدمشقي لأنه ذكر هذا الحديث في الأطراف في مسندها وكذلك سماه بعض الرواة

356

قوله من اتى عرافا فسأله عن شيء العراف سيأتي بيانه وهو من أنواع الكهان وظاهر الحديث أن هذا الوعيد مرتب على مجيئه وسؤاله سواء صدقه أو شك في خبره لأن اتيان الكهان منهي عنه كما في حديث معاوية ابن الحكم السلمي قلت يا رسول الله إن منا رجالا يأتون الكهان قال فلا تأتهم رواه مسلم ولأنه إذا شك في خبره فقد شك في أنه لا يعلم الغيب وذلك موجب للوعيد بل يجب عليه أن يقطع ويعتقد أنه لا يعلم الغيب إلا الله قوله لم تقبل له صلاة أربعين يوما إذا كانت هذه حال السائل فكيف بالمسؤول قال النووي وغيره معناه أنه لا ثواب له فيها وان كانت مجزئة في سقوط الفرض عنه ولا يحتاج معها إلى اعادة ونظير هذه الصلاة في ارض مغصوبة مجزئة مسقطة للقضاء لكن لا ثواب له فيها قاله جمهور أصحابنا قالوا فصلاة الفرض إذا أتى بها على وجهها الكامل ترتب عليها شيئان سقوط الفرض وحصول الثواب فإذا أداها في أرض مغصوبه حصل له الأول دون الثاني ولا بد من هذا التأويل في هذا الحديث فإن العلماء متفقون على أنه لا يلزم من أتى العراف إعادة صلاة أربعين ليلة فوجب تأويله هذا كلامه وهو مبني على الملازمة بين الإجراء وعدم الاعادة والصواب أن عدم الاعادة لا يستلزم الإجزاء لكن الصلاة في الارض المغصوبة في أجزائها نزاع والمشهور من مذهب أحمد أنها لا تجزىء وتجب إعادتها وفي الحديث النهي عن إتيان الكاهن ونحوه قال القرطبي يجب على من قدر على ذلك من محتسب وغيره أن يقيم على من يتعاطى شيئا من ذلك من التعزيرات وينكر عليهم أشد النكير وعلى من يجيء إليهم ولا يغتر بصدقهم في بعض الأمور ولا بكثرة من يجيء إليهم ممن ينسب إلى العلم فإنهم غير راسخين في العلم بل من الجهال بما في اتيانهم من المحذور قال وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من أتى كاهنا فصدقه

357

بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم رواه أبو داود ش هذا الحديث رواه أبو داود ولفظه حدثنا موسى ابن اسماعيل ثنا حماد ح وحدثنا مسدد ثنا يحيى عن حماد بن سلمة عن حكيم الأثرم عن أبي تميمة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من أتى كاهنا قال موسى في حديثه فصدقه بما يقول أو أتى امرأة قال مسدد امرأته حائضا أو أتى أمرأة قال مسدد يعني امرأته في دبرها فقد برىء مما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ورواه الترمذي والنسائي وابن ماجه بنحوه وقال الترمذي لا نعرفه إلا من حديث الأثرم وضعف محمد هذا الحديث من جهة إسناده وقال البغوي سنده ضعيف وقال الذهبي ليس إسناده بالقائم قلت أطال أبو الفتح اليعمري في بيان ضعفه وادعى أن متنه منكر وأخطأ في إطلاق ذلك فإن إتيان الكاهن له شواهد صحيحة منها ما ذكره المصنف بعده وكذلك إتيان المرأة في الدبر له شواهد منها ما رواه عبد بن حميد بإسناد صحيح عن طاووس أن رجلا سأل ابن عباس عن إتيان المرأة في دبرها فقال تسألني عن الكفر ومنها ما رواه الترمذي والنسائي وابن حبان في صحيحه وصححه ابن حزم عن ابن عباس مرفوعا لا ينظر الله إلى رجل أتى رجلا أو امرأة في الدبر والأحاديث في ذلك كثيرة وغاية ما ينكر من متنه ذكر إتيان الحائض والله أعلم قال وللأربعة والحاكم وقال صحيح على شرطهما عن من أتى عرافا أو كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ش هكذا بيض المصنف اسم الراوي وقد رواه أحمد والبيهقي والحاكم عن أبي هريرة مرفوعا ولفظ أحمد

358

حدثنا يحيى بن سعيد عن عوف عن خلاس عن أبي هريرة والحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره وهذا اسناد صحيح على شرط البخاري فقد روى عن عوف عن خلاس عن أبي هريرة حديث أن موسى كان رجلا حييا الحديث قال العراقي في أماليه حديث صحيح وقال الذهبي اسناده قوي وعلى هذا فعزو المصنف إلى الأربعة ليس كذلك فإنه لم يروه أحد منهم واظنه تبع في ذلك الحافظ فإنه عزاه في الفتح إلى أصحاب السنن والحاكم فوهم ولعله أراد الذي قبله قوله من أتى كاهنا الى آخره قال بعضهم لا تعارض بين هذا الخبر وبين حديث من أتى عرافا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة إذ الغرض في هذا الحديث أنه سأله معتقدا صدقه وأنه يعلم الغيب فإنه يكفر فإن اعتقد أن الجن تلقي اليه ما سمعته من الملائكة أو أنه بإلهام فصدقه من هذه الجهة لا يكفر كذا قال وفيه نظر وظاهر الحديث أنه يكفر متى اعتقد صدقه بأي وجه كان لاعتقاده أنه يعلم الغيب وسواء كان ذلك من قبل الشياطين أو من قبل الإلهام لا سيما وغالب الكهان في وقت النبوة إنما كانوا يأخذون عن الشياطين وفي حديث رواه الطبراني عن واثلة مرفوعا من أتى كاهنا فسأله عن شيء حجبت عنه التوبة أربعين ليلة فإن صدقه بما قال كفر قال المنذري ضعيف فهذا لو ثبت نص في المسألة لكن ما تقدم من الأحاديث يشهد له فإن الحديث الذي فيه الوعيد بعدم قبول الصلاة أربعين ليلة ليس فيه ذكر تصديقه والأحاديث التي فيها اطلاق الكفر مقيدة بتصديقه قوله فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم قال الطيبي المراد بالمنزل الكتاب والسنة أي من ارتكب الهناة فقد برىء من دين محمد صلى الله عليه وسلم وما أنزل عليه انتهى وهل الكفر في هذا الموضع كفر دون كفر أو يجب التوقف

359

فلا يقال ينقل عن الملة ذكروا فيها روايتين عن أحمد وقيل هذا على التشديد والتأكيد أي قارب الكفر والمراد كفر النعمة وهذان القولان باطلان قال ولأبي يعلى بسند جيد عن ابن مسعود مثله موقوفا ش أبو يعلى اسمه أحمد بن علي بن المثنى الموصلي الإمام صاحب التصانيف ك المسند وغيره روى عن يحيى بن معين وابي خيثمة وأبي بكر بن أبي شيبة وخلق وكان من الأئمة الحفاظ مات سنة سبع وثلاثمائة وهذا الأثر رواه البزار أيضا واسناده على شرط مسلم ولفظه من أتى كاهنا أو ساحرا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم وفيه دليل على كفر الكاهن والساحر والمصدق لهما لأنهما يدعيان علم الغيب وذلك كفر والمصدق لهما يعقتد ذلك ويرضى به وذلك كفر أيضا قال وعن عمران بن الحصين مرفوعا ليس منا من تطير أو تطير له أو تكهن له أو سحر أو سحر له ومن أتى كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم رواه البزار بإسناد جيد ورواه الطبراني باسناد حسن من حديث ابن عباس دون قوله ومن أتى الى آخره ش هذا الحديث رواه الطبراني كما قال المصنف في الأوسط قال لمنذري اسناد الطبراني حسن واسناد البزار جيد قوله ليس منا أي ليس يفعل ذلك من هو من أشياعنا العاملين باتباعنا المقتفين لشرعنا قوله من تطير أي فعل الطيرة أو تطير له اي امر من يتطير له كذلك معنى تكهن او تكهن له أو سحر له قوله رواه البزار اسمه أحمد بن عمرو بن عبدالخالق أبو بكر البزار

360

البصري صاحب المسند الكبير الذي عزا اليه المصنف روى عن ابن بشار وابن المثنى وخلق قال الدارقطني ثقة يخطىء ويتكل على حفظه مات سنة اثنين وتسعين ومائتين قوله قال البغوي العراف الذي يدعي معرفة الأمور بمقد مات يستدل بها على المسروق ومكان الضالة ونحو ذلك وقيل هو الكاهن والكاهن هو الذي يخبر عن المغيبات في المستقبل وقيل الذي يخبر عما في الضمير وقال أبو العباس ابن تيمية العراف اسم للكاهن والمنجم والرمال ونحوهم ممن يتكلم في معرفة الأمور بهذه الطرق ش البغوي بفتحتين اسمه الحسين بن مسعود بن الفراء المعروف بمحيي السنة الشافعي صاحب التصانيف وعالم أهل خراسان وكان ثقة فقيها زاهدا مات في شوال سنة ست عشرة وخمسمائة قوله العراف الذي يدعي معرفة الأمور الى آخره هذا تفسير حسن وظاهره يقتضي أن العراف هو الذي يخبر عن الواقع كالمسروق والضالة وأحسن منه كلام شيخ الإسلام أن العراف اسم للكاهن والمنجم والرمال ونحوهم كالحازر الذي يدعي علم الغيب أو يدعي الكشف وقال أيضا والمنجم يدخل في اسم العراف وعند بعضهم هو في معناه وقال أيضا والمنجم يدخل في اسم الكاهن عند الخطابي وغيره من العلماء وحكى ذلك عن العرب وعند آخرين من جنس الكاهن وأسوء حالا منه فيلحق به من جهة المعنى وقال الامام أحمد العراف طرف من السحر والساحر أخبث وقال ابو السعادات العراف المنجم والحازر الذي يدعي علم الغيب وقد استأثر الله تعالى به وقال ابن القيم من اشتهر باحسان الزجر عندهم سموه عائفا وعرافا والمقصود من هذا معرفة أن من يدعي علم شيء من المغيبات فهو إما داخل في اسم الكاهن وإما مشارك له في المعنى فيلحق به

361

وذلك أن إصابة المخبر ببعض الأمور الغائبة في بعض الأحيان يكون بالكشف ومنه ما هو من الشياطين ويكون بالفأل والزجر والطير والضرب بالحصى والخط في الأرض والتنجيم والكهانة السحر ونحو هذا من علوم الجاهلية ونعني بالجاهلية كل من ليس من اتباع الرسل كالفلاسفة والكهان المنجمين وجاهلية العرب الذين كانوا قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم فان هذه علوم قوم ليس لهم علم بما جاءت به الرسل عليهم السلام وكل هذه الأمور يسمى صاحبها كاهنا وعرافا أو في معناهما فمن أتاهم فصدقهم بما يقولون لحقه الوعيد وقد ورث هذه العلوم عنهم أقوام فادعوا بها علم الغيب الذي استأثر الله تعالى بعلمه وادعوا أنهم أولياء وأن ذلك كرامة ولا ريب أن من ادعى الولاية واستدل عليها بإخباره ببعض المغيبات فهو من أولياء الشيطان لا من أولياء الرحمن إذ الكرامة أمر يجريه الله على يد عبده المؤمن المتقي إما بدعاء أو أعمال صالحة لا صنع للولي فيها ولا قدرة له عليها بخلاف من يدعي أنه ولي لله ويقول للناس أعلموا إني أعلم المغيبات فإن مثل هذه الأمور قد تحصل بما ذكرنا من الأسباب وإن كانت أسبابا محرمة كاذبة في الغالب ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في وصف الكهان فيكذبون معها مائة كذبة فبين أنهم يصدقون مرة ويكذبون مائة وهكذا حال من سلك سبيل الكهان ممن يدعي الولاية والعلم بما في ضمائر الناس مع أن نفس دعواه دليل على كذبه لأن في دعواه الولاية تزكية النفس المنهي عنها بقوله فلا تزكوا أنفسكم وليس هذا من شأن الأولياء بل شأنهم الإزراء على نفوسهم وعيبهم لها وخوفهم من ربهم فكيف يأتون الناس يقولون اعرفوا أنا أولياء وأنا نعلم الغيب وفي

362

ضمن ذلك طلب المنزلة في قلوب الخلق واقتناص الدنيا بهذه الأمور وحسبك بحال الصحابة والتابعين وهم سادات الأولياء أفكان عندهم من هذه الدعاوى والشطحات شيء لا والله بل كان أحدهم لا يملك نفسه من البكاء إذا قرأ القرآن كالصديق وكان عمر يسمع نشيجه من وراء الصفوف يبكي في صلاته وكان يمر بالآية في ورده بالليل فيمرض منها ليالي يعودونه الناس وكان تميم الداري يتقلب في فراشه لا يستطيع النوم إلا قليلا خوفا من النار تم يقوم الى صلاته ويكفيك في صفات الأولياء ما ذكر الله تعالى من صفاتهم في سورة الرعد والمؤمنين والفرقان والذاريات والطور فالمتصفون بتلك الصفات هم الاولياء الأصفياء لا أهل الدعوى والكذب ومنازعة رب العالمين فيما اختص من الكبرياء والعظمة وعلم الغيب بل مجرد دعواه علم الغيب كفر فكيف يكون المدعي لذلك وليا لله ولقد عظم الضرر واشتد الخطب بهؤلاء المفترين الذين ورثوا هذه العلوم عن المشركين ولبسوا بها على خفافيش البصائر نسأل الله السلامة والعافية في الدنيا والآخرة فإن قلت كيف يكون علم الخط من الكهانة وقد روى أحمد ومسلم عن معاوية بن الحكم أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومنا رجال يخطون فقال كان نبي من الأنبياء يخط فمن وافق خطه فذاك قلت قال النووي معناه أن من وافق خطه فهو مباح له لكن لا طريق لنا إلى العلم باليقين بالموافقة فلا يباح والقصد أنه لا يباح الا بيقين الموافقة وليس لنا يقين وقال غيره المراد به النهي عنه والزجر عن تعاطيه لأن خط ذلك النبي كان معجزة وعلما لنبوته وقد انقطعت نبوته ولم يقل فذلك الخط حرام دفعا لتوهم ان خط ذلك النبي حرام قلت ويحتمل أن المعنى أن سبب إصابة

363

صاحب الخط هو موافقته لخط ذلك النبي فمن وافق خطه أصاب وإذا كان كذلك وكانت الاصابة نادرة بالنسبة الى الخط ولا طريق الى اليقين بالموافقة صار ذلك بالنسبة إلى من يتعاطاه من أنواع الكهانة لمشاركته لها في المعنى اذا علمت ذلك فاعلم أن مذهب الامام أحمد أن حكم الكاهن والعراف الاستتابة فإن تابا وإلا قتلا ذكره غير واحد من الأصحاب فأما المعزم الذي يعزم على المصروع ويزعم أنه يجمع الجن وأنها تطيعه والذي يحل السحر فقال في الكافي ذكرهما أصحابنا في السحرة الذين ذكرنا حكمهم وقد توقف أحمد لما سئل عن الرجل يحل السحر فقال قد رخص فيه بعض الناس قيل إنه يجعل في الطنجير ماء ويغيب فيه فنفض يده وقال ما أدري ما هذا قيل له فترى أن يؤتى مثل هذا يحل قال ما أدري ما هذا قال وهذا يدل على أنه لا يكفر صاحبه ولا يقتل قلت إن كان ذلك لا يحصل إلا بالشرك والتقرب إلى الجن فإنه يكفر ويقتل ونص أحمد لا يدل على أنه لا يكفر فإنه قد يقول مثل هذا في الحرام البين قوله وقال ابن عباس في قوم يكتبون أبا جاد وينظرون في النحوم ما أرى من فعل ذلك له عند الله من خلاق ش هذا الأثر ذكره المصنف عن ابن عباس ولم يعزه وقد رواه الطبراني عن ابن عباس مرفوعا وإسناده ضعيف ولفظه رب معلم حروف أبي جاد دارس في النجوم ليس له عند الله من خلاق يوم القيامة ورواه أيضا حميد بن زنجويه عنه بلفظ رب ناظر في النجوم ومتعلم حروف أبي جاد ليس له عند الله خلاق قوله ما أرى يجوز فتح الهمزة من أرى بمعنى لا أعلم له عند الله من خلاق أي من نصيب ويجوز ضمها بمعنى لا أظن ذلك لاشتغاله بما فيه من

364

اقتحام الخطر والجهالة وادعاء علم الغيب الذي استأثر الله به وكتابه أبي جاد وتعلمها لمن يدعي بها معرفة علم الغيب هو الذي يسمى علم الحروف ولبعض المبتدعة فيه مصنف فأما تعليمها للتهجي وحساب الجمل فلا بأس بذلك قوله وينظرون في النجوم هذا محمول على علم التأشير لا التسيير كما سيجيء في باب التنجيم وفيه عدم الاغترار بما يؤتاه أهل الباطل من معارفهم وعلومهم كما قال تعالى فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون باب ما جاء في النشرة لما ذكر المصنف حكم السحرة والكهانة ذكر ما جاء في النشرة لأنها قد تكون من قبل الشياطين والسحرة فتكون مضادة للتوحيد وقد تكون مباحة كما سيأتي تفصيله قال أبو السعادات النشرة ضرب من العلاج والرقية يعالج به من كان يظن أن به مسا من الجن سميت نشرة لأنه ينشر بها عنه ما خامره من الداء أي يكشف ويزال وقال الحسن النشرة من السحر وقد نشرت عنه تنشيرا ومنه الحديث فلعل طبا أصابه ثم نشره ب قل أعوذ برب الناس أي رقاه وقال غيره ونشرة أيضا إذا كتب له النشرة وهي كالتعويذ والرقية

365

وقال ابن الجوزي النشرة حل السحر عن المسحور ولا يكاد يقدر عليه إلا من يعرف السحر قال عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن النشرة فقال هي من عمل الشيطان رواه أحمد بسند جيد وأبو داود قال سئل أحمد عنها فقال ابن مسعود يكره هذا كله ش هذا الحديث رواه أحمد ورواه عنه أبو داود في سننه والفضل بن زياد في كتاب المسائل عن عبدالرزاق عن عقيل بن معقل بن منبه عن عمه وهب بن منبه عن جابر فذكره قال ابن مفلح إسناد جيد وحسن الحافظ إسناده ورواه ابن أبي شيبة وابو داود في المراسبل عن الحسن رفعه النشرة من عمل الشيطان قوله سئل عن النشرة الألف واللام في النشرة للعهد أي النشرة المعهودة التي كان أهل الجاهلية يصنعونها هي من عمل الشيطان لا النشرة بالرقي والتعوذات الشرعية والأدوية المباحة فإن ذلك جائز كما قرره ابن القيم فيما سيأتي قوله وقال سئل أحمد عنها فقال ابن مسعود يكره هذا كله مراد أحمد والله أعلم أن ابن مسعود يكره النشرة التي من عمل الشيطان والنشرة التي بكتابة وتعليق كالتمائم فإن ابن مسعود كان يكره التمائم كلها من القرآن وغير القرآن أما النشرة بالتعويذ والرقي بأسماء الله وكلامه من غير تعليق فلا أعلم أحدا كرهه وكذلك ما رواه ابن أبي شيبة عن ابراهيم كانوا يكرهون التمائم والرقى والنشر محمول على ما ذكرنا قال وفي البخاري عن قتادة قلت لابن المسيب رجل به طب أو يؤخذ عن امرأته أيحل عنه أو ينشر قال لا بأس به إنما يريدون

366

به الاصلاح فأما ما ينفع فلم ينه عنه ش هذا الأثر علقه البخاري ووصله أبو بكر الأثرم في كتاب السنن من طريق ابان العطار عن قتادة مثله ومن طريق هشام الدستوائي عن قتادة بلفظ يلتمس من يداويه فقال إنما نهى الله عما يضر ولم ينه عما ينفع قوله عن قتادة هو ابن دعامة بكسر الدال السدوسي البصري ثقة ثبت فقيه من أحفظ التابعين يقال إنه ولد أكمه مات سنة بضع عشرة ومائة قوله رجل به طب بكسر الطاء أي سحر يقال طب الرجل بالضم أذا سحر ويقال كنوا عن السحر بالطب تفاؤلا كما قالوا للديغ سليم وقال ابن الأنباري الطب من الأضداد يقال لعلاج الداء طب والسحر من الداء يقال له طب قوله أو يؤخذ بفتح الواو مهموز وتشديد الخاء المعجمة وبعدها ذال معجمة أي يحبس عن امرأته ولا يصل الى جماعها والأخذة بضم الهمزة الكلام الذي يقوله الساحر قوله يحل بضم الياء وفتح الحاء مبني للمفعول قوله وينشر بتشديد المعجمة قوله قال لا بأس به الى آخره يعني أن النشرة لا بأس بها لأنهم يريدون بها الاصلاح أي ازالة السحر ولم ينه عما يراد به الاصلاح إنما ينهى عما يضر وهذا الكلام من ابن المسيب يحمل على نوع من النشرة لا يعلم هل هو نوع من السحر ام لا فأما أن يكون ابن المسيب يفتي بجواز قصد الساحر الكافر المأمور بقتله ليعمل السحر فلا يظن به ذلك حاشاه منه ويدل على ذلك قوله إنما يريدون به الاصلاح فأي اصلاح في السحر بل كله فساد وكفر

367

والله أعلم قال وروي عن الحسن أنه قال لا يحل السحر الا ساحر ش هذا الأثر ذكره ابن الجوزي في جامع المسانيد بغير اسناد ولفظه لا يطلق السحر الا ساحر وروى ابن جرير في التهذيب من طريق يزيد بن زريع عن قتادة عن سعيد بن المسيب أنه كان لا يرى بأسا اذا كان بالرجل سحر أن يمشي الى من يطلق عنه فقال هو صلاح قال قتادة وكان الحسن يكره ذلك يقول لا يعلم ذلك الا ساحر قال فقال سعيد بن المسيب إنما نهى الله عما يضر ولم ينه عما ينفع قوله عن الحسن هو ابن أبي الحسن واسمه يسار بالتحتانية والمهملة البصري الأنصاري مولاهم ثقة فقيه إمام فاضل من خيار التابعين مات سنة عشر ومائة وقد قارب التسعين قوله قال ابن القيم النشرة حل السحر عن المسحور وهي نوعان حل بسحر مثله وهو الذي من عمل الشيطان وعليه يحمل قول الحسن فيتقرب الناشر والمنتشر الى الشيطان بما يحب فيبطل عمله عن المسحور والثاني النشرة بالرقية والتعوذات والأدوية المباحة فهذا جائز ش هذا الثاني هو الذي يحمل عليه كلام ابن المسيب أو على نوع لا يدري هل هو من السحر أم لا وكذلك ما روي عن الامام أحمد من اجازة النشرة فإنه محمول على ذلك وغلط من ظن أنه أجاز النشرة السحرية وليس في كلامه ما يدل على ذلك بل لما سئل عن الرجل يحل السحر قال قد رخص فيه بعض الناس قيل إنه يجعل في الطنجير ماء ويغيب فيه فنفض يده وقال لا أدري ما هذا قيل له أفترى أن يؤتى مثل هذا قال لا أدري ما هذا وهذا صريح في النهي عن النشرة على الوجه المكروه وكيف

368

وهو الذي روى الحديث انها من عمل الشيطان لكن لما كان لفظ النشرة مشتركا بين الجائزة والتي من عمل الشيطان ورأوه قد أجاز النشرة ظنوا أنه قد أجاز التي من عمل الشيطان وحاشاه من ذلك ومما جاء في صفة النشرة الجائزة ما رواه ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ليث بن أبي سليم قال بلغني أن هؤلاء الآيات شفاء من السحر باذن الله تقرأ في إناء فيه ماء ثم تصب على رأس المسحور الآية التي في يونس فلما ألقوا قال موسى ما جئتم به السحر أن الله سيبطله إن الله لا يصلح عمل المفسدين الى قوله ولو كره المجرمون وقوله فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون الى آخر أربع آيات وقوله ما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى وقال ابن بطال في كتاب وهب بن منبه أنه يأخذ سبع ورقات من سدر أخضر فيدقه بين حجرين ثم يضربه بالماء ويقرأ فيه آية الكرسي والقواقل ثم يحسو منه ثلاث حسوات ثم يغتسل به فإنه يذهب عنه كل ما به وهو جيد للرجل اذا حبس عن أهله باب ما جاء في التطير مصدر تطير يتطير والطيرة أيضا بكسر الطاء وفتح الياء وقد تسكن مصدر تطير يقال تطير طيرة وتخير خيرة ولم يجيء من المصادر هكذا غيرهما وأصله فيما يقال التطير بالسوانح والبوارح من الطير والظباء وغيرهما وكان ذلك يصدهم عن مقاصدهم فإذا أرادوا أمرا فإن رأوا الطير مثلا طاديمنة تيمنوا به وإن طار يسره تشاءموا به فنفاه الشرع وأبطله ونهى عنه وأخبر أنه ليس له تأثير في جلب

369

نفع أو دفع ضر قال المدائني سألت رؤبة بن العجاج ما السانح قال ما ولاك ميامنه قلت فما البارح قال ما ولاك مياسره قال والذي يجيء من أمامك فهو الناطح والنطيع والذي يجىء من خلفك هو القاعد والقعيد ولما كانت الطيرة بابا من الشرك منافيا للتوحيد أو لكماله لأنها من القاء الشيطان وتخويفه ووسوسته ذكره المصنف في كتاب التوحيد تحذيرا منها وإرشاد الى كمال التوحيد بالتوكل على الله وأعلم أن من كان معتنيا بها قابلا بها كانت اليه أسرع من السيل الى منحدره وتفتحت له أبواب الوساوس فيما يسمعه ويراه ويعطاه ويفتح له الشيطان فيها من المناسبات البعيدة والقريبة في اللفظ والمعنى ما يفسد عليه دينه وينكد عليه عيشه فالواجب على العبد التوكل على الله ومتابعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن يمضي لشأنه لا يرده شيء من الطيرة عن حاجته فيدخل في الشرك قال وقول الله تعالى ألا إنما طائرهم عند الله ولكن أكثرهم لا يعلمون ش اول الآية قوله تعالى فإذا جاءتهم حسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه الآية المعنى أن آل فرعون إذا صابتهم الحسنة أي الخصب والسعة والعافية على ما فسره مجاهد وغيره قالوا لنا هذه اي نحن الجديرون الحقيقون به ونحن أهله وإن تصبهم سيئة أي بلاء وضيق وقحط يطيروا بموسى ومن معه فيقولون هذا بسبب موسى وأصحابه أصابنا بشؤمهم كما يقوله المتطير لمن يتطير به فأخبر سبحانه أن طائرهم عنده فقال ألا إنما طائرهم عند الله قال ابن عباس طائرهم ما قضي عليهم وقد لهم وفي رواية ذكرها ابن جرير عنه قال الأمر من قبل الله وفي رواية شؤمهم عند الله ومن قبله أي إنما جاءهم الشؤم من قبله بكفرهم وتكذيبهم بآياته ورسله

370

وقيل المعنى أن الشؤم العظيم هو الذي لهم عند الله من عذاب النار لا هذا الذي اصابهم في الدنيا والظاهر أن هذه الآية كقوله تعالى وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كل من عند الله أي ان الكل من الله لكن هذا الشؤم الذي اجراه عليهم من عنده هو بسبب أعمالهم لا بسبب موسى عليه السلام ومن معه وكيف يكون ذلك وما جاء به خير محض والطيرة إنما تكون بالشر لا بالخير وقوله ولكن أكثرهم لا يعلمون أي ان أكثرهم جهال لا يدرون ولو فهموا أو عقلوا لعلموا أنه ليس فيما جاء به موسى عليه السلام شيء يقتضي الطيرة وقال ابن جرير يقول تعالى ذكره ألا إنما طائر آل فرعون وغيرهم وذلك أنصباؤهم من الرخاء والخصب وغير ذلك من انصباء الخير والشر عند الله ولكن أكثرهم لا يعلمون أن ذلك كذلك فلجهلهم بذلك كانوا يتطيرون بموسى ومن معه قال وقوله قالوا طائركم معكم الآية ش المعنى والله أعلم أي حظكم وما نالكم من خير وشر معكم بسبب أفعالكم وكفركم ومخالفتكم الناصحين ليس هو من أجلنا ولا بسببنا بل ببغيكم وعداوتكم فطائر الباغي الظالم معه وهو عندالله كما قال تعالى وان تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كل من عند الله فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا ولو فقهوا أو فهموا لما تطيروا بما جئت به لأنه ليس فيما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ما يقتضي الطيرة كأنه خير محض لا شر فيه وصلاح لا فساد فيه وحكمة لا عيب فيها ورحمة لا جور فيها فلو كان هؤلاء القوم من أهل الفهم والعقول السليمة لم يتطيروا من هذا لأن الطيرة إنما تكون بالشر لا بالخير

371

المحض والحكمة والرحمة بل طائرهم معهم بسبب كفرهم وشركهم وبغيهم وهو عند الله كسائر حظوظهم وانصبائهم التي ينالونها منه بأعمالهم ويحتمل أن يكون المعنى طائركم معكم أي راجع عليكم فالتطير الذي حصل لكم إنما يعود عليكم وهذا من باب القصاص في الكلام ونظيره قوله عليه السلام إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا وعليكم ذكره ابن القيم وقوله أئن ذكرتم أي من أجل أنا ذكرناكم وأمرناكم بتوحيد الله وإخلاص العبادة له قابلتمونا بهذا الكلام وتوعدتمونا بل أنتم قوم مسرفون وقال قتادة ائن ذكرناكم بالله تطيرتم بنا ومطابقة الآيتين لمقصود الباب ظاهر لأن الله تعالى لم يذكر النظير إلا عن اعدائه فهو من أمر الجاهلية لا من امر الاسلام قال عن أبي هريرة ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر أخرجاه زاد مسلم ولا نوء ولا غول ش قوله لا عدوى قال أبو السعادات العدوى اسم من الإعداء كالدعوى والبقوى من الادعاء والابقاء يقال أعداه الداء يعديه إعداء وهو أن يصيبه مثل ما بصاحب الداء وذلك أن يكون ببعير جرب مثلا يتقي مخالطته بابل أخرى حذار أن يتعدى ما به من الجرب اليها فيصيبها ما أصابه انتهى وفي بعض روايات هذا الحديث فقال أعرابي يا رسول الله فما بال الابل تكون في الرمل كأنها الظباء فيجيء البعير الأجرب فيدخل فيها فيجربها كلها قال فمن أعدى الأول وفي رواية في مسلم أن أبا هريرة كان يحدث بحديث لا عدوى ويحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لا يورد ممرض على مصح ثم أن أبا هريرة اقتصر على حديث لا يورد ممرض على مصح وأمسك عن حديث لا عدوى فراجعوه فيه فقالوا سمعناك تحدثه فأبى أن يعترف به قال أبو سلمة الراوي عن أبي هريرة فلا أدري أنسي ابو هريرة أو نسخ أحد

372

القولين الآخر وقد روى حديث لا عدوى جماعة من الصحابة منهم أنس بن مالك وجابر بن عبدالله والسائب بن يزيد وابن عمر وغيرهم فنسيان أبي هريرة له لا يضر وفي بعض روايات هذا الحديث وفر من المجذوم كما تفر من الأسد وقد اختلف العلماء في ذلك اختلافا كثيرا فردت طائفة حديث لا عدوى بأن أبا هريرة رجع عنه قالوا والأخبار الدالة على الاجتناب أكثر فالمصير إليها أولى وهذا ليس بشيء لأن حديث لا عدوى قد رواه جماعة كما تقدم وعكست طائفة هذا القول ورجحوا حديث لا عدوى وزيفوا ما سواه من الأخبار وأعلوا بعضها بالشذوذ كحديث فر من المجذوم فرارك من الأسد وبأن عائشة انكرته كما روى ابن جرير عنها أن امرأة سألتها عنه فقالت ما قال ذلك ولكنه قال لا عدوى وقال فمن أعدى الأول قالت وكان لي مولى به هذا الداء فكان يأكل في صحافي ويشرب في أقداحي وينام على فراشي وهذا أيضا ليس بشيء فإن الأحاديث في الاجتناب ثابتة وحملت طائفة أخرى الاثبات والنفي على حالتين مختلفتين فحيث جاء لا عدوى كان للمخاطب بذلك من قوي يقينه وصح توكله بحيث لا يستطيع أن يدفع عن نفسه اعتقاد العدوى كما يستطيع أن يدفع التطير الذي يقع في نفس كل واحد لكن القوي اليقين لا يتأثر به وهذا كما أن قوة الطبيعة تدفع العلة وتبطلها وحيث جاء الاثبات كان المراد به ضعيف الايمان والتوكل ذكره بعض أصحابنا واختاره وفيه نظر وقال مالك لما سئل عن حديث فر من المجذوم ما سمعت فيه بكراهية وما أرى ما جاء من ذلك الا مخافة أن يقع في نفس المؤمن شيء ومعنى هذا انه نفى العدوى أصلا وحمل الأمر

373

بالمجانية على حسم المادة وسد الذريعة لئلا يحدث للمخاطب شيء من ذلك فيظن أنه بسبب المخالطة فيثبت العدوى التي نفاها الشارع وإلى هذا ذهب أبو عبيد وابن جرير والطحاوي وذكره القاضي أبو يعلى عن أحمد قلت وأحسن من هذا كله ما قاله البيهقي وتبعه ابن الصلاح وابن القيم وابن رجب وابن مفلح وغيرهم أن قوله لا عدوى على الوجه الذي كانوا يعقتدونه في الجاهلية من إضافة الفعل إلى غير الله تعالى وأن هذه الأمراض تعدي بطبعها وإلا فقد يجعل الله بمشيئته مخالطة الصحيح من به شيء من هذه العيوب سببا لحدوث ذلك ولهذا قال فر من المجذوم كما تفر من الأسد وقال لا يورد ممرض على مصح وقال في الطاعون من سمع به بأرض فلا يقدم عليه وكل ذلك بتقدير الله تعالى كما قال فمن اعدى الأول يشير إلى أن الأول انما جرب بقضاء الله وقدره فكذلك الثاني وما بعده وروى الإمام أحمد والترمذي عن بن مسعود مرفوعا لا يعدي شيء قالها ثلاثا فقال الاعرابي يا رسول الله النقبة من الجرب تكون بمشفر البعير أو بذنبه في الإبل العظيمة فتجرب كلها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن أجرب الأول لا عدوى ولا هامة ولا صفر خلق الله كل نفس وكتب حياتها ومصابها ورزقها فأخبر عليه السلام أن ذلك كله بقضاء الله وقدره كما دل عليه قوله تعالى ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها وأما أمره بالفرار من المجذوم ونهيه عن ايراد الممرض على المصح وعن الدخول إلى موضع الطاعون فإنه من باب اجتناب الأسباب التي خلقها الله تعالى وجعلها أسبابا للهلاك والأذى والعبد مأمور باتقاء أسباب الشر إذا

374

كان في عافية فكما أنه يؤمر أن لا يلقي نفسه في الماء أو في النار أو تحت الهدم أو نحو ذلك كما جرت العادة بأنه يهلك ويؤذي فكذلك اجتناب مقاربة المريض كالمجذوم وقدوم بلد الطاعون فإن هذه كلها أسباب للمرض والتلف والله تعالى هو خالق الأسباب ومسبباتها لا خالق غيره ولا مقدر غيره وأما اذا قوي التوكل على الله والإيمان بقضائه وقدره فقويت النفس على مباشرة بعض هذه الأسباب اعتمادا على الله ورجاء منه أن لا يحصل به ضرر ففي هذه الحال تجوز مباشرة ذلك لا سيما اذا كانت فيه مصلحة عامة أو خاصة وعلى هذا يحمل الحديث الذي رواه أبو داود والترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ بيد مجذوم فأدخلها معه في القصعة ثم قال كل باسم الله ثقة بالله وتوكلا عليه وقد أخذ به الإمام أحمد وروي ذلك عن عمر وابنه وسلمان رضي الله عنهم ونظير ذلك ما روي عن خالد بن الوليد من أكل السم ومن مشي سعد بن أبي وقاص وابي مسلم الخولاني بالجيوش على متن البحر قاله ابن رجب قوله ولا طيرة قال ابن القيم هذا يحتمل أن يكون نفيا أو يكون نهيا أي لا تتطيروا ولكن قوله في الحديث ولا عدوى ولا صفر ولا هامة يدل على أن المراد النفي وابطال هذه الأمور التي كانت الجاهلية تعانيها والنفي في هذا أبلغ من النهي لأن النفي يدل على بطلان ذلك وعدم تأثيره والنهي إنما يدل على المنع منه وفي صحيح مسلم عن معاوية بن الحكم السلمي أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومنا أناس يتطيرون فقال ذاك شيء يجده أحدكم في نفسه فلا يصدنكم فأخبر أن تأذيه وتشاؤمه بالتطير إنما هو في نفسه وعقيدته لا في المتطير به فوهمه وخوفه واشراكه هو الذي يطيره ويصده لا ما رآه وسمعه فأوضح صلى الله عليه وسلم لأمته الأمر وبين لهم فساد الطيرة ليعلموا ان الله سبحانه لم يجعل لهم عليها علامة ولا فيها دلالة ولا نصبها سببا لما يخافونه ويحذرونه

375

ولتطمئن قلوبهم وتسكن نفوسهم الى وحدانيته تعالى التي أرسل بها رسله ونزل بها كتبه وخلق لأجلها السموات والأرض وعمر الدارين الجنة والنار بسبب التوحيد فقطع صلى الله عليه وسلم علق الشرك من قلوبهم لئلا يبقى فيها علق منها ولا يتلبسوا بعمل من أعمال أهل النار البتة فما استمسك بعروة التوحيد الوثقى واعتصم بحبله المتين وتوكل على الله قطع هاجس الطيرة من قبل استقرارها وبادر خواطرها من قبل استمكانها قال عكرمة كنا جلوسا عند ابن عباس فمر طائر يصيح فقال رجل من القوم خير خير فقال ابن عباس لا خير ولا شر فبادره بالانكار عليه لئلا يعتقد تأثيره في الخير والشر وخرج طاووس مع صاحب له في سفر فصاح غراب فقال الرجل خير فقال طاووس وأي خير عند هذا لا تصحبني انتهى ملخصا ولكن يشكل عليه ما رواه ابن حبان في صحيحه عن أنس مرفوعا لا طيرة والطيرة على من تطير فظاهر هذا أنها تكون سببا لوقوع الشر بالمتطير وجوابه أن المراد بذلك من تطير تطيرا منهيا عنه وهو أن يعتمد على ما يسمعه ويراه حتى يمنعه مما يريده من حاجته فإنه قد يصيبه ما يكرهه عقوبة له فأما من توكل على الله ووثق به بحيث علق قلبه بالله خوفا ورجاء وقطعه عن الالتفات الى غير الله وقال وفعل ما أمر به فإنه لا يضره ذلك وأما من اتقى أسباب الضرر بعد انعقادها بالاسباب المنهي عنها فانه لا ينفعه ذلك غالبا كمن ردته الطيرة عن حاجته خشية أن يصيبه ما تطير به فانه كثيرا ما يصاب بما يخشى به وقد جاءت أحاديث ظن بعض الناس انها تدل على جواز الطيرة منها قوله عليه السلام الشؤم في ثلاث في المرأة والدابة والدار وفي رواية لا عدوى ولا طيرة والشؤم في ثلاث الحديث وفي حديث آخر أن كان

376

ففي الفرس والمرأة والمسكن رواهما البخاري فأنكرت عائشة رضي الله عنها ذلك وقالت كذب والذي أنزل الفرقان على أبي القاسم من حدث بها ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول كان أهل الجاهلية يقولون إن الطيرة في المرأة والدار والدابة ثم قرأت عائشة ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم الا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير رواه أحمد وابن خزيمة والحاكم وصححه بمعناه وقال الخطابي وابن قتيبة هذا مستثنى من الطيرة أي الطيرة منهي عنها إلا أن يكون له دار يكره سكناها أو امرأة يكره صحبتها أو فرس أو خادم فليفارق الجميع بالبيع والطلاق ونحوه ولا يقيم على الكراهة والتأذي به فانه شؤم وقالت طائفة لم يجزم النبي صلى الله عليه وسلم بالشؤم في هذه الثلاثة بل علقه على الشرط كما ثبت ذلك في الصحيح ولا يلزم من صدق الشرطية صدق كل واحد بمفردها قالوا والراوي غلط قلت لا يصح تغليطه مع إمكان حملة على الصحة ورواية تعليقه بالشرط لا تدل على نفي رواية الجزم وقالت طائفة أخرى الشؤم بهذه الثلاثة إنما يلحق من تشاءم بها فيكون شؤمها عليه ومن توكل على الله ولم يتشاءم ولم يتطير لم تكن مشوؤمة عليه قالوا ويدل عليه حديث انس الطيرة على من تطير وقد يجعل الله سبحانه تطير العبد وتشاءمه سببا لحلول المكروه كما يجعل الثقة بها الشر وقال ابن القيم اخباره صلى الله عليه وسلم بالشؤم في هذه الثلاثة ليس فيه اثبات الطيرة التي نفاها الله

377

وإنما غايته أن الله سبحانه قد يخلق أعيانا منها مشؤومة على من قاربها وسكنها وأعيانا مباركة لا يلحق من قاربها منها شؤم ولا شر وهذا كما يعطي سبحانه الوالدين ولدا مباركا يريان الخير على وجهه ويعطي غيرهما ولدا مشؤوما يريان الشر على وجهه وكذلك ما يعطاه العبد من ولاية أو غيرها فكذلك الدار والمرأة والفرس والله سبحانه خالق الخير والشر والسعود والنحوس فيخلق بعض هذه الأعيان سعودا مباركة ويقضي بسعادة من قاربها وحصول اليمن والبركة له ويخلق بعضها نحوسا ينتحس بها من قاربها وكل ذلك بقضائه وقدره كما خلق سائر الأسباب وربطها بمسبباتها المتضادة والمختلفة كما خلق المسك وغيره من الأرواح الطيبة ولذذ بها من قاربها من الناس وخلق ضدها وجعلها سببا لألم من قاربها من الناس والفرق بين هذين النوعين مدرك بالحس فكذلك في الديار والنساء والخيل فهذا لون والطيرة والشركية لون انتهى قلت ولهذا يشرع لمن استفاد زوجة أو أمة أو دابة أن يسأل الله من خيرها وخير ما جبلت عليه ويستعيذ من شرها وشر ما جبلت عليه وكذلك ينبغي لمن سكن دارا أن يفعل ذلك ولكن يبقى على هذا أن يقال هذا جار في كل مشؤوم فما وجه خصوصية هذه الثلاثة بالذكر وجوابه أن أكثر ما يقع التطير في هذه الثلاثة فخصت بالذكر لذلك ذكره في شرح السنن ومنها ما روى مالك عن يحيى بن سعيد قال جاءت امرأة إلى رسول الله صلىالله عليه وسلم فقالت يا رسول الله دار سكناها والعدد كثير والمال وافر فقل العدد وذهب المال فقال النبي صلى الله عليه وسلم دعوها ذميمة رواه أبو داود عن أنس بنحوه وجوابه أن هذا ليس من الطيرة المنهي عنها بل أمرهم بالانتقال لأنهم استثقلوها واستوحشوا منها لما لحقهم فيها ليتعجلوا الراحة مما دخلهم من الجزع لأن الله قد جعل في غرائز الناس استثقال ما نالهم الشر فيه وإن كان لا سبب له في ذلك

378

وحب من جرى على يديه الخير لهم وإن لم يردهم به ولأن مقامهم فيها قد يقودهم الى الطيرة فيوقعهم ذلك في الشرك والشر الذي يلحق المتطير بسبب طيرته وهذا بمنزلة الخارج من بلد الطاعون غير فار منه ولو منع الناس الرحلة من الدار التي تتوالى عليهم فيها المصائب والمحن وتعذر الأرزاق مع سلامة التوحيد في الرحلة للزم كل من ضاق عليه رزق في بلد أو قلة فائدة صناعته أو تجارته فيها أن لا ينتقل عنها الى غيرها ومنها فان قيل ما الفرق بين الدار وبين موضع الوباء حيث رخص في الارتحال عن الدار دون موضع البلاء أجاب بعضهم أن الأمور بالنسبة الى هذا المعنى ثلاثة اقسام احدها ما لا يقع التطير منه نادرا أو لا مكررا فهذا لا يصغى اليه كنعي الغراب في السفر وصرخ بومة في دار وهذا كانت العرب تعتبره ثانيها ما يقع به ضرر ولكنه يعم ولا يخص يندر ولا يتكرر كالوباء فهذا لا يقدم عليه ولا يفر منه وثالثها سبب محض ولا يعم ويلحق به الضرر لطول الملازمة كالمرأة والفرس والدار فيباح له الاستبدال أو التوكل على الله والإعراض عما يقع في النفس ذكره في شرح السنن ومنها حديث اللقحة لما منع النبي صلى الله عليه وسلم حربا ومرة من حلبها وأذن ليعيش رواه مالك وجوابه أن ابن عبد البر قال ليس هذا عندي من باب الطيرة لأنه محال أن ينهى عن شيء ويفعله وإنما هو من طلب الفأل الحسن وقد كان قد أخبرهم عن أقبح الاسماء أنه حرب ومرة فالمراد بذلك حتى لا يتسمى بهما أحد وقد روى ابن وهب في جامعه ما يدل على هذا فإنه قال في هذا الحديث فقام عمر بن الخطاب فقال اتكلم يا رسول الله أم أصمت فقال بل اصمت

379

واخبرك بما أردت ظننت يا عمر أنها طيرة ولا طير الا طيره لا خير الا خيره ولكن أحب الفأل الحسن وعلى هذا تجري بقية الأحاديث التي توهم بعضهم أنها من باب الطيرة قوله ولا هامة بتخفيف الميم على الصحيح قال الفراء الهامة طائر من طير الليل كأنه يعني البومة قال ابن الأعرابي كانوا يتشاءمون بها إذا وقعت على بيت أحدهم يقول نعت إلى نفسي أو أحدا من أهل داري وقال أبو عبيد كانوا يزعمون أن عظام الميت تصير هامة فتطير ويسمون ذلك الطائر الصدى وبه جزم ابن رجب قال وهذا شبيه باعتقاد أهل التناسخ أن أرواح الموتى تنتقل الى أجساد حيوانات من غير بعث ولا نشور وكل هذه اعتقادات باطله جاء الإسلام بابطالها وتكذيبها ولكن الذي جاءت به الشريعة أن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر تأكل من ثمار الجنة وتشرب من أنهارها الى أن يردها الله الى أجسادها وذكر الزبير بن بكار في الموفقيات أن العرب كانت في الجاهلية تقول إذا قتل الرجل ولم يؤخذ بثأره خرجت من رأسه هامة وهي دودة فتدور حول قبره وتقول اسقوني وفي ذلك يقول شاعرهم يا عمر وإن لا تدع شتمي ومنقصتي أضربك حتى تقول الهامة اسقوني قال وكانت اليهود تزعم أنها تدور حول قبره سبعة أيام ثم تذهب قوله ولا صفر بفتح الفاء روى أبو عبيدة معمر بن المثنى في غريب الحديث له عن رؤبة أنه قال هي حية تكون في البطن تصيب الماشية والناس وهي أعدى من الجرب عند العرب فعلى هذا فالمراد بنفيه ما كانوا يعتقدونه من العدوى ويكون عطفه على العدوى من عطف الخاص على العام ومن قال بهذا سفيان بن عيينة وأحمد والبخاري وابن جرير وقال آخرون المراد به شهر

380

صفر والنفي لما كان أهل الجاهلية يفعلونه في النسيء وكانوا يحلون المحرم ويحرمون صفر مكانه وهذا قول مالك وفيه نظر وروى أبو داود عن محمد ابن راشد عمن سمعه يقول إن أهل الجاهلية كانوا يستشئمون بصفر ويقولون إنه شهر مشؤوم فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك قال ابن رجب ولعل هذا القول أشبه الأقوال وكثير من الجهال يتشاءم بصفر وربما ينهي عن السفر فيه والتشاؤم بصفر هو من جنس الطيرة المنهي عنها وكذلك التشاؤم بيوم من الأيام كيوم الأربعاء وتشاؤم أهل الجاهلية بشوال في النكاح فيه خاصة قوله ولا نوء النوء واحد الأنواء وسيأتي الكلام عليه في باب ما جاء في الاستسقاء بالأنواء قوله ولا غول هو بالفتح مصدر معناه البعد والهلاك وبالضم الأسم وجمعه أغوال وغيلان وهو المراد هنا قال أبو السعادات الغول واحد الغيلان وهو جنس من الجن والشياطين كانت العرب تزعم أن الغول في الفلاة تتراءى للناس فتتغول تغولا أي تتلون تلونا في صور شتى وتغولهم أي تضلهم عن الطريق وتهلكهم فنفاه النبي صلى الله عليه وسلم وأبطله وقيل قوله لا غول ليس نفيا لعين الغول ووجوده وإنما فيه إبطال زعم العرب في تلونه بالصور المختلفة واغتياله فيكون المعنى بقوله لا غول أنها لا تستطيع أن تضل أحدا ويشهد له الحديث الآخر لا غول ولكن السعالي سحرة الجن أي ولكن في الجن سحرة لهم تلبيس وتخييل ومنه الحديث إذا تغولت الغيلان فبادروا بالأذان أي ادفعوا شرها بذكر الله وهذا يدل على أنه لم يرد بنفيها عدمها ومنه حديث أبي أيوب كان لي تمر في سهوة فكانت الغول تجيء فتأخذ قال ولهما عن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا عدوى ولا طيرة

381

ويعجبني الفأل وقالوا وما الفأل قال الكلمة الطيبة ش قوله ويعجبني الفأل قال أبو السعادات الفأل مهموز فيما يسر ويسوء والطيرة لا تكون إلا فيما يسوء وربما استعملت فيما يسر يقال تفاءلت بكذا وتفاءلت على التخفيف والقلب وقد اولع الناس بترك الهمزة تخفيفا وإنما أحب الفأل لأن الناس إذا أملوا فائدة الله ورجوا عائدته عند كل سبب ضعيف أو قوي فهم على خير ولو غلطوا في جهة الرجاء فإن الرجاء لهم خير وإذا قطعوا املهم ورجاءهم من الله كان ذلك من الشر وأما الطيرة فإن فيها سوء الظن بالله وتوقع البلاء ومعنى التفاؤل مثل أن يكون رجل مريض فيتفاءل بما يسمع من كلام فيسمع آخر يقول يا سالم أو يكون طالب ضالة فيسمع آخر يقول يا واجد فيقع في ظنه أنه برىء من مرضه ويجد ضالته ومنه الحديث قيل يا رسول الله ما الفال فقال الكلمة الصالحة قوله قالوا وما الفأل قال الكلمة الطيبة بين لهم صلى الله عليه وسلم ان الفأل يعجبه فدل أنه ليس من الطيرة المنهي عنها قال ابن القيم ليس في الاعجاب بالفأل ومحبته شيء من الشرك بل ذلك إبانة عن مقتضى الطبيعة ومن حب الفطرة الانسانية التي تميل إلى ما يوافقها ويلائمها كما أخبرهم أنه حبب اليه من الدنيا النساء والطيب وكان يحب الحلوى والعسل ويحب حسن الصوت بالقرآن والأذان ويستمع اليه ويجب معالى الاخلاق ومكارم الشيم وبالجملة يحب كل كمال وخير وما يفضي اليهما والله سبحانه وتعالى قد جعل في غرائز الناس الاعجاب بسماع الاسم الحسن ومحبته وميل نفوسهم اليه وكذلك جعل فيها الارتياح والاستبشار والسرور باسم الفلاح والسلام والنجاح والتهنئة والبشرى والفوز والظفر ونحو ذلك فإذا قرعت هذه الاسماء الاسماع استبشرت بها النفس وانشرح لها الصدر وقوي بها القلب وإذا سمعت اضدادها أو جب لها ضد هذه الحال فأحزنها

382

ذلك وأثار لها خوفا وطيرة وانكماشا وانقباضا عما قصدت له وعزمت عليه فأورث لها ضررا في الدنيا ونقصا في الايمان ومقارفة للشرك وقال الحليمي وإنما كان صلى الله عليه وسلم يعجبه الفأل لأن التشاؤم سؤء ظن بالله تعالى بغير سبب محقق والتفاؤل حسن ظن به والمؤمن مأمور بحسن الظن بالله تعالى على كل حال قال ولأبي داود بسند صحيح عن عقبة بن عامر قال ذكرت الطيرة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أحسنها الفأل ولا ترد مسلما فاذا رأى أحدكم ما يكره فليقل اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت ولا يدفع السيئات إلا أنت ولا حول ولا قوة إلا بك ش قوله عن عقبة بن عامر هكذا وقع في نسخ التوحيد وصوابه عروة بن عامر كذا أخرجه أحمد وأبو داود وغيرهما وهو مكي اختلف في نسبه فقال أحمد بن حنبل في روايته عن عروة بن عامر القرشي وقال غيره الجهني واختلف في صحبته فقال الباوردي له صحبة وذكره ابن حبان في ثقات التابعين وقال المزي لا صحبة له تصح قوله فقال أحسنها الفأل قد تقدم أنه صلى الله عليه وسلم كان يعجبه الفأل وروى الترمذي وصححه عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج لحاجته يحب أن يسمع يا نجيح يا راشد وروى أبو داود عن بريدة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يتطير من شيء وكان إذا بعث عاملا سأل عن اسمه فإذا أعجبه فرح به وإن كره اسمه رؤي كراهيته ذلك في وجهه واسناده حسن فهذا في استعمال الفأل قال ابن القيم في الكلام على الحديث المشروح أخبر صلى الله عليه وسلم أن الفأل من الطيرة وهو خيرها فأبطل الطيرة وأخبر أن الفأل منها ولكنه خير منها ففصل بين الفأل والطيرة لما بينهما من الامتياز والتضاد ونفع أحدهماومضرة الآخر ونظير

383

هذا منعه من الرقى بالشرك واذنه في الرقية إذا لم يكن فيها شرك لما فيها من المنفعة الخالية عن المفسدة قوله ولا ترد مسلما قال الطيبي تعريض بأن الكافر بخلافه قوله اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت ولا يدفع السيئات إلا أنت أي لا تأتي الطيرة بالحسنات ولا تدفع المكروهات بل أنت وحدك لا شريك لك الذي تأتي بالحسنات وتدفع السيئات وهذا دعاء مناسب لمن وقع في قلبه شيء من الطيرة وتصريح بأنها لا تجلب نفعا ولا تدفع ضرا ويعد من اعتقدها سفيها مشركا قوله ولا حول ولا قوة إلا بك استعانة بالله تعالى على فعل التوكل وعدم الالتفات إلى الطيرة التي قد تكون سببا لوقوع المكروه وعقوبة لفاعلها وذلك إنما يصدر من تحقيق التوكل الذي هو أقوى الأسباب في جلب الخيرات ودفع المكروهات والحول التحول والانتقال من حال إلى حال والقوى على ذلك أي لا حول ولا قوة على ذلك الحول إلا بك وذلك يفيد التوكل علىالله لأنه علم وعمل فالعلم معرفة القلب بتوحد الله بالنفع والضر وعامة المؤمنين بل كثير من المشركين يعلمون ذلك والعمل هو ثقة القلب بالله وفراغه من كل ما سواه وهذا عزيز ويختص به خواص المؤمنين وهو داخل في هذه الكلمة لأن فيها التبري من الحول والقوة والمشيئة بدون حول الله وقوته ومشيئته والاقرار بقدرته على كل شيء وبعجز العبد عن كل شيء إلا ما أقدره عليه ربه وهذا نهاية توحيد الربوبية الذي يثمر التوكل وتوحيد العبادة قال وعن ابن مسعود مرفوعا الطيرة شرك الطيرة شرك وما منا إلا ولكن الله يذهبه بالتوكل رواه أبو داود والترمذي وصححه وجعل

384

آخره من قول ابن مسعود ش هذا الحديث رواه أيضا ابن ماجه وابن حبان ولفظ أبي داود الطيرة شرك الطيرة شرك ثلاثا قوله الطيرة شرك صريح في تحريم الطيرة وأنها من الشرك لما فيها من تعلق القلب على غير الله وقال ابن حمدان في الرعاية تكره الطيرة وكذا قال غير واحد من اصحاب أحمد قال ابن مفلح والأولى القطع بتحريمها ولعل مرادهم بالكراهة التحريم قلت بل الصواب القطع بتحريمها لأنها شرك وكيف يكون الشرك مكروها الكراهة الاصطلاحية فإن كان القائل بكراهتها أراد ذلك فلا ريب في بطلانه قال في شرح السنن وإنما جعل الطيرة من الشرك لأنهم كانوا يعتقدون أن التطير يجلب لهم نفعا أو يدفع عنهم ضرا إذا عملوا بموجبه فكأنهم شركوه مع الله تعالى قوله وما منا إلا قال أبو القاسم الأصبهاني والمنذري في الحديث إضمار والتقدير وما منا إلا وقد وقع في قلبه شيء من ذلك انتهى وحاصله وما منا إلا من يعتريه التطير ويسبق الى قلبه الكراهة فيه فحذف ذلك اعتمادا على فهم السامع وقال الخلخالي حذف المستثنى لما يتضمنه من الحالة المكروهة وهذا نوع من أدب الكلام قوله ولكن الله يذهبه بالتوكل أي ما منا إلا من يقع في قلبه ذلك ولكن لما توكلنا على الله وآمنا به واتبعنا ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم واعتقدنا صدقه أذهب الله ذلك عنا وأقر قلوبنا على السنة واتباع الحق قوله وجعل آخره من قول ابن مسعود قال الترمذي سمعت محمد بن اسماعيل يقول كان سليمان بن حرب يقول في هذا وما منا هذا عندي من

385

قول ابن مسعود فالترمذي نقل ذلك عن سليمان بن حرب ووافقه على ذلك العلماء قال ابن القيم وهو الصواب فإن الطيرة نوع من الشرك قال ولأحمد من حديث ابن عمرو من ردته الطيرة من حاجته فقد أشرك قالوا فما كفارة ذلك قال أن تقول اللهم لا خير إلا خيرك ولا طير إلا طيرك ولا إله غيرك ش هذا الحديث رواه الامام أحمد والطبراني عن عمرو بن العاص مرفوعا وفي اسناده ابن لهيعة وفيه اختلاف وبقية رجاله ثقات قوله من حديث ابن عمرو هو عبدالله بن عمرو بن العاص بن وائل السهمي أبو محمد وقيل أبو عبدالرحمن أحد السابقين المكثرين من الصحابة وأحد العبادلة الفقهاء مات في ذي الحجة ليالي الحرة على الأصح بالطائف قوله من ردته الطيرة عن حاجته فقد أشرك وذلك أن التطير هو التشاؤم بالشيء المرئي أو المسموع فإذا استعملها الإنسان فرجع بها عن سفره وامتنع بها عما عزم عليه فقد قرع باب الشرك بل ولجه وبرىء من التوكل على الله وفتح على نفسه باب الخوف والتعلق بغير الله وذلك قاطع له عن مقام إياك نعبد وإياك نستعين فيصير قلبه متعلقا بغير الله وذلك شرك فيفسد عليه إيمانه ويبقى هدفا لسهام الطيرة ويقيض له الشيطان من ذلك ما يفسد عليه دينه ودنياه وكم ممن هلك بذلك وخسر الدنيا والآخرة قوله فما كفارة ذلك الى آخر الحديث هذا كفارة لما يقع من الطيرة ولكن يمضي مع ذلك ويتوكل على الله وفيه الاعتراف بأن الطير خلق مسخر مملوك لله لا يأتي بخير ولا يدفع شرا وأنه لا خير في الدنيا والآخرة إلا خير الله فكل خير فيهما فهو من الله تعالى تفضلا على عباده واحسانا اليهم وأن الالهية كلها لله ليس فيها لاحد من الملائكة والانبياء عليهم السلام شركة فضلا عن

386

أن يشرك فيها ما يراه ويسمعه مما يتشاءم به قوله من حديث الفضل بن العباس إنما الطيرة ما أمضاك أو ردك ش هذا الحديث رواه أحمد في المسند ولفظه حدثنا حماد بن خالد قال ثنا بن علاثة عن مسلمة الجهني قال سمعته يحدث عن الفضل بن عباس قال خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فبرح ظبي فمال في شقه فاحتضنته فقلت يا رسول الله تطيرت قال إنما الطيرة ما أمضاك أو ردك هكذا رواه أحمد وفي اسناده نظر وقرأت بخط المصنف فيه رجل مختلف فيه وفيه انقطاع أي بين مسلم وبين الفضل وهوابن العباس بن عبدالمطلب ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم وأكبر ولد العباس قال ابن معين قتل يوم اليرموك في عهد أبي بكر رضي الله عنه وقال غيره قتل يوم مرج الصفر سنة ثلاث عشرة وهو ابن اثنتين وعشرين سنة قال أبو داود قتل بدمشق كان عليه درع النبي صلى الله عليه وسلم وقال الواقدي وابن سعد مات في طاعون عمواس قوله إنما الطيرة ما أمضاك أو ردك هذا حد للطيرة المنهي عنها بأنها ما أوجب للانسان أن يمضي لما يريده ولو من الفأل فإن الفأل إنما يستحب لما فيه من البشارة والملاءمة للنفس فأما أن يعتمد عليه ويمضي لأجله مع نسيان التوكل على الله فإن ذلك من الطيرة وكذلك إذا رأى أو سمع ما يكره فتشاءم به ورده عن حاجته فإن ذلك أيضا من الطيرة باب ما جاء في التنجيم المراد هنا ذكر ما يجوز من التنجيم وما لا يجوز وما ورد فيه من الوعيد

387

قال شيخ الإسلام التنجيم هوالاستدلال بالأحوال الفلكية على الحوادث الأرضية وقال الخطابي علم النجوم المنهي عنه هو ما يدعيه أهل التنجيم من علم الكوائن والحوادث التي لم تقع وستقع في مستقبل الزمان كأوقات هبوب الرياح ومجي المطر وظهور الحر والبرد وتغير الأسعار وما كان في معناها من الأمور التي يزعمون أنهم يدركون معرفتها بمسير الكواكب في مجاريها واجتماعها وافتراقها ويدعون أن لها تأثيرا في السفليات وأنها تجري على قضايا موجباتها وهذا منهم تحكم على الغيب وتعاطي لعلم قد استأثر الله به لا يعلم الغيب سواه قلت واعلم أن التنجيم على ثلاثة أقسام أحدها ما هو كفر باجماع المسلمين وهو القول بأن الموجودات في العالم السفلي مركبة على تأثير الكوكب والروحانيات وأن الكوكب فاعلة مختارة وهذا كفر بأجماع المسلمين وهذا قول الصابئة المنجمين الذين بعث اليهم ابراهيم الخليل عليه السلام ولهذا كانوا يعظمون الشمس والقمر والكواكب تعظيما يسجدون لها ويتدللون لها ويسبحونها تسابيح معروفة في كتبهم ويدعونها دعوات لا تنبغي إلا لخالقها وفاطرها وحده لا شريك له ويبنون لكل كوكب هيكلا أي موضعا لعبادته ويصورون فيه ذلك الكوكب ويتخذونه لعبادته وتعظيمه ويزعمون أن روحانية ذلك الكوكب تنزل عليهم وتخاطبهم وتقضي حوائجهم وتلك الروحانيات هي الشياطين تنزلت عليهم وخاطبتهم وقضت حوائجهم وقد صنف بعض المتأخرين في هذا الشرك مصنفا وذكر صاحب التذكرة فيها الثاني الاستدلال على الحوادث الأرضية بمسير الكواكب واجتماعها وافتراقها ونحو ذلك ويقول إن ذلك بتقدير الله ومشيئته فلا ريب في تحريم ذلك واخلتف المتأخرون في تكفير القائل بذلك وينبغي أن يقطع بكفره

388

لأنها دعوى لعلم الغيب الذي استأثر الله تعالى بعلمه بما لا يدل عليه الثالث ما ذكره المصنف في تعلم المنازل وسيأتي الكلام عليه قوله قال البخاري في صحيحه قال قتادة خلق الله هذه النجوم لثلاث زينة للسماء ورجوما للشياطين وعلامات يهتدى بها فمن تأول فيها غير ذلك أخطأ وأضاع نصيبه وتكلف مالا علم له به ش هذا الأثر علقه البخاري في صحيحه كما قال المصنف وأخرجه عبدالرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابو الشيخ والخطيب في كتاب النجوم عن قتادة ولفظه قال إن الله إنما جعل هذه النجوم لثلاث خصال جعلها زينة للسماء وجعلها يهتدى بها وجعلها رجوما للشياطين فمن تعاطى فيها غير ذلك فقد قال برأيه وأخطأ حظه واضاع نصيبه وتكلف ما لا علم له به وإن ناسا جهلة بأمر الله قد أحدثوا في هذه النجوم كهانة من أعرس بنجم كذا وكذا كان كذا وكذا ومن سافر بنجم كذا وكذا كان كذا وكذا ولعمري ما من نجم الا يولد به الأحمر والأسود والطويل والقصير والحسن والذميم وما علم هذه النجوم وهذه الدابة وهذا الطائر بشيء من هذاالغيب ولو أن أحدا علم الغيب لعلمه آدم الذي خلقه الله بيده وأسجد له ملائكته وعلمه اسماء كل شيء قوله خلق الله هذه النجوم لثلاث إلى آخره هذا مأخوذ من القرآن في قوله تعالى ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين وقوله تعالى وعلامات وبالنجم هم يهتدون وفيه إشارة إلى أن النجوم في السماء الدنيا كما هو ظاهر الآية وفيه حديث رواه ابن مردويه عن ابن مسعود قال

389

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اما السماء الدنيا فإن الله خلقها من دخان وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا وزينها بمصابيح النجوم وجعلها رجوما للشياطين وحفظا من كل شيطان رجيم وقوله وعلامات أي دلالات على الجهات والبلدان ونحو ذلك يهتدى بها بصيغة المجهول أي يهتدي بها الناس في ذلك كما قال تعالى وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر وليس المراد يهتدون بها في علم الغيب ولهذا قال فمن تأول فيها ذلك أي زعم فيها غير ماذكر الله تعالى في هذه الثلاث فادعى بها علم الغيب فقد أخطأ أي حيث تكلم رجما بالغيب وأضاع نصيبه أي حظه من عمره لأنه اشتغل بما لا فائدة فيه بل مضرة محضة وتكلف ما لا علم له به أي تعاطى شيئا لا يتصور علمه لأن أخبار السماء والأمور المغيبة لا تعلم الا من طريق الكتاب والسنة وليس فيهما أزيد مما تقدم قال الداوودي قول قتادة في النجوم حسن الا قوله أخطأ وأضاع نصيبه فإنه قصر في ذلك بل قائل ذلك كافر فان قلت إن المنجمين قد يصدقون بعض الأحيان قيل صدقهم كصدق الكهان يصدقون مرة ويكذبون مئة وليس في صدقهم مرة ما يدل على أن ذلك علم صحيح كالكهان وقد استدل بعض المنجمين بآيات من كتاب الله على صحة علم التنجيم منها قوله وعلامات وبالنجم هم يهتدون والجواب انه ليس المراد بهذه الآية أن النجوم علامات على الغيب يهتدي بها الناس في علم الغيب وإنما المعنى وعلامات أي دلالات على قدرة الله وتوحيده وعن قتادة ومجاهد ان من النجوم ما يكون علامة لا يهتدى بها وقيل إن هذا

390

من تمام الكلام الاول وهو قوله والقى في الارض رواسي أن تميد بكم وانهارا وسبلا لعلكم تهتدون وعلامات أي وألقى لكم معالم يعلم بها الطريق والاراضي من الجبال الكبار والصغار يستدل بها المسافرون في طرقهم وقوله وبالنجم هم يهتدون قال ابن عباس في الآية وعلامات يعني معالم الطرق بالنهار وبالنجم هم يهتدون قال يهتدون به في البحر في اسفارهم رواه ابن جرير وابن أبي حاتم فهذا القول ونحوه هو معنى الآية فالاستدلال بها على صحة علم التنجيم استدلال على ما يعلم فساده بالاضطرار من دين الاسلام بما لا يدل عليه لا نصا ولا ظاهرا وذلك أفسد انواع الاستدلال فإن الاحاديث جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم بإبطال علم التنجيم وذمه منها حديث ومن اقتبس شعبة من علم النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر الحديث وقد تقدم وعن عبدالله بن محيريز التابعي الجليل أن سليمان بن عبدالملك دعاه فقال لو علمت علم النجوم فازددت إلى علمك فقال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ان اخوف ما أخاف على أمتي ثلاث حيف الأئمة وتكذيب بالقدر وايمان بالنجوم وعن رجاء بن حيوة ان النبي صلى الله عليه وسلم قال مما أخاف على أمتي التصديق بالنجوم والتكذيب بالقدر وحيف الأئمة رواهما عبد بن حميد فهذان المرسلان من هذين الوجهين المختلفين يدلان على ثبوت الحديث لا سيما وقد احتج به من أرسله وعن أبي محجن مرفوعا أخاف على امتي من بعدي ثلاثا حيف الائمة وايمانا بالنجوم وتكذيبا بالقدر رواه ابن عساكر وحسنه السيوطي وعن أنس مرفوعا أخاف على أمتي بعدي خصلتين تكذيبا بالقدر وإيمانا بالنجوم رواه أبو يعلى وابن عدي والخطيب في كتاب النجوم وحسنه السيوطي أيضا وروى الإمام أحمد والبخاري عن ابن عمر مرفوعا مفاتيح الغيب خمس

391

لا يعلمها إلاالله لا يعلم ما في غد إلا الله ولا يعلم ما تغيض الأرحام إلا الله ولا يعلم متى يأت المطر أحد إلا الله ولا تدري نفس بأي أرض تموت ولا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله لفظ الخباري وعن العباس بن عبدالمطلب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لقد طهر الله هذه الجزيرة من الشرك ما لم تضلهم النجوم رواه ابن مردويه وعن ابن عمر مرفوعا تعلموا من النجوم ما تهتدون به في ظلمات البر والبحر ثم انتهوا وعن أبي هريرة قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النظر في النجوم رواهما ابن مردويه والخطيب وعن سمرة بن جندب أنه خطب فذكر حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال أما بعد فإن ناسا يزعمون أن كسوف هذه الشمس وكسوف هذا القمر وزوال هذه النجوم عن مواضعها لموت رجال عظماء من أهل الأرض وأنهم قد كذبوا ولكنها آيات من آيات الله يعتبر بها عباده لينظر من يحدث له منهم توبة ورواه أبو داود وفي الباب آحاديث وآثار غير ما ذكرنا فتبين بهذا أن الاستدلال بالآية على صحة أحكام النجوم من أفسد أنواع الاستدلال ومنها قوله تعالى عن ابراهيم فنظر نظرة في النجوم فقال إني سقيم والجواب أن هذا من جنس استدلاله بالآية الأولى في الفساد فأين فيها ما يدل على صحة أحكام النجوم بوجه من وجوه الدلالات وهل اذا رفع انسان بصره إلى النجوم فنظر إليها دل ذلك على صحة علم النجوم عنده وكل الناس ينظرون إلى النجوم فلا يدل ذلك على صحة علم أحكامها وكأن هذا ما شعر أن ابراهيم عليه السلام إنما بعث إلى الصابئة المنجمين مبطلا لقولهم مناظرا لهم على ذلك فإن قيل على هذا فما فائدة نظرته في النجوم

392

قيل نظرته في النجوم من معاريض الأفعال ليتوصل به إلى غرضه من كسر الأصنام كما كان قوله بل فعله كبيرهم هذا فمن ظن أن نظرته في النجوم ليستنبط منها علم الأحكام وعلم أن طالعه يقتضي عليه بالنحس فقد ضل ضلالا بعيدا ولهذا جاء في حديث الشفاعة الصحيح أنه عليه السلام يقول لست هنا كم ويذكر ثلاث كذبات كذبهن وعدها العلماء قوله إني سقيم وقوله بل فعله كبيرهم هذا وقوله لسارة هي أختي فلو كان قوله إني سقيم أخذه من علم النجوم لم يعتذر من ذلك وإنما هي من معاريض الأفعال فلهذا اعتذر منها كما اعتذر من قوله بل فعله كبيرهم ذكر ذلك ابن القيم لكن قوله وعدها العلماء يدل على أنه لم يستحضر الحديث الوارد في عدها وقد رواه أحمد والبخاري وأصحاب السنن وابن جرير وغيرهم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لم يكذب ابراهيم عليه السلام غير ثلاث كذبات اثنتين في ذات الله قوله إني سقيم وقوله بل فعله كبيرهم هذا وقوله في سارة هي أختي لفظ ابن جرير وروى ابن أبي حاتم عن أبي سعيد مرفوعا في كلمات ابراهيم الثلاث التي قال ما منها كلمة إلا ما حال بها عن دين الله فقال إني سقيم وقال بل فعله كبيرهم هذا وقال للملك حين أراد امرأته هي أختي وفي اسناده ضعف وقال قتادة في الآية العرب تقول لمن تفكر نظر في النجوم قال ابن كثير يعني قتادة أنه نظر الى السماء متفكرا فيما يكذبهم به فقال إني سقيم أي ضعيف قال وكره قتادة تعلم منازل القمر ولم يرخص ابن عيينة فيه ذكره حرب عنهما ورخص في تعلم المنازل أحمد واسحق ش هذا هو القسم الثالث من علم التنجيم وهو تعلم منازل الشمس والقمر

393

للاستدلال بذلك على القبلة وأوقات الصلوات والفصول وهو كما ترى من اختلاف السلف فيه فما ظنك بذينك القسمين ومنازل القمر ثمانية وعشرون كل ليلة في منزلة منها فكره وقتادة وسفيان بن عينية تعلم المنازل وأجازه أحمد واسحق وغيرهما قال الخطابي أما علم النجوم الذي يدرك من طريق المشاهدة والخبر الذي يعرف به الزوال وتعلم به جهة القبلة فإنه غير داخل فيما نهي عنه وذلك أن معرفة رصد الظل ليس شيئا بأكثر من أن الظل ما دام متناقصا فالشمس بعد صاعدة نحو وسط السماء من الأفق الشرقي واذا أخذ في الزيادة فالشمس هابطة من وسط السماء نحو الأفق الغربي وهذا علم يصح دركه بالمشاهدة إلا أن أهل هذه الصناعه قد دبروها بما اتخذوا له من الألات التي يستغني الناظر فيها عن مراعات مدته ومراصدته وأما ما يستدل به من النجوم على جهة القبلة فإنها كواكب رصدها أهل الخبرة بها من الأئمة الذين لا نشك في عنايتهم بأمر الدين ومعرفتهم بها وصدقهم فيما أخبروا به عنها مثل أن يشاهدوها بحضرة الكعبة ويشاهدوها على حال الغيبة عنها فكان إدراكهم الدلالة منها بالمعاينة وادراكنا ذلك بقبول خبرهم إذ كانوا عندنا غير متهمين في دينهم ولا مقصرين في معرفته قلت وروى ابن المنذر عن مجاهد أنه كان لا يرى بأسا ان يتعلم الرجل منازل القمر قلت لأنه لا محذور في ذلك وعن ابراهيم أنه كان لا يرى بأسا أن يتعلم الرجل من النجوم ما يهتدي به رواه ابن المنذر قال ابن رجب والمأذون في تعلمه علم التسيير لا علم التأثير فإنه باطل محرم قليله وكثيره وأما علم التسيير فتلعم ما يحتاج اليه للاهتداء ومعرفة القبلة والطرق جائز عند الجمهور وما زاد عليه لا حاجة اليه لشغله عما هو أهم منه وربما أدى تدقيق النظر فيه إلى اساءة الظن بمحاريب المسلمين كما وقع من أهل هذا العلم قديما وحديثا وذلك يفضي

394

اعتقاده إلى خطأ السلف في صلاتهم وهو باطل انتهى مختصرا قلت وهذا هو الصحيح إن شاء الله ويدل على ذلك الآيات والأحاديث التي تقدمت وهل يدخل في النهي وقت الكسوف الشمسي والقمري أم لا رجح ابن القيم أنه لا يدخل قوله ذكره حرب عنهما هو الإمام الحافظ حرب بن إسماعيل أبو محمد الكرماني الفقيه من اجله أصحاب الإمام أحمد ورى عن أحمد وإسحق وابن المديني وابن معين وأبي خيثمة وابن أبي شيبة وغيرهم وله مصنفات جليلة منها كتاب المسائل التي سئل عنها الإمام أحمد وغيره وأورد فيها الأحاديث والآثار وأظنه روى أثر قتادة وابن عيينة فيها مات سنة ثمانين ومائتين واسحق هو ابراهيم بن مخلد أبو يعقوب الحنظلي النيسابوري الإمام المعروف بابن راهويه روى عن ابن المبارك وأبي أسامة وابن عيينة وطبقتهم قال أحمد اسحق عندنا إمام من أئمة المسلمين وروى عنه أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود وغيرهم وروى هو أيضا عن أحمد مات سنة تسع وثلاثين ومائتين قال وعن أبي موسى قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة لا يدخلون الجنة مدمن الخمر وقاطع الرحم ومصدق بالسحر رواه أحمد وابن حبان في صحيحه ش هذا الحديث رواه أيضا الطبراني والحاكم وقال صحيح واقره الذهبي وتمام الحديث ومن مات وهو مدمن الخمر سقاه الله من نهر الغوطة نهر يجري من فروج المومسات يؤذي أهل النار ريح فروجهن قوله عن أبي موسى هو عبدالله بن قيس بن سليم بن حضار بفتح المهملة وتشديد الضاد المعجمة أبو موسى الأشعري صحابي جليل استعمله النبي صلى الله عليه وسلم وأمره عمر ثم عثمان وهو أحد الحكمين بصفين مات سنة خمسين

395

قوله ثلاثة لا يدخلون الجنة هذا من نصوص الوعيد التي كره السلف تأويلها وقالوا أمروها كما جاءت وإن كان صاحبها لا ينتقل عن الملة عندهم وكان المصنف رحمه الله يميل إلى هذا القول وقالت طائفة هو على ظاهره فلا يدخل الجنة أصلا مدمن الخمر ونحوه ويكون هذا مخصصا لعموم الأحاديث الدالة على خروج الموحدين من النار ودخولهم الجنة وحمله أكثر الشراح على من فعل ذلك مستحلا أو على معنى أنهم لا يدخلون الجنة إلا بعد العذاب إن لم يتوبوا والله أعلم قوله مدمن الخمر أي المداوم على شربها قوله وقاطع الرحم أي القرابة كما قال تعالى فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم قوله ومصدق بالسحر مطلقا ويدخل فيه التنجيم لحديث من اقتبس علما من النجوم اقتبس علما من السحر وهذا وجه مطابقة الحديث للباب قال الذهبي في الكبائر ويدخل فيه تعلم السيمياء وعملها وهو محض السحر وعقد المرء عن زوجته ومحبة الزوج لامرأته وبغضها وبغضه واشباه ذلك بكلمات مجهولة قال وكثير من الكبائر بل عامتها إلا الأقل يجهل خلق من الأمة تحريمه وما بلغه الزجر فيه ولا الوعيد عليه فهذا الضرب فيهم تفصيل فينبغي للعالم أن لا يجهل على الجاهل بل يرفق به ويعلمه سيما إذا قرب عهده بجهله كمن أسر وجلب إلى أرض الإسلام وهو تركي فبالجهد أن يتلفظ بالشهادتين فلا يأثم أحد إلا بعد العلم بحاله وقيام الحجة عليه

396

باب ما جاء في الاستسقاء بالأنواء أي من الوعيد والمراد نسبة السقيا ومجيء المطر إلى الأنواء جمع نوء وهي منازل القمر قال ابو السعادات وهي ثمانيه وعشرون منزلة ينزل القمر كل ليلة منزلة منها ومنه قوله تعالى والقمر قدرناه منازل يسقط في الغرب كل ثلاث عشرة ليلة منزلة مع طلوع الفجر وتطلع أخرى مقابلتها ذلك الوقت في الشرق فتنقضي جميعها مع انقضاء السنة وكانت العرب تزعم أن مع سقوط المنزلة وطلوع رقيبها يكون مطر وينسبونه اليها فيقولون مطرنا بنوء كذا وإنما سمي نوءا لأنه إذا سقط الساقط منها بالمغرب ناء الطالع بالمشرق ينوء نوءا أي نهض وطلع قال وقول الله تعالى وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون روى الإمام أحمد والترمذي وحسنه وابن جرير وابن أبي حاتم والضياء في المختارة عن علي رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتجعلون رزقكم يقول شكركم أنكم تكذبون يقولون مطرنا بنوء كذا وكذا وبنجم كذا وكذا وهذا أولى ما فسرت به الآية وروي ذلك عن علي وابن عباس وقتادة والضحاك وعطاء الخراساني وغيرهم وهو قول جمهور المفسرين وبه يظهر وجه استدلال المصنف بالآية على الترجمة فالمعنى على هذا وتجعلون شكركم لله على ما انزل اليكم من الغيث والمطر والرحمة أنكم تكذبون أي تنسبونه إلى غيره وقال ابن القيم أي تجعلون حظكم من هذا الرزق الذي به حياتكم

397

التكذيب به يعني القرآن قال الحسن تجعلون حظكم ونصيبكم من القرآن أنكم تكذبون قال وخسر عبد لا يكون حظه من كتاب الله الا التكذيب به قلت والآية تشمل المعنيين قال عن أبي مالك الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن الفخر في الأحساب والطعن في الأنساب والاستسقاء بالنجوم والنياحة وقال النائحة اذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب رواه مسلم ش قوله عن أبي مالك الأشعري اسمه الحارث بن الحارث الشامي صحابي تفرد عنه بالرواية أبو سلام وفي الصحابة أبو مالك الأشعري اثنان غير هذا جزم به الحافظ قوله أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن أي من أفعال أهلها بمعنى أنها معاصي ستفعلها هذه الأمة إما مع العلم بتحريمها وإما مع الجهل بذلك كما كان أهل الجاهلية يفعلونها والمراد بالجاهلية هنا ما قبل المبعث سموا بذلك لفرط جهلهم وكل ما يخالف ما جاءت به الانبياء والمرسلون فهو جاهلية منسوبة الى الجاهل فإن ما كانوا عليه من الاقوال والاعمال إنما أحدثة لهم جاهل وإنما يفعله جاهل قال شيخ الاسلام أخبر أن بعض أمر الجاهلية لا يتركه الناس كلهم ذما لمن لم يتركه وهذا يقتضي أن ما كان من أمر الجاهلية وفعلهم فهو مذموم في دين الإسلام وإلا لم يكن في إضافة هذه المنكرات إلى الجاهلية ذم لها ومعلوم أن إضافتها إلى الجاهلية خرج مخرج الذم وهذا كقوله تعالى ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى فإن في

398

ذلك ذما للتبرج وذما لحال الجاهلية الاولى وذلك يقتضي المنع من مشابهتهم في الجملة قوله الفخر بالأحساب أي التشرف بالآباء والتعاظم بعد مناقبهم ومآثرهم وفضائلهم وذلك جهل عظيم إذ إلا شرف غلا بالتقوى كما قال تعالى وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى الا من آمن وعمل صالحا الآية وقال تعالى إن أكرمكم عند الله أتقاكم وروى أبو داود عن أبي هريرة مرفوعا إن الله قد اذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها بالآباء مؤمن تقي أو فاجر شقي الناس بنو آدم وآدم من تراب ليد عن رجال فخرهم بأقوام إنما هم فحم من فحم جهنم أو ليكونن أهون على الله من الجعلان التي تدفع بأنفها النتن والأحساب جمع حسب وهو ما يعده الانسان له ولآبائه من شجاعة وفصاحة ونحو ذلك قوله والطعن في الانساب أي الوقوع فيها بالذم والعيب أو يقدح في نسب أحد من الناس فيقول ليس هو من ذرية فلان أو يعيره بما في آبائه من المطاعن ولهذا لما عير أبو ذر رضي الله عنه رجلا بأمه قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ذر اعيرته بأمه إنك امرؤ فيك جاهلية متفق عليه فدل ذلك ان التعيير بالانساب من أخلاق الجاهلية وأن الرجل مع فضله وعلمه ودينه قد يكون فيه بعض هذه الخصال المسماة بجاهلية ويهودية ونصرانية ولا يوجب ذكر كفره وفسقه قاله شيخ الاسلام قوله والاستسقاء بالنجوم أي نسبة السقيا ومجيء المطر الى النجوم والانواء وهذا هو الذي خافه النبي صلى الله عليه وسلم على امته كما روى الامام أحمد

399

وابن جرير عن جابر السوائي قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول أخاف على أمتي ثلاثا استسقاء بالنجوم وحيف السلطان وتكذيبا بالقدر إذا تبين هذا فالاستسقاء بالنجوم نوعان أحدهما أن يعتقد أن المنزل للمطر هو النجم فهذا كفر ظاهر إذ لا خالق إلا الله وما كان المشركون هكذا بل كانوا يعلمون أن الله هو المنزل للمطر كما قال تعالى ولئن سألتهم من نزل من السماء ماء فأحيا به الارض من بعد موتها ليقولن الله وليس هذا معنى الحديث فالنبي صلى الله عليه وسلم اخبر أن هذا لا يزال في أمته ومن اعتقد أن النجم ينزل المطر فهو كافر الثاني أن ينسب إنزال المطر الى النجم مع اعتقاده أن الله تعالى هو الفاعل لذلك المنزل له لكن معنى أن الله تعالى أجرى العادة بوجود المطر عند ظهور ذلك النجم فحكى انب مفلح خلافا في مذهب أحمد في تحريمه وكراهته وصرح أصحاب الشافعي بجوازه والصحيح أنه محرم لأنه من الشرك الخفي وهو الذي أراده النبي وأخبر أنه من أمر الجاهلية ونفاه وابطله وهو الذي كان يزعم المشركون ولم يزل موجودا في هذه الأمة إلى اليوم وأيضا فإن هذا من النبي صلى الله عليه وسلم حماية لجناب التوحيد وسد لذرائع الشرك ولو بالعبادات الموهمة التي لا يقصدها الانسان كما قال لرجل قال له ما شاء الله وشئت قال أجعلتني لله ندا بل ما شاء الله وحده وفيه التنبيه على ما هو أولى بالمنع من نسبة السقيا إلى الانواء كدعاء الأموات وسؤالهم الرزق والنصر والعافية ونحو ذلك من المطالب فإن هذا من الشرك الاكبر سواء قالوا إنهم شفعاؤنا إلى الله كما قال المشركون هؤلاء شفعاؤنا عند الله او اعتقدوا أنهم يخلقون ويرزقون

400

وينصرون استقلالا على سبيل الكرامة كما ذكره بعض عباد القبور في رسالة صنفها في ذلك لأنه إذا منع من إطلاق نسبة السقيا إلى الانواء مع عدم القصد والاعتقاد فلأن يمنع من دعاء الأموات والتوجه اليهم في الملمات مع اعتقاد أن لهم انواع التصرفات أولى وأحرى قوله والنياحة أي رفع الصوت بالندب على الميت لأنها سخط لقضاء الله ومعارضة لأحكامه وسوء أدب مع الله ولا كذلك ينبغي أن يفعل المملوك مع سيده فكيف يفعله مع ربه وسيده ومالكه وإلهه الذي لا إله له سواه الذي كل قضائه عدل وأيضا ففيها تفويت الأجر مع ذهاب المصيبة وفي الحديث دليل على شهادة أن محمدا رسول الله لأن هذه الأخبار من أنباء الغيب فأخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم فكان كما أخبر قوله وقال النائحه إذا لم تتب قبل موتها فيه تنبيه على أن الوعيد والذم لا يلحق من تاب من الذنب وهو كذلك بالاجماع فعلى هذا إذا عرف شخص بفعل ذنوب توعد الشرع عليها بوعيد لم يجز إطلاق القول بلحوقه لذلك الشخص المعين كما يظنه كثير من أهل البدع فإن عقوبات الذنوب ترتفع بالتوبة والحسنات الماحية والمصائب المكفرة ودعاء المؤمنين بعضهم لبعض وشفاعة نبيهم صلى الله عليه وسلم فيهم وعفو الله عنهم وفيه أن من تاب قبل الموت ما لم يغرغر فإن الله يتوب عليه كما في حديث ابن عمر مرفوعا ان الله تعالى يقبل توبة العبد ما لم يغرغر رواه أحمد والترمذي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه قوله تقام يوم القيامة أي تبعث من قبرها وعليها سربال من قطران ودرع من جرب قال القرطبي السربال واحد السرابيل وهي الثياب

401

والقمص يعني أنهن يلطخن بالقطران فيصير لهن كالقميص حتى يكون اشتعال النار والتصاقها بأجسادهن أعظم ورائحتهن أنتن والمها بسبب الجرب أشد وروي عن ابن عباس أن القطران هو النحاس المذاب وروى الثعلبي في تفسيره عن عمر بن الخطاب أنه سمع نائحة فأتاها فضربها بالدرة حتى وقع خمارها فقيل يا أمير المؤمنين المرأة المرأة قد وقع خمارها قال انها لا حرمة لها قال ولهما عن زيد بن خالد قال صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية على اثر سماء كانت من الليل فلما انصرف أقبل الناس فقال هل تدرون ماذا قال ربكم قالوا الله ورسوله أعلم قال أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر فأما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب وأما من قال مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب ش قوله عن زيد بن خالد أي الجهني المدني صحابي مشهور مات سنة ثمان وستين بالكوفة وقيل غير ذلك وله خمس وثمانون سنة قوله صلى لنا أي صلى بنا فاللام بمعنى الباء قال الحافظ وفيه جواز إطلاق ذلك مجازا وإنما الصلاة لله قوله بالحديبية بالمهملة والتصغير وتخفف ياؤها وتثقل قوله على إثر بكسر الهمزة وسكون المثلثة على المشهورة وهو ما يعقب الشيء قوله سماء أي مطر واطلق عليه سماء لكونه ينزل من جهه السماء قوله فلما انصرف أي من صلاته لا من مكانه كما يدل عليه قوله أقبل على الناس أي التفت اليهم بوجهه الشريف ففيه دليل على أنه لا ينبغي

402

للامام إذا صلى أن يجلس مستقبل القبلة بل ينصرف الى المأمومين كما صحت بذلك الأحاديث قوله هل تدرون لفظ استفهام ومعناه التنبيه وفي رواية النسائي ألم تسمعوا ما قال ربكم الليلة وهذا من الأحاديث القدسية قال الحافظ وهي تحمل على ان النبي صلى الله عليه وسلم أخذها عن الله بواسطة أو بلا واسطة وفيه إلقاء العالم المسألة على أصحابه ليخبرهم وإخراج العالم التعليم للمسألة بالاستفهام فيها ذكره المصنف قوله قالوا الله ورسوله أعلم فيه حسن الأدب للمسؤول عما لا يعلم وإنه يقول ذلك او نحوه ولا يتكلف ما لا يعنيه قوله قال أصبح من عبادي الإضافة هنا للعموم بدليل التقسيم إلى مؤمن وكافر فان قيل هذا يدل على أن المراد بالكفر هنا هو الأكبر قيل ليس فيه دليل إذ الأصغر يصدر من الكفار قوله مؤمن بي وكافر المراد بالكفر هنا هو الأصغر بنسبة ذلك الى غير الله وكفران نعمته وإن كان يعتقد أن الله تعالى هو الخالق للمطر المنزل له بدليل قوله في الحديث فأما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته إلى آخره فلو كان المراد هو الأكبر لقال أنزل علينا المطر نوء كذا فأتى بباء السببية ليدل على أنهم نسبوا وجود المطر إلى ما اعتقدوه سببا وفي رواية فأما من حمدني على سقياي وأثنى علي فذاك من آمن بي فلم يقل فأما من قال إني المنزل للمطر فذالك من آمن بي لأن المؤمنين والكفار يقولون ذلك فدل على أن المراد إضافة ذلك الى غير الله وإن كان يعتقد أن الفاعل لذلك هو الله وروى النسائي والإسماعيلي نحوه

403

وقال في آخره وكفر بي أو كفر نعمتي وفي رواية أبي صالح عن أبي هريرة عند مسلم قال الله تعالى ما أنعمت على عبادي من نعمة إلا أصبح فريق منهم بها كافرين وله من حديث ابن عباس اصبح من الناس شاكر ومنهم كافر الحديث وفي حديث معاوية الليثي مرفوعا يكون الناس مجدبين فينزل الله عليهم رزقا من رزقه فيصبحون مشركين يقولون مطرنا بنوء كذا رواه أحمد فبين الكفر والشرك المراد هنا بأن نسبة ذلك إلى غيره تعالى بأن يقال مطرنا بنوء كذا قال ابن قتيبة كانوا في الجاهلية يظنون أن نزول الغيث بواسطة النوء إما بصنعه على زعمهم وإما بعلامته فأبطل الشرع قولهم وجعله كفرا فإن اعتقد قائل ذلك أن للنوء صنعا في ذلك فكفره كفر شرك وإن اعتقد أن ذلك من قبيل التجربة فليس بشرك لكن يجوز إطلاق الكفر عليه وارادة كفر النعمة لأنه لم يقع في شيء من طرق الحديث بين الكفر والشرك واسطة فيحمل الكفر فيه على المعنيين وقال الشافعي من قال مطرنا بنوء كذا على معنى مطرنا في وقت كذا فلا يكون كفرا وغيره من الكلام أحب إلى منه قلت قد يقال إن كلام الشافعي لا يدل على جواز ذلك وإنما يدل على أنه لا يكون كفر شرك وغيره من الكلام أحسن منه أما كونه يجوز إطلاق ذلك أو لا يجوز فالصحيح انه لا يجوز لما تقدم أن معنى الحديث هو نسبة السقيا إلى الأنواء لفظا وإن كان القائل لذلك يعتقد أن الله هو المنزل للمطر فهذا من باب الشرك الخفي في الألفاظ كقوله لولا فلان لم يكن كذا وفيه معنى قوله تعالى وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم فإن كثيرا من النعم قد تجر الانسان الى شر كالذين قالوا مطرنا بنوء كذا بسبب

404

نزول النعمة وفيه التفطن للايمان في هذا الموضع ذكره المصنف يشير إلى أن المراد به هنا نسبة النعمة إلى الله وحمده عليها كما في قوله فأما من حمدني على سقياي وثنى علي فذاك من آمن بي وقوله فأما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته الحديث وفيه أن من الكفر ما لا يخرج عن الملة ذكره المصنف قوله فأما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته أي من نسبه الى الله واعتقد أنه أنزله بفضله ورحمته من غير استحقاق من العبد على ربه وأثنى به عليه فقال مطرنا بفضل الله ورحمته وفي الرواية الأخرى فأما من حمدني على سقياي وأثنى علي فذاك من آمن بي وهكذا يجب على الانسان أن لا يضيف نعم الله إلى غيره ولا يحمدهم عليها بل يضيفها إلى خالقها ومقدرها الذي أنعم بها على العبد بفضله ورحمته ولا ينافي ذلك الدعاء لمن أحسن بها اليك وذكر ما أولاكم من المعروف إذا سلم لك دينك والسر في ذلك والله أعلم أن العبد يتعلق قلبه بمن يظن حصول الخير له من جهته وإن كان صنع له في ذلك وذلك نوع شرك خفي فمنع من ذلك قوله وأما من قال مطرنا بنوء كذا الى آخره كالصريح فيما ذكرنا أن المراد نسبة ذلك إلى غير الله وإن كان يعتقد أن المنزل للمطر هو الله ولهذا لم يقل فأما من قال أنزل علينا المطر أو أمطرنا نؤ كذا قال المصنف وفيه التفطن للكفر في هذا الموضع يشير إلى أن المراد بالكفر هنا هو نسبة النعمة إلى غير الله كالنوء ونحوه على ما تقدم ولما كان إنزال الغيث من أعظم نعم الله وإحسانه إلى عباده لما اشتمل عليه من منافعهم فلا يستغنون عنه أبدا كان من شكره الواجب عليهم ان يضيفوه الى البر الرحيم المنعم ويشكروه

405

فإن النفوس قد جبلت على حب من أحسن اليها والله تعالى هو المحسن المنعم على الإطلاق الذي ما بالعباد من نعمة فمنه وحده كما قال تعالى وما بكم من نعمة فمن الله قال ولهما من حديث ابن عباس معناه وفيه قال بعضهم لقد صدق نوء كذا وكذا فأنزل الله هذه الآية فلا أقسم بمواقع النجوم إلى قوله تكذبون ش قوله ولهما الحديث لمسلم فقط ولفظه عن ابن عباس قال مطر الناس على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم أصبح من الناس شاكر ومنهم كافر قالوا هذه رحمة الله وقال بعضهم لقد صدق نوء كذا وكذا قال فنزلت هذه الآية فلا أقسم بمواقع النجوم حتى بلغ وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون قوله قال بعضهم ذكر الواقدي في مغزيه عن أبي قتادة أن عبدالله بن أبي هو القائل في ذلك الوقت مطرنا بنوء الشعرى وفي صحة ذلك نظر قوله فلا أقسم بمواقع النجوم هذا قسم من الله عز وجل يقسم بما شاء من خلقه وهو دليل على عظمة المقسم به وتشريفه وتقديره اقسم بمواقع النجوم ويكون جوابه إنه لقرآن كريم فعلى هذا تكون لا صلة لتأكيد النفي فتقدير الكلام ليس الأمر كما زعمتم في القرآن أنه سحر أو كهانة بل هو قرآن كريم قال ابن جرير قال بعض أهل العربية معنى قوله فلا أقسم فليس الأمر كما تقولون ثم استؤنف القسم بعد فقيل أقسم ومواقع النجوم قال ابن عباس يعني نجوم القرآن فإنه نزل جملة ليلة القدر من السماء العليا

406

إلى السماء الدنيا ثم نزل مفرقا في السنين بعد ثم قرأ ابن عباس هذه الآية ومواقعها نزولها شيئا بعد شيء وقيل النجوم هي الكواكب ومواقعها مساقطها عند غروبها قال مجاهد مواقع النجوم يقال مطالعها ومشارقها واختاره ابن جرير وعلى هذا فتكون المناسبة بين ذكر النجوم في القسم وبين المقسم عليه وهو القرآن من وجوه أحدها أن النجوم جعلها الله يهتدى بها في ظلمات البر والبحر وآيات القرآن هداية بها في ظلمات الغي والجهل فتلك هداية في الظلمات الحسية وآيات القرآن هداية في الظلمات المعنوية فجمع بين الهدايتين مع ما في النجوم من الزينة الظاهرة للعالم وفي القرآن من الزينة الباطنة ومع ما في النجوم من الرجوم للشياطين وفي آيات القرآن من رجوم شياطين الانس والجن والنجوم آياته المشهودة العيانية والقرآن آياته المتلوة السمعية مع ما في مواقعها عند الغروب من العبرة والدلالة على آياته القرآنية ومواقعها عند النزول ذكره ابن القيم وقوله وإنه لقسم لو تعلمون عظيم قال ابن كثر أيو إن هذا القسم الذي أقسمت به لقسم عظيم لو تعلمون عظمته لعظمتم المقسم عليه وقوله إنه لقرآن كريم هذا هو المقسم عليه وهو القرآن أي انه وحي الله وتنزيله وكلامه لا كما يقول الكفار إنه سحر وكهانة أو شعر بل هو قرآن كريم أي عظيم كثير الخير لأنه كلام الله قال ابن القيم فوصفه بما يقتضي حسنا وكثرة خيره ومنافعه وجلالته فإن الكريم هو البهي الكثير الخير العظيم النفع وهو من كل شيء أحسنه وأفضله والله سبحانه وصف نفسه بالكرم ووصف به كلامه ووصف به عرشه ووصف به ما كثر خيره وحسن منظره من النبات وغيره ولذلك فسر

407

السلف الكريم بالحسن قال الأزهري الكريم اسم جامع لما يحمده والله تعالى كريم جميل الفعال وإنه لقرآن كريم يحمد لما فيه من الهدى والبيان والعلم والحكمة وقوله في كتاب مكنون قال ابن كثير أي معظم في كتاب معظم محفوظ موقر وقال ابن القيم اختلف المفسرون في هذا فقيل هو اللوح المحفوظ والصحيح أنه الكتاب الذي بأيدي الملائكة وهو المذكور في قوله في صحف مكرمة مرفوعة مطهرة بأيدي سفرة كرام بررة ويدل على انه الكتاب الذي بأيدي الملائكة قوله لا يمسه إلا المطهرون فهذا يدل على أنه بأيديهم يمسونه وقوله لا يمسه الا المطهرون قال ابن عباس لا يمسه إلا المطهرون قال الكتاب الذي في السماء وفي رواية لا يمسه إلا المطهرون يعني الملائكة وقال قتادة لا يمسه عند الله إلا المطهرون فأما في الدنيا فإنه يمسه المجوسي النجس والمنافق الرجس قال وهي في قراءة ابن مسعود ما يمسه إلا المطهرون واختار هذا القول كثيرون منهم ابن القيم ورجحه وقال ابن زيد زعمت قريش أن هذا القرآن تنزلت به الشياطين فأخبر الله تعالى أنه لا يمسه إلا المطهرون كما قال وما تنزلت به الشياطين إلى قوله لمعزولون قال ابن كثير وهذا قول جيد وهو لا يخرج عن القول قبله وقال البخاري في صحيحه في هذه الآية لا يجد طعمه إلا من آمن به قال ابن القيم وهذا من اشارة الآية وتنبيهها وهو أنه لا يلتذ به وبقراءته وفهمه وتدبره إلا من يشهد أنه كلام الله تكلم به حقا وأنزله على رسوله وحيا ولا ينال معانيه إلا من

408

لم يكن في قلبه منه حرج بوجه من الوجوه وقال آخرون لا يمسه إلا المطهرون أي من الجنابة والحدث قالوا ولفظ الآية خبر ومعناه الطلب قالوا والمراد بالقرآن ههنا المصحف كما في حديث ابن عمر مرفوعا نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن يناله العدو واحتجوا على ذلك بما رواه مالك في الموطأ عن عبدالله بن محمد بن أبي بكر بن محمد بن عمرو ابن حزم أن في الكتاب الذي كتبه رسول الله صلى الله عيه وسلم لعمرو بن حزم أن لا يمس القرآن الا طاهر وقوله تنزيل من رب العالمين قال ابن كثير أي هذا القرآن منزل من الله رب العالمين وليس كما يقولون إنه سحر أو كهانة أو شعر بل هو الحق الذي لا مرية فيه وليس وراءه حق نافع وفي هذه الآية إثبات أنه كلام الله تكلم به قال ابن القيم ونظيره ولكن حق القول مني وقوله قل نزله روح القدس من ربك بالحق واثبات علو الله سبحانه على خلقه فإن النزول والتنزيل الذي تعقله العقول وتعرفه الفطر هو وصول الشيء من أعلى إلى أسفل ولا يرد عليه قوله وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج لأنا نقول إن الذي أنزلها فوق سمواته فأنزلها لنا بأمره قال ابن القيم وذكر التنزيل مضافا إلى ربوبيته للعالمين المستلزمة لملكه لهم وتصرفه فيهم وحكمه عليهم وإحسانه وإنعامه عليهم وأن من هذا شأنه مع الخلق كيف يليق به مع ربوبيته التامة أن يتركهم سدى ويدعهم هملا ويخلقهم عبثا لا يأمرهم ولا ينهاهم ولا يثيبهم ولا يعاقبهم فمن أقر بأنه رب العالمين أقر بأن القرآن تنزيله على رسوله

409

واستدل بكونه رب العالمين على ثبوت رسالة رسوله وصحة ما جاء به وهذا الاستدلال أقوى وأشرف من الاستدلال بالمعجزات والخوارق وإن كانت دلالتها أقرب إلى أذهان عموم الناس وتلك إنما تكون لخواص العقلاء وقوله أفبهذا الحديث انتم مدهنون قال مجاهد أي تريدون أن تمالوا فيه وتركنوا اليهم قال ابن القيم ثم وبجهنم سبحانه على وضعهم الأوهان في غير موضعه وأنهم يداهنون فيما حقه أن يصدع به ويفرق به ويعض عليه بالنواجذ وتثنى عليه الخناصر وتعقد عليه القلوب والافئدة ويحارب ويسالم لأجله ولا يلتوي عنه يمنه ولا يسره ولا يكون للقلب التفات إلى غيره ولا محاكمة إلا إليه ولا مخاصمة إلا به ولا اهتداء في طرق المطالب العالية الا بنوره ولا شفاء الا به فهو روح الوجود وحياة العالم ومدار السعادة وقائد الفلاح وطريق النجاة وسبيل الرشاد ونور البصائر فكيف تطلب المداهنة بما هذا شأنه ولم ينزل للمداهنة وانما أنزل بالحق وللحق والمداهنة إنما تكون في باطل قوي لا تمكن ازالته أو في حق ضعيف لا تمكن إقامته فيحتاج المداهن إلى أن يترك بعض الحق ويلتزم بعض الباطل فأما الحق الذي قام به كل حق فكيف يداهن فيه وقوله وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون تقدم الكلام عليها أول الباب والله أعلم باب قول الله تعالى ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا

410

يحبونهم كحب الله ش لما كانت محبة الله سبحانه هي أصل دين الاسلام الذي يدور عليه قطب رحاها فبكمالها يكمل الإيمان وبنقصانها ينقص توحيد الانسان نبه المنصف رحمه الله على وجوبها على الاعيان ولهذا جاء في الحديث أحبوا الله لما يغذوكم به من نعمه الحديث رواه الترمذي والحاكم وفي حديث آخر أحبوا الله بكل قلوبكم وفي حديث معاذ بن جبل في حديث المنام وأسألك حبك وحب من يحبك وحب عمل يقربني إلى حبك رواه أحمد والترمذي وصححه وما أحسن ما قال القيم في وصفها هي المنزلة التي يتنافس فيها المتنافسون والى عملها شمر السابقون وعليها تفافي المحبون فهي قوت القلوب وغذاء الأرواح وقرة العيون وهي الحياة التي من حرمها فهو من جملة الأموات والنور الذي من فقده ففي بحار الظلمات والشفاء الذي من عدمه حلت بقلبه جميع الاسقام واللذة التي من لم يظفر بها فعيشه كله هموم وآلام وهي روح الإيمان والاعمال والمقامات والأحوال التي متى خلت منها فهي كالجسد الذي لا روح فيه تحمل أثقال السائرين الى بلاد لم يكونوا الا بشق الأنفس بالغيها وتوصلهم الى منازل لم يكونوا ابدا بدونها واصليها وتبوئهم من مقاعد الصدق مقامات لم يكونوا لولا هي داخليها تالله لقد ذهب أهلها بشرف الدنيا والآخرة وقد قضى الله تعالى يوم قدر مقادير الخلائق بمشيئته وحكمته البالغة ان المرء مع من أحب فيا لها من نعمة على المحبين سابغة تالله لقد سبق القوم السعاة وهم على ظهور الفرش نائمون ولقد تقدموا الركب بمراحل وهم في مسيرهم واقفون وأجابوا مؤذن الشوق إ نادى بهم حي على الفلاح وبذلوا نفوسهم في طلب الوصول إلى

411

محبوبهم وكان بذلهم بالرضى والسماح وواصلوا اليه المسير بالإدلاج والغدو والرواح تالله لقد حمدوا عند الوصول مسراهم وشكروا مولاهم على ما أعطاهم وانما يحمد القوم السرى عند الصباح وأطال في وصفها فراجعه في المدارج واعلم أن المحبة قسمان مشتركة وخاصة فالمشتركة ثلاثة أنواع أحدها محبة طبيعية كمحبة الجائع للطعام والظمآن للماء ونحو ذلك وهذه لا تستلزم التعظيم الثاني محبة رحمة وإشفاق كمحبة الوالد لولده الطفل وهذه أيضا لا تستلزم التعظيم الثالث محبة أنس والف وهي محبة المشتركين في صناعة أو علم أو مرافقة أو تجارة أو سفر لبعضهم بعضا وكمحبة الإخوة بعضهم بعضا فهذه الأنواع الثلاثة التي تصلح للخلق بعضهم من بعض ووجودها فيهم لا يكون شركا في محبة الله ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الحلواء والعسل وكان يحب نساءه وعائشة أحبهن اليه وكان يحب أصحابه وأحبهم اليه الصديق رضي الله عنه القسم الثاني المحبة الخاصة التي لا تصلح الا لله ومتى أحب العبد بها غيره كان شركا لا يغفره الله وهي محبة العبودية المستلزمة للذل والخضوع والتعظيم وكمال الطاعة وايثاره على غيره فهذه المحبة لا يجوز تعلقها بغير الله أصلا كما حققه ابن القيم وهي التي سوى المشركون بين الله تعالى وبين آلهتهم فيها كما قال تعالى في الاية التي ترجم لها المصنف ومن الناس من يتخذ من دون الله اندادا قال ابن كثير يذكر تعالى حال المشركين به في الدنيا وما لهم في الآخرة من العذاب والنكال حيث جعلوا لله أندادا أي امثالا ونظراء يحبونهم كحبه ويعبدونهم معه وهو

412

الله الذي لا إله إلا هو ولا ضد له ولا ند له ولا شريك معه وقوله يحبونهم كحب الله أي يساوونهم بالله في المحبة والتعظيم ولهذا يقولون لاندادهم وهم في النار تالله إن كنا لفي ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين فهذا هو مساواتهم برب العالمين وهو العدل المذكور في قوله ثم الذين كفروا بربهم يعدلون اما مساواتهم بالله في الخلق والرزق وتدبير الامور فما كان احد من المشركين يساوون اصنامهم بالله في ذلك وهذا القول رحجه شيخ الاسلام والثاني ان المعنى يحبون انداهم كما يحب المؤمنون الله ثم بين أن محبة المؤمنين لله أشد من محبة اصحاب الانداد لاندادهم قال شيخ الاسلام وهذا متناقض وهو باطل فان المشركين لا يحبون الانداد مثل محبة المؤمنين الله ودلت الآية على أن من أحب شيئا كحب الله فقد اتخذه ندا لله وذلك هو الشرك الأكبر قاله المصنف وعلى وجوب افراد الله بالمحبة الخاصة التي هي توحيد الالهية بل الخلق والامر والثواب والعقاب انما نشأ عن المحبة ولاجلها فهي الحق الذي خلقت به السموات والارض وهي الحق الذي تضمنه الامر والنهي وهي سر التأله وتوحيدها هو شهادة أن لا إله إلا الله او ليس كما زعم المنكرون أن الإله هو الرب الخالق فإن المشركين كانوا مقرين بأنه لا رب إلا الله ولا خالق سواه ولم يكونوا مقرين بتوحيد الالهية الذي هو حقيقة لا إله إلا الله فإن الإله الذي تألهه القلوب حبا وذلا وخوفا ورجاء وتعظيما وطاعة إله بمعنى مألوه أي محبوب معبود واصله من التأله وهو التعبد الذي هو آخر مراتب الحب فالمحبة حقيقة العبودية ودلت ايضا على أن المشركين يعرفون الله ويحبونه وانما الذي أوجب كفرهم مساواتهم به الانداد في المحبة فكيف بمن لم

413

احب الأنداد اكبر من حب الله فكيف بمن لم يحب الله أصلا ولم يحب إلا الند وحده فالله المستعان وقوله والذين آمنوا أشد حبا لله نتكلم عليها لتعلقها بما قبلها تكميلا للفائدة وإن لم يذكرها المصنف وفيها قولان أحدهما وهو الصحيح أن المعنى والذين آمنوا إشد حبا لله من محبة المشركين بالانداد لله فإن محبة المؤمنين خالصة ومحبة أصحاب الانداد قد ذهبت اندادهم بقسط منها والمحبة الخالصة أشد من المشتركة والثاني والذين آمنوا أشد حبا لله من حب اصحاب الانداد لأندادهم التي يحبونها من دون الله قال ابن القيم والقولان مرتبان على القولين في قوله يحبونهم كحب الله وفي الآية دليل على أن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصا وأن الشرك محبط للأعمال قال وقوله قل إن كان آباؤكم إلى قوله أحب إليكم من الله ورسوله الآية هذا أمر من الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم أن يتوعد من أحب أهله وعشيرته وأمواله ومساكنه أو أحد هذه الأشياء على الله ورسوله وجهاد في سبيله وقد خوطب بهذا المؤمنون في آخر الأمر كما قاله شيخ الاسلام فقيل لهم إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها أي حصلتموها وتجارة تخشون كسادها أي رخصها وفوات وقت نفاقها ومساكن ترضونها أي لحسنها وطيبها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره أي انتظروا ماذا يحل بكم من عذاب الله والله لا يهدي القوم الفاسقين أي الخارجين عن طاعة الله

414

وهو تنبيه على أن من فعل ذلك فهو من الفاسقين فهذا تشديد ووعيد عظيم ولا يخلص منه إلا من صح إيمانه فخلص لله سره وإعلانه وعلى أن المحبة الصادقة تستلزم تقديم مراضي الله على هذه الثمانية كلها فكيف بمن آثر بعضها على الله ورسوله وجهاد في سبيله فإن قلت قد قال شيخ الإسلام إن كثيرا من المسلمين أو أكثرهم بهذه الصفة قيل مراده أن كثيرا من المسلمين قد يكون ما ذكر أحب اليه من الله ورسوله أي في إيثار ذلك على فعل أمر الله وأمر رسوله الذي ينشأ عن المحبة لا في الحب الذي يوجب قصد المحبوب بالتأله فإن من ساوى بين الله وبين غيره في هذا الحب فهو مشرك فكيف اذا كان غير الله أحب اليه كما هو الواقع من عباد القبور فإنهم يحبون أندادهم أعظم من حب الله وذلك أن أصل الحب يحتمل الشركة بخلاف الخلة فإنها لا تقبل الشركة أصلا ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحسن وأسامة اللهم إني أحبهما وأحب من يحبهما حديث صحيح واعلم أن هذه الآية شبيهة بقوله قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني فلما كثر المدعون لمحبة الله طولبوا بإقامة البينة فجاءت هذه الآية ونحوها فمن ادعى محبة الله وهو يحب ما ذكر على الله ورسوله فهو كاذب كمن يدعي محبة الله وهو على غير طريق النبي صلى الله عليه وسلم فإنه كاذب إذ لو كان صادقا لكان متبعا له قال مبارك بن فضالة عن الحسن قال كان ناس على عهد النبي صلى الله عليه وسلم يقولون يا رسول الله إننا نحب ربنا حبا شديدا فأحب الله أن يجعل لحبه علما فأنزل الله قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني

415

يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم وقد وقع لكثير من المدعين نوع انبساط في دعوى المحبة أخرجهم إلى شيء من الرعونة والدعاوي التي تنافي العبودية ويدعي أحدهم دعاوي تتجاوز حدود الانبياء ويطلبون من الله مالا يصلح بكل وجه إلا لله وسبب هذا ضعف تحقيق المحبة التي هي محض العبودية بل ضعف العقل الذي به يعرف العبد حقيقته ومدعي ذلك فيه شبه من اليهود والنصارى الذين قالوا نحن أبناء الله وأحباؤه وشرط المحبة موافقة المحبوب فتحب ما يحب وتكره ما يكره وتبغض ما يبغض وذلك كمن يدعي أن الذنوب لا تضره لكون الله يحبه فيصر عليها أو يدعي أنه يصل إلى حد في محبة الله تسقط عنه التكاليف وكقول بعضهم أي مريد لي ترك في النار أحدا فإنه بريء منه فقال الآخر أي مريد لي ترك أحدا من المؤمنين يدخل النار فإنه بريء منه ونحو ذلك من الدعاوي مع أن كثيرا من هذا ونحوه لا يصدر إلا من كافر والعاقل يتنبه وما هكذا كان سادات المحبين الانبياء والمرسلون والصحابة والتابعون فكن على حذر من ذلك فإن كثيرا من جهال المتصوفة وقع فيه وقد ينسب ذلك إلى بعض المشايخ المشهورين وهو إما كذب عليهم وإما خطأ منهم فإن العصمة منتفية عن غير الرسول صلى الله عليه وسلم قال عن انس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب اليه من ولده ووالده والناس أجمعين أخرجاه ش قوله لا يؤمن أحدكم أي لا يحصل له الايمان الذي تبرأ به ذمته ويستحق به دخول الجنة بلا عذاب حتى يكون الرسول أحب

416

إليه من أهله وولده والناس أجمعين بل لا يحصل له ذلك حتى يكون الرسول أحب إليه من نفسه أيضا كما في حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم لأنت يا رسول الله أحب إلي من كل شيء إلا نفسي فقال والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك فقال له عمر فإنك الآن والله أحب إلي من نفسي فقال الآن يا عمر رواه البخاري فمن لم يكن كذلك فهو من أصحاب الكبائر إذا لم يكن كافرا فإنه لا يعهد في لسان الشرع نفي اسم مسمى أمر الله به ورسوله الا إذا ترك بعض واجباته فأما إذا كان الفعل مستحبا في العبادة لم ينفها لانتفاء المستحب ولو صح هذا لنفي عن جمهور المؤمنين اسم الايمان والصلاة والزكاة والحج وحب الله ورسوله لأنه ما من عمل إلا وغيره أفضل منه وليس أحد يفعل أفعال البر مثل ما فعلها النبي صلى الله عليه وسلم بل ولا أبو بكر ولا عمر فلو كان من لم يأت بكمالها المستحب يجوز نفيها عنه لجاز أن ينفى عن جمهور المسلمين من الأولين والآخرين وهذا لا يقوله عاقل وعلى هذا فمن قال عن المنفي هو الكمال فإن أراد أنه نفي الكمال الواجب الذي يذم تاركه ويتعرض للعقوبة فقد صدق وإن أراد أنه نفي الكمال المستحب فهذا لم يقع قط في كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم قاله شيخ الإسلام وأكثر الناس يدعي أن الرسول أحب إليه مما ذكر فلا بد من تصديق ذلك بالعمل والمتابعة له وإلا فالمدعي كاذب فإن القرآن بين أن المحبة التي في القلب تستلزم العمل الظاهر بحبها كما قال تعالى قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله وقال تعالى ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين الى قوله إنما كان قول المؤمنين اذا دعوا الى الله

417

ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون فنفى الإيمان عمن تولى عن طاعة الرسول وأخبر أن المؤمنين اذا دعوا الى الله ورسوله سمعوا وأطاعوا فتبين أن هذا من لوازم الإيمان والمحبة لكن كل مسلم لابد أن يكون محبا بقدر ما معه من الإسلام كما أن كل مؤمن لا بد أن يكون مسلما وكل مسلم لا بد أن يكون مؤمنا وإن لم يكن مؤمنا الايمان المطلق لأن ذلك لا يحصل الا لخواص المؤمنين فإن الاستسلام لله ومحبته لا تتوقف على هذا الايمان الخاص قال شيخ الإسلام وهذا الفرق يجده الانسان من نفسه ويعرفه من غيره فعامة الناس اذا أسلموا بعد كفر أو ولدوا على الإسلام والتزموا شرائعه وكانوا من أهل الطاعة لله ورسوله وهم مسلمون ومعهم إيمان مجمل لكن دخول حقيقة الإيمان إلى قلوبهم يحصل شيئا فشيئا إن أعطاهم الله ذلك وإلا فكثير من الناس لا يصلون الى اليقين ولا الى الجهاد ولو شككوا لشكوا ولو أمروا بالجهاد لما جاهدوا وليسوا كفارا ولا منافقين بل ليس عندهم من علم القلب ومعرفته ويقينه ما يدرأ الريب ولا عندهم من قوة الحب لله ورسوله ما يقدمونه على الأهل والمال وهؤلاء إن عوفوا من المحنة وماتوا دخلوا الجنة وإن ابتلوا بمن يدخل عليهم شبهات توجب ريبهم فإن لم ينعم الله عليهم بما يزيل الريب وإلا صاروا مرتابين وانتقلوا الى نوع من النفاق انتهى قوله أحب هو بالنصب خبر كون قوله والناس أجمعين هو من عطف العام على الخاص وهو كثير وفي الحديث من الفوائد

418

إذا كان هذا شأن محبة الرسول صلى الله عليه وسلم فما الظن بمحبة الله وفيه أن الأعمال من الإيمان لأن المحبة عمل وقد نفي الإيمان عمن لم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم أحب إليه مما ذكر فدل على ذلك وفيه أن نفي الإيمان لا يدل على الخروج من الإسلام وفيه وجوب محبته صلى الله عليه وسلم على ما ذكر ذكرهما المصنف قال ولهما عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار وفي رواية لا يجد أحد حلاوة الإيمان حتى الى آخره ش قوله ثلاث أي ثلاث خصال وجاز الابتداء بثلاث لأن المضاف إليه منوي ولذلك جاء التنوين قوله من كن فيه أي وجدن وحصلن فهي تامة قوله وجد بهن حلاوة الايمان قال ابن أبي جمرة إنما عبر بالحلاوة لأن الله شبه الإيمان بالشجرة في قوله ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة قلت والشجرة لها ثمرة والثمرة لها حلاوة فكذلك شجرة الإيمان لابد لها من ثمرة ولا بد لتلك الثمرة من حلاوة لكن قد يجدها المؤمن وقد لا يجدها وإنما يجدها بما ذكر في الحديث قوله أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما أحب منصوب

419

لأنه خبر يكون قال البيضاوي المراد بالحب هنا الحب العقلي الذي هو إيثار ما يقتضي العقل السليم رجحانه وإن كان على خلاف هوى النفس كالمريض يعاف الدواء بطبعه فينفر عنه بطبعه ويميل اليه بمقتضى عقله فيهوى تناوله فإذا تأمل المرء أن الشارع لا يأمر ولا ينهى إلا بما فيه صلاح عاجل أو خلاص آجل والعقل يقتضي رجحان جانب ذلك تمرن على الإئتمار بأمره بحيث يصير هواه تبعا له ويلتذ بذلك التذاذا عقليا إذ الإلتذاذ العقلي إدراك ما هو كمال وخير من حيث هو كذلك قلت وكلامه على قواعد الجهمية ونحوهم من نفي محبة المؤمنين لربهم لهم والحق خلاف ذلك بل المراد في الحديث أن يكون الله ورسوله عند العبد أحب اليه مما سواهما حبا قلبيا كما في بعض الأحاديث أحبوا الله بكل قلوبكم فيميل بكليته إلى الله وحده حتى يكون وحده محبوبه ومعبوده وإنما يحب من سواه تبعا لمحبته كما يحب الأنبياء والمرسلين والملائكة والصالحين لما كان يحبهم ربه سبحانه وذلك موجب لمحبة ما يحبه سبحانه وكراهة ما يكره وإيثار مرضاته على ما سواه والسعي فيما يرضيه ما استطاع وترك ما يكره فهذه علامات المحبة الصادقة ولوازمها وأما مجرد إيثار ما يقضي العقل رجحانه وان كان على خلاف هوى النفس كالمريض يعاف الدواء بطبعه فينفر عنه الى آخر كلامه فهذا قد يكون في بعض الأمور علامة على الحب ولازما له لا أنه هو الحب وقال شيخ الاسلام أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه الثلاث من كن فيه وجد حلاوة الايمان لأن وجود الحلاوة للشيء يتبع المحبة له فمن أحب شيئا واشتهاه إذا حصل له مراده فإنه يجد الحلاوة واللذة والسرور بذلك واللذة أمر يحصل عقيب إدراك الملائم الذي هو المحبوب أو المشتهي قال فحلاوة الإيمان المتضمنة للذة والفرح يتبع كمال محبة العبد لله وذلك بثلاثة أمور تكميل هذه المحبة

420

وتفريعها ودفع ضدها فتكميلها أن يكون الله ورسوله احب اليه مما سواهما فإن محبة الله ورسوله لا يكتفى فيها بأصل الحب بل لا بد ان يكون الله ورسوله احب اليه مما سواهما قلت ولا يكون كذلك الا إذا وافق ربه فيما يحبه وما يكرهه قال وتفريعها أن يحب المرء لا يحبه إلا لله قلت فإن من أحب مخلوقا لله لا لغرض آخر كان هذا من تمام حبه لله فإن محبة محبوب المحبوب من تمام محبة المحبوب فإذا أحب أنبياء الله وأولياءه لأجل قيامهم بمحبوبات الله لا لشيء آخر فقد أحبهم لله لا لغيره قال ودفع ضدها أن يكره ضد الإيمان كما يكره أن يقذف في النار قلت وإنما كره الضد لما دخل قلبه من محبة الله فانكشف له بنور المحبة محاسن الاسلام ورذائل الجهل والكفران وهذا هو الحب الذي يكون مع من أحب كما في الصحيحين عن أنس أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم متى الساعة فقال ما أعددت لها قال ما أعددت لها من كثير صلاة ولا صيام ولا صدقة ولكنى أحب الله ورسوله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنت مع من أحببت وفي رواية للبخاري فقلنا ونحن كذلك قال نعم قال أنس ففرحنا يومئذ فرحا شديدا وقوله مما سواهما فيه جمع ضمير الرب سبحانه وضمير الرسول صلى الله عليه وسلم وقد أنكره على الخطيب لما قال ومن يعصهما فقد غوى وأحسن ما قيل فيه قولان أحدهما ما قاله البيضاوي وغيره أنه ثنى الضمير هنا إيماء الى أن المعتبر هو المجموع المركب من المحبتين لا كل واحدة فإنها وحدها لاغية وأمر بالأفراد في حديث الخطيب إشعارا بأن كل واحد من العصيانين مستقل باستلزام الغواية إذ العطف في تقدير التكرير والأصل استقلال كل من المعطوفين في الحكم قلت وهذا جواب بليغ جدا

421

الثاني حمل حديث الخطيب على الأدب والأولى وهذا على الجواز وجواب ثالث وهو أن هذا ورد على الأصل وحديث الخطيب ناقل فيكون أرجح قوله كما يكره أن يقذف في النار أي يستوي عنده الأمران الإلقاء في النار والعود في الكفر قلت وفي الحديث من الفوائد أن الله تعالى يحبه المؤمنون وهو تعالى يحبهم كما قال يحبهم ويحبونه وفيه رد ما يظنه بعض الناس من أنه من ولد على الإسلام أفضل ممن كان كافرا فأسلم فمن اتصف بهذه الأمور فهو أفضل ممن لم يتصف بها مطلقا ولهذا كان السابقون الأولون أفضل ممن ولد على الإسلام وفيه رد على الغلاة الذين يتوهمون أن صدور الذنب من العبد نقص في حقه مطلقا والصواب أنه إن لم يتب كان نقصا وإن تاب فلا ولهذا كان المهاجرون والأنصار أفضل هذه الأمة وإن كانوا في أول الأمر كفارا يعبدون الأصنام بل المنتقل من الضلال الى الهدى ومن السيئات الى الحسنات يضاعف له الثواب قاله شيخ الإسلام وفيه دليل على عداوة المشركين وبغضهم لأن من أبغض شيئا أبغض من اتصف به فإذا كان يكره الكفر كما يكره أن يلقى في النار فكذلك يكره من اتصف به قوله وفي رواية لا يجد أحد هذه الرواية أخرجها البخاري في صحيحه ولفظه لا يجد أحد حلاوة الإيمان حتى يحب المرء لا يحبه إلا لله

422

وحتى أن يقذف في النار أحب اليه من أن يرجع الى الكفر بعد اذ أنقذه الله منه وحتى يكون الله ورسوله أحب اليه مما سواهما قال وعن ابن عباس قال من أحب في الله وأبغض في الله ووالى في الله وعادى في الله فإنما تنال ولاية الله بذلك ولن يجد عبد طعم الإيمان وإن كثرت صلاته وصومه حتى يكون كذلك وقد صارت عامة مؤاخاة الناس على أمر الدنيا وذلك لا يجدي على أهله شيئا رواه ابن جرير ش هذا الأثر رواه ابن جرير بكماله كما قال المصنف وأخرج ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم الجملة الأولى منه فقط قوله من أحب في الله أي أحب المسلمين والمؤمنين في الله قوله وأبغض في الله أي أبغض الكفار والفاسقين في الله لمخالفتهم لربهم وإن كانوا أقرب الناس اليه كما قال تعالى لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم الآية قوله ووالى في الله هذا بيان للازم المحبة في الله وهو الموالاة فيه إشارة الى أنه لا يكفي في ذلك مجرد الحب بل لا بد مع ذلك من الموالاة التي هي لازم الحب وهي النصرة والاكرام والاحترام والكون مع المحبوبين باطنا وظاهرا قوله وعادى في الله هذا بيان للازم البغض في الله وهو المعاداة فيه أي اظهار العداوة بالفعل كالجهاد لأعداء الله والبراءة منهم والبعد عنهم باطنا وظاهرا اشارة الى أنه لا يكفي مجرد بغض القلب بل لا بد مع ذلك من الاتيان بلازمه كما قال تعالى قد كانت لكم أسوة حسنة في ابراهيم والذين معه

423

إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده فهذا علامة الصدق في البغض في الله قوله فإنما تنال ولاية الله بذلك يجوز فتح الواو وكسرها أي لا يكون العبد من أولياء الله ولا تحصل له ولاية الله الا بما ذكر من الحب في الله والبغض في الله والموالاة في الله والمعاداة في الله كما روى الإمام أحمد والطبراني عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا يجد العبد صريح الإيمان حتى يحب لله ويبغض لله فإذا أحب لله وأبغض لله فقد استحق الولاية لله وفي حديث آخر أوثق عرى الايمان الحب في الله والبغض في الله عز وجل رواه الطبراني وغيره وينبغي لمن أحب شخصا في الله أن يأتيه في بيته فيخبره أنه يحبه في الله كما روى أحمد والضياء عن أبي ذر مرفوعا إذا أحب أحدكم صاحبه فليأته في منزله فليخبره أنه يحبه لله وفي حديث ابن عمر عند البيهقي في الشعب فإنه يجد مثل الذي يجد له قوله ولن يجد عبد طعم الإيمان الى آخره أي لا يجد عبد طعم الايمان وإن كثرت صلاته وصومه حتى يحب في الله ويبغض في الله ويعادي في الله ويوالي في الله وهذا منتزع من حديث أنس السابق وفي حديث أبي أمامة مرفوعا من أحب لله وأبغض لله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الايمان رواه أبو داود والعجب ممن يدعي محبة الله وهو على خلاف ذلك وما أحسن ما قال ابن القيم أتحب أعداء الحبيب وتدعي حبا له ما ذاك في إمكان

424

قوله وقد صارت عامة مؤاخات الناس على أمر الدنيا وذلك لا يجدي على أهله شيئا أي المؤاخاة على امر الدنيا لا يجدي على أهله شيئا أي لا ينفعهم أصلا بل يضرهم كما قال تعالى الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو الا المتقين فهذا حال كل خلة ومحبة كانت في الدنيا على غير طاعة الله فإنها تعود عداوة وندامة يوم القيامة بخلاف المحبة والخلة على طاعة الله فإنها من أعظم القربات كما جاء في حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله قال ورجلان تحابا في الله اجتمعا على ذلك وتفرقا عليه وفي الحديث القدسي الذي رواه مالك وابن حبان في صحيحه وجبت محبتي للمتحابين في وللمتجالسين في وللمتزاورين في وللمتباذلين في وهذا الكلام قاله ابن عباس رضي الله عنه في أهل زمانه فكيف لو رأى الناس فيه من المؤاخاة على الكفر والبدع والفسوق والعصيان ولكن هذا مصداق قوله عليه السلام بدأ الاسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ وفيه إشارة إلى ان الأمر قد تغير في زمن ابن عباس بحيث صار الأمر الى هذا بالنسبة إلى ما كان في زمن الخلفاء الراشدين فضلا عن زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد روى ابن ماجه عن ابن عمر قال لقد رأيتنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وما منا أحد يرى أنه أحق بديناره ودرهمه من أخيه المسلم وأبلغ منه قوله تعالى ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة فهذا كان حالهم في ذلك الوقت الطيب وهؤلاء هم المتحابون لجلال الله كما في الحديث القدسي يقول الله عز وجل أين المتحابون لجلالي اليوم أظلهم في ظلي فهذه هي المحبة النافعة لا لمحبة الدنيا وهي التي اوجبت لهم المواساة والإيثار على الأنفس وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم قال المصنف وقال ابن عباس في قوله وتقطعت بهم الأسباب قال المودة

425

ش هذا الأثر رواه عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه قوله قال المودة أي المحبة التي كانت بينهم في الدنيا تقطعت بهم وخانتهم أحوج ما كانوا اليها وتبرأ بعضهم من بعض كما قال تعالى عن ابراهيم الخليل عليه السلام أنه قال لقومه إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا ومأواكم النار وما لكم من ناصرين وهذه الآية وإن كانت نزلت في المشركين عباد الأوثان الذين يحبون أندادهم وأوثانهم كحب الله فإنها عامة لأن الإعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ولهذا قال قتادة وتقطعت بهم الأسباب قال أسباب الندامة يوم القيامة والأسباب المواصلة التي يتواصلون بها ويتحابون بها فصارت عداوة يوم القيامة يلعن بعضهم بعضا رواه عبد بن حميد وابن جرير فهذا حال من كانت مودته لغير الله فاحذر من ذلك باب قول الله تعالى إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون ان كنتم مؤمنين الخوف من أفضل مقامات الدين وأجلها فلذلك قال المصنف على وجوب إخلاصه لله تعالى وقد ذكره الله تعالى في كتابه عن سادات المقربين من الملائكة

426

والأولياء والصالحين قال الله تعالى يخافون ربهم من فوقهم وقال الله تعالى وهم من خشيته مشفقون وقال تعالى إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون وقال تعالى الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله وأمر باخلاصه له فقال تعالى وإياي فارهبون وقال تعالى فلا تخشوا الناس واخشون وقال تعالى أفغير الله تتقون وهو على ثلاثة أقسام احدها خوف السر وهو أن يخاف من غير الله أن يصيبه بما يشاء من مرض أو فقر أو قتل ونحو ذلك بقدرته ومشيئته سواء ادعى أن ذلك كرامة للمخوف بالشفاعة أو على سبيل الاستقلال فهذا الخوف لا يجوز تعلقه بغير الله أصلا لأن هذا من لوازم الإلهية فمن اتخذ مع الله ندا يخافه هذا الخوف فهو مشرك وهذا هو الذي كان المشركون يعتقدونه في أصنامهم وآلهتهم ولهذا يخوفون بها أولياء الرحمن كما خوفوا ابراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام فقال لهم ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا وسع ربي كل شيء علما أفلا تتذكرون وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون وقال تعالى عن قوم هود إنهم قالوا له إن نقول الا اعتراك بعض آلهتنا بسوء قال إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون

427

من دونه فيكيدوني جميعا ثم لا تنظرون وقال تعالى ويخوفونك بالذين من دونه وهذا القسم هو الواقع اليوم من عباد القبور فإنهم يخافون الصالحين بل الطواغيت كما يخافون الله بل أشد ولهذا إذا توجهت على أحدهم اليمين بالله أعطاك ما شئت من الايمان كاذبا أو صادقا فإن كان اليمين بصاحب التربة لم يقدم على اليمين إن كان كاذبا وما ذاك إلا لأن المدفون في التراب أخوف عنده من الله ولا ريب أن هذا ما بلغ إليه شرك الأولين بل جهد أيمانهم اليمين بالله تعالى وكذلك لو أصاب أحدا منهم ظلم لم يطلب كشفه إلا من المدفونين في التراب وإذا أراد أن يظلم أحدا فاستعاذ بالله أو ببيته لم يعذه ولو استعاذ بصاحب التربة أو بتربته لم يقدم عليه أحدا ولم يتعرض له بالأذى حتى ان بعض الناس أخذ من التجار أموالا عظيمة أيام موسم الحج ثم بعد أيام اظهر الإفلاس فقام عليه أهل الأموال فالتجأ الى قبر في جدة يقال له المظلوم فما تعرض له أحد بمكروه خوفا من سر المظلوم وأشباه هذا من الكفر وهذا الخوف لا يكون العبد مسلما إلا باخلاصه لله تعالى وإفراده بذلك دون من سواه الثاني أن يترك الإنسان ما يجب عليه من الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بغير عذر إلا لخوف من الناس فهذا محرم وهو الذي نزلت فيه الآية المترجم لها وهو الذي جاء فيه الحديث إن الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة ما منعك إذ رأيت المنكر أن لا تغيره فيقول يا رب خشيت الناس فيقول إياي كنت أحق أن تخشى رواه أحمد الثالث خوف وعيد الله الذي توعد به العصاة وهو الذي قال الله فيه

428

ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد وقال ولمن خاف مقام ربه جنتان وقال تعالى قالوا إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين وقال تعالى ويخافون يوما كان شره مستطيرا وهذا الخوف من أعلى مراتب الإيمان ونسبة الأول إليه كنسبة الاسلام إلى الإحسان وإنما يكون محمودا إذ لم يوقع في القنوط واليأس من روح الله ولهذا قال شيخ الإسلام هذا الخوف ما حجزك عن معاصي الله فما زاد على ذلك فهو غير محتاج اليه بقي قسم رابع وهو الخوف الطبيعي كالخوف من عدو وسبع وهدم وغرق ونحو ذلك فهذا لا يذم وهو الذي ذكره الله عن موسى عليه الصلاة والس في قوله فخرج منها خائفا يترقب إذا تبين هذا فمعنى قوله تعالى إنما ذلكم الشيطان يخوف اولياءه أي يخوفكم اولياءه ويوهمكم أنهم ذو باس وشدة قال الله تعالى فلا تخافوهم وخافون ان كنتم مؤمنين اي فاذا سول لكم وأوهمكم فتوكلوا على الا فإنه كافيكم وناصركم عليهم كما قال تعالى اليس الله بكاف عبده ويخوفونك بالذين من دونه إلى قوله قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون وقال تعالى فقاتلوا اولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفا قاله ابن كثير وقال ابن القيم ومن كيد عدو الله أنه يخوف المؤمنين من جنده واوليائه لئلا يجاهدوهم ولا يأمروهم بمعروف ولا ينهوهم عن منكر

429

فأخبر تعالى ان هذا من كيده وتخويفه ونهانا أن نخافهم قال والمعنى عند جميع المفسرين يخوفكم بأوليائه قال قتادة يعظمهم في صدوركم ولهذا قال فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين فكلما قوي إيمان العبد زال من قلبه خوف أولياء الشيطان وكلما ضعف إيمان العبد قوي خوفه منهم قلت فأمر تعالى باخلاص هذا الخوف له وأخبر أن ذلك شرط في الإيمان فمن لم يأت به لم يأت بالإيمان الواجب ففيه ان إخلاص الخوف لله من الفرائض قال وقوله تعالى إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخشى الا الله الآية لما نفى تبارك وتعالى عمارة المساجد عن المشركين بقوله تعالى ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله الآية إذا لا تنفعهم عمارتها مع الشرك كما قال تعالى وقدمنا الى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا أثبت تعالى في هذه الآية عمارة المساجد بالعبادة للمؤمنين بالله تعالى واليوم الآخر المقيمين الصلاة المؤتين الزكاة الذين لا يخشون الا الله ولا يخشون معه الها آخر كما قال تعالى ولا يخشون أحدا الا الله وكفى بالله حسيبا فهذه هي العمارة النافعة وهي الخالصة من الشرك فإنه نار تحرق الأعمال وقوله ولم يخش الا الله قال ابن عطية يريد خشية التعظيم والعبادة والطاعة ولا محالة أن الإنسان يخشى غيره ويخشى المحاذير الدنيوية وينبغي أن يخشى في ذلك كله قضاء الله وتصريفه

430

قلت ولهذا قال ابن عباس الآية لم يعبد الا الله فإن الخوف كما قال ابن القيم عبودية القلب فلا يصلح الا لله كالذل والإنابة والمحبة والتوكل والرجاء وغيرها من عبودية القلب فلا يصلح الا لله كالذل والانابة والمحبة والتوكل والرجاء وغيرها من عبودية القلب وقوله فعسى اولئك ان يكونوا من المهتدين قال ابن ابي طلحة عن ابن عباس يقول إن أولئك المهتدون كقوله عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا وكل عسى في القرآن فهي واجبة وتضمنت الآية أن من عمر المساجد من المسلمين بالعبادة هو من المؤمنين كما في حديث إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالايمان قال الله انما يعمد مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر رواه أحمد والترمذي والحاكم قال وقوله ومن الناس من يقول آمنا بالله فاذا اوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله الآية قال ابن كثير يقول تعالى مخبرا عن قوم من الذين يدعون الايمان بألسنتهم ولم يثبت الايمان في قلوبهم بأنهم إذا جاءتهم محنة في الدنيا اعتقدوا أنها من نقمة الله بهم فارتدوا عن الاسلام قال ابن عباس يعني فتنته أن يرتد عن دينه إذا أوذي في الله وقال ابن القيم الناس إذا أرسل اليهم الرسل بين أمرين إما أن يقول احدهم آمنا وإما أن لا يقول ذلك بل يستمر على السيئات والكفر فمن قال آمنا امتحنه ربه وابتلاه وفتنه والفتنة الابتلاء والاختبار ليتبين الصادق من الكاذب ومن لم يقل آمنا فلا يحسب أنه يعجز الله ويفوته ويسبقه فمن آمن

431

بالرسل وأطاعهم عاداه أعداؤهم وآذوه فابتلى بما يؤلمه ومن لم يؤمن بهم ولم يطعهم عوقب في الدنيا والآخرة وحصل له ما يؤلمه وكان هذا الألم أعظم وأدوم من ألم أتباعهم فلا بد من حصول الألم لكل نفس آمنت أو رغبت عن الإيمان لكن المؤمن يحصل له الألم في الدنيا ابتداء ثم تكون له العاقبة في الدنيا والآخرة والمعرض عن الإيمان تصل له اللذة ابتداء ثم يصير له الألم الدائم والانسان لابد أن يعيش مع الناس والناس لهم ارادات وتصورات فيطلبون منه أن يوافقهم عليها وإن لم يوافقهم آذوه وعذبوه وان وافقهم حصل له الأذى والعذاب تارة منهم وتارة من غيرهم كمن عنده دين وتقى حل بين قوم فجار ظلمة ولا يتمكنون من فجورهم الا بموافقته لهم أو سكوته عنهم فإن وافقهم أو سكت عنهم سلم من شرهم في الابتداء ثم يتسلطون عليه بالاهانة والاذى أضعاف ما كان يخافه ابتداء لو انكر عليهم وخالفهم وان سلم منهم فلا بد ان يهان ويعاقب على يد غيرهم فالحزم كل الحزم بما قالت ام المؤمنين لمعاوية من ارضى الله بسخط الناس كفاه الله مؤنة الناس ومن أرضى الناس بسخط الله لم يغنوا عنه من الله شيئا فمن هذاه الله وألهمه رشده ووقاه شر نفسه امتنع من الموافقة على فعل المحرم وصبر على عداوتهم ثم تكون له العاقبة في الدنيا والآخرة كما كانت للرسل وأتباعهم ثم أخبر عن حال الداخل في الايمان بلا بصيرة وأنه اذا أوذي في الله جعل فتنة الناس له وهي أذاهم له ونيلهم اياه بالمكروه وهو الألم الذي لا بد ان ينال الرسل وأتباعهم ممن خالفهم جعل ذلك في فراره منه وتركه السبب الذي يناله به كعذاب الله الذي فر منه المؤمنون بالايمان فالمؤمنون لكمال بصيرتهم فروا من ألم عذاب الله الى الإيمان وتحملوا ما فيه من الألم الزائل المفارق عن قرب وهذا لضعف بصيرته فر من ألم أعداء

432

الرسل إلى موافقتهم ومتابعتهم ففر من ألم عذابهم الى ألم عذاب الله فجعل ألم فتنة الناس في الفرار منه بمنزلة ألم عذاب الله وغبن كل الغبن اذا استجار من الرمضاء بالنار وفر من ألم ساعة الى ألم الأبد واذا نصر الله جنده وأولياءه قال إني كنت معكم والله عليم بما انطوى عليه صدره من النفاق انتهى قلت وإنما حمل ضعيف البصيرة على أن جعل فتنة الناس كعذاب الله هوالخوف منهم أن ينالوه بما يكره بسبب الإيمان بالله وذلك من جملة الخوف من غير الله وهذا وجه مطابقة الآية للترجمة وفي الآية رد على المرجئة والكرامية وفيها الخوف على نفسك والاستعداد للبلاء اذ لابد منه مع سؤال الله العافية قال عن أبي سعيد مرفوعا إن من ضعف اليقين أن ترضى الناس بسخط الله وأن تحمدهم على رزق الله وأن تذمهم على ما لم يؤتك الله إن رزق الله لا يجره حوص حويص ولا يرده كراهية كاره ش هذا الحديث رواه أبو نعيم في الحلية والبيهقي وأعله بمحمد ابن مروان السدي وقال ضعيف وفيه أيضا عطية العوفي أورده الذهبي في الضعفاء والمتروكين وقال ضعفوة وموسى بن بلال قال الأزدي ساقط قلت اسناده ضعيف ومعناه صحيح وتمامه وإن الله بحكمته جعل الروح والفرح في الرضى واليقين وجعل الهم والحزن في الشك والسخط قوله ان من ضعف اليقين قال في المصباح والضعف بفتح الضاد في لغة تميم وبضمها في لغة قريش خلاف القوة والصحة واليقين المراد به الإيمان كله كما قال ابن مسعود اليقين الإيمان كله والصبر نصف الإيمان رواه الطبراني بسند صحيح ورواه أبو نعيم في الحلية والبيهقي في الزهد

433

من حديثه مرفوعا ولا يثبت رفعه قاله الحافظ ويدخل في ذلك تحقيق الايمان بالقدر السابق كما في حديث ابن عباس مرفوعا فإن استطعت أن تعمل بالرضى في اليقين فافعل وان لم تستطع فإن في الصبر على ما تكره خيرا كثيرا وفي رواية أخرى في اسنادها ضعف قلت يا رسول الله كيف أصنع باليقين قال أن تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك قوله أن ترضي الناس بسخط الله أي تؤثر رضاهم على رضي الله فترافقهم على ترك الأمور أو فعل المحظور استجلابا لرضاهم فلولا ضعف اليقين لما فعلت ذلك لأن من قوي يقينه علم أن الله وحده هوالنافع الضار وأنه لا معول الا على رضاه وليس لسواه من الأمر شيء كائنا ما كان فلا يهاب أحدا ولا يخشاه لخوف ضرر يلحقه من جهته كما قال تعالى ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله وكفى بالله حسيبا قوله وأن تحمدهم على رزق لله أي تحمدهم وتشكرهم على ما وصل إليك على أيديهم من رزق بأن تضيفه إليهم وتنسى المنعم المتفضل على الحقيقة وهو الله رب العالمين الذي قدر هذا الرزق لك وأوصله إليك بلطفه ورحمته فإنه لطيف لما يشاء وهو العليم الحكيم فإذا أراد أمرا قيض له أسبابا ولا ينافي ذلك حديث من لا يشكر الناس لا يشكر الله لأن المراد هنا اضافة النعمة إلى السبب ونسيان الخالق والمراد بشكر الناس عدم كفر احسانهم ومجازاتهم على ذلك بما استطعت فإن لم تجد فجازهم بالدعاء قوله وأن تذمهم على ما لم يؤتك الله أي اذا طلبتهم شيئا فمنعوك ذمتهم على

434

ذلك فلو علمت يقينا ان المتفرد بالعطاء والمنع هو الله وحده وان المخلوق مدبر لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا فضلا عن غيره وان الله لو قدر لك رزقا أتاك ولو اجتهد الخلق كلهم في دفعه وان ارادك بمنع لم يأتك مرادك ولو اجتمع الخلق كلهم في ايصاله اليك لقطعت العلائق عن الخلائق وتوجهت بقلبك الى الخالق تبارك وتعالى ولهذا قرر ذلك بقوله ان رزق الله لا يجره حرص حريص ولا يرده كراهية كاره فلا ترض الخلق بما يسخط الله ولا تحمدهم على رزق الله ولا تذمهم على ما لم يؤتك الله طلبا لحصول رزق من جهتهم فما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم قال شيخ الاسلام اليقين يتضمن اليقين في القيام بأمر الله وما وعد الله أهل طاعته ويتضمن اليقين بقدر الله وخلقه وتدبيره فإذا ارضيتهم بسخط الله لم تكن موقنا لا بوعد الله ولا برزق الله فإنه انما يحمل الانسان على ذلك إما ميل إلى ما في أيديهم فيترك القيام فيهم بأمر الله لما يرجوه منهم وإما ضعف تصديقه بما وعد الله أهل طاعته من النصر والتأييد والثواب في الدنيا والآخرة فإنك اذا أرضيت الله نصرك ورزقك وكفاك مؤنتهم وإرضاؤهم بما يسخطه انما يكون خوفا منهم ورجاء لهم وذلك من ضعف اليقين وإذا لم يقدر لك ما تظن أنهم يفعلونه معك فالأمر في ذلك الى الله لا لهم فإنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن فإذا ذممتهم على ما يقدر كان ذلك من ضعف يقينك فلا تخفهم ولا ترجهم ولا تذمهم من جهة نفسك وهواك ولكن من حمده الله ورسوله منهم فهو المحمود ومن ذمه الله ورسوله فهو المذموم ولما قال بعض وفد بني تميم أي محمد أعطني فإن حمدي زين وذمي شين قال صلى الله عليه وسلم ذاك الله وفي الحديث ان الإيمان يزيد وينقص وان الأعمال داخلة في الإيمان والالم

435

تكن هذه الثلاث من ضعفه واضدادها من قوته قال وعن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من التمس رضا الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس ومن التمس رضى الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس رواه ابن حبان في صحيحه ش هذا الحديث رواه ابن حبان بهذا اللفظ الذي ذكره المصنف ورواه الترمذي عن رجل من أهل المدينة قال كتب معاوية الى عائشة ان اكتبي لي كتابا توصيني فيه ولا تكثري علي فكتبت عائشة الى معاوية سلام عليك اما بعد فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من التمس رضى الله بسخط الناس كفاه الله مؤنة الناس ومن التمس رضى الناس بسخط الله وكله الله إلى الناس والسلام عليك رواه أبو نعيم وغيره قوله من التمس أي طلب قال شيخ الإسلام وكتبت عائشة إلى معاوية وروي أنها رفعته من ارضى الله بسخط الناس كفاه الله مؤنة الناس ومن ارضى الناس بسخط الله لم يغنوا عنه من الله شيئا هذا لفظ المرفوع ولفظ الموقوف من أرضى الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس ومن أرضى الناس بسخط الله عاد حامده من الناس له ذاما هذا اللفظ المأثور عنها وهذا من أعظم الفقه في الدين والمأثور أحق وأصدق فإن من أرضى الله بسخطهم كان قد اتقاه وكان عبده الصالح والله يتولى الصالحين وهو كاف عبده ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب والله يكفيه مؤنة الناس بلا ريب وأما كون الناس كلهم يرضون عنه فقد يحصل ذلك لكن يرضون إذا سلموا من الاعراض وإذا تبين

436

لهم العاقبة ومن أرضى الناس بسخط الله لم يغنوا عنه من الله شيئا كالظالم الذي يعض على يديه وأما كون حامده ينقلب ذاما فهذا يقع كفرا ويحصل في العاقبة فإن العاقبة للتقوى لا تحصل ابتداء عند أهوائهم قلت وإنما يحمل الانسان على إرضاء الخلق بسخط الخالق هو الخوف منهم فلو كان خوفه خالصا لله لما ارضاهم بسخطه فإن العبيد فقراء عاجزون لا قدرة لهم على نفع ولا ضر البتة وما بهم من نعمة فمن الله فكيف يحسن بالموحد المخلص أن يؤثر رضاهم على رضاء رب العالمين الذي له الملك كله وله الحمد كله وبيده الخير كله ومنه الخير كله وإليه يرجع الامر كله لا إله إلا هو العزيز الحكيم وقد أخبر تعالى أن ذلك من صفات المنافقين في قوله لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله ذلك بأنهم قوم لا يفقهون وما أحسن ما قيل إذا صح منك الود يا غاية المنى فكل الذي فوق التراب تراب قال ابن رجب فمن تحقق أن كل مخلوق فوق التراب فهو تراب فكيف يقدم طاعة من هو تراب على طاعة رب الارباب أم كيف يرضي التراب بسخط الملك الوهاب ان هذا لشيء عجاب وفي الحديث عقوبة من خاف الناس وآثر رضاهم على رضى الله وأن العقوبة قد تكون في الدين عياذا بالله من ذلك فإن المصيبة في الأديان أعظم من المصيبة في الاموال والأبدان وفيه شدة الخوف على عقوبات الذنوب لا سيما في الدين فإن كثيرا من الناس يفعل

437

المعاصي ويستهين ولا يرى اثرا لعقوبتها ولا يدري المسكين بماذا أصيب فقد تكون عقوبته في قلبه كما قال تعالى فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا ما وعدوه وبما كانوا يكذبون اللهم إنا نعوذ برضاك من سخطك وبعفوك من عقوبتك وبك منك لا نحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك باب قول الله تعالى وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين قال أبو السعادات يقال توكل بالأمر اذا ضمن القيام به ووكلت أمري الى فلان أي ألجأته واعتمدت عليه فيه وكل فلان فلانا إذا استكفاه أمره ثقة بكفايته أو عجز عن القيام بأمر نفسه انتهى ومراد المصنف بهذه الترجمة النص على أن التوكل فريضة يجب اخلاصه لله تعالى لأنه من أفضل العبادات وأعلى مقامات التوحيد بل لا يقوم به على وجه الكمال إلا خواص المؤمنين كما تقدم في صفة السبعين ألفا الذين يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب ولذلك أمر الله به في غير آية من القرآن أعظم مما أمر بالوضوء والغسل من الجنابة بل جعله شرطا في الإيمان والاسلام ومفهوم ذلك انتفاء الإيمان والاسلام عند انتفائه كما في الآية المترجم لها وقوله تعالى إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين وقوله تعالى فاعبده وتوكل عليه وقوله رب المشرق

438

والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا وقوله ألا تتخذوا من دوني وكيلا وقوله وتوكل على الحي الذي لا يموت وسبح بحمده وكفى به بذنوب عباده خبيرا وقوله فإن تولوا فقل حسبي الله لا إله الا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم وغير ذلك من الآيات وفي الحديث من سره أن يكون أقوى الناس إيمانا فليتوكل على الله رواه ابن أبي الدنيا وأبو يعلى والحاكم وفي حديث آخر لو أنكم توكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا رواه أحمد وابن ماجه قال الامام أحمد التوكل عمل القلب وقال أبو اسماعيل الأنصاري التوكل كله الأمر إلى مالكه والتعويل على وكالته إذا تبين ذلك فمعنى الآية المترجم لها أن موسى عليه السلام أمر قومه بدخول الارض المقدسة التي كتبها الله لهم ولا يرتدوا على أدبارهم خوفا من الجبارين بل يمضوا قدما لا يهابونهم ولا يخشونهم متوكلين على الله في هزيمتهم مصدقين بصحة وعده لهم إن كانوا مؤمنين قال ابن القيم فجعل التوكل على الله شرطا في الإيمان فدل على انتفاء الإيمان عد انتفائه وفي الآية الأخرى وقال موسى يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين فجعل دليل صحة الاسلام التوكل وقال وعلى الله فليتوكل المؤمنون فذكر اسم الإيمان ههنا دون سائر أسمائهم دليل على استدعاء الإيمان للتوكل وأن قوة التوكل وضعفه بحسب قوة الإيمان وضعفه وكلما قوي ايمان العبد كان توكله أقوى واذا ضعف الإيمان ضعف التوكل واذا كان التوكل ضعيفا فهو دليل على ضعف الإيمان ولا بد والله تبارك وتعالى يجمع بين التوكل والعبادة وبين التوكل والإيمان وبين التوكل والتقوى وبين التوكل والإسلام وبين التوكل والهداية فظهر أن التوكل أصل لجميع مقامات

439

الايمان والاحسان ولجميع أعمال الاسلام وأن منزلته منها كمنزلة الجسد من الراس فكما لا يقوم الرأس إلا على البدن فكذلك لا يقوم الايمان ومقوماته إلا على ساق التوكل قلت وفي الآية دليل على أن التوكل على الله عبادة وعلى أنه فرض وإذا كان كذلك فصرفه لغير الله شرك قال شيخ الاسلام وما جاء أحد مخلوقا أو توكل عليه الا خاب ظنه فيه فإنه مشرك ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق قلت لكن التوكل على غير الله قسمان أحدهما التوكل في الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله كالذين يتوكلون على الأموات والطواغيت في رجاء مطالبهم من النصر والحفظ والرزق والشفاعة فهذا شرك أكبر فإن هذه الأمور ونحوها لا يقدر عليها إلا الله تبارك وتعالى الثاني التوكل في الأسباب الظاهرة العادية كمن يتوكل على أمير أو سلطان فيما جعله الله بيده من الرزق أو دفع الأذى ونحو ذلك فهذا نوع شرك خفي والوكالة الجائزة هي توكل الانسان في فعل مقدور عليه ولكن ليس له أن يتوكل عليه وإن وكله بل يتوكل على الله ويعتمد عليه في تيسير ما وكله فيه كما قرره شيخ الاسلام قال وقوله إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم الآية قال ابن عباس في الآية المنافقون لا يدخل قلوبهم شيء من ذكر الله عند أداء فرائضه ولا يؤمنون بشيء من آيات الله ولا يتوكلون على الله

440

ولا يصلون إذا غابوا ولا يؤدون زكاة أموالهم فأخبر الله أنهم ليسوا بمؤمنين ثم وصف المؤمنين فقال إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم فادوا فرائضه رواه ابن جرير وابن أبي حاتم وهذه صفة المؤمن الذي إذا ذكر الله وجل قلبه أي خاف من الله ففعل أوامره وترك زواجره فإن وجل القلب من الله يستلزم القيام بفعل المأمور وترك المحظور كما قال تعالى وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى ولهذا قال السدي في قوله إذا ذكر الله وجلت قلوبهم هو الرجل يريد أن يظلم أو قال يهم بمعصية فيقال له اتق الله فيجل قلبه رواه ابن أبي شيبة وابن جرير وابن أبي حاتم وقوله وإذا تليت عليهم آياته زادتهم ايمانا قد استدل الصحابة والتابعون ومن تبعهم بهذه الآية وأمثالها على زيادة الإيمان ونقصانه قال عمر بن حبيب الصحابي إن الإيمان يزيد وينقص فقيل له وما زيادته وما نقصانه قال إذا ذكرنا الله وخشيناه فذلك زيادته وإذا غفلنا ونسينا وضيعنا فذلك نقصانه رواه ابن سعد وقال مجاهد في هذه الآية الايمان يزيد وينقص وهو قول وعمل رواه ابن أبي حاتم وحكى الاجماع على ذلك الشافعي وأحمد وأبو عبيد وغيرهم وقوله وعلى ربهم يتوكلون أي يعتمدون عليه بقلوبهم مفوضين اليه امورهم وحده لا شريك له فلا يرجون سواه ولا يقصدون الا إياه ولا يرغبون الا اليه يعلمون أن ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن وأنه المتصرف في الملك وحده لا شريك له وفي الآية وصف المؤمنين حقا بثلاث مقامات من مقامات الإحسان وهي الخوف وزيادة الايمان والتوكل على الله وحده فإن قيل إذا كان المؤمن حقا هو الذي فعل المأمور وترك المحظور

441

فلماذا لم يذكر إلا خمسة أشياء قيل لأن ما ذكر مستلزم لما ترك فإنه ذكر وجل قلوبهم إذا ذكر الله وزيادة ايمانهم اذا تليت عليهم آياته مع التوكل عليه واقام الصلاة على الوجه المأمور به باطنا وظاهرا والانفاق من المال والمنافع فكان مستلزما للباقي فإن وجل القلب عند ذكر الله يقتضي خشيته والخوف منه وذلك يدعو صاحبه إلى فعل المأمور وترك المحظور وكذلك زيادة الايمان عند تلاوة آيات الله يقتضي ريادته علما وعملا ثم لا بد من التوكل على الله فيما لا يقدر عليه إلا الله ومن طاعة الله فيما يقدر عليه وأصل ذلك الصلاة والزكاة فمن قام بهذه الخمس كما أمر لزم أن يأتي بسائر الواجبات بل الصلاة نفسها إذا فعلها كما أمر فهي تنهى عن الفحشاء والمنكر ذكر ذلك شيخ الاسلام قال وقوله يا أيها النبي حسبك الله الآية قال ابن القيم أي الله وحده كافيك وكافي اتباعك فلا تحتاجون معه الى أحد وقيل المعنى حسبك الله وحسبك المؤمنين قال ابن القيم وهذا خطأ محض لا يجوز حمل الآية عليه فإن الحسب والكفاية لله وحده كالتوكل والتقوى والعبادة قال تعالى وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين ففرق بين الحسب والتأييد فجعل الحسب له وحده وجعل التأييد له بنصره وبعباده وأنثى على أهل التوحيد من عباده حيث أفردوه بالحسب فقال تعالى الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل ولم يقولوا حسبنا الله ورسوله فإذا كان هذا قولهم

442

ومدح الرب تعالى لهم بذلك فكيف يقول لرسوله الله وأتباعك حسبك وأتباعه قد أفردوا الرب تعالى بالحسب ولم يشركوا بينه وبين رسوله فكيف يشرك بينه وبينهم في حسب رسوله صلى الله عليه وسلم هذا من أمحل المحال وأبطل الباطل ونظير هذا قوله سبحانه وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون فتأمل كيف جعل الايتاء لله والرسول كما قال وما آتاكم الرسول فخذوه وجعل الحسب له فلم يقل وقالوا حسبنا الله ورسوله بل جعله خالص حقه كما قال إنا إلى الله راغبون ولم يقل وإلى رسوله بل جعل الرغبة اليه وحده كما قال وإلى ربك فارغب فالرغبة والتوكل والإنابة والحسب لله وحده كما أن العبادة والتقوى والسجود والنذر والحلف لا يكون الا له سبحانه وتعالى انتهى كلامه وبهذا يتبين مطابقة الآية للترجمة لأن الله تعالى أخبر أنه حسب رسوله وحسب اتباعه اي كافيهم وناصرهم فنعم المولى ونعم النصير وفي ضمن ذلك أمر لهم بإفراده تعالى بالحسب استكفاء بكفايته تبارك وتعالى وذلك هو التوكل قال وقوله ومن يتوكل على الله فهو حسبه قال ابن القيم اي كافيه ومن كان الله كافيه وواقيه فلا مطمع فيه لعدوه ولا يضره إلا أذى لا بد منه كالحر والبرد والجوع والعطش وأما أن يضره بما يبلغ به مراده فلا يكون أبدا وفرق بين الأذى الذي هو في الظاهر إيذاء وهو في الحقيقة إحسان إليه واضرار بنفسه وبين الضرر الذي يشتفى به منه قال بعض

443

السلف جعل الله لكل عمل جزاء من نفسه وجلع جزاء التوكل عليه نفس كفايته فقال ومن يتوكل على الله فهو حسبه ولم يقل فله كذا وكذا من الأجر كما قال في الأعمال بل جعل نفسه سبحانه كافي عبده المتوكل عليه وحسبه وواقيه فلو توكل العبد على الله حق توكله وكادته السموات والأرض ومن فيهن لجعل له مخرجا وكفاه ونصره انتهى وفي أثر رواه أحمد في الزهد عن وهب بن منبه قال الله عز وجل في بعض كتبه بعزتي إنه من اعتصم بي فإن كادته السموات ومن فيهن والارضون بمن فيهن فإني أجعل له بذلك مخرجا ومن لم يعتصم بي فإني أقطع يديه من أسباب السماء وأخسف من تحت قدميه الارض فأجعله في الهواء ثم أكله إلى نفسه كفا بي لعبدي مالا إذا كان عبدي في طاعتي أعطيه قبل أن يسألني وأستجيب له قبل أن يدعوني فأنا أعلم بحاجته التي ترفق به منه وفي الآية دليل على فضل التوكل وأنه أعظم الأسباب في جلب المنافع ودفع المضار لأن الله علق الجملة الأخيرة على الأولى تعليق الجزاء على الشرط فيمتنع أن يكون وجود الشرط كعدمه لأنه تعالى رتب الحكم على الوصف المناسب له فعلم أن توكله هو سبب كون الله حسبا له ذكره شيخ الاسلام وفيها تنبيه على القيام بالأسباب مع التوكل لأنه تبارك وتعالى ذكر التقوى ثم ذكر التوكل كما قال واتقوا الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون فجعل التقوى الذي هو قيام بالأسباب المأمور بها فحينئذ إذا توكل على الله فهو حسبه فالتوكل بدون القيام بالأسباب المأمور بها عجز محض وإن كان مشوبا بنوع من التوكل فلا ينبغي للعبد أن يجعل توكله عجزا ولا عجزه توكلا بل يجعل توكله من جملة الأسباب التي لا يتم المقصود إلا بها

444

كلها ذكر معناه ابن القيم قال عن ابن عباس قال حسبنا الله ونعم الوكيل قالها ابراهيم صلى الله عليه وسلم حين ألقى في النار وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا الآية رواه البخاري ش قوله حسبنا الله أي كافينا فلا نتوكل إلا عليه كما قال ومن يتوكل على الله فهو حسبه اي كافيه كما قال أليس الله بكاف عبده قوله ونعم الوكيل أي نعم الموكول اليه المتوكل عليه كما قال تبارك وتعالى واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير فقد تضمنت هذه الكلمة العظيمة التوكل على الله والالتجاء اليه قال ابن القيم وهو حسب من توكل عليه وكافي من لجأ إليه وهو الذي يؤمن خوف الخائف ويجير المستجير وهو نعم المولى ونعم النصير فمن تولاه واستنصر به وتوكل عليه وانقطع بكليته اليه تولاه وحفظه وحرسه وصانه ومن خافه واتقاه أمنه مما يخاف ويحذر وجلب اليه كل ما يحتاج اليه من المنافع قوله قالها ابراهيم صلى الله عليه وسلم حين القي في النار في رواية عن ابن عباس قال كان آخر قول إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار حسبنا الله ونعم الوكيل رواه البخاري وقد ذكر الله القصة في سورة الأنبياء عليهم السلام قوله وقالها محمد صلى الله عليه وسلم إلى آخره وذلك بعدما كان من أمر أحد ما كان بلغ النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ان ابا سفيان ومن معه قد أجمعوا الكرة عليهم فخرج النبي صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر وعمر وعثمان وعلي والزبير وسعد وطلحة وعبدالرحمن بن عوف وحذيفة بن اليمان وعبدالله بن مسعود وأبو عبيدة بن

445

الجراح في سبعين راكبا حتى انتهى الى حمراء الأسد وهي من المدينة على ثلاثة أميال ثم ألقى الله الرعب في قلب أبي سفيان فرجع الى مكة ومر به ركب من عبد القيس فقال أين تريدون فقالوا نريد المدينة قال فهل أنتم مبلغون عني محمدا رسالة أرسلكم بها اليه قالوا نعم قال فإذا وافيتموه فأخبروه أنا قد أجمعنا السير إليه وإلى أصحابه لنستأصل بقيتهم فمر الركب برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بحمراء الأسد فأخبروه بالذي قال أبو سفيان وأصحابه فقال حسبنا الله ونعم الوكيل والقصة مشهور في السير والتفاسير ففي هاتين القصتين فضل هذه الكلمة وأنها قول ابراهيم ومحمد عليهما الصلاة والسلام في الشدائد ولهذا جاء في الحديث إذا وقعتم في الأمر العظيم فقولوا حسبنا الله ونعم الوكيل رواه ابن مردوية وأن القيام بالأسباب مع التوكل على الله لا يتنافيان بل يجب على العبد القيام بهما كما فعل الخليلان عليهما الصلاة والسلام ولهذا جاء في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي عن عوف بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بين رجلين فقال المقضي عليه لما أدبر حسبي الله ونعم الوكيل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ردوا علي الرجل فقال ما قلت قال قلت حسبي الله ونعم الوكيل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله يلوم على العجز ولكن عليك بالكيس فإذا غلبك أمر فقل حسبي الله ونعم الوكيل وفي الآية دليل على أن الإيمان يزيد وينقص قال مجاهد في قوله فزادهم إيمانا قال الإيمان يزيد وينقص وعلى أن ما يكرهه الإنسان قد يكون خيرا له وان التوكل أعظم الأسباب في حصول الخير ودفع الشر في الدنيا والآخرة

446

باب قول الله تعالى أفامنوا مكر الله فلا يامن مكر الله الا القوم الخاسرون المراد بهذه الترجمة التنبيه على الجمع بين الرجاء والخوف ولذلك ذكر بعد هذه الآية قوله تعالى ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون هذا هو مقام الانبياء والصديقين كما قال تعالى أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا فابتغاء الوسيلة اليه هو التقرب بحبه وطاعته ثم ذكر الرجاء والخوف وهذه أركان الإيمان وقال تعالى إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين وقال تعالى عن ابراهيم عليه السلام ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا وسع ربي كل شيء علما أفلا تتذكرون وقال عن شعيب قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها وما يكون لنا أن نعود فيها الى أن يشاء الله ربنا فوكلا الأمر الى مالكه وقال تعالى عن الملائكة عليهم السلام يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون وقال النبي صلى الله عليه وسلم إني لأعلمكم بالله وأشدكم له خشية وكلما قوي ايمان العبد ويقينه قوي خوفه ورجاؤه مطلقا

447

قال الله تعالى إنما يخشى الله من عباده العلماء وقال ان الذين هم من خشية ربهم مشفقون والذين هم بآيات ربهم يؤمنون والذين هم بربهم لا يشركون والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم الى ربهم راجعون قالت عائشة يا رسول الله هو الرجل يزني ويسرق ويخاف ان يعاقب قال لا يا بنت الصديق هوالرجل يصلي ويصوم ويتصدق ويخاف أن لا يقبل منه رواه الامام أحمد والترمذي وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وصححه قال ابن القيم الخوف من أجل منازل الطريق وخوف الخاصة أعظم من خوف العامة وهم اليه أحوج وهم به أليق وله ألزم فإن العبد إما أن يكون مستقيما أو مائلا عن الاستقامة فإن كان مائلا عن الاستقامة فخوفه من العقوبة على ميله ولا يصح الايمان إلا بهذا الخوف وهو ينشأ من ثلاثة أمور أحدها معرفته بالجناية وقبحها والثاني تصديق الوعيد وأن الله رتب على المعصية عقوبتها الثالث أنه لا يعلم أنه يمنع من التوبة ويحال بينه وبينها اذا ارتكب الذنب فبهذه الأمور الثلاثة يتم له الخوف وسبب قوتها وضعفها يكون قوة الخوف وضعفه هذا قبل الذنب فإذا عمله كان خوفه أشد وبالجملة فمن استقر في قلبه ذكر الدار الآخرة وجزائها وذكر المعصية والتوعد عليها وعدم الوقوف بإتيانه بالتوبة النصوح هاج من قلبه من الخوف ما لا يملكه ولا يفارق حتى ينجو وأما إن كان مستقيما مع الله فخوفه يكون من جريان الأنفاس لعلمه بأن الله مقلب القلوب وما من قلب إلا وهو بين أصبعين من أصابع الرحمن عز وجل فإن شاء أن يقيمه أقامه وإن شاء أن يزيغه أزاغه كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم وكانت أكثر يمينه لا ومقلب القلوب ويكفي في هذا قوله تعالى واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه فأي قرار لمن هذه حاله

448

ومن احق بالخوف منه بل خوفه لازم له في كل حال وإن توارى عنه بغلبة حال أخرى عليه فالخوف حشو قلبه لكن توارى عنه بغلبة غيره فوجود الشيء غير العلم به فالحوف الأول ثمرة العلم بالوعد والوعيد وهذا الخوف ثمرة العلم بقدرة الله عز وجل وعزته وجلاله وأنه الفعال لما يريد وأنه المحرك للقلب المصرف له كيف يشاء لا إله إلا هو العزيز الحكيم انتهى فهذا الخوف الثاني هو من خوف المكر إذا علمت هذا فمعنى الآية المترجم لها أن الله تبارك وتعالى لما ذكر حال أهل القرى المكذبين للرسل بين أن الذي حملهم على ذلك هوالأمن من عذاب الله وعدم الخوف منه كما قال أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا وهم نائمون أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون ثم بين أن ذلك بسبب الجهل والغرة بالله فأمنوا مكره فيما ابتلاهم به من السراء والضراء بأن يكون استدراجا فقال أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون أي الهالكون فدل على وجوب الخوف من مكر الله قال الحسن من وسع عليه فلم ير أنه يمكر به فلا رأي له ومن قتر عليه فلم ير أنه ينظر له فلا رأي له وقال قتادة بغت القوم أمر الله وما أخذ الله قوما قط الا عند سلوتهم وغرتهم ونعمتهم فلا تغتروا بالله إنه لا يغتر به الا القوم الفاسقون رواهما ابن أبي حاتم وفي الحديث إذا رايت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب فإنما هو استدراج رواه أحمد وابن جرير وابن أبي حاتم وقال اسماعيل بن رافع من الأمن من مكر الله إقامة العبد على الذنب يتمنى على الله المغفرة رواه ابن أبي حاتم قال وقوله ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون

449

نبه المصنف رحمه الله بهذه الآية على الجمع بين الرجاء والخوف فإذا خاف فلا يقنط من رحمة الله بل يرجوها مع العمل الصالح كما قال تعالى إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله والله غفور رحيم فذكر سبحانه أنهم يرجون رحمة الله مع الاجتهاد في الأعمال الصالحة فأما الرجاء مع الاصرار على المعاصي فذاك من غرور الشيطان إذا تبين ذلك فقوله تعالى ومن يقنط حكاية قول ابراهيم عليه السلام لما بشرته الملائكة بولده اسحاق عليه السلام فقال أبشرتموني على أن مسني الكبر فبما تبشرون استبعادا لوقوع هذا في العادة مع كبر السن منه ومن زوجته قالوا بشرناك بالحق اي الذي لا ريب فيه ولا مثنوية بل هو أمر الذي إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون وإن بعد مثله في العادة التي أجراها فإن ذلك عليه يسير إذا أراده فلا تكن من القانطين أي لا تيأس من رحمة الله قال ابراهيم عليه السلام ومن يقنط من رحمة ربه الا الضالون فأجابهم بأنه ليس بقانط ولكن يرجو من الله الولد وإن كان قد كبر وأسنت امرأته فإنه يعلم من قدرة الله ورحمته ما هو أبلغ من ذلك قال السدي ومن يقنط من رحمة ربه قال من ييأس من رحمة ربه رواه ابن أبي حاتم الا الضالون قال بعضهم إلا المخطئون طريق الصواب أو الكافرون كقوله لا ييأس من روح الله الا القوم الكافرون وفي حديث مرفوع العاجز الراجي لرحمة الله أقرب منها من العابد القانط رواه الحكيم الترمذي والحاكم في تاريخه

450

قال عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الكبائر قال الشرك بالله واليأس من روح الله والأمن من مكر الله ش هذا الحديث رواه البزار وابن أبي حاتم من طريق شبيب بن بشر عن عكرمة عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان متكئا فدخل عليه رجل فقال ما الكبائر فقال الشرك بالله وذكر الحديث ورجاله ثقات الا شبيب ابن بشر فقال ابن معين ثقة ولينه ابن أبي حاتم ومثل هذا يكون حسنا وقال ابن كثير في اسناده نظر والأشبه أن يكون موقوفا قوله الشرك بالله هو أكبر الكبائر إذ مضمونه تنقيص رب العالمين والههم ومالكهم وخالقهم الذي لا إله الا هو وعدل غيره به كما قال ثم الذين كفروا بربهم يعدلون فهو أظلم الظلم وأقبح القبيح ولهذا لا يغفر إن لم يتب منه بخلاف غيره من الذنوب ففي مشيئة الله إن شاء غفرها وإن شاء عذب بها قوله واليأس من روح الله اي قطع الرجاء والامل من الله فيما يرومه ويقصده قال تعالى ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح إلا القوم الكافرون وذلك إساءة ظن بكرم الله ورحمته وجوده ومغفرته قوله والأمن من مكر الله أي من استدراجه للعبد أو سلبه ما أعطاه من الإيمان نعوذ بالله من غضبه وذلك جهل بالله وبقدرته وثقة بالنفس وعجب بها واعلم أن هذا الحديث لم يرد فيه حصر الكبائر فيما ذكر بل الكبائر كثيرة لكن ذكر ما هو أكبرها أو من اكبرها ولهذا قال ابن عباس هي الى السبعين أقرب منها الى السبع رواه ابن جرير وابن أبي حاتم وفي رواية هي الى سبعمائة أقرب منها الى سبع غير أنه لا كبيرة

451

مع استغفار ولا صغيرة مع اصرار قال وعن ابن مسعود قال اكبر الكبائر الإشراك بالله والأمن من مكر الله والقنوط من رحمة الله واليأس من روح الله رواه عبد الرزاق ش هذا الأثر رواه ابن جرير بأسانيد صحاح عن ابن مسعود قال ابن كثير وهو صحيح اليه بلا شك ورواه الطبراني أيضا قوله اكبر الكبائر الإشراك بالله أي في ربوبيته أو عبادته وهذا بالاجماع قوله والقنوط من رحمة الله قال أبو السعادات هو أشد اليأس من الشيء قلت فعلى هذا يكون الفرق بينه وبين اليأس كالفرق بين الاستغاثة والدعاء فيكون القنوط من اليأس وظاهر القرآن أن اليأس أشد لأنه حكم لأهله بالكفر ولأهل القنوط بالضلال وفيه التنبيه على الجمع بين الرجاء والخوف فإذا خاف فلا يقنط ولا ييأس وكان السلف يستحبون أن يقوى في الصحة الخوف وفي المرض الرجاء هذه طريقة أبي سليمان وغيره قال وينبغي للقلب أن يكون الغالب عليه الخوف فإذا كان الغالب عليه الرجاء فسد فنسأل الله تعالى أن يرزقنا خشيته في الغيب والشهادة إنه على كل شيء قدير باب من الإيمان بالله الصبر على أقدار الله لما كان ببديع حكمته ولطيف رحمته قضى أن يبتلي النوع الانساني بالأوامر والنواهي والمصائب التي قدرها عليهم أمرهم بالصبر على ذلك

452

وافترضه عليهم تسلية لهم وتقوية على ذلك ووعدهم عليه الثواب بغير حساب كما قال إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب فعلى هذا يكون الصبر ثلاثة أنواع صبر على المأمور وصبر على المحظور وصبر على المقدور ويشملها قوله تعالى والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم وقوله تعالى الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون ولما كان الصبر لا يحصل إلا بالله كما قال واصبر وما صبرك إلا بالله ارشد تبارك وتعالى إلى الجمع بينهما وقال تعالى واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا قال الامام أحمد ذكر الله الصبر في تسعين موضعا وقال النبي صلى الله عليه وسلم والصبر ضياء رواه أحمد ومسلم وقال عليه السلام ما أعطي أحد عطاء خيرا وأوسع من الصبر رواه البخاري ومسلم وفي حديث آخر الصبر نصف الإيمان رواه أبو نعيم والبهيقي في الشعب وقال عمر وجدنا خير عيشنا بالصبر رواه البخاري وقال علي بن أبي طالب ألا إن الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد فاذا قطع الرأس بار الجسد ثم رفع صوته فقال ألا لا إيمان لمن لا صبر له والأحاديث والآثار في ذلك كثيرة واشتقاقه من صبر اذا حبس منع فالصبر حبس النفس عن الجزع واللسان عن التشكي والسخط والجوارح عن لطم الخدود وشق الجيوب ونحوهما ذكره ابن القيم قال وقوله تعالى ومن يؤمن بالله يهد قلبه ش أول الآية ما اصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه

453

والله بكل شيء عليم اخبر تعالى أن ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في الأنفس إلا بإذن الله أي بقدره وأمره كما قال في الآية الأخرى إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير قال ابن عباس في قوله إلا بإذن الله إلا بأمر الله يعني من قدره ومشيئته ومن يؤمن بالله يهد قلبه أي ومن أصابته مصيبة فعلم أنها بقضاء الله وقدره فصبر واحتسب واستسلم لقضاء الله جازاه الله تعالى بهداية قلبه التي هي أصل كل سعادة وخير في الدنيا والآخرة وقد يخلف عليه أيضا في الدنيا ما أخذه منه أو خيرا منه كما قال وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا اليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون قال ابن عباس يهد قلبه اليقين فيعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه وفي الحديث الصحيح عجبا للمؤمن لا يقضي الله له قضاء إلا كان خيرا له إن أصابته ضراء فصبر كان خيرا له وإن أصابته سراء فشكر كان خيرا له وليس ذلك لأحد الا للمؤمن وقوله والله بكل شيء عليم تبيه على أن ذلك صادر عن علمه المتضمن لحكمته وذلك يوجب الصبر والرضى قوله قال علقمة هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم ش هذا الأثر رواه ابن جرير وابن أبي حاتم عن علقمة وهو صحيح وعلقمة هو ابن قيس بن عبدالله النخعي الكوفي ولد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وسمع من أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وسعد وابن مسعود وعائشة وغيرهم وهو من

454

كبار التابعين وأجلائهم وعلمائهم وثقاتهم مات بعد الستين قوله هو الرجل تصيبه المصيبة إلى آخره هذا تفسير للايمان المذكور في الآية لكنه تفسير باللازم وهو صحيح لأن هذا لازم للايمان الراسخ في القلب وقريب منه تفسير سعيد بن جبير ومن يؤمن بالله يهد قلبه يعني يسترجع يقول إنا لله وانا إليه راجعون وفي الآية أن الصبر سبب لهداية القلب وأن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها وان الأعمال من الإيمان وفيها إثبات القدر قال وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال اثنتان في الناس هما بهم كفر الطعن في النسب والنياحة على الميت ش قوله هما أي الاثنتان قوله بهم كفر أي هما بالناس أي فيهم كفر قال قال شيخ الإسلام أي هاتان الخصلتان هما كفر قائم في بالناس فنفس الخصلتين كفر حيث كانتا في أعمال الكفار وهما قائمتان بالناس لكن ليس من قام به شعبة من شعب الكفر يصير كافرا الكفر المطلق حى تقوم به حقيقة الكفر كما أنه ليس من قام به شعبة من شعب الإيمان يصير مؤمنا حتى يقوم به أصل الإيمان وفرق بين الكفر المعرف باللام كما في قوله ليس بين العبد وبين الكفر أو الشرك إلا ترك الصلاة وبين كفر منكر في الاثبات قوله الطعن في النسب أي عيبه ويدخل فيه أن يقال هذا ليس ابن فلان مع ثبوت نسبه في ظاهر الشرع ذكره بعضهم قوله والنياحة على الميت أي رفع الصوت بالندب بتعديد شمائله

455

لما في ذلك من التسخط على القدر والجزع المنافي للصبر وذلك كقول النائحة واعضداه واناصراه واكاسياه ونحو ذلك وفيه دليل على أن الصبر واجب لأن النياحة منافية له فإذا حرمت دل على وجوبه وفيه أن من الكفر مالا ينقل عن الملة قال ولهما عن ابن مسعود مرفوعا ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب ودعى بدعوى الجاهلية ش قوله ليس منا هذا من نصوص الوعيد وقد جاء عن سفيان الثوري وأحمد كراهة تاويلها ليكون أوقع في النفوس وأبلغ في الزجر وقيل أي ليس من أهل سنتنا وطريقتنا لأن الفاعل لذلك ارتكب محرما وترك واجبا وليس المراد اخراجه من الإسلام بل المراد المبالغة في الردع عن الوقوع في ذلك كما يقول الرجل لولده عند معاقبته لست مني ولست منك فالمراد ان فاعل ذلك ليس من المؤمنين الذين قاموا بواجبات الإيمان قوله من ضرب الخدود قال الحافظ خص الخد بذلك لكونه الغالب وإلا فضرب بقية الوجه مثله قلت بل ولو ضرب غير الوجه كالصدر فكما لو ضرب الخد فيدخل في معنى ضرب الخد إذ الكل جزع مناف للصبر فيحرم قوله وشق الجيوب جمع جيب وهوالذي يدخل فيه الرأس من الثوب وكانوا يشقونه حزنا على الميت قال الحافظ والمراد إكمال فتحه الى آخره قلت الظاهر أن فتح بعضه كفتحه كله قوله ودعى بدعوى الجاهلية قال شيخ الإسلام هو ندب الميت

456

وقال غيره هو الدعاء بالويل والثبور وقال الحافظ أي من النياحة ونحوها وكذا الندب به كقولهم واجبلاه وكذا الدعاء بالويل والثبور وقال ابن القيم الدعاء بدعوى الجاهلية كالدعاء الى القبائل والعصبية للانسان ومثله التعصب للمذاهب والطوائف والمشايخ وتفضيل بعض على بعض في الهوى والعصبية وكونه منتسبا اليه يدعو إلى ذلك ويوالي عليه ويعادي ويزن الناس به فكل هذا من دعوى الجاهلية قلت الصحيح أن دعوى الجاهلية يعم ذلك كله وقد جاء لعن من فعل ما في هذا الحديث عن ابن ماجه وصححه ابن حبان عن أبي أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن الخامشة وجهها والشاقة جيبها والداعية بالويل والثبور وهذا يدل على أن هذه الأمور من الكبائر لأنها مشتملة على التسخط على الرب وعدم الصبر الواجب والاضرار بالنفس من لطم الوجه وإتلاف المال بشق الثياب وتمزيقها وذكر الميت بما ليس فيه والدعاء بالويل والثبور والتظلم من الله تعالى وبدون هذا يثبت التحريم الشديد فأما الكلمات اليسيرة اذا كانت صدقا لا على وجه النوح والتسخط فلا تحرم ولا تنافي الصبر الواجب نص عليه أحمد لما رواه في مسنده عن أنس ان أبا بكر رضي الله عنه دخل على النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته فوضع فمه بين عينيه ووضع يديه على صدغيه وقال وانبياه واخليلاه واصفاه وكذلك صح عن فاطمة رضي الله عنها انها ندبت أباها صلى الله عليه وسلم فقالت يا ابتاه اجاب ربا دعاه الحديث واعلم أن الحديث المشروح لا يدل على النهي عن البكاء أصلا وإنما يدل على النهي عما ذكر فيه فقط وكذلك يدل على النهي عما في معناه كالبكاء برنة وحلق الشعر وخمش الوجوه ونحو ذلك أما البكاء على وجه الرحمة والرقة ونحو ذلك

457

فيجوز بل قال شيخ الإسلام البكاء على الميت على وجه الرحمة حسن مستحب ولا ينافي الرضى بقضاء الله بخلاف البكاء عليه لفوات حظه منه قلت ويدل لذلك قوله عليه السلام لما مات ابنه ابراهيم تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول الا ما يرضي الرب وإنا بك يا ابراهيم لمحزونون وهو في الصحيح وفي الصحيحين عن اسامة بن زيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انطلق الى أحد بناته ولها صبي في الموت فرفع اليه الصبي ونفسه تقعقع كأنها شن ففاضت عيناه فقال سعد ما هذا يا رسول الله قال هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده وانما يرحم الله من عباده الرحماء قال وعن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا أراد الله بعبده الخير عجل له العقوبة في الدنيا وإذا أراد الله بعبده الشر أمسك عنه بذنبه حتى يوافي به يوم القيامة ش هذا الأثر رواه الترمذي والحاكم وحسنه الترمذي وفي اسناده سعد بن سنان قال الذهبي في موضع سعد ليس حجة وفي آخر كأنه غير صحيح وأخرجه الطبراني والحاكم عن عبدالله بن مغفل وأخرجه ابن عدي عن أبي هريرة والطبراني عن عمار بن ياسر وحسنه السيوطي قوله اذا أراد الله بعبده الخير عجل له العقوبة في الدنيا قال شارح الجامع الصغير أي بصب البلاء والمصائب عليه جزاء لما فرط من الذنوب منه فيخرج منها وليس عليه ذنب يوافى به يوم القيامة كما يعلم من مقابله الآتي ومن فعل ذلك به فقد أعظم اللطف به لأن من حوسب بعمله عاجلا في الدنيا خف جزاؤه عليه حتى يكفر بالشوكة يشاكها حتى بالقلم يسقط من الكاتب فيكفر عن المؤمن بكل ما يلحقه في دنياه حتى يموت على طهارة من دنسه

458

قلت وفي الصحيح لا يزال البلاء بالعبد حتى يمشي على الأرض وليس عليه خطيئة وفي المسند وغيره من حديث أبي هريرة مرفوعا لا يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في جسده وماله وفي ولده حتى يلقى الله وما عليه خطيئة قال شيخ الإسلام المصائب نعمة لأنها مكفرات للذنوب ولأنها تدعو الى الصبر فيثاب عليها ولأنها تقتضي الانابة الى الله والذل له والاعراض عن الخلق الى غير ذلك من المصالح العظيمة فنفس البلاء يكفر الله به الخطايا ومعلوم أن هذا من أعظم النعم ولو كان رجل من أفجر الناس فإنه لا بد أن يخفف الله عنه عذابه بمصائبه فالمصائب رحمة ونعمة في حق عموم الخلق الا أن يدخل صاحبها بسبها في معاصي أعظم مما كان قبل ذلك فتكون شرا عليه من جهة ما أصابه في دينه فإن من الناس من إذا ابتلي بفقر أو مرض أو جوع حصل له من الجزع والسخط والنفاق ومرض القلب أو الكفر الظاهر أو ترك بعض الواجبات وفعل بعض المحرمات ما يوجب له ضررا في دينه بحسب ذلك فهذا كانت العافية خيرا له من جهة ما أورثته المصيبة لا من جهة المصيبة كما أن من أوجبت له المصيبة صبرا وطاعة كانت في حقه نعمة دينية فهي بعينها فعل الرب عز وجل رحمة للخلق والله تبارك وتعالى محمود عليها فإن اقترن بها طاعة كان ذلك نعمة ثانية على صاحبها وإن اقترن بها للمؤمن معصية فهذا مما تتنوع فيه أحوال الناس كما تتنوع أحوالهم في العافية فمن ابتلى فرزق الصبر كان الصبر عليه نعمة في دينه وحصل له بعد ما كفر من خطاياه رحمة وحصل له بثنائه على ربه صلاة ربه عليه حيث قال اولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون فحصل له غفران السيئات ورفع الدرجات وهذا من أعظم النعم فالصبر واجب على كل مصاب فمن

459

قام بالصبر الواجب حصل له ذلك انتهى ملخصا قوله وإذا أراد بعبده الشر أمسك عنه اي أخر عنه العقوبة بذنبه قوله حتى يوافي به يوم القيامة هو بضم الياء وكسر الفاء منصوبا بحتى مبنيا للفاعل قال العزيزي أي لا يجازيه بذنبه في الدنيا حتى يجيء في الآخرة مستوفر الذنوب وافيها فيستوفي ما يستحقه من العقاب قلت وهذا مما يزهد العبد في الصحة الدائمة خوفا أن تكون طيباته عجلت له في الحياة الدنيا والله تعالى لم يرض الدنيا لعقوبة أعدائه كما لم يرضها لاثابة أوليائه بل جعل ثوابهم أن أسكنهم في جواره ورضي عنهم كما قال تعالى إن المتقين في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر لهذا لما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الأسقام قال رجل يا رسول الله وما الأسقام والله ما مرضت قط قال قم عنا فلست منا رواه أبو داود وهذه الجملة هي آخر الحديث فأما قوله وقال النبي صلى الله عليه وسلم إن عظم الجزاء إلى آخره فهو أول حديث آخر لكن لما رواهما الترمذي باسناد واحد عن صحابي واحد جعلهما المصنف كالحديث الواحد وفيه من الفوائد أن البلاء للمؤمن من علامات الخير خلافا لما يظنه كثير من الناس وفيه الخوف من الصحة الدائمة أن تكون علامة شر وفيه تنبيه على رجاء الله وحسن الظن به فيما يقضيه لك مما تكره وفيه معنى قوله تعالى وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم الآية قال المصنف وقال النبي صلى الله عليه وسلم إن عظم الجزاء مع عظم البلاء وإن الله إذا أحب قوما ابتلاهم فمن رضي فله الرضى ومن سخط فله السخط حسنه الترمذي

460

ش هذا الحديث رواه الترمذي ولفظه حديثا قتيبة ثنا الليث عن يزيد ابن أبي حبيب عن سعد بن سنان عن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد الله بعبده الخير الحديث الذي قبل هذا ثم قال وبهذا الإسناد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن عظم الجزاء الحديث ثم قال هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه ورواه ابن ماجه وصححه السيوطي روى الامام أحمد عن محمود بن لبيد مرفوعا إذا أحب الله قوما ابتلاهم فمن صبر فله الصبر ومن جزع فله الجزع قال المنذري رواته ثقات قوله إن عظم الجزاء مع عظم البلاء بكسر المهملة وفتح الظاء فيهما ويجوز ضمها مع سكون الظاء أي من كان ابتلاؤه أعظم فجزاؤه أعظم فعظمة الأجر وكثرة الثواب مع عظم البلاء كيفية وكمية جزاء وفاقا قلت ولما كان الانبياء عليهم السلام أعظم الناس جزاء كانوا أشد الناس بلاء كما في حديث سعد سئل النبي صلى الله عليه وسلم أي الناس أشد بلاء قال الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل يبتلى الرجل على حسب دينه فإن كان في دينه صلبا اشتد بلاؤه وإن كان في دينه رقة ابتلي على قدر دينه فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة رواه الدارمي وابن ماجه والترمذي وصححه وقد يحتج بقوله إن عظم الجزاء مع عظم البلاء ومن يقول إن المصائب والأسقام ويثاب عليها غير تكفير الخطايا ورجح ابن القيم وغيره أن ثوابها تكفير الخطايا فقط إلا أن كانت سببا لعمل صالح كالتوبة والاستغفار والصبر والرضى فإنه حينئذ يثاب على ما تولد منها كما في حديث اذا سبقت للعبد من الله منزلة لم يبلغها أو قال لم ينلها بعمله ابتلاه الله في جسده أو في ولده أو في ماله ثم صبره حتى يبلغه المنزلة التي سبقت له من الله عز وجل

461

رواه ابو داود في رواية ابن داسة والبخاري في تاريخه وأبو يعلى في مسنده وحسنه بعضهم وعلى هذا فيجاب عن الأول إن عظم الجزاء مع عظم البلاء أي إذا صبر واحتسب قوله وإن الله اذا أحب قوما ابتلاهم صريح في حصول الابتلاء لمن أحبه الله ولما كان الانبياء عليهم السلام أفضل الأحباب كانوا أشد الناس بلاء وأصابهم من البلاء في الله ما لم يصيب أحدا لينالوا بذلك الثواب العظيم والرضوان الأكبر وليأتسي بهم من بعدهم ويعلموا أنهم بشر تصيبهم المحن والبلايا فلا يعبدونهم فإن قلت كيف يبتلي الله أحبابه قيل لما كان أحد لا يخلو من ذنب كان الابتلاء تطهيرا لهم كما صحت بذلك الأحاديث وفي أثر إلهي ابتليهم بالمصائب لأطهرهم من المعائب ولأنه زيادة في درجاتهم لما يحصل مع المصيبة للمؤمن من الأعمال الصالحة كما تقدم في حديث إذا سبقت للعبد من الله منزلة الحديث ولأن ذلك يدعو الى التوبة فإن الله تعالى يبتلي العباد بعذاب الدنيا ليتوبوا من الذنوب كما قال تعالى ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون فمن رزقه الله التوبة بسبب المصيبة كان ذلك من أعظم نعم الله عليه ولأن ذلك يحصل به دعاء الله والتضرع اليه ولهذا ذم الله من لا يستكين لربه ولا يتضرع عند حصول البأساء كما قال تعالى ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون ودعاء الله والتضرع إليه من أعظم النعم فهذه النعمة والتي قبلها من أعظم صلاح الدين فإن صلاح الدين في أن يعبد الله وحده ويتوكل عليه وأن لا تدع مع الله

462

إلها آخر لا دعاء عبادة ولا دعاء مسألة فإذا حصلت لك التوبة التي مضمونها أن تعبد الله وحده وتطيع رسله بفعل المأمور وترك المحظور كنت ممن يعبد الله وإذا حصل لك الدعاء الذي هو سؤال الله حاجاتك فتسأله ما تنتفع به وتستعيذ به مما تستضر به كان هذا من أعظم نعم الله عليك وهذا كثيرا ما يحصل بالمصائب واذا كانت هذه النعم في المصائب فأولى الناس بها أحبابه فعليهم حينئذ أن يشكروا الله لخصت ذلك من كلام شيخ الإسلام رحمه الله قوله فمن رضي فله الرضى أي من رضي بما قضاه الله وقدره عليه من الابتلاء فله الرضى من الله جزاءا وفاقا كما قال تعالى رضي الله عنهم ورضوا عنه وهذا دليل على فضيلة الرضى وهو أن لا يعترض على الحكم ولا يتسخطه ولا يكرهه وقد وصى النبي صلى الله عليه وسلم رجلا فقال لاتتهم الله في شيء قضاه لك فإذا نظر المؤمن بالقضاء والقدر في حكمة الله ورحمته وأنه غير متهم في قضائه دعاه ذلك إلى الرضى قال ابن مسعود إن الله بقسطه وعلمه جعل الروح والفرح في اليقين والرضى وجعل الهم والحزن في الشك والسخط وقال ابن عون ارض بقضاء الله من عسر ويسر فإن ذلك أقل لهمك وأبلغ فيما تطلب من أمر آخرتك واعلم أن العبد لن يصيب حقيقة الرضى حتى يكون رضاه عند الفقر والبلاء كرضاه عند الغنى والرخاء كيف تستقضي الله في أمرك ثم تسخط إن رأيت قضاءه مخالفا لهواك ولعل ما هويت من ذلك لو وفق لك لكان فيه هلاكك وترضى قضاءه إذا وافق هواك وذلك لقلة علمك بالغيب إذا كنت كذلك ما أنصفت من نفسك ولا أصبت باب الرضى ذكره ابن رجب قال وهذا كلام حسن

463

قوله ومن سخط هو بكسر الخاء قال ابو السعادات السخط الكراهية للشيء وعدم الرضى به أي من سخط أقدار الله فله السخط أي من الله وكفى بذلك عقوبة قال تعالى ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم وفيه دليل أن السخط من أكبر الكبائر وقد يستدل به على ايجاب الرضى كما هو اختيار ابن عقيل واختار القاضي عدم الوجوب ورجحه شيخ الإسلام وابن القيم قال شيخ الإسلام ولم يجيء الأمر به كما جاء الأمر بالصبر وإنما جاء الثناء على أصحابه ومدحهم قال وأما ما جاء من الأثر من لم يصبر على بلائي ولم يرض بقضائي فليتخذ ربا سواي فهذا إسرائيلي ليس يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم قلت قد روى الطبراني في الأوسط معناه عن أنس بن مالك رضي الله عنه مرفوعا من لم يرض بقضاء الله ويؤمن بقدر الله فليلتمس إلها غير الله قال الهيثمي فيه حزم بن أبي حزم وثقه ابن معين وضعفه جمع وبقية رجاله ثقات فإن ثبت هذا دل على وجوبه قال شيخ الإسلام وأعلى من ذلك أي من الرضى أن يشكر الله على المصيبة لما يرى من إنعام الله تعالى عليه بها انتهى واعلم أنه لا تنافي بين الرضى وبين الإحساس بالألم فكثير ممن له أنين من وجع وشدة مرض قلبه مشحون من الرضى والتسليم لأمر الله فإن قيل ما الفرق بين الرضى والصبر فالجواب قال طائفة من السلف منهم عمر بن عبد العزيز والفضيل وأبو سليمان وابن المبارك وغيرهم إن الراضي لا يتمنى غير حاله التي هو عليها بخلاف الصابر وقال الخواص الصبر دون الرضى الرضى أن يكون

464

الرجل قبل نزول المصيبة راض بأي ذاك كان والصبر أن يكون بعد نزول المصيبة يصبر قلت كلام الخواص هذا عزم على الرضى ليس هو الرضى فإنه إنما يكون بعد القضاء كما في الحديث وأسألك الرضى بعد القضاء لأن العبد قد يعزم على الرضى بالقضاء قبل وقوعه فإذا وقع انفسخت تلك العزيمة فمن رضي بعد وقوع القضاء فهو الراضي حقيقة قاله ابن رجب باب ما جاء في الرياء أي من الوعيد ولما كان خلوص العمل من الشرك والرياء شرطا في قبوله لمنافاة الشرك والرياء للتوحيد نبه المصنف على ذلك تحقيقا للتوحيد والرياء مصدر راءى يرائي مراءاة ورياء وهو أن يري الناس أنه يعمل عملا على صفة وهو يضمر في قلبه صفة أخرى فلا اعتداد ولا ثواب إلا بما خلصت فيه النية لله تعالى ذكره القاضي أبو بكر بمعناه وقال الحافظ هو مشتق من الرؤية والمراد به إظهار العبادة لقصد رؤية الناس لها فيحمد صاحبها انتهى والفرق بينه وبين السمعة أن الرياء هو العمل لرؤية الناس والسمعة العمل لأجل سماعهم فالرياء يتعلق بحاسة البصر والسمعة بحاسة السمع ويدخل فيه أن يخفي عمله لله ثم يحدث به الناس قال وقول الله تعالى قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد الآية

465

يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم قل يا محمد للناس إنما أنا بشر مثلكم أي في البشرية ولكن الله من علي وفضلني بالرسالة وليس لي من الربوبية ولا من الإلهية شيء بل ذلك لله وحده لا شريك له كما قال يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد أي معبودكم الذي أدعوكم الى عبادته إله واحد لا شريك له فمن كان يرجو لقاء ربه أي من كان يخاف لقاء الله يوم القيامة قال شيخ الإسلام أما اللقاء فقد فسره طائفة من السلف والخلف بما يتضمن المعاينة والمشاهدة بعد السلوك والسير وقالوا إن لقاء الله يتضمن رؤيته سبحانه وتعالى وأطال في ذلك واحتج له وقال سعيد بن جبير فمن كان يرجو لقاء ربه قال من كان يخشى البعث في الآخرة رواه ابن أبي حاتم فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا أي كائنا ما كان قال ابن القيم أي كما أنه إله واحد لا إله سواه فكذلك ينبغي أن تكون العبادة له وحده لا شريك له فكما تفرد بالإلهية يجب أن يفرد بالعبودية فالعمل الصالح هو الخالص من الرياء المقيد بالسنة انتهى وهذان ركنا العمل المتقبل لا بد أن يكون صوابا خالصا فالصواب أن يكون على السنة وإليه الاشارة بقوله فليعمل عملا صالحا والخالص ان يخلص من الشرك الجلي والخفي واليه الاشارة بقوله ولا يشرك بعبادة ربه أحدا روى عبد الرزاق وابن أبي الدنيا في كتاب الاخلاص وابن أبي حاتم والحاكم عن طاوس قال قال رجل يا نبي الله إني أقف المواقف أبتغي وجه الله وأحب أن يرى موطني فلم يرد عليه شيئا حتى نزلت هذه الآية فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا رواه الحاكم وصححه موصولا عن طاوس عن ابن عباس

466

وفي الآية دليل على الشهادتين وأن الله تعالى فرض على نبينا أن يخبرنا بتوحيد الإلهية وإلا فتوحيد الربوبية لم ينكره الكفار الذين كذبوه وقاتلوه ذكره المصنف وفيها تسمية الرياء شركا وفيها أن من شروط الإيمان بالله واليوم الآخر أن لا يشرك بعبادة ربه أحدا ففيه التصريح بأن الشرك الواقع من المشركين إنما هو في العبادة لا في الربوبية وفيها الرد على من قال اولئك يتشفعون بالأصنام ونحن نتشفع بصالح لأنه قال ولا يشرك بعبادة ربه أحدا فليس بعد هذا بيان افتتح الآية بذكر براءة النبي صلى الله عليه وسلم الذي هو أقرب الخلق الى الله وسيلة أي براءته من الإلهية وختمها بقوله أحدا واعلم رحمك الله أن هذه الآية المعرفة التي تنفعه إلا من ميز بين توحيد الربوبية وبين توحيد الالهية تمييزا تاما وعرف ما عليه غالب الناس إما طواغيت ينازعون الله في توحيد الربوبية الذي لم يصل اليه شرك المشركين وإما مصدق لهم تابع لهم وإما شاك لا يدري ما أنزل الله على رسوله ولا يميز بين دين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين دين النصارى ذكره المصنف وفيها أن أصل دين النبي صلى الله عليه وسلم الذي بعث به هو الاخلاص كما في هذه الآية وقوله كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير ألا تعبدوا الا الله إنني لكم منه نذير وبشير وذلك هو دعوة الرسل من أولهم إلى آخرهم كما قال تعالى وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي اليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون وذلك هو الحنيفية الإبراهيمية جعلنا الله من أهلها بمنه وكرمه قال عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا قال الله تعالى أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملا أشرك معي فيه غيري تركته وشركه رواه مسلم

467

ش قوله أنا أغنى الشركاء عن الشرك لما كان المرائي قاصدا بعمله الله تعالى وغيره كان قد جعل الله تعالى شريكا فإذا كان كذلك فالله تعالى هو الغني على الاطلاق والشركاء بل جميع الخلق فقراء اليه بكل اعتبار فلا يليق بكرمه وغناه التام أن يقبل العمل الذي جعل له فيه شريك فإن كماله تبارك وتعالى وكرمه وغناه يوجب أن لا يقبل ذلك ولا يلزم من اسم التفضيل إثبات غنى للشركاء فقد تقع المفاضلة بين الشيئين وإن كان أحدهما لا فضل فيه كقوله تعالى آلله خير أما يشركون وقوله تعالى أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا قوله من عمل عملا اشرك معي فيه غيري أي من قصد بذلك العمل الذي يعمله لوجهي غيري من المخلوقين تركته وشركه وفي رواية عند ابن ماجه وغيره فأنا منه بريء وهو للذي أشرك قال الطيبي الضمير المنصوب في تركته يجوز أن يرجع إلى العمل والمراد من الشرك الشريك قال ابن رجب واعلم أن العمل لغير الله أقسام فتارة يكون رياء محضا فلا يراد به سوى مراءاة المخلوقين لغرض دنيوي كحال المنافقين في صلاتهم كما قال تعالى وإذا قاموا الى الصلاة قاموا كسالى يراؤون الناس وكذلك وصف الله الكفار بالرياء في قوله ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس وهذا الرياء المحض لا يكاد يصدر من مؤمن في فرض الصلاة والصيام وقد يصدر في الصدفة الواجبة أو الحج أو غيرهما من الأعمال الظاهرة أو التي يتعدى نفعها فإن الاخلاص فيها عزيز وهذا العمل لا يشك مسلم أنه حابط وأن صاحبه يستحق المقت من الله والعقوبة وتارة يكون العمل لله ويشاركه الرياء فإن

468

شاركه من أصله فالنصوص الصحيحة تدل على بطلانه ثم ذكر أحاديث تدل على ذلك منها الحديث الذي ذكره المصنف وحديث شداد بن أوس مرفوعا من صلى يرائي فقد أشرك ومن صام يرائي فقد أشرك ومن تصدق يرائي فقد أشرك وإن الله عز وجل يقول أنا خير قسيم لمن أشرك بي فمن اشرك بي شيئا فإن جدة عمله وقليله وكثيره لشريكه الذي أشرك به أنا عنه غني رواه أحمد وحديث الضحاك بن قيس مرفوعا إن الله عز وجل يقول أنا خير شريك فمن أشرك معي شريكا فهو لشريكي يا أيها الناس أخلصوا أعمالكم لله عز وجل فإن الله لا يقبل من الأعمال الا ما خلص له ولا تقولوا هذا لله والرحم فإنها للرحم وليس لله منه شيء ولا تقولوا هذا لله ولوجوهكم فإنه لوجوهكم وليس لله منه شيء رواه البزار وابن مردويه والبهيقي بسند قال المنذري لا بأس به وحديث أبي أمامة الباهلي أن رجلا جاء الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أرأيت رجلا غزا يلتمس الأجر والذكر ماله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا شيء له فأعادها عليه ثلاث مرات يقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم لا شيء له ثم قال إن الله لا يقبل من العمل الا ما كان له خالصا وابتغي به وجهه رواه أبو داود والنسائي باسناد جيد ثم قال فإن خالط نية الجهاد مثلا نية غير الرياء مثل أخذ أجرة للخدمة أو أخذ شيء من الغنيمة أو التجارة نقص بذلك أجر جهادهم ولم يبطل بالكلية وفي صحيح مسلم عن عبدالله ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم إن الغزاة اذا غنموا غنيمة تعجلوا ثلثي أجرهم فإن لم يغنموا شيئا تم لهم أجرهم قلت هذا لا يدل على أنهم غزوا لأجلها فلا يدل على ثبوت الأجر لمن غزا يلتمس عرضا قال وقد ذكرنا فيما مضى أحاديث تدل على أن من أراد بجهاده عرضا من الدنيا أنه لا أجر له وهي محمولة على أنه لم يكن له غرض في الجهاد الا الدنيا قلت ظاهر حديث أبي هريرة أن رجلا قال يا رسول الله رجل يريد الجهاد وهو يبتغي عرضا من عرض الدنيا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم

469

لا أجر له فأعاد عليه ثلاثا والنبي صلى الله عليه وسلم يقول لا أجر له رواه أبو داود يدل على أن نية الجهاد إذا خالطها نية أجرة الخدمة أو أخذ شيء من الغنيمة أو التجارة لم يكن له أجر ويحتمل أن يكون معنى يريد الجهاد أي يريد سفر الجهاد ولم ينو الجهاد انما نوى عرض الدنيا قال ابن رجب وقال الامام أحمد التاجر والمستأجر والمكاري أجرهم على قدر ما يخلص من نيتهم في غزواتهم ولا يكونون مثل من جاهد بنفسه وماله لا يخلط به غيره وقال أيضا فيمن يأخذ جعلا على الجهاد اذا لم يخرج لأجل الدراهم فلا بأس كأنه خرج لدينه فإن أعطي شيئا أخذه وكذا روي عن عبد الله ابن عمرو قال إذا أجمع أحدكم على الغزو فعوضه الله رزقا فلا بأس بذلك وإما أن أحدكم إن أعطي درهما غزا وإن لم يعط درهما لم يغز فلا خير في ذلك قلت هذا يدل على الفرق بين ما كانت نية الدنيا مخالطة له من أول مرة بحيث تكون هي الباعث له على العمل أو من جملة ما يبعث عليه كالذي يلتمس الأجر والذكر فهذا الأجر له وبين ما كانت النية خالصة لله من أول مرة ثم عرض له أمر من الدنيا لا يبالي به سواء حصل له أو لم يحصل كالذي أجمع على الغزو سواء أعطي أو لم يعط فهذا لا يضره ونحوه التجارة في الحج كما قال تعالى ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم وعلى هذا ينزل ما روي عن مجاهد أنه قال في حج الجمال وحج الأجير وحج التاجر هو تام لا ينقص من أجورهم شيء أي لأن قصدهم الأصلي كان هو الحج دون التكسب قال وأما إن كان أصل العمل لله ثم طرأ عليه نية الرياء فإن كان خاطرا ودفعه فلا يضره بغير خلاف وإن استرسل معه فهل يحبط عمله أم لا يضره ذلك ويجازى على أصل نيته في ذلك اختلاف بين العلماء من

470

السلف حكاه الإمام أحمد وابن جرير الطبري ورجحا ان عمله لا يبطل بذلك وأنه يجازى بنيته الأولى وهو مروي عن الحسن البصري وغيره ويستدل لهذا القول بما أخرجه أبو داود في مراسيله عن عطاء الخراساني أن رجلا قال يا رسول الله إن بني سلمة كلهم يقاتل فمنهم من يقاتل للدنيا ومنهم من يقاتل نجدة ومنهم من يقاتل ابتغاء وجه الله قال كلهم إذا كان اصل أمره ان تكون كلمة الله هي العليا وذكره ابن جرير أن هذا الاختلاف إنما هو عمل مرتبط آخره بأوله كالصلاة والصيام والحج فأما مالا ارتباط فيه كالقراءة والذكر وانفاق المال ونشر العلم فإنه ينقطع بنية الرياء الطارئة عليه ويحتاج الى تجديد نية فأما اذا عمل العمل لله خالصا ثم ألقى الله له الثناء الحسن في قلوب المؤمنين ففرح بفضل الله ورحمته واستبشر بذلك لم يضره وفي هذا المعنى جاء في حديث أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن الرجل يعمل العمل من الخير يحمده الناس عليه فقال تلك عاجل بشرى المؤمن رواه مسلم انتهى ملخصا إذا تبين هذا فقد دل الكتاب والسنة على حبوط العمل بالرياء وجاء الوعيد بالعذاب عليه قال الله تعالى من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف اليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون والآية بعدها وروى مسلم في صحيحه حديث الثلاثة الذين هم أول من تسعر بهم النار المقاتل ليقال جريء والمتعلم ليقال عالم والمتصدق ليقال جواد فأما ما رواه البزار وابن مندة والبيهقي عن معاذ بن جبل مرفوعا من عمل رياء لا يكتب لاله ولا عليه ذكره السيوطي في الدر ولم أقف على إسناده فما أظنه يثبت والكتاب والسنة يدلان على خلافه بل هو موضوع

471

قال وعن أبي سعيد مرفوعا ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال قالوا بلى قال الشرك الخفي يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته لما يرى من نظر رجل رواه أحمد ش هذا الحديث رواه أحمد كما قال المصنف ورواه ابن ماجه وابن أبي حاتم والبيهقي وفيه قصة ولفظ ابن ماجه والبيهقي خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نتذاكر المسيح الدجال فقال ألا أخبركم الحديث وفي سنده ضعف ومعناه صحيح وروى ابن خزيمة في صحيحه معناه عن محمود بن لبيدة قال خرج النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا أيها الناس إياكم وشرك السرائر قالوا يا رسول الله وما شرك السرائر قال يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته جاهدا لما يرى من نظر الرجل اليه فذلك شرك السرائر قوله عن أبي سعيد هو الخدري تقدمت ترجمته قوله ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم من المسيح الدجال إنما كان الرياء كذلك لخفائه وقوة الداعي إليه وعسر التخلص منه لما لا يزينه الشيطان والنفس الأمارة في قلب صاحبه قوله قالوا بلى فيه الحرص على العلم وأن من عرض عليك أن يخبرك بما فيك ينبغي لك رده بل قابله بالقبول والتعلم قوله قال الشرك الخفي سمي الرياء شركا خفيا لأن صاحبه يظهر أن عمله لله ويخفي في قبله أنه لغيره وإنما تزين باظهاره أنه لله بخلاف الشرك الجلي وفي حديث محمود بن لبيد الذي تقدم في باب الخوف من الشرك تسميته بالشرك الأصغر وعن شداد بن اوس قال كنا نعد الرياء على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم الشرك الأصغر رواه ابن أبي الدنيا في كتاب الاخلاص وابن جرير في

472

التهذيب والطبراني والحاكم وصححه فظاهره أنه من الأصغر مطلقا وهو ظاهر قول الجمهور وقال ابن القيم وأما الشرك الأصغر فكيسير الرياء والتصنع للخلق والحلف بغير الله وقول الرجل للرجل ما شاء الله وشئت وهذا من الله ومنك وأنا بالله وبك وما لي إلا الله وأنت وأنا متوكل على الله وعليك ولولا الله وأنت لم يكن كذا وكذا وقد يكون هذا شركا أكبر بحسب حال قائله ومقصده انتهى ففسر الشرك الأصغر باليسير من الرياء فدل على أن كثيره أكبر وضد الشرك الأكبر والأصغر التوحيد والإخلاص وهو إفراد الله تعالى بالعبادة باطنا وظاهرا كما قال تعالى فاعبد الله مخلصا له الدين ألا لله الدين الخالص وقال تعالى قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين وقال تعالى قل الله أعبد مخلصا له ديني وقيل الإخلاص استواء أحوال العبد في الظاهر والباطن والرياء أن يكون ظاهره خيرا من باطنه أي لملاحظة الخلق والصدق في الإخلاص أن يكون باطنه أعمر من ظاهره قوله فيصلي فيزين صلاته لما يرى من نظر رجل فسر الشرك الخفي بهذا أن يعمل الرجل العمل لله لكن يزيد فيه صفة كتحسينه وتطويله ونحو ذلك لما يرى من نظر رجل فهذا هو الشرك الخفي وهو الرياء والحامل له على ذلك هو حب الرياسة والجاه عند الناس قال الطيبي وهو من أضر غوائل النفس وبواطن مكائدها يبتلى به العلماء والعباد والمشمرون عن ساق الجد لسلوك طريق الآخرة فانهم مهما قهروا أنفسهم وفطموها عن الشهوات وصانوها عن الشبهات عجزت نفوسهم عن الطمع في المعاصي الظاهرة الواقعة على الجوارح فطلبت الاستراحة الى الظاهر بالخير وإظهار العلم والعمل فوجدت

473

مخلصا من مشقة المجاهدة الى لذة القبول عند الخلق ولم يقتنع باطلاع الخالق تبارك وتعالى وفرحت بحمد الناس ولم تقنع بحمد الله وحده فأحببت مدحهم وتبركهم بمشاهدته وخدمته وإكرامه وتقديمه في المحافل فأصابت النفس في ذلك أعظم اللذات وأعظم الشهوات وهو يظن أن حياته بالله تعالى وبعباداته وإنما حياته هذه الشهوة الخفية التي تعمى عن دركها العقول النافدة قد أثبت اسمه عند الله من المنافقين وهو يظن أنه عند الله من عباده المقربين وهذه مكيدة للنفس لا يسلم منها إلا الصديقون ولذلك قيل آخر ما يخرج من رؤوس الصديقين حب الرياسة انتهى كلامه وفي الحديث من الفوائد شفقته صلى الله عليه وسلم على أمته ونصحه لهم وأن الرياء أخوف على الصالحين من فتنة الدجال والحذر من الرياء ومن الشرك الأكبر إذ كان صلى الله عليه وسلم يخاف الرياء على أصحابه مع علمهم وفضلهم فغيرهم أولى بالخوف باب من الشرك إرادة الانسان بعمله الدنيا قد ظن بعض الناس أن هذا الباب داخل في الرياء وأن هذا مجرد تكرير فأخطأ بل المراد بهذا أن يعمل الانسان عملا صالحا يريد به الدنيا كالذي يجاهد للقطيفة والخميلة ونحو ذلك ولهذا سماه النبي صلى الله عليه وسلم عبدا لذلك بخلاف المرائي فإنه إنما يعمل ليراه الناس ويعظموه والذي يعمل لأجل الدراهم والقطيفة ونحو ذلك أعقل من المرائي لأن ذلك عمل لدنيا يصيبها والمرائي عمل لأجل المدح والجلالة في أعين الناس وكلاهما خاسر نعوذ بالله من موجبات غضبه وأليم عقابه

474

قال وقوله تعالى من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها الآية قال ابن عباس من كان يريد الحياة الدنيا أي ثوابها أي مآلها وزينتها نوف إليهم نوفر لهم ثواب أعمالهم بالصحة والسرور في الأهل والمال والولد وهم فيها لا يبخسون لا ينقصون ثم نسختها ومن كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد الآية رواه النحاس في ناسخه وقوله ثم نسختها أي قيدتها أو خصصتها فإن السلف كانوا يسمون التقيد والتخصيص نسخا وإلا فالآية محكمة وقال الضحاك من عمل صالحا من أهل الايمان من غير تقوى عجل له ثواب عمله في الدنيا واختاره الفراء قال ابن القيم وهذا القول أرجح ومعنى الآية على هذا من كان يريد بعمله الحياة الدنيا وزينتها وقالت طائفة هذه الآية في حق الكفار بدليل قوله أولئك الذين ليس لهم في الآخرة الا النار أي انهم لم يعملوا إلا للحياة الدنيا وزينتها وحبط ما صنعوا فيها قال بعض المفسرين أي وحبط في الآخرة ما صنعوه أو صنيعهم يعني لم يكن لهم ثواب لأنهم لم يريدوا به الآخرة إنما أرادوا به الدنيا وقد وفى اليهم ما أرادوا وباطل ما كانوا يعملون أي كان عمله في نفسه باطلا لأنه لم يعمل لوجه صحيح والعمل الباطل لا ثواب له انتهى فإن قيل الآية على القول الأول تقتضي تخليد المؤمن من المريد بعمله الدنيا في النار قيل إن الله سبحانه ذكر جزاء من يريد بعمله الحياة الدنيا وزينتها

475

وهو النار وأخبر بحبوط عمله وبطلانه فإذا أحبط ما ينجو به وبطل لم يبق معه ما ينجيه فإن كان معه إيمان لم يرد به الحياة الدنيا وزينتها بل أراد به الله والدار الآخرة لم يدخل هذا الإيمان في العمل الذي حبط وبطل ونجاه هذا الإيمان من الخلود في النار وإن دخلها بحبوط عمله الذي به النجاة المطلقة فالإيمان إيمانان إيمان يمنع دخول النار وهو الإيمان الباعث على أن تكون الأعمال لله وحده يبتغى بها وجهه وثوابه وإيمان يمنع الخلود في النار فإن كان مع المرائي شيء منه وإلا كان من أهل الخلود فالآية لها حكم نظائرها من آيات الوعيد ذكره ابن القيم وقد سئل شيخ الاسلام المصنف عن معنى هذه الآية فأجاب بما ملخصه ذكر عن السلف من أهل العلم فيها أنواع مما يفعله الناس اليوم ولا يعرفون معناه فمن ذلك العمل الصالح الذي يفعله كثير من الناس ابتغاء وجه الله من صدقة وصلاة وإحسان الى الناس وترك ظلم ونحو ذلك مما يفعله الانسان أو يتركه خالصا لله لكنه لا يريد ثوابه في الآخرة إنما يريد أن يجازيه الله بحفظ ماله وتنميته أو حفظه أهله وعياله أو إدامة النعم عليهم ولا همة له في طلب الجنة والهرب من النار فهذا يعطي ثواب عمله في الدنيا وليس له في الآخرة نصيب وهذا النوع ذكره ابن عباس النوع الثاني وهو اكبر من الأول وأخوف وهو الذي ذكر مجاهد في الآية أنها نزلت فيه وهوأن يعمل أعمالا صالحة ونيته رياء الناس لا طلب ثواب الآخرة النوع الثالث أن يعمل أعمالا صالحة يقصد بها مالا مثل أن يحج لمال يأخذه لا لله أو يهاجر لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها أو يجاهد لأجل الغنم

476

فقد ذكر أيضا هذا النوع في تفسير هذه الآية وكما يتعلم الرجل لأجل مدرسة أهله أو مكتبهم أو رياستهم أو يتعلم القرآن ويواظب على الصلاة لاجل وظيفة المسجد كما هو واقع كثيرا وهؤلاء أعقل من الذين قبلهم لأنهم عملوا لمصلحة يحصلونها والذين قبلهم عملوا من أجل المدح والجلالة في أعين الناس ولا يحصل لهم طائل والنوع الأول أعقل من هؤلاء لأنهم عملوا لله وحده لا شريك له لكن لم يطلبوا منه الخير الكثير الدائم وهو الجنة ولم يهربوا من الشر العظيم وهو النار النوع الرابع أن يعمل بطاعة الله مخلصا في ذلك لله وحده لا شريك له لكنه على عمل يكفره كفرا يخرجه عن الإسلام مثل اليهود والنصارى إذا عبدوا الله او تصدقوا أو صاموا ابتغاء وجه الله والدار الآخرة ومثل كثير من هذه الأمة الذين فيهم كفر أو شرك أكبر يخرجهم من الإسلام الكلية اذا أطاعوا الله طاعة خالصة يريدون بها ثواب الله في الدار الآخرة لكنهم على أعمال تخرجهم من الإسلام وتمنع قبول أعمالهم فهذا النوع أيضا قد ذكر في هذه الآية عن أنس بن مالك وغيره وكان السلف يخافون منها قال بعضهم لو أعلم أن الله تقبل مني سجدة واحدة لتمنيت الموت لأن الله يقول إنما يتقبل الله من المتقين ثم قال بقي أن يقال إذا عمل الرجل الصلوات الخمس والزكاة والصوم والحج ابتغاء وجه الله طالبا ثواب الآخرة ثم بعد ذلك عمل أعمالا قاصدا بها الدنيا مثل أن يحج فرضه لله ثم يحج بعده لأجل الدنيا كما هو واقع فهو لما غلب عليه منهما وقد قال بعضهم القرآن كثيرا ما يذكر أهل الجنة الخلص وأهل النار الخلص ويسكت عن صاحب الشائبتين وهو

477

هذا وأمثاله انتهى وقد اجاد وافاد رحمه الله وفي الآية من الفوائد أن الشرك محبط للأعمال وأن إرادة الدنيا وزينتها بالعمل كذلك وأن الله يجازي الكافر بحسناته وكذلك طالب الدنيا ثم يفضي إلى الآخرة وليس له حسنة الخامسة شدة الوعيد على ذلك السادسة الفرق بين الحبوط والبطلان قال في الصحيح عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تعس عبد الدينار وتعس عبد الدرهم وتعس عبد الخميصة تعس عبد الخميلة إن أعطي رضي وان لم يعط سخط تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش طوبى لعبد أخذ بعنان فرسه في سبيل الله أشعث رأسه مغبرة قدماه إن كان في الحراسة كان في الحراسة وإن كان في الساقة كان في الساقة إن استأذن كم يؤذن له وإن شفع لم يشفع قوله في الصحيح أي صحيح البخاري قوله تعس عبد الدينار هو بكسر العين ويجوز الفتح أي سقط والمراد هنا هلك قاله الحافظ وقال في موضع آخر وهو ضد سعد أي شقي وقيل معنى التعس الكبة على الوجه قال أبو السعادات يقال تعس يتعس إذا عثر وانكب لوجهه وهو دعاء عليه بالهلاك قوله تعس عبد الخميصة قال أبو السعادات هو ثوب خز أو صوف معلم وقيل لا تسمى خميصة إلا أن تكون سوداء معلمة وكانت من لباس الناس قديما وجمعها الخمائص والخميلة بفتح الخاء المعجمة قال أبو السعادات الخميل والخميلة القطيفة وهي ثوب له خمل من اي شيء كان وقيل الخميل الأسود من الثياب قوله تعس وانتكس قال الحافظ هو بالمهملة أي عاوده المرض وقال

478

أبو السعادات أي انقلب على رأسه وهو دعاء عليه بالخيبة أن من انتكس في أمره فقد خاب وخسر وقال الطيبي وفيه الترقي بالدعاء عليه لأنه إذا تعس انكب على وجهه فإذا انتكس انقلب على رأسه بعد ان سقط قوله واذا شيك أي اصابته شوكة فلا انتقش قال أبو السعادات أي إذا شاكته شوكة فلا يقدر على انتقاشها وهو إخراجها بالمنقاش وقال الحافظ أي إذا دخلت فيه شوكة لم يجد من يخرجها بالمنقاش قال وفي الدعاء عليه بذلك إشارة إلى عكس مقصوده لأن من عثر فدخلت في رجله الشوكة فلم يجد من يخرجها يصير عاجزا عن السعي والحركة في تحصيل مصالح الدنيا وقال الطيبي المعنى أنه إذا وقع في البلاء لا يترحم عليه فإن من وقع في البلاء اذا ترحم له الناس ربما هان الخطب عليه ويتسلى بعض التسلي وهؤلاء بخلافه بل يزيد غيظهم بفرح الأعداء أو شماتتهم فان قيل لم سماه النبي صلى الله عليه وسلم عبد الدينار والدرهم قيل لما كان هو مقصوده ومطلوبه الذي عمل له وسعى في تحصيله بكل ممكن حتى صارت نيته مقصورة عليه يغضب ويرضى له صار عبدا له قال شيخ الإسلام فسماه النبي صلى الله عليه وسلم عبد الدينار والدرهم وعبد القطيفة وعبد الخميصة وذكر فيه ما هو دعاء وخبر وهو قوله تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش وهذه حال من أصابه شر لم يخرج منه ولم يفلح لكونه تعس وانتكس فلا نال المطلوب ولا خلص من المكروه وهذه حال من عبد المال وقد وصف ذلك بأنه إن أعطي رضي وإن منع سخط كما قال تعالى ومنهم من يلمزم في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون فرضاهم لغير الله وسخطهم لغير الله

479

وهكذا حال من كان متعلقا برئاسة أو بصورة او نحو ذلك من أهواء نفسه إن حصل له رضي وإن لم يحصل له سخط فهذا عبد ما يهواه من ذلك وهو رقيق له إذ الرق والعبودية في الحقيقة هو رق القلب وعبوديته فما استرق القلب واستعبده فهو عبده إلى أن قال وهكذا أيضا طالب المال فإن ذلك يستعبده ويسترقه وهذه الأمور نوعان فمنها ما يحتاج إليه العبد كما يحتاج الى طعامه وشربه ومنكحه ومسكنه ونحو ذلك فهذا يطلبه من الله ويرغب إليه فيه فيكون المال عنده يستعمله في حاجته بمنزلة حماره الذي يركبه وبساطه الذي يجلس عليه من غير أن يستعبدوه فيكون هلوعا ومنها ما لا يحتاج إليه العبد فهذه ينبغي أن لا يعلق قلبه بها فإذا تعلق قلبه بها صار مستعبدا لها وربما صار مستعبدا معتمدا على غير الله فيها فلا يبقى معه حقيقة العبودية لله ولا حقيقه التوكل عليه بل فيه شعبة من العبادة لغير الله وشعبة من التوكل على غير الله وهذا من أحق الناس بقوله صلى الله عليه وسلم تعس عبد الدرهم تعس عبد الدينار تعس عبد الخميصة تعس عبد الخميلة وهذا هو عبد لهذه الأمور ولو طلبها من الله فإن الله إذا أعطاه إياها رضي وإن منعه اياها سخط وانما عبد الله من يرضيه ما يرضي الله ويسخطه ما يسخط الله ويحب ما أحب الله ورسوله ويبغض ما أبغض الله ورسوله ويوالي أولياء الله ويعادي أعداء الله فهذا الذي استكمل الإيمان انتهى ملخصا قوله طوبى لعبد قال أبو السعادات طوبى اسم الجنة وقيل هي شجرة فيها قلت قد روى ابن وهب عن عمرو بن الحارث أن دراجا حدثه أن ابا الهيثم حدثه عن أبي سعيد في حديث فقال رجل يا رسول الله وما طوبى قال شجرة في الجنة مسيرة مائة سنة ثياب

480

اهل الجنة تخرج من اكمامها رواه حرملة عنه ورواه أحمد في مسنده من حديث عتبة بن عبد السلمي جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن الحوض وذكر الجنة ثم قال الأعرابي وفيها فاكهة قال نعم وفيها شجرة تدعى طوبى الحديث قال الزجاج في قوله طوبى لهم ومعناه العيش الطيب وقال ابن الأنباري الحال المستطابة لهم لأنه فعلى من الطيب وقيل معناه هنيئا بطيب العيش لهم وهذه الأقوال ترجع إلى قول واحد قوله أخذ بعنان فرسه في سبيل الله أي في طريق الجهاد قوله أشعث راسه هو بنصب أشعث صفة لعبد لأنه غير مصروف للصفة ووزن الفعل ورأسه مرفوع على الفاعلية لأشعث وهو مغبر الرأس وفيه فضل إصابة الغبار في سبيل الله قوله مغبرة قدماه هو كأشعث في الإعراب والمراد به كثرة الغبار له في سبيل الله لكثرة جهاده ومصابرته قوله إن كان في الحراسة قال بعضهم هو بكسر الحاء أي حماية الجيش ومحافظتهم عن أن يهجم عليهم عدوهم قوله كان في الحراسة أي امتثل غير مقصر فيها بالنوم والغفلة ونحوهما قوله وإن كان في الساقة كان في الساقة أي أن جعل في مؤخرة الجيش صارفيها ولزمها وقال ابن الجوزي المعنى أنه خامل الذكر لا يقصد السمو فأي موضع اتفق له كان فيه وقال الخلخالي المعنى ائتماره لما أمر وإقامته حيث أقيم لا يفقد من مكانه وإنما ذكر الحراسة والساقة لأنهما أشد مشقة وأكثر آفة قلت وفيه فضيلة الحرس في سبيل الله

481

قوله إن استأذن لم يؤذن له أي إن استأذن على الأمراء ونحوهم لم يأذنوا له لأنه ليس بذي جاه ولا يقصد بعمله الدنيا فيطلبها منهم ويتردد إليهم لأجلها بل هو مخلص لله قوله وإن شفع بفتح أوله وثانيه مبني للفاعل ويشفع بتشديد الفاء مبني للمفعول والمراد والله اعلم أنه لا يشفع عند الملوك ونحوهم لعدم جاهه عندهم وعلى تقدير شفاعته إن شفع لم يشفع بل يرون شفاعته قال بعضهم قيل إن هذا إشارة إلى عدم التفاته إلى الدنيا وأربابها بحيث لا يبتغي مالا ولا جاها عند الناس بل يكون عند الله وجيها ولم يقبل الناس شفاعته ويكون عند الله شفيعا مشفعا كما في الحديث الذي رواه أحمد ومسلم عن أبي هريرة مرفوعا رب أشعث مدفوع بالأبواب لو اقسم على الله لأبره وقال الحافظ فيه ترك حب الرئاسة والشهرة وفضل لخمول والتواضع قلت وفيه أن هذه الأمور ونحوها لا تكون لهوان المؤمن على الله بل الكرامته وفيه الثناء على المجاهد الموصوف بتلك الصفات قاله المصنف باب ومن أطاع العلماء والأمراء في تحريم ما أحل الله أو تحليل ما حرمه الله فقد اتخذهم أربابا من دون الله ش لما كانت الطاعة من أنواع العبادة بل هي العبادة فإنها طاعة الله بامتثال ما امر به على ألسنة رسله عليهم السلام نبه المصنف رحمه الله تعالى بهذه

482

الترجمة على وجوب اختصاص الخالق تبارك وتعالى بها وأنه لا يطاع أحد من الخلق الا حيث كانت طاعته مندرجة تحت طاعة الله وإلا فلا تجب طاعة احد من الخلق استقلالا والمقصود هنا الطاعة الخاصة في تحريم الحلال أو تحليل الحرام فمن أطاع مخلوقا في ذلك غير الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه لا ينطق عن الهوى فهو مشرك كما بينه الله تعالى في قوله اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أي علماءهم أربابا من دون الله والمسيح بن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون وفسرها النبي صلى الله عليه وسلم بطاعتهم في تحريم الحلال وتحليل الحرام كما سيأتي في حديث عدي فإن قيل قد قال الله تعالى أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم قيل هم العلماء وقيل هم الأمراء وهما روايتان عن أحمد قال ابن القيم والتحقيق بأن الآية تعم الطائفتين قيل إنما تحب طاعتهم اذا أمروا بطاعة الله وطاعة رسوله فكان العلماء مبلغين لأمر الله وامر رسوله والأمراء منفذين له فحينئذ تجب طاعتهم تبعا لطاعة الله ورسوله كما قال صلى الله عليه وسلم لا طاعة في معصية إنما الطاعة في المعروف وقال على المرء المسلم السمع والطاعة ما لم يؤمر بمعصية فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة حديثان صحيحان فليس في هذه الآية ما يخالف آية براءة قال وقال ابن عباس يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء أقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقولون قال أبو بكر وعمر

483

ش قوله يوشك بضم أوله وكسر الشين المعجمة قال أبو السعادات أي يقرب ويدنو ويسرع وهذا الكلام قاله ابن عباس لمن ناظره في متعة الحج وكان ابن عباس يأمر بها فاحتج عليه المناظر بنهي أبي بكر وعمر عنها أي هما اعلم منك وأحق بالاتباع فقال هذا الكلام الصادر عن محض الايمان وتجريد المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم وإن خالفه من خالفه كائنا من كان كما قال الشافعي أجمع العلماء على أن من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد فإذا كان هذا كلام ابن عباس لمن عارضه بأبي بكر وعمر وهما هما فماذا تظنه يقول لمن يعارض سنن الرسول صلى الله عليه وسلم بإمامه وصاحب مذهبه الذي ينتسب اليه ويجعل قوله عيارا على الكتاب والسنة فما وافقه قبله وما خالفه رده أو تأوله فالله المستعان وما أحسن ما قال بعض المتاخرين فإن جاءهم فيه الدليل موافقا لما كان للآبا اليه ذهاب رضوه وإلا قيل هذا مؤول ويركب للتأويل فيه صعاب ولا ريب أن هذا داخل في قوله تعالى اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله الآية قال المصنف وقال أحمد بن حنبل عجبت لقوم عرفوا الاسناد وصحته يذهبون الى راي سفيان والله تعالى يقول فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة اتدري ما الفتنة الفتنة الشرك لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك ش هذا الكلام من أحمد رواه عنه الفضل بن زياد وأبو طالب قال الفضل عن أحمد نظرت في المصحف فوجدت طاعة الرسول في ثلاثة وثلاثين موضعا ثم جعل يتلو فليحذر الذين يخالفون عن امره أن تصيبهم فتنة الآية وجعل

484

يكررها ويقول وما الفتنة إلا الشرك لعله إذا أراد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيزيغ قلبه فيهلكه وجعل يتلو هذه الآية فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم وقال أبو طالب عن أحمد وقيل له إن قوما يدعون الحديث ويذهبون إلى رأي سفيان فقال اعجبت لقوم سمعوا الحديث وعرفوا الاسناد وصحته يدعونه ويذهبون إلى رأي سفيان وغيره قال الله فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم وتدري ما الفتنة الكفر قال الله تعالى والفتنة اكبر من القتل فيدعون الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتغلبهم أهواؤهم إلى الرأي ذكر ذلك شيخ الإسلام قلت وكلام أحمد في ذمه التقليد وإنكار تأليف كتب الراي كثير مشهور قوله عرفوا الاسناد أي اسناد الحديث وصحته أي صحة الاسناد وصحته دليل على صحة الحديث قوله يذهبون الى رأي سفيان أي الثوري الإمام الزاهد العابد الثقة الفقيه وكان له أصحاب ومذهب مشهور فانقطع ومراد أحمد الانكار على من يعرف اسناد الحديث وصحته ثم بعد ذلك يقلد سفيان أو غيره ويعتذر بالأعذار الباطلة إما بأن الأخذ بالحديث اجتهاد والاجتهاد انقطع منذ زمان وإما بأن هذا الإمام الذي قلدته أعلم مني فهو لا يقول الا بعلم ولا يترك هذا الحديث مثلا الا عن علم وإما بأن ذلك اجتهاد ويشترط في المجتهد أن يكون عالما بكتاب الله عالما بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وناسخ ذلك

485

ومنسوخه وصحيح السنة وسقيمها عالما بوجوه الدلالات عالما بالعربية والنحو والأصول ونحو ذلك من الشروط التي لعلها لا توجد تامة في أبي بكر وعمر رضي الله عنهما كما قاله المصنف فيقال له هذا إن صح فمرادهم بذلك المجتهد المطلق أما أن يكون ذلك شرطا في جواز العمل بالكتاب والسنة فكذب على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم وعلى أئمة العلماء بل الفرض والحتم على المؤمن إذا بلغه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وعلم معنى ذلك في أي شيء كان أن يعمل به ولو خالفه من خالفه فبذلك أمرنا ربنا تبارك وتعالى ونبينا صلى الله عليه وسلم وأجمع على ذلك العلماء قاطبة إلاجهال المقلدين وجفاتهم ومثل هؤلاء ليسوا من أهل العلم كما حكى الإجماع على أنهم ليسوا من أهل العلم منهم أبو عمر بن عبد البر وغيره قال الله تعالى اتبعوا ما أنزل اليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون وقال تعالى وإن تطيعوه تهتدوا وما على الرسول الا البلاغ المبين فشهد تعالى لمن أطاع الرسول صلى الله عليه وسلم بالهداية وعند جفاة المقلدين أن من أطاعه صلى الله عليه وسلم ليس بمهتدي إنما المهتدي من عصاه وعدل عن أقواله ورغب عن سنته الى مذهب أو شيخ ونحو ذلك وقد وقع في هذا التقليد المحرم خلق كثير ممن يدعي العلم والمعرفة بالعلوم ويصنف التصانيف في الحديث والسنن ثم بعد ذلك تجده جامدا على أحد هذه المذاهب يرى الخروج عنها من العظائم وفي كلام أحمد إشارة إلى أن التقليد قبل بلوغ الحجة لا يذم إنما المذموم المنكر الحرام الإقامة على ذلك بعد بلوغ الحجة نعم وينكر الاعراض عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والاقبال على تعلم الكتب المصنفة في الفقه استغناء بها عن الكتاب والسنة بل إن قرؤا شيئا من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فإنما يقرؤون تبركا لا تعلما وتفقها أو لكون بعض

486

الموقفين وقف على من قرأ البخاري مثلا فيقرؤونه لتحصيل الوظيفة لا لتحصيل الشريعة فهؤلاء من أحق الناس بدخولهم في قول الله تعالى وقد أتيناك من لدنا ذكرا من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة وزرا خالدين فيه وساء لهم يوم القيامة حملا وقوله تعالى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى إلى قوله ولعذاب الآخرة أشد وأبقى فإن قلت فماذا يجوز للإنسان من قراءة هذه الكتب المصنفة في المذاهب قيل يجوز من ذلك قراءتها على سبيل الاستعانة بها على فهم الكتاب والسنة وتصوير المسائل فتكون من نوع الكتب الآلية أما أن تكون هي المقدمة على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم الحاكمة بين الناس فيما اختلفوا فيه المدعو إلى التحاكم إليها دون التحاكم إلى الله والرسول صلى الله عليه وسلم فلا ريب أن ذلك مناف للإيمان مضاد له كما قال تعالى فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما فإذا كان التحاكم عند المشاجرة إليها دون الله ورسوله ثم اذا قضى الله ورسوله أمرا وجدت الحرج في نفسك وإن قضى أهل الكتاب يأمر لم تجد حرجا ثم إذا قضى الرسول صلى الله عليه وسلم بأمر لم تسلم له وإنما قضوا بأمر سلمت له فقد أقسم الله تعالى سبحانه وهو أصدق القائلين بأجل مقسم به وهو نفسه تبارك وتعالى أنك لست بمؤمن والحالة هذه وبعد ذلك

487

فقد قال الله تعالى بل الانسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره على أن الأئمة الأربعة وغيرهم من أهل العلم قد نهوا عن تقليدهم مع ظهور السنة فكلام أحمد الذي ذكره المصنف كاف عن تكثير النقل عنه وقال أبو حنيفة اذا جاء الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلى الرأس والعين واذا جاء عن الصحابة فعلى الرأس والعين واذا جاء عن التابعين فنحن رجال وهم رجال وفي روضة العلماء سئل أبو حنيفة اذا قلت قولا وكتاب الله يخالفه قال اتركوا قولي لكتاب الله قيل اذا كان قول الرسول يخالفه قال اتركوا قولي لخبر الرسول صلى الله عليه وسلم قيل اذا كان قول الصحابة يخالفه قال اتركوا قولي لقول الصحابة فلم يقل هذا الإمام ما يدعيه جفاة المقلدين له أنه لا يقول قولا يخالف كتاب الله حتى أنزلوه بمنزلة المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى وروى البيهقي في السنن عن الشافعي أنه قال اذا قلت قولا وكان عن النبي صلى الله عليه وسلم خلاف قولي فما يصح من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى فلا تقلدوني وقال الربيع سمعت الشافعي يقول اذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعوا ما قلت وتواتر عنه أنه قال إذا صح الحديث أي بخلاف قولي فاضربوا بقولي الحائط وقال مالك كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلام الأئمة مثل هذا كثير فخالف المقلدون ذلك وجمدوا على ما وجدوه في الكتب المذهبية سواء كان صوابا أم خطأ مع أن كثيرا من هذه الأقوال المنسوبة إلى الأئمة ليست أقوالا لهم منصوصا عليها وإنما هي تفريعات ووجوه واحتمالات وقياس على أقوالهم ولسنا نقول إن الأئمة على خطأ بل هم إن شاء الله على هدى من ربهم وقد قاموا بما أوجب الله عليهم من الايمان بالرسول صلى الله عليه وسلم

488

ومتابعته ولكن العصمة منتفية عن غير الرسول فهو الذي ما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى فما العذر في اتباعهم وترك اتباع الذي لا ينطق عن الهوى قوله لعله أي لعل الانسان الذي تصح عنده سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله إذا رد بعض قوله أي قول النبي صلى الله عليه وسلم قوله ان يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك هذا تنبيه على أن رد قول الرسول صلى الله عليه وسلم سبب لزيغ القلب الذي هو سبب الهلاك في الدنيا والاخرة فإذا كانت إساء الأدب معه في الخطاب سببا لحبوط الأعمال كما قال تعالى لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون فما ظنك برد أحكامه وسنته لقول أحد من الناس كائنا من كان قال شيخ الاسلام فإذا كان المخالف عن امره قد حذر من الكفر والشرك أو من العذاب الأليم دل على أنه قد يكون مفضيا الى الكفر والعذاب الأليم ومعلوم أن إفضاؤه الى العذاب هو مجرد فعل المعصية فإفضاؤه الى الكفر إنما هو لما يقترن به من استخفاف بحق الآمر كما فعل ابليس لعنه الله فإذا علمت أن المخالفة عن أمره صلى الله عليه وسلم سبب للفتنة التي هي الشرك والعذاب الأليم في الدنيا والآخرة علمت أن من رد قوله وخالف أمره لقول أبي حنيفة أو مالك أو غيرهما لهم النصيب الكامل والحظ الوافر من هذه الآية وهذا الوعيد على مخالفة أمره صلى الله عليه وسلم وقد استدل بهذه الآية كثير من العلماء على أن أصل الأمر للوجوب حتى يقوم دليل على استحبابه

489

قال عن عدي بن حاتم أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ هذه الآية اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله الآية فقلت له إنا لسنا نعبدهم قال أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه ويحلون ما حرم الله فتحلونه فقلت بلى قال فتلك عبادتهم رواه أحمد والترمذي وحسنه ش هذا الحديث قد روي من طرق فرواه ابن سعد وعبد بن حميد وابن المنذر وابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في السنن وفيه قصة اختصرها المصنف قوله عن عدي بن حاتم أي الطائي المشهور وهو ابن عبد الله بن سعد بن الحشرج بفتح المهملة وسكون المعجمة وآخره جيم مات مشركا وعدي يكنى أبا طريف بفتح المهملة صحابي شهير حسن الإسلام مات سنة ثمان وستين وله مائة وعشرون سنة قوله فقلت إنا لسنا نعبدهم ظن عدي أن العبادة المراد بها التقرب إليهم بأنواع العبادة من السجود والذبح والنذر ونحو ذلك فقال إنا لسنا نعبدهم قوله أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه إلى آخره صرح صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث بأن عبادة الأحبار والرهبان هي طاعتهم في تحريم الحلال وتحليل الحرام وهو طاعتهم في خلاف حكم الله ورسوله قال شيخ الاسلام وهؤلاء الذين تخذوا أحبارهم ورهبانهم اربابا من دون الله حيث اطاعوهم في تحليل ما حرم الله وعكسه يكونون على وجهين أحدهما أنهم يعلمون انهم بدلوا دين الله فيتبعونهم

490

على التبديل فيعتقدون تحليل ما حرم الله وتحريم ما أحل الله اتباعا لرؤسائهم مع علمهم أنهم خالفوا دين الرسل فهذا كفر وقد جعله الله ورسوله شركا وإن لم يكونوا يصلون لهم ويسجدون الثاني أن يكون اعتقادهم وإيمانهم بتحريم الحلال وتحليل الحرام ثابتا لكنهم أطاعوهم في معصية الله كما يفعل المسلم ما يفعله من المعاصي التي يعتقد أنها معاصي فهؤلاء لهم حكم أمثالهم من اهل الذنوب كما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إنما الطاعة في المعروف ثم نقول اتباع هذا المحلل للحرام والمحرم للحلال إن كان مجتهدا قصده اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم لكن خفي عليه الحق في نفس الأمر وقد اتقى الله ما ستطاع فهذا لا يؤاخذه الله بخطئه بل يثيبه على اجتهاده الذي أطاع به ربه ولكن من علم أن هذا الخطأ فيما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم اتبعه على خطئه وعدل عن قول الرسول صلى الله عليه وسلم فله نصيب من الشرك الذي ذمه الله لا سيما إن اتبعه في ذلك لهواه ونصره باللسان واليد مع علمه بأنه مخالف للرسول صلى الله عليه وسلم فهذا شرك يستحق صاحبه العقوبة عليه ولهذا اتفق العلماء على أنه إذا عرف الحق لا يجوز تقليد أحد في خلافه وأما إن كان المتبع للمجتهد عاجزا عن معرفة الحق على التفصيل وقد فعل ما يقدر عليه مثله من الاجتهاد في التقليد فهذا لا يؤاخذ إن أخطأ كما في القبلة وأما إن قلد شخصا دون نظيره بمجرد هواه ونصره بيده ولسانه من غير علم ان الحق معه فهذا من أهل الجاهلية فإن كان متبوعه مصيبا لم يكن عمله صالحا وإن كان متبوعه مخطئا كان آثما كمن قال في القرآن برايه فإن أصاب فقد أخطأ وإن أخطأ فليتبوأ مقعده من النار انتهى ملخصا قال المصنف وفيه تغير الأحوال إلى هذه الغايه صار عند الأكثر عبادة الرهبان هي أفضل الأعمال ولا سيما الولاية وعبادة الأحبار هي العلم والفقه ثم تغيرت الحال الى ان عبد من ليس من الصالحين وعبد بالمعنى الثاني من هو من الجاهلين

491

قوله صار عند الأكثر عبادة الرهبان هي أفضل الأعمال يشير إلى ما يعتقده كثير من الناس فيمن ينتسب إلى الولاية من الضر والنفع والعطاء والمنع ويسمون ذلك الولاية والسر ونحو ذلك وهو الشرك قوله وعبادة الأحبار هي العلم والفقه أي هي التي تسمى اليوم العلم والفقه المؤلف على مذاهب الأئمة ونحوهم فيطيعونهم في كل ما يطيعوك سواء وافق حكم الله أم خالفه بل لا يعبأون بما خالف ذلك من كتاب وسنة بل يريدون كلام الله وكلام رسوله لأقوال من قلدوه ويصرحون بأنه لا يحل العمل بكتاب ولا سنة وأنه لا يجوز تلقي العلم والهدى منهما وانما العلم والفقه والهدى عندهم هو ما وجدوه في هذه الكتب بل أعظم من ذلك وأطم رمي كثير منهم كلام الله وكلام رسوله بأنه لا يفيد العلم ولا اليقين في باب معرفة أسماء الله وصفاته وتوحيده ويسمونها ظواهر لفظية ويسمون ما وضعه الفلاسفة المشركون القواطع العقلية ثم يقدمونها في باب الأسماء والصفات والتوحيد على ما جاء من عند الله ثم يرمون من خرج عن عبادة الأحبار والرهبان إلى طاعة رب العالمين وطاعة رسوله وتحكيم ما أنزل الله في موارد النزاع بالبدعة أو الكفر وقوله ثم تغيرت الأحوال إلى أن عبد من ليس من الصالحين وذلك كاعتقادهم في كثير ممن ينتسب إلى الولاية من الفساق والمجاذيب وقوله وعبد بالمعنى الثاني من هو من الجاهلين وذلك كاعتقادهم العلم في أناس من جهلة المقلدين فيحسنون لهم البدع والشرك فيطيعونهم ويظنون أنهم علماء مصلحون ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون

492

باب قول الله تعالى الم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل اليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت الآيات ش لما كان التوحيد الذي هو معنى شهادة أن لا إله إلا الله مشتملا على الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم مستلزما له وذلك هو الشهادتان ولهذا جعلهما النبي صلى الله عليه وسلم ركنا واحدا في قوله بني الاسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت من استطاع إليه سبيلا نبه في هذا الباب على ما تضمنه التوحيد واستلزمه من تحكيم الرسول صلى الله عليه وسلم في موارد النزاع إذ هذا هو مقتضى شهادة أن لا إله إلا الله ولازمها الذي لا بد منه لكل مؤمن فإن من عرف أن لا إله إلا الله فلا بد من الانقياد لحكم الله والتسليم لأمره الذي جاء من عنده على يد رسوله محمد صلى الله عليه وسلم فمن شهد أن لا إله إلا الله ثم عدل إلى تحكيم غير الرسول صلى الله عليه وسلم في موارد النزاع فقد كذب في شهادته وإن شئت قلت لما كان التوحيد مبنيا على الشهادتين إذ لا تنفك أحداهما عن الأخرى لتلازمهما وكان ما تقدم من هذا الكتاب في معنى شهادة أن لا إله إلا الله التي تتضمن حق الله على عباده نبه في هذا الباب على معنى شهادة أن محمدا رسول الله التي تتضمن حق الرسول صلى الله عليه وسلم فإنها تتضمن أنه عبد لا يعبد ورسول صادق لا يكذب بل يطاع ويتبع لأنه المبلغ عن الله تعالى فله عليه الصلاة والسلام منصب الرسالة والتبليغ

493

عن الله والحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه إذ هو لا يحكم إلا بحكم الله ومحبته علىالنفس والاهل والمال والوطن وليس له من الألهية شيء بل هو عبدالله ورسوله كما قال تعالى وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا وقال صلى الله عليه وسلم انما أنا عبد فقولوا عبدالله ورسوله ومن لوازم ذلك متابعته وتحكيمه في موارد النزاع وترك التحاكم إلى غيره كالمنافقين الذي يدعون الإيمان به ويتحاكمون إلى غيره وبهذا يتحقق العبد بكمال التوحيد وكمال المتابعة وذلك هو كمال سعادته وهو معنى الشهادتين إذا تبين هذا فمعنى الآية المترجم لها إن الله تبارك وتعالى أنكر على من يدعي الإيمان بما انزل الله على رسوله وعلى الانبياء قبله وهو مع ذلك يريد أن يتحاكم في فصل الخصومات إلى غير كتاب الله وسنة رسوله كما ذكر المصنف في سبب نزولها قال ابن القيم والطاغوت كل من تعدى به حده من الطغيان وهو مجاوزة الحد فكل ما تحاكم إليه متنازعان غير كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فهو طاغوت اذ قد تعدى به حده ومن هذا كل من عبد شيئا دون الله فإنما عبد الطاغوت وجاوز بمعبوده حده فأعطاه العبد التي لا تنبغي له كما ان من دعا الى تحكيم غير الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم فقد دعا إلى تحكيم الطاغوت وتأمل تصديره سبحانه الاية منكرا لهذا التحكيم على من زعم أنه قد آمن بما انزله الله على رسوله صلى الله عليه وسلم وعلى من قبله ثم هو مع ذلك يدعو إلى تحكيم غير الله ورسوله ويتحاكم إليه عند النزاع وفي ضمن قوله يزعمون نفي لما زعموه من الإيمان ولهذا لم يقل ألم ترى إلى الذين آمنوا فإنهم لو كانوا من اهل الإيمان حقيقة لم يريدوا أن يتحاكموا الى غير الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ولم يقل فيهم يزعمون فإن هذا إنما يقال غالبا لمن ادعى دعوى هو فيها كاذب أو منزل منزلة الكاذب لمخالفته لموجبها وعمله بما

494

ينافيها قال ابن كثير والآية ذامة لمن عدل عن الكتاب والسنة وتحاكم إلى ما سواهما من الباطل وهو المراد بالطاغوت ههنا وقوله تعالى وقد أمروا أن يكفروا به أي بالطاغوت وهو دليل على أن التحاكم إلى الطاغوت مناف للايمان مضاد له فلا يصح الايمان الا بالكفر به وترك التحاكم اليه فمن لم يكفر بالطاغوت لم يؤمن بالله وقوله ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا أي لأن ارادة التحاكم إلى غير كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من طاعة الشيطان وهو إنما يدعو أحزابه ليكونوا من اصحاب السعير وفي الآية دليل على أن ترك التحاكم إلى الطاغوت الذي هو ما سوى الكتاب والسنة من الفرائض وان التحاكم اليه غير مؤمن بل ولا مسلم وقوله تعالى وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا أي إذا دعوا الى التحاكم الى ما أنزل الله والى الرسول أعرضوا إعراضا مستكبرين كما قال تعالى وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم اذا فريق منهم معرضون قال ابن القيم هذا دليل على أن من دعي الى تحكيم الكتاب والسنة فلم يقبل وأبى ذلك أنه من المنافقين ويصدون هنا لازم لا متعد هو بمعنى يعرضون لا بمعنى يمنعون غيرهم ولهذا أتى مصدره على صدود ومصدر التعدي صدا فإذا كان المعرض عن ذلك قد حكم الله سبحانه بنفاقهم فكيف بمن ازداد إلى اعراضه منع الناس من تحكيم الكتاب والسنة والتحاكم إليهما بقوله وعمله وتصانيفه ثم يزعم مع ذلك أنه إنما اراد الإحسان والتوفيق الإحسان في فعله ذلك والتوفيق بين الطاغوت الذي حكمه وبين الكتاب والسنة قلت وهذا حال

495

كثير ممن يدعي العلم والإيمان في هذه الأزمان إذا قيل لهم تعالوا نتحاكم الى ما أنزل الله والى الرسول رايتهم يصدون وهم مستكبرون ويعتذرون أنهم لا يعرفون ذلك ولا يعقلون بل لعنهم الله بكفرهم فقليلا ما يؤمنون وقوله تعالى فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم قال ابن كثير أي فكيف بهم إذا أصابتهم المقادير إليك في المصائب بسبب ذنوبهم واحتاجوا إليك في ذلك وقال ابن القيم قيل المصيبة فضيحتهم إذا أنزل القرآن بحالهم ولا ريب أن هذا أعظم المصيبة والإضرار فالمصائب التي تصيبهم بما قدمت أيديهم في أبدانهم وقلوبهم وأديانهم بسبب مخالفة الرسول عليه الصلاة والسلام أعظمها مصائب القلب والدين فيرى المعروف منكرا والهدى ضلالا والرشاد غيا والحق باطلا والصلاح فسادا وهذا من المصيبة التي أصيب بها في قبله وهوالطبع الذي أوجبه مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم وتحكيم غيره قال سفيان الثوري في قوله تعالى فليحذر الذين يخالفون عن أمره ان تصيبهم فتنة قال هي أن تطبع على قلوبهم وقوله تعالى ثم جاؤوك يحلفون بالله ان اردنا إلا احسانا وتوفيقا قال ابن كثير اي يعتذرون ويحلفون إن أردنا بذهابنا الى غيرك إلا الإحسان والتوفيق أي المداراة والمصانعة وقال غيره إلا إحسانا أي لا إساءة وتوفيقا اي بين الخصمين ولم نرد مخالفة لك ولا تسخطا لحكمك قلت فإذا كان هذا حال المنافقين يعتذرون عن

496

أمرهم ويلبسونه لئلا يظن أنهم قصدوا المخالفة لحكم النبي صلى الله عليه وسلم أو التسخط فكيف بمن يصرح بما كان المنافقون يضمرونه حتى يزعم أنه من حكم الكتاب والسنة في موارد النزاع فهو إما كافر وإما مبتدع ضال وفعل المنافقين الذي ذكره الله عنهم في هذه الآية هو بعينه الذي يفعله المحرفون للكلم عن مواضعه الذين يقولون إنما قصدنا التوفيق بين القواطع العقلية بزعمهم التي هي الفلسفة والكلام وبين الأدلة النقلية ثم يجعلون الفلسفة التي هي سفاهة وضلالة الأصل ويردون بها ما أنزل الله على رسوله من الكتاب والحكمة زعموا أن ذلك يخالف الفلسفة التي يسمونها القواطع فتطلبوا له وجوه التأويلات البعيدة وحملوه على شواذ اللغة التي لا تكاد تعرف وقوله تعالى اولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم قال ابن كثير أي هذا الضرب من الناس هم المنافقون والله اعلم بما في قلوبهم وسيجزيهم على ذلك فإنه لا تخفى عليه خافية فاكتف به يا محمد فيهم فإنه عالم ببواطنهم وظواهرهم وقوله تعالى فأعرض عنهم وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا قال ابن القيم أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم فيهم بثلاثة أشياء أحدهما الإعراض عنهم إهانة لهم وتحقيرا لشأنهم وتصغيرا لأمرهم لا إعراض متاركة وإهمال وبهذا يعلم أنها غير منسوخة الثاني قوله وعظهم وهو تخويفهم عقوبة الله وبأسه ونقمته إن أصروا على التحاكم الى غير رسوله صلى الله عليه وسلم وما أنزل عليه الثالث قوله وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا أي يبلغ تأثيره إلى قلوبهم ليس قولا لينا لا يتأثر به المقول له وهذه المادة

497

تدل على بلوغ المراد بالقول فهو قول يبلغ به مراد قائله من الزجر والتخويف ويبلغ تأثيره إلى نفس المقول له ليس هو كالقول الذي يمر على الأذن صفحا وهذا القول البليغ يتضمن ثلاثة أمور أحدها عظم معناه وتأثير النفوس به الثاني فخامة الفاظه وجزالتها الثالث كيفية القائل في إلقائه إلى المخاطب فإن القول كالسهم والقلب كالقوس الذي يدفعه وكالسيف والقلب كالساعد الذي يضرب به وفي متعلق قوله في أنفسهم قولان أحدهما بقوله بليغا أي قولا بليغا في أنفسهم وهذا حسن من جهة المعنى ضعيف من جهة الإعراب لأن صفة الموصوف لا تعمل فيما قبلها والقول الثاني أنه متعلق بقل وفي المعنى على هذا قولان أحدهما قل لهم في أنفسهم خاليا بهم ليس معهم غيرهم بل مسرا لهم النصيحة والثاني أن معناه قل لهم في معنى أنفسهم كما يقال قل لفلان في كيت وكيت أي في ذلك المعنى قلت وهذا القول أحسن ثم قال تعالى وما ارسلنا من رسول الا ليطاع بإذن الله قال ابن كثير أي إنما فرضت طاعته على من أرسلته اليهم وقال ابن القيم هذا تنبيه على جلالة منصب الرسالة وعظم شأنها وأنه سبحانه لم يرسل رسله عليهم الصلاة والسلام إلا ليطاعوا بإذنه فتكون الطاعة لهم لا لغيرهم لأن طاعتهم طاعة مرسلهم وفي ضمنه أن من كذب رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم فقد كذب الرسل والمعنى أنك واحد منهم تجب طاعتك وتتعين عليهم كما وجبت طاعة من قبلك من المرسلين فإن كانوا قد أطاعوهم كما زعموا وآمنوا بهم فما لهم لا يطيعونك ويؤمنون بك والإذن ههنا هو الإذن الأمري لا الكوني إذ لو كان إذنا كونيا قدريا لما تخلفت طاعتهم وفي ذكره نكتة

498

وهي أنه بنفس إرساله تتعين طاعته وارساله نفسه إذن في طاعته فلا تتوقف على نص آخر سوى الارسال بأمر فيه بالطاعة بل متى تحققت رسالته وجبت طاعته فرسالته نفسها متضمنة للاذن في الطاعة ويصح أن يكون الإذن ههنا إذنا كونيا قدريا ويكون المعنى ليطاع بتوفيق الله وهدايته فتضمن الآية الأمرين الشرع والقدر ويكون فيها دليل على أن أحدا لا يطيع رسله إلا بتوفيقه وارشاده وهدايته وهذا حسن جدا والمقصود أن الغاية من الرسل هي طاعتهم ومتابعتهم فإذا كانت الطاعة المتابعة لغيرهم لم تحصل الفائدة المقصودة من ارسالهم وقوله ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستفغروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما قال ابن القيم لما علم سبحانه ان المرسل إليهم لا بد لهم من ظلم لأنفسهم واتباع لأهوائهم أرشدهم إلى ما يدفع عنهم شر ذلك الظلم وموجبه وهو شيئان أحدهما منهم وهو استغفارهم ربهم عز وجل والثاني من غيرهم وهو استغفار الرسول صلى الله عليه وسلم لهم إذا جاؤوه وانقادوا له واعترفوا بظلمهم فمتى فعلوا ذلك وجدوا الله توابا رحيما يتوب عليهم فيمحو أثر سيئاتهم ويقيهم شرها ويزيدهم مع ذلك رحمته وبره واحسانه فإن قلت فما حظ من ظلم نفسه بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم من هذه الآية وهل كلام بعض الناس في دعوى المجيء إلى قبره صلى الله عليه وسلم والاستغفار عنده والاستشفاع به والإستدلال بهذه الآية على ذلك صحيح أم لا قيل أما حظ من ظلم نفسه بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم من هذه الآية

499

فالاستغفار وأن يتوب إلى الله توبة نصوحا في كل زمان ومكان ولا يشترط في صحة التوبة المجيء الى قبره والاستغفار عنده بالإجماع وأما المجيء إلى قبره والاستغفار عنده والاستشفاع به والاستدلال بالآية على ذلك فهو استدلال على ما لا تدل الآية عليه بوجه من وجوه الدلالات لأنه ليس في الآية الا المجيء إليه صلى الله عليه وسلم لا المجيء إلى قبره واستغفاره لهم لاستشفاعهم به بعد موته فعلم أن ذلك باطل يوضح ذلك أن الصحابة الذين هم أعلم الناس بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ما فهموا هذا من الآية فعلم أن ذلك بدعة وأكثر ما استدل به من أجاز ذلك رواية العتبي عن أعرابي مجهول على أن القصة لا نعلم لها اسنادا ومثل هذا لو كان حديثا أو أثرا عن صحابي لم يجز الاحتجاج به ولم يلزمنا حكمه لعدم صحته فكيف يجوز الاحتجاج في هذا بقصة لا تصح عن بدوي لا يعرف ثم قال تعالى فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما قال ابن القيم أقسم سبحانه بأجل مقسم به وهو نفسه عز وجل على أنه لا يثبت لهم الايمان ولا يكونون من أهله حتى يحكم لرسوله صلى الله عليه وسلم في جميع موارد النزاع وفي جميع أبواب الدين فإن لفظة ما من صيغ العموم ولم يقتصر على هذا حتى ضم اليه انشراح صدورهم بحكمه بحيث لا يجدون في أنفسهم حرجا وهو الضيق والحصر من حكمه بل يقبلون حكمه بالإنشراح ويقابلونه بالقبول لا يأخذونه على إغماض ويشربونه على قذى فإن هذا مناف للإيمان بل لابد أن يكون أخذه بقبول ورضى وانشراح صدر ومتى أراد العبد شاهدا فلينظر في حاله ويطالع

500

قلبه عند ورود حكمه على خلاف هواه وغرضه أو على خلاف ما قلد فيه أسلافه من المسائل الكبار وما دونها بل الانسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره فسبحان الله كم من حزازة في نفوس كثير من النصوص وبودهم أن لو لم ترد وكم من حرارة في أكبادهم منها وكم من شجى في حلوقهم من موردها ثم لم يقتصر سبحانه على ذلك حتى ضم اليه قوله ويسلموا تسليما فذكر الفعل مؤكدا له بالمصدر القائم مقام ذكره مرتين وهو الخضوع والانقياد لما حكم به طوعا ورضى وتسليما لا قهرا أو مصابرة كما يسلم المقهور لمن قهره كرها بل تسليم عبد مطيع لمولاه وسيده الذي هو أحب شيء اليه يعلم أن سعادته وفلاحه في تسليماته انتهى وقد ورد في الصحيح أن سبب نزولها قصة الزبير لما اختصم هو والأنصاري في شراج الحرة ولكن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فإذا كان سبب نزولها مخاصمة في مسيل ماء قضى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقضاء فلم يرضه الأنصاري فنفى تعالى عنه الإيمان بذلك فما ظنك بمن لم يرض بقضائه صلى الله عليه وسلم وأحكامه في أصول الدين وفروعه بل إذا دعوا إلى ذلك تولوا وهم معرضون ولم يكفهم ذلك حتى صدوا الناس عنه ولم يكفهم ذلك حتى كفروا أو بدعوا من اتبعه صلى الله عليه وسلم وحكمه في أصول الدين وفروعه ورضي بحكمه في ذلك ولم يبغ عنه حولا وقوله تعالى ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه الا قليل منهم المعنى والله أعلم أي لو اوجبنا عليهم مثل ما أوجبنا على بني اسرائيل من

501

قتلهم أنفسهم أو خروجهم من ديارهم حين استتبوا من عبادة العجل ما فعلوه إلا قليل منهم وهذا توبيخ لمن لم يحكم الرسول صلى الله عليه وسلم في موارد الشجار أي نحن لم نكتب عليهم ذلك بل إنما أوجبنا عليهم ما في وسعهم فما لهم لا يحكمونك ولا يرضون بحكمك ثم قال تعالى ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا واذا لآتيناهم من لدنا أجرا عظيما ولهديناهم صراطا مستقيما قال ابن القيم أخبر تعالى أنهم لو فعلوا ما يعظهم به وهو امره ونهيه المقرون بوعده ووعيده لكان فعل أمره وترك نهيه خيرا لهم في دينهم ودنياهم وأشد تثبيتا لهم على الحق وتحقيقا لإيمانهم وقوة لعزائمهم واراداتهم وثباتا لقلوبهم عند جيوش الباطل وعند واردات الشبهات المضلة والشهوات المردية فطاعة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم هي سبب ثبات القلب وقوته وقوة عزائمه وثبات القلب عليها ومخالفته تثمر زيغ القلب واضطرابه وعدم ثباته ثم قال تعالى وإذا لآتيناهم من لدنا أجرا عظيما ولهديناهم صراطا مستقيما فهذه أربعة أنواع من الجزاء المرتب على طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم أحدها حصول الخير المطلق بها الثاني التثبت والقوة المتضمن للنصر والغلبة والثالث حصول الأجر العظيم لهم في الآخرة والرابع هدايتهم الصراط المستقيم وهذه الهداية هي هداية ثانية اوجبتها طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم فطاعته صلى الله عليه وسلم ثمرة الهداية السابقة عليها فهي محفوفة بهدايتين هداية قبلها وهي سبب الطاعة وهداية بعدها هي ثمرة لها وهذا يدل على انتفاء هذه الأمور الأربعة عند انتفاء طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم

502

ثم قال تعالى ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا قال ابن القيم فأخبر سبحانه أن طاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم توجب مرافقة المنعم عليهم وهم أهل السعادة الكاملة وهم أربعة أصناف النبيون وهم أفضلهم ثم الصديقون وهم بعدهم في الدرجة ثم الشهداء ثم الصالحون فهؤلاء المنعم عليهم النعمة التامة وهم السعداء الفائزون ولا فلاح لأحد إلا بمرافقتهم والكون معهم ولا سبيل إلى مرافقتهم إلا بطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم ولا سبيل اليها إلا بمعرفة سنته وما جاء به فدل على أن من عدم العلم بسنته وما جاء به فليس له إلى مرافقة هؤلاء سبيل بل هو ممن يعض على يديه يوم القيامة ويقول ياليتني اتخذت مع الرسول سبيلا قلت ما لمن لم يحكم الرسول صلى الله عليه وسلم في موارد النزاع إلى مرافقة هؤلاء المنعم عليهم سبيل وكيف يكون له سبيل إلى ذلك وعنده أن من حكم الرسول صلى الله عليه وسلم في موارد النزاع فهو إما زنديق أو مبتدع وأنى له بطاعة الله ورسوله وهذا أصل اعتقاده الذي بنى عليه دينه ومع ذلك يحسبون أنهم مهتدون إذا حكموا غير الرسول صلى الله عليه وسلم ونبذوا حكمه وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون قال المصنف وقوله ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها قال أبو بكر بن عياش في الآية إن الله بعث محمدا صلى الله عليه وسلم إلى أهل الأرض وهم في فساد فأصلحهم الله بمحمد صلى الله عليه وسلم فمن دعا الى خلاف ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فهو من المفسدين في الأرض وقال ابن القيم قال أكثر المفسرين لا تفسدوا فيها بالمعاصي والدعاء إلى غير طاعة الله بعد إصلاح الله إياها ببعث الرسل وبيان

503

الشريعة والدعاء الى طاعة الله فإن عبادة غير الله والدعوة الى غيره والشرك به هو أعظم فساد في الأرض بل فساد الأرض في الحقيقة إنما هو بالشرك به ومخالفة أمره فالشرك والدعوة الى غير الله وإقامة معبود غيره ومطاع متبع غير رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أعظم الفساد في الأرض ولا صلاح لها ولا لأهلها إلا أن يكون الله وحده هوالمعبود والدعوة له لا لغيره والطاعة والاتباع لرسوله ليس إلا وغيره إنما تجب طاعته اذا أمر بطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم فإذا أمر بمعصيته وخلاف شريعته فلا سمع له ولا طاعة ومن تدبر أحوال العالم وجد كل صلاح في الارض فسببه توحيد الله وعبادته وطاعة رسوله وكل شر في العالم وفتنة وبلاء وقحط وتسليط عدو وغير ذلك فسببه مخالفة رسوله والدعوة الى غير الله ورسوله انتهى وبهذا يتبين وجه مطابقة الآية للترجمة لأن من يدعو الى التحاكم إلى غير ما أنزل الله والى الرسول فقد أتى بأعظم الفساد قال وقوله واذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا انما نحن مصلحون قال ابو العالية في الآية يعني لا تعصوا في الأرض وكان فسادهم ذلك معصية الله لأن من عصى الله في الأرض أو أمر بمعصية الله فقد أفسد في الأرض لأن صلاح الارض والسماء بالطاعة قلت ومطابقة الآية للترجمة ظاهر لأن من دعا إلى التحاكم الى غير ما أنزل الله فقد أتى بأعظم الفساد وفي الآية دليل على وجوب اطراح الرأي مع السنة وإن ادعى صاحبه أنه مصلح وأن دعوى الإصلاح ليس بعذر في ترك ما أنزل الله والحذر من العجب بالرأي

504

قال وقوله أفحكم الجاهلية يبغون الآية قال ابن كثير ينكر تعالى على من خرج عن حكم الله تعالى المشتمل على كل خير وعدل الناهي عن كل شر إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات كما يحكم به التتار من السياسات المأخوذة عن جنكز خان الذي وضع لهم كتابا مجموعا من أحكام اقتبسها من شرائع شتى من الملة الاسلامية وغيرها وفيا كثير من الأحكام أخذها عن مجرد نظره فصار في بنيه شرعا يقدمونه على الحكم بالكتاب والسنة ومن فعل ذلك فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله فلا يحكم سواه في قليل ولا كثير قال تعالى أفحكم الجاهلية يبغون أي يريدون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون أي ومن أعدل من الله في حكمه لمن عقل عن الله شرعه وآمن وأيقن وعلم أنه تعالى أحكم الحاكمين وأرحم بعباده من الوالدة بولدها فإنه تعالى العالم بكل شيء القادر على كل شيء العادل في كل شيء قلت وفي الآية إشارة إلى أن من ابتغى غير حكم الله ورسوله فقد ابتغى حكم الجاهلية كائنا ما كان قال عن عبدالله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به قال النووي حديث صحيح رويناه في كتاب الحجة باسناد صحيح ش هذا الحديث رواه الشيخ أبو الفتح نصر بن ابراهيم المقدسي الشافعي في كتاب الحجة على تارك المحجة باسناد صحيح كما قال

505

المصنف عن النووي وهو كتاب يتضمن ذكر أصول الدين على قواعد أهل الحديث والسنة ورواه الطبراني أبو بكر بن عاصم والحافظ وأبو نعيم في الأربعين التي شرط في أولها أن تكون من صحاح الأخبار وقال ابن رجب تصحيح هذا الحديث بعيد جدا من وجوه ذكرها وتعقبه بعضهم قلت ومعناه صحيح قطعا وإن لم يصح اسناده وأصله في القرآن كثير كقوله تعالى فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم الآية وقوله وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم وقوله فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم وغير ذلك من الآيات فلا يضر عدم صحة اسناده قوله لا يؤمن أحدكم أي لا يحصل له الإيمان الواجب ولا يكون من أهله قوله حتى يكون هواه تبعا لما جئت به قال بعضهم هواه بالقصر أي ما يهواه أي تحبه نفسه وتميل اليه ثم المعروف في استعمال الهوى عند الاطلاق أنه الميل الى خلاف الحق ومنه ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله وقد يطلق على الميل والمحبة ليشمل الميل للحق وغيره وربما استعمل في محبة الحق خاصة والانقياد اليه كما في حديث صفوان بن عسال أنه سئل هل سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الهوى الحديث قال ابن

506

رجب أما معنى الحديث فهو أن الانسان لا يكون مؤمنا كامل الإيمان الواجب حتى تكون محبته تابعة لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من الأوامر والنواهي وغيرها فيحب ما أمر به ويكره ما نهى عنه وقد ورد القرآن بمثل هذا في غير موضع وذم سبحانه من كره ما احبه الله تعالى أو أحب ما كره الله كما قال ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم وقال ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم فالواجب على كل مؤمن أن يحب ما أحبه الله محبة توجب له الاتيان بما وجب عليه منه فإن زادت المحبة حتى أتى بما ندب اليه منه كان ذلك فضلا وأن يكره ما كرهه الله كراهة توجب له الكف عما حرم عليه منه فازدادت الكراهة حتى أوجبت الكف عما كرهه تنزيها كان ذلك فضلا فمن أحب الله ورسوله محبة صادقة من قلبه أوجب ذلك له أن يحب بقلبه ما يحبه الله ورسوله ويكره ما يكرهه الله ورسوله ويرضي بما يرضي به الله ورسوله ويسخط ما يسخط الله ورسوله وأن يعمل بجوارحه بمقتضى هذا الحب والبغض فإن عمل بجوارحه شيئا يخالف ذلك بأن ارتكب بعض ما يكرهه الله ورسوله أو ترك بعض ما يحبه الله ورسوله مع وجوبه والقدرة عليه دل ذلك على نقص محبته الواجبة فعليه أن يتوب من ذلك ورجع الى تكميل المحبة الواجبة فجميع المعاصي تنشأ من تقديم هوى النفس على محبة الله ورسوله وقد وصف الله المشركين باتباع الهوى في مواضع من كتابه فقال تعالى فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم الآية وكذلك البدع إنما

507

تنشأ من تقديم الهوى على الشرع ولهذا سمي أهلها أهل الأهواء وكذلك المعاصي انما تقع من تقديم الهوى على محبة الله ومحبة ما يحبه الله وكذلك حب الأشخاص الواجب فيه أن يكون تبعا لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فيجب علىالمؤمن محبة ما يحبه الله من الملائكة والرسل والصديقين والأنبياء والشهداء والصالحين عموما ولهذا كان علامة وجود حلاوة الإيمان أن يحب المرء لا يحبه إلا لله وتحرم موالاة أعداء الله ومن يكرهه الله عموما وبهذا يكون الدين كله لله ومن أحب لله وأبغض لله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان ومن كان حبه وبغضه وعطاؤه ومنعه لهوى نفسه كان ذلك نقصا في إيمانه الواجب فتجب عليه التوبة من ذلك والرجوع الى اتباع ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من تقديم محبة الله ورسوله وما فيه رضى الله ورسوله على هوى النفس ومرادها انتهى ملخصا ومطابقة الحديث للباب ظاهرة من جهة ان الرجل لا يؤمن حتى يكون هواه تبعا لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم في كل شيء حتى في الحكم وغير فإذا حكم بحكم أو قضى بقضاء فهو الحق الذي لا محيد للمؤمن عنه ولا اختيار له بعده قال المصنف وقال الشعبي كان بين رجل من المنافقين ورجل من اليهود خصومة فقال اليهودي نتحاكم الى محمد عرف أنه لا يأخذ الرشوة وقال المنافق نتحاكم الى اليهود لعلمه أنهم يأخذون الرشوة فاتفقا على أن يأتيا كاهنا في جهينة فيتحاكما اليه فنزلت ألم تر الى الذين يزعمون الآية ش هذا الأثر رواه ابن جرير وابن المنذر بنحوه قوله كان بين رجل من المنافقين ورجل من اليهود خصومة لم أقف على تسمية

508

هذين الرجلين وقد روى ابن اسحق وابن المنذر وابن أبي حاتم قال كان بين الجلاس بن الصامت قبل توبته ومعتب بن قشير ورافع بن زيد وبشير كانوا يدعون الإسلام فدعاهم رجال من قومهم من المسلمين في خصومة كانت بينهم إلى رسول الله صلى الله عيله وسلم فدعوهم الى الكهان حكام الجاهلية فأنزل الله فيهم ألم تر إلى الذين يزعمون الآية فيحتمل أن يكون المنافق المذكور في قصة الشعبي أحد هؤلاء بل روى الثعلبي عن ابن عباس أن المنافق اسمه بشر قوله عرف أنه لا يأخذ الرشوة هي بتثليث الراء قال أبو السعادات وهو الوصلة الى الحاجة بالمصانعة وأصله من الرشاء الذي يتوصل به الى الماء والراشي من يعطي الذي يعينه على الباطل والمرتشي الآخذ قلت فعلى هذا رشوه الحاكم هي ما يعطاه ليحكم بالباطل سواء طلبها أم لا وفيه دليل على شهادة أن محمدا رسول الله لأن أعداءه يعلمون عدله في الأحكام ونزاهته عن قذر الرشوة صلى الله عليه وسلم بخلاف حكام الباطل قوله فاتفقا على أن يأتيا كاهنا في جهينة لم أقف على تسمية هذا الكاهن وفي قصة رواها ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي في سبب نزول الآية قال فتفاخرت النضير وقريظة فقالت النضير نحن أكرم من قريظة وقالت قريظة نحن أكرم منكم فدخلوا المدينة إلي أبي برزة الكاهن الأسلمي وفي بعض النسخ أبي بردة الأسلمي وذكر القصة وابو برزة هذا غير أبي برزة الصحابي قال المصنف وقيل نزلت في رجلين اختصما فقال أحدهما نترافع

509

الى النبي صلى الله عليه وسلم وقال الآخر الى كعب بن الأشرف ثم ترافعا الى عمر فذكر له أحدهما القصة فقال للذي لم يرض برسول الله صلى الله عليه وسلم أكذلك قال نعم فضربه بالسيف فقتله ش هذه القصة قد رويت من طرق متعددة من أقربها لسياق المصنف ما رواه الثعلبي وذكره البغوي عن ابن عباس في قوله الم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا الآية قال نزلت في رجل من المنافقين يقال له بشر خاصم يهوديا فدعاه اليهودي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاه المنافق إلى كعب بن الأشرف ثم إنهما احتكما للنبي صلى الله عليه وسلم فقضى لليهودي فلم يرض المنافق وقال تعال نتحاكم إلى عمر بن الخطاب فقال اليهودي لعمر قضى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يرض بقضائه فقال للمنافق أكذلك قال نعم فقال عمر مكانكما حتى أخرج إليكما فدخل عمر فاشتمل على سيفه ثم خرج فضرب عنق المنافق حتى برد ثم قال هكذا أقضي لمن لم يرض بقضاء الله ورسوله فنزلت وروى الحكيم الترمذي في نوادر الأصول هذه القصة عن مكحول وقال في آخرها فأتى جبريل عليه السلام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إن عمر قد قتل الرجل وفرق الله بين الحق والباطل على لسان عمر فسمي الفاروق ورواه أبو إسحاق بن دحيم في تفسيره على ما ذكره شيخ الاسلام وابن كثير ورواه ابن أبي حاتم وابن مردوية من طريق ابن لهيعة عن أبي الأسود وذكر القصة وفيه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كنت أظن أن يجتريء عمر على قتل مؤمن فأنزل الله فلا وربك لا يؤمنون

510

الآية فهدر دم ذلك الرجل وبرىء عمر من قتله فكره الله أن يسن ذلك بعد فقال ولو أنا كتبنا عليهم ان اقتلوا أنفسكم إلى قوله واشد تثبيتا وبالجملة فهذه القصة مشهورة متداولة بين السلف والخلف تداولا يغني عن الاسناد ولها طرق كثيرة ولا يضرها ضعف إسنادها وكعب بن الاشرف المذكور هنا هو طاغوت من رؤساء اليهود وعلمائهم ذكر ابن اسحاق وغيره أنه كان موادعا للنبي صلى الله عليه وسلم في جملة ممن وادعه من يهود المدينة وكان عربيا من بني طي وكانت امه من بني النضير قالوا فلما قتل أهل بدر شق ذلك عليه وذهب الى مكة ورثاهم لقريش وفضل دين الجاهلية على دين الاسلام حتى انزل الله فيه الم تر الى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء اهدى من الذين آمنوا سبيلا ثم لما رجع الى المدينة أخذ ينشد الاشعار يهجو بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وشبب بنساء المسلمين حتى آذاهم حتى قال النبي صلىالله عليه وسلم من لكعب بن الأشرف فانه قد آذى الله ورسوله وذكر قصة قتله وقتله محمد بن مسلمة وابو نائلة وابو عبس بن جبر وعباد بن بشر رضي الله عنهم وفي القصة من الفوائد أن الدعاء الى تحكيم غير الله ورسوله من صفات المنافقين ولو كان الدعاء الى تحكيم امام فاضل ومعرفة أعداء رسول الله صلى الله عليه وسلم بما كان عليه من العلم والعدل في الاحكام وفيها الغضب لله تعالى والشدة في أمر الله كما فعل عمر رضي الله عنه وفيها أن من طعن في احكام النبي صلى الله عليه وسلم أو في شيء من دينه قتل كهذا المنافق بل أولى وفيها جواز تغيير المنكر باليد وإن لم يأذن فيه الإمام وكذلك

511

تعزير من فعل شيئا من المنكرات التي يستحق عليها التعزير لكن إذا كان الإمام لا يرضى بذلك وربما أدى إلى وقوع فرقة أو فتنة فيشترط إذنه في التعزيز فقط وفيها أن معرفة الحق لا تكفي عن العمل والانقياد فإن اليهود يعلمون أن محمدا رسول الله ويتحاكمون إليه في كثير من الامور باب من جحد شيئا من الأسماء والصفات أي من أسماء الله وصفاته والمراد ما حكمه هل هو ناج أو هالك ولما كان تحقيق التوحيد بل التوحيد لا يحصل إلا بالإيمان بالله والإيمان باسمائه وصفاته نبه المصنف على وجوب الإيمان بذلك وأيضا فالتوحيد ثلاثة أنواع توحيد الربوبية وتوحيد الاسماء والصفات وتوحيد العبادة والأولان وسيلة إلى الثالث فهو الغاية والحكمة المقصود بالخلق والأمر وكلها متلازمة فناسب التنبيه على الإيمان بتوحيد الصفات قال وقول الله تعالى وهم يكفرون بالرحمن الآية أي يجحدون هذا الاسم لا أنهم يجحدون الله فإنهم يقرون به كما قال تعالى ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله والمراد بهذا كفار قريش أو طائفة منهم فإنهم جحدوا هذا الاسم عنادا أو جهلا ولهذا لما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي يوم الحديبية اكتب بسم الله الرحمن الرحيم فقالوا

512

لا نعرف الرحمن ولا الرحيم وفي بعض الروايات لا نعرف الرحمن إلا رحمن اليمامة يعنون مسيلمة الكذاب فإنه قبحة الله كان قد تسمى بهذا الاسم وأما كثير من أهل الجاهلية فيقرون بهذا الاسم كما قال بعضهم وما يشأ الرحمن يعقد ويطلق قال ابن كثير وهم يكفرون بالرحمن أي لا يقرون به لانهم يأبون من وصف الله بالرحمن الرحيم ومطابقة الآية للترجمة ظاهره لأن الله تعالى سمى جحود اسم من أسمائه كفرا فدل على أن جحود شيء من أسماء الله وصفاته كفر فمن جحد شيئا من أسماء الله وصفاته من الفلاسفة والجهمية والمعتزلة ونحوهم فله نصيب من الكفر بقدر ما جحد من الاسم أو الصفة فإن الجهمية والمعتزلة ونحوهم وان كانوا يقرون بجنس الأسماء والصفات فعند التحقيق لا يقرون بشيء لأن الأسماء عندهم أعلام محضة لا تدل على صفات قائمة بالرب تبارك وتعالى وهذا نصف كفر الذين جحدوا اسم الرحمن وقوله قل هو ربي لا إله إلا الله هو عليه توكلت وإليه متاب أي قل يا محمد رادا عليهم في كفرهم بالرحمن تبارك وتعالى هو أي الرحمن عز وجل ربي لا اله الا هو أي لا معبود سواه عليه توكلت وإليه متاب أي اليه مرجعي وأوبتي وهو مصدر من قول القائل تبت متابا وتوبة قاله ابن جرير وفي الآية دليل على أن التوكل عبادة وعلى أن التوبة عبادة واذا كان كذلك فالتوبه الى غيره شرك ولما قال سارق وقد قطعت يده للنبي صلى الله عليه وسلم اللهم اني أتوب اليك ولا اتوب الى محمد قال النبي صلى الله عليه وسلم عرف الحق لأهله رواه احمد

513

قال وفي صحيح البخاري قال علي حدثوا الناس بما يعرفون أتريدون أن يكذب الله ورسوله ش هذا الاثر رواه البخاري مسندا لا معلقا لكنه في بعض الروايات علقه أولا ثم ذكر اسناده وفي بعضها ساق اسناده أولا فرواه عن عبيد الله بن موسى عن معروف بن خربوذ عن أبي الطفيل عن علي به ولفظه أتحبون ان يكذب الله ورسوله قوله بما يعرفون أي بما يفهمون قال الحافظ وزاد آدم بن أبي إياس في كتاب العلم له عن عبدالله بن داود عن معروف في آخره ودعوا ما ينكرون أي ما يشتبه عليهم فهمه قال وفيه دليل على أن المتشابه لا ينبغي أن يذكر عند العامة ومثله قول ابن مسعود ما أنت محدثا قوما حديثا لا تبلغه عقولهم الا كان لبعضهم فتنة رواه مسلم قال ومن رأى التحديث ببعض دون بعض أحمد في الأحاديث التي ظاهرها الخروج على السلطان ومالك في احاديث الصفات وأبو يوسف في الغرائب ومن قبلهم أبو هريرة كما تقدم عنه في الجرابين وأن المراد ما يقع من الفتن ونحوه عن حذيفة وعن الحسن أنه أنكر تحديث أنس للحجاج بقصة العرنيين لأنه اتخذها وسيلة الى ما كان يعتمده من المبالغة في سفك الدماء بتأويله الواهي وضابط ذلك أن يكون ظاهر الحديث يقوي البدعة وظاهره في الأصل غير مراد فالإمساك عنه عند من يخشى عليه الأخذ بظاهره مطلوب انتهى وما ذكره عن مالك في أحاديث الصفات ما أظنه يثبت عن مالك وهل في أحاديث الصفات أكثر من آيات الصفات التي في القرآن فهل يقول مالك أو غيره من علماء الاسلام إن

514

آيات الصفات لا تتلى على العوام وما زال العلماء قديما وحديثا من اصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم يقرؤون آيات الصفات وأحاديثها بحضرة عوام المؤمنين وخواصهم بل شرط الإيمان هو الإيمان بالله وصفات كماله التي وصف بها نفسه في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم فكيف يكتم ذلك عن عوام المؤمنين بل نقول من لم يؤمن بذلك فليس من المؤمنين ومن وجد في قبله حرجا من ذلك فهو من المنافقين ولكن هذا من بدع الجهمية وأتباعهم الذين ينفون صفات الرب تبارك وتعالى فلما رأوا أحاديث الصفات مبطلة لمذاهبهم قامعة لبدعهم تواصوا بكتمانها عن عوام المؤمنين لئلا يعلموا ضلالهم وفساد اعتقادهم فاعلم ذلك وفي الأثر دليل على انه إذا خشي ضرر من تحديث الناس ببعض ما يعرفون فلا ينبغي تحديثم به وليس ذلك على اطلاق وإن كثيرا من الدين والسنن يجهله الناس فإذا حدثوا به كذبوا بذلك وأعظموه فلا يترك العالم تحديثهم بل يعلمهم برفق ويدعوهم بالتي هي احسن قال وروى عبدالرزاق عن معمر عن طاوس عن ابيه عن ابن عباس أنه رأى رجلا انتقض لما سمع حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصفات استنكارا لذلك فقال ما فرق هولاء يجدون رقة عند محكمه ويهلكون عند متشابهه انتهى ش قوله روى عبد الرزاق هو ابن همام الصنعاني الإمام الحافظ صاحب التصانيف ك المصنف وغيره روى عنه أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وخلق لا يحصون مات سنة إحدى عشرة ومائتين ومعمر هو ابن راشد الأزدي أبو عروة البصري نزل اليمن ثقة

515

ثبت مات سنة أربع وخمسين ومائة وله ثمان وخمسون سنة وابن طاووس هو عبدالله بن طاووس اليماني ثقة فاضل عابد مات سنة اثنتين وثلاثين ومائة وأبو طاووس بن كيسان اليماني ثقة فقيه فاضل من جلة أصحاب ابن عباس وعلمائهم مات سنة ست ومائة قوله إنه رأى رجلا لم يسم هذا الرجل قوله انتفض أي ارتعد لما سمع حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم فاستنكره إما لأن عقله لا يحتمله أو لكونه اعتقد عدم صحته فأنكره قوله فقال أي ابن عباس وهو عبدالله رضي الله عنه قوله ما فرق هؤلاء يحتمل وجهين أحدهما أن تكون ما استفهامية إنكارية وفرق بفتح الفاء والراء وهو الخوف والفزع أي ما فزع هذا وأضرابه من أحاديث الصفات واستنكارهم لها والمراد الانكار عليهم فإن الواجب على العبد التسليم والاذعان والإيمان بما صح عن الله وعن رسوله صلىالله عليه وسلم وإن لم يحط به علما ولهذا قال الشافعي آمنت بالله وبما جاء عن الله على مراد الله وآمنت برسول الله وما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله والثاني أن يكون بفتح الفاء وتشديد الراء ويجوز تخفيفها وما نافية أي ما فرق هذا واضرابه بين الحق والباطل ولا عرفوا ذلك فلهذا قال يجدون رقة وهي ضد القسوة أي لينا وقبولا للمحكم ويهلكون عند متشابهه أي ما يشتبه عليهم فهمه لأن آيات الصفات هي المتشابه كما تقوله الجهمية ونحوهم ولأن في القرآن متشابها لا يعرف معناه

516

كالألفاظ الأعجمية فإن لفظ التشابه والمتشابه يدل على بطلان ذلك وإنما المراد بالمتشابه أي ما يشتبه فهمه على بعض الناس دون بعض فالمتشابه أمر نسبي اضافي فقد يكون مشتبها بالنسبة الى قوم بينا جليا بالنسبة الى آخرين ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج على قوم يتراجعون في القرآن فغضب وقال بهذا ضلت الأمم قبلكم باختلافهم على أنبيائهم وضرب الكتاب بعضه ببعض وإن القرآن لم ينزل ليكذب بعضه بعضا ولكن نزل لأن يصدق بعضه بعضا فما عرفتم منه فاعملوا به وما تشابه عليكم فآمنوا به رواه ابن سعد وابن الضريس وابن مردويه وأما قوله تعالى هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فقال ابن كثير يخبر تعالى أن في القرآن آيات محكمات أي بينات واضحات الدلالة لا التباس فيها على أحد ومنه آيات أخر فيها اشتباه في الدلالة على كثير من الناس او بعضهم فمن رد ما اشتبه عليه الى الواضح منه وحكم محكمه على متشابهه عنده فقد اهتدى ومن عكس انعكس ولهذا قال هن أم الكتاب أي أصله الذي يرجع اليه عند الاشتباه وأخر متشابهات أي تحتمل دلالتها موافقة المحكم وقد تحتمل أشياء أخرى من حيث اللفظ والتركيب لا من حيث المراد ولهذا قال تعالى فأما الذين في قلوبهم زيغ أي ضلال وخروج عن الحق الى الباطل فيتبعون ما تشابه منه أي إنما يأخذون منه بالمتشابه الذي يمكنهم أن يحرفوه الى مقاصدهم الفاسدة وينزلوه عليها لاحتمال لفظه لما يصرفونه فأما الحكم فلا نصيب لهم فيه لأنه دافع لهم وحجة عليهم ولهذا قال ابتغاء الفتنة أي الاضلال لأتباعهم

517

إيهاما لهم أنهم يحتجون على بدعتهم بالقرآن وهو حجة عليهم لا لهم انتهى وقال ابن عباس فأما الذين في قلوبهم زيغ يعني أهل الشك فيحملون المحكم على المتشابه والمتشابه على المحكم ويلبسون فلبس الله عليهم وما يعلم تأويله إلا الله قال تأويله يوم القيامة لا يعلمه إلا الله رواه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وقوله وما يعلم تأويله الا الله تقدم كلام ابن عباس وقال مقاتل والسدي يبتغون أن يعلموا ما يكون وما عواقب الأشياء من القرآن قلت فهذا التأويل الذي انفرد الله بعلمه هو العلم بحقائق الأشياء وما تؤول اليه وعواقبها كالاخبار بما يكون وما في الجنة من النعيم وما في النار من العذاب فإن هذه الأمور وإن علمناها لكن العلم بحقائقها مما لا يعلمه الا الله ولهذا قال ابن عباس ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء فعلى هذا يكون الوقف على الجلالة كما روي عن جماعة من السلف وقيل الوقف على قوله والراسخون في العلم أي ما يعلم تأويله الا الله والراسخون في العلم فأما أهل الزيغ فلا يعلمون تأويله وعلى هذا فالمراد بتأويله هو تفسيره وفهم معناه وهذا هو المروي عن ابن عباس وجماعة من السلف قال ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس أنا من الراسخين الذين يعلمون تأويله وقال مجاهد والراسخون في العلم يعرفون تأويله ويقولون آمنا به وكذا قال الربيع بن أنس وغيره فقد تبين ولله الحمد أنه ليس في الآية حجة للمبطلين في جعلهم ما أخبر الله به من صفات كماله هو المتشابه ويحتجون على باطلهم بهذه الآية فيقال واين في الآية ما يدل على مطلوبكم وهل جاء نص عن الله أو عن رسوله صلىالله عليه وسلم انه جعل ما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسوله متشابها ولكن أصل ذلك أنهم ظنوا أن التأويل المراد في الآية هو صرف اللفظ عن

518

ظاهره الى ما يحتمله اللفظ لدليل يقترن بذلك وهذا هو اصطلاح كثير من المتأخرين وهو اصطلاح حادث فأرادوا حمل كلام الله على هذا الاصطلاح فضلوا ضلالا بعيدا وظنوا أن لنصوص الصفات تأويلا يخالف ما دلت عليه لا يعلمه إلا لله كما يقوله أهل التجهيل أو يعلمه المتأولون كما يقوله أهل التأويل وفي الأثر المشروح دليل على ذكر آيات الصفات وأحاديثها بحضرة عوام المؤمنين وخواصهم وأن من رد شيئا منها أو استنكره بعد صحته فهو ممن لم يفرق بين الحق والباطل بل هو من الهالكين وأنه ينكر عليه استنكاره قال ولما سمعت قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الرحمن أنكروا ذلك فأنزل الله وهم يكفرون بالرحمن ش هكذا ذكر المصنف هذا الأثر بالمعنى وقد روى ابن جرير وابن المنذر عن ابن جريج في الآية قال هذا لما كاتب رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشا في الحديبية كتب بسم الله الرحمن الرحيم فقالوا لا نكتب الرحمن ولا ندري ما الرحمن ولا نكتب الا باسمك اللهم فأنزل الله وهم يكفرون بالرحمن الآية وفيه دليل على أن من أنكر شيئا من الصفات فهو من الهالكين لأن الواجب على العبد الإيمان بذلك سواء فهمه أم لم يفهمه وسواء قبله عقله أو أنكره فهذا هو الواجب على العبد في كل ما صح عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وهو الذي ذكر الله تعالى عن الراسخين في العلم أنهم يقولون آمنا به كل من عند ربنا

519

باب قول الله تعالى يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها الآية ش المراد بهذه الترجمة التأدب مع جناب الربوبية عن الألفاظ الشركية الخفية كنسبة النعم الى غير الله فإن ذلك باب من أبواب الشرك الخفي وضده باب من أبواب الشكر كما في الحديث الذي رواه ابن حبان في صحيحه عن جابر مرفوعا من أولي معروفا فلم يجد له جزاء إلا الثناء فقد شكره ومن كتمه فقد كفره وفي رواية جيدة لأبي داود من أبلي فذكره فقد شكره ومن كتمه فقد كفره قال المنذري من أبلي أي من أنعم عليه الابلاء الانعام فإذا كان ذكر المعروف الذي يقدره الله على يدي انسان من شكره فذكر معروف رب العالمين وآلائه واحسانه ونسبة ذلك إليه أولى بأن يكون شكرا قال المصنف قال مجاهد ما معناه هو قول الرجل هذا مالي ورثته عن آبائي ش هذا الأثر رواه ابن جرير وابن أبي حاتم لفظه كما في الدر قال المساكن والأنعام وسرابيل الثياب والحديد يعرفه كفار قريش ثم ينكرونه بأن يقولوا هذا كان لآبائنا ورثناه عنهم قال ابن القيم ما معناه لما أضافوا النعمة الى غير الله فقد انكروا نعمة الله بنسبتها الى غيره فإن الذي يقول هذا جاحد لنعمة الله عليه غير معترف بها وهو كالأبرص والأقرع الذين ذكرهما الملك بنعم الله عليهما فأنكراها وقالا إنما ورثنا هذا كابرا عن كابر وكونها موروثة عن الآباء أبلغ في انعام الله عليهم إذ أنعم بها على آبائهم

520

ثم ورثهم إياها فتمتعوا هم وآباؤهم بنعمه وقال عون ابن عبدالله يقولون لولا فلان لم يكن كذا ش هذا الأثر رواه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم ولفظه كما في الدر لولا فلان اصابني كذا وكذا ولولا فلان لم أصب كذا وكذا وعون هذا هو ابن عبدالله بن عتبة بن مسعود الهذلي ابو عبدالله الكوفي ثقة عابد مات قبل سنة عشرين ومائة قوله لولا فلان الى آخره قال ابن القيم ما معناه هذا يتضمن قطع إضافة النعمة عن من لولاه لم تكن وإضافتها الى من لم يملك لنفسه ضرا ولا نفعا فضلا عن غيره وغايته أن يكون جزءا من أجزاء السبب أجرى الله نعمته على يده والسبب لا يستقل بالايجاد وجعله سببا هو من نعم الله عليه فهو المنعم بتلك النعمة وهو المنعم بما جعله من أسبابها فالسبب والمسبب من إنعامه وهو تعالى كما أنه قد ينعم بذلك السبب فقد ينعم بدونه ولا يكون له أثر وقد يسلبه سببيته وقد يجعل لها معارضا يقاومها وقد يرتب على السبب ضد مقتضاه فهو وحده المنعم على الحقيقة قال ابن قتيبة يقولون هذا بشفاعة آلهتنا ش اب قتيبة هو عبدالله بن مسلم بن قتيبة الدينوري الحافظ صاحب التفسير والمعارف وغيرها وثقة الخطيب وغيره ومات سنة سبع وستين ومائتين او قبلها قوله يقولون هذا بشفاعة آلهتنا قال ابن القيم هذا يتضمن الشرك مع إضافة النعمة إلى غير وليها فالآلهة التي تعبد من دون الله أحقر وأذل من أن تشفع عند الله وهي محضرة في الهوان والعذاب مع عابديها وأقرب الخلق

521

إلى الله وأحبهم إليه لا يشفع عنده إلا من بعد إذنه لمن ارتضاه فالشفاعة بإذنه من نعمه فهو المنعم بالشفاعة وهو المنعم بقبولها وهو المنعم بتأهيل المشفوع له إذ ليس كل أحد أهلا أن يشفع له فمن المنعم على الحقيقة سواه قال تعالى وما بكم من نعمة فمن الله فالعبد لا خروج له عن نعمة الله وفضله ومنته وإحسانه طرفة عين لا في الدنيا ولا في الآخرة ولهذا ذم سبحانه من آتاه شيئا من نعمه فقال إنما أوتيته على علم عندي قال المصنف وقال أبو العباس بعد حديث زيد بن خالد الذي فيه أن الله تعالى قال أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر الحديث وقد تقدم وهذا كثير في الكتاب والسنة يذم سبحانه من يضيف إنعامه الى غيره ويشرك به قال بعض السلف هو كقولهم كانت الريح طيبة والملاح حاذقا ونحو ذلك مما هو جار على ألسنة كثير ش قوله وقال أبو العباس هو شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قوله قال بعض السلف لم أقف على تسمية هذا البعض قوله كانت الريح طيبة والملاح حاذقا الملاح هو سائس السفينة والمعنى أن السفن اذا جرين بريح طيبة بأمر الله جريا حسنا نسبوا ذلك الى طيب الريح وحذق الملاح في سياسة السفينة ونسوا ربهم الذي أجرى لهم الفلك في البحر رحمة بهم كما قال تعالى ربكم الذي يزجي لكم الفلك في البحر لتبتغوا من فضله إنه كان بكم رحيما فيكون نسبة ذلك إلى طيب

522

لريح وحذق الملاح من جنس نسبة المطر الى الأنواء وإن كان المتكلم بذلك لم يقصد أن الريح والملاح هو الفاعل لذلك من دون خلق الله وأمره وإنما اراد أنه سبب لكن لا ينبغي أن يضيف ذلك إلا إلى الله وحده لأن غاية الأمر في ذلك أن يكون الريح والملاح سببا أو جزء وسبب ولو شاء الرب تبارك وتعالى لسلبه سببيته فلم يكن سببا أصلا فلا يليق بالمنعم عليه المطلوب منه الشكر أن ينسى من بيده الخير كله وهو على كل شيء قدير ويضيف النعم إلى غيره بل يذكرها مضافة منسوبة إلى مولاها والمنعم بها وهو المنعم على الإطلاق كما قال تعالى وما بكم من نعمة فمن الله فهو المنعم بجميع النعم في الدنيا والآخرة وحده لا شريك له فإن ذلك من شكرها وضده من انكارها ولا ينافي ذلك الدعاء والإحسان الى من كان سببا أو جزء سبب في بعض ما يصل إليك من النعم من الخلق قال المصنف وفيه اجتماع الضدين في القلب باب قول الله فلا تجعلوا لله اندادا وأنتم تعلمون اعلم أن من تحقيق التوحيد الاحتراز من الشرك بالله في الألفاظ وإن لم يقصد المتكلم بها معنى لا يجوز بل ربما تجري على لسانه من غير قصد كمن يجري على لسانه ألفاظ من أنواع الشرك الأصغر لا يقصدها فإن قيل الآية نزلت في الأكبر

523

قيل السلف يحتجون بما نزل في الأكبر على الأصغر كما فسرها ابن عباس وغيره فيما ذكره المصنف عنه بأنواع من الشرك الأصغر وفسرها أيضا بالشرك الأكبر وفسرها غيره بشرك الطاعة وذلك لأن الكل شرك ومعنى الآية أن الله تبارك وتعالى نهى الناس أن يجعلوا له أندادا اي امثالا في العبادة والطاعة وهم يعلمون ان الذي فعل تلك الأفعال فهو ربهم وخالقهم وخالق من قبلهم وجاعل على الأرض فراشا والسماء بناء والذي انزل من السماء ماء فأخرج به من أنواع الشراب رزقا لهم فإذا كنتم تعلمون ذلك فلا تجعلوا له أندادا قال ابن القيم فتأمل هذه وشدة لزومها لتلك المقدمات قبلها وظفر العقل بها بأول وهلة وخلوصها من كل شبهة وريب وقادح إذا كان الله وحده هو الذي فعل هذه الأفعال فكيف تجعلون له أندادا وقد علمتم انه لا ند له يشاركه في فعله قال المصنف قال ابن عباس في الآية الأنداد هو الشرك أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ظلمة الليل وهو ان تقول والله وحياتك يا فلانة وحياتي وتقول لولا كلبة هذا لأتانا اللصوص ولولا البط في الدار لأتى اللصوص وقول الرجل لصاحبه ما شاء الله وشئت وقول الرجل لو لا الله وفلان لا تجعل فيها فلان هذا كله به شرك رواه ابن أبي حاتم ش هذا الأثر رواه ابن أبي حاتم كما قال المصنف وسنده جيد قوله هو الشرك اخفى من دبيب النمل الى آخره أي إن هذه الأمور من الشرك خفية في الناس لا يكاد يتفطن لها ولا يعرفها الا القليل وضرب المثل لخفائها بما هو أخفى شيء وهو أثر النمل فإنه خفي فكيف إذا كان على صفاة فكيف إذا كانت سوداء فكيف إذا كانت في ظلمة الليل وهذا

524

يدل على شدة خفائه على من يدعي الاسلام وعسر التخلص منه ولهذا جاء في حديث أبي موسى قال خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال ايها الناس اتقوا هذا الشرك فإنه أخفى من دبيب النمل فقال له من شاء الله أن يقول وكيف نتقيه وهو أخفى من دبيب النمل يا رسول الله قال قولوا اللهم إنا نعوذ بك أن نشرك بك شيئا نعلمه ونستغفرك لما لا نعلمه رواه أحمد والطبراني قوله وهو أن تقول والله وحياتك يا فلانة وحياتي اي إن من الحلف بغير الله الحلف بحياة المخلوق وسيأتي الكلام عليه قوله وتقول لولا كلبة هذا لأتانا اللصوص اي السراق والمعنى إن من الشرك نسبة عدم السرقة الى الكلبة التي اذا رأت السراق نبحتهم فاستيقظ أهلها وهرب السراق وربما امتنعوا من اتيان المحل الذي هي فيه خوفا من نباحها فيعلم بهم اهلها كما روى بن أبي الدنيا في الصمت عن ابن عباس قال إن أحدكم ليشرك حتى يشرك بكلبه يقول لولاه لسرقنا الليلة قوله ولولا البط في الدار لأتى اللصوص البط بفتح الموحدة طائر معروف يتخذ في البيوت وإذا دخلها غريب صلح واستنكره وهو الاوز بكسر الهمزة وفتح الواو ومعناها كالذي قبله والواجب نسبة ذلك الى الله تعالى فهو الذي يحفظ عباده ويكلؤهم بالليل والنهار كما قال تعالى قل من يكلؤكم بالليل والنهار من الرحمن بل هم عن ذكر ربهم معرضون قوله وقول الرجل لصاحبه ما شاء الله وشئت سيأتي الكلام عليها إن شاء الله

525

قوله وقول الرجل لولا الله وفلان لا تجعل فيها فلان هكذا ثبت بخط المصنف بلا تنوين والمعنى لا تجعل فيها أي في هذه الكلمة فلان فتقول لولا الله وفلان بل قل لولا الله وحده ولا تقل لولا الله وفلان فهو نهي عن ذلك قوله هذا كله به أي بالله شرك وأعاد الضمير على الله لانه قد تقدم ذكر اسمه عز وجل فتبين أن هذه الأمور ونحوها من الألفاظ الشركية الخفية كما نص عليه ابن عباس رضي الله عنه قال وعن عمر بن الخطاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك رواه الترمذي وحسنه وصححه الحاكم ش قوله عن عمر بن الخطاب هكذا وقع في الكتاب وصوابه عن ابن عمر كذلك أخرجه احمد وأبو داود والترمذي والحاكم وصححه ابن حبان وقال الزين العراقي في اماليه إسناده ثقات قوله من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك قال بعضهم ما معناه رواه الترمذي بأوالتي للشك وفي ابن حبان والحاكم عدمها وفي رواية للحاكم كل يمين يحلف بها دون الله شرك وفي الصحيحين من حديث ابن عمر مرفوعا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت وعن بريدة مرفوعا من حلف بالأمانة فليس منا رواه أبو داود والأحاديث في ذلك كثيرة وقد تقدم كلام ابن عباس في عده ذلك من الأنداد وقال كعب إنكم تشركون في قول الرجل كلا وأبيك كلا والكعبة كلا وحياتك وأشباه هذا احلف بالله صادقا أو كاذبا ولا تحلف بغيره رواه ابن أبي الدنيا في الصمت

526

وأجمع العلماء على أن اليمين لا تكون إلا بالله أو بصفاته وأجمعوا على المنع من الحلف بغيره قال ابن عبد البر لا يجوز الحلف بغير الله بالاجماع انتهى ولا اعتبار بمن قال من المتأخرين إن ذلك على سبيل كراهة التنزيه فإن هذا قول باطل وكيف يقال ذلك لما أطلق عليه الرسول صلى الله عليه وسلم أنه كفر أو شرك بل ذلك محرم ولهذا اختار ابن مسعود رضي الله عنه أن يحلف بالله كاذبا ولا يحلف بغيره صادقا فهذا يدل على أن الحلف بغير الله أكبر من الكذب مع أن الكذب من المحرمات في جميع الملل فدل ذلك أن الحلف بغير الله من أكبر المحرمات فإن قيل أن الله تعالى أقسم بالمخلوقات في القرآن قيل ذلك يختص بالله تبارك وتعالى فهو يقسم بما شاء من خلقه لما في ذلك من الدلالة على قدرة الرب ووحدانيته والهيته وعلمه وحكمته وغير ذلك من صفات كماله وأما المخلوق فلا يقسم إلا بالخالق تعالى فالله تعالى يقسم بما يشاء من خلقه وقد نهانا عن الحلف بغيره فيجب على العبد التسليم والإذعان لما جاء من عند الله قال الشعبي الخالق يقسم بما شاء من خلقه والمخلوق لا يقسم إلا بالخالق قال ولأن أقسم بالله فأحنث أحب إلى من ان أقسم بغيره فأبر وقال مطرف بن عبد الله إنما أقسم الله بهذه الأشياء ليعجب بها المخلوقين ويعرفهم قدرته لعظم شأنها عندهم ولدلالتها على خالقها ذكرهما ابن جرير فان قيل قد جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للأعرابي الذي سأله عن أمور الاسلام فأخبره فقال النبي صلى الله عليه وسلم أفلح وأبيه إن صدق رواه البخاري وقال للذي سأله أي الصدقة أفضل أما وأبيك لتنبأنه

527

رواه مسلم ونحو ذلك من الأحاديث قيل ذكر العلماء عن ذلك اجوبة أحدها ما قاله ابن عبد البر في قوله أفلح وأبيه إن صدق هذه اللفظة غير محفوظة وقد جاءت عن راويها اسماعيل بن جعفر أفلح والله إن صدق قال وهذا أولى من رواية من روى عنه بلفظ أفلح وأبيه لأنها لفظة منكرة تردها الآثار الصحاح ولم تقع في رواية مالك أصلا وزعم بعضهم أن بعض الرواة عنه صحف قوله وابيه من قوله والله انتهى وهذا جواب عن هذا الحديث الواحد فقط ولا يمكن أن يجاب به عن غيره الثاني أن هذا اللفظ كان يجري على ألسنتهم من غير قصد للقسم به والنهي وإنما ورد في حق من قصد حقيقة الحلف ذكره البيهقي وقال النووي إنه المرضى قلت هذا جواب فاسد بل أحاديث النهي عامة مطلقة ليس فيها تفريق بين من قصد القسم وبين من لم يقصد ويؤيد ذلك أن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه حلف مرة باللات والعزى ويبعد ان يكون أراد حقيقة الحلف بهما ولكنه جرى على لسانه من غير قصد على ما كانوا يعتادونه قبل ذلك ومع هذا نهاه النبي صلى الله عليه وسلم غاية ما يقال أن من جرى ذلك على لسانه من غير قصد معفو عنه أما أن يكون ذلك أمرا جائزا للمسلم أن يعتاده فكلا وايضا فهذا يحتاج إلى نقل ان ذلك كان يجري على ألسنتهم من غير قصد للقسم وأن النهي إنما ورد في حق من قصد حقيقة الحلف وأنى يوجد ذلك

528

الثالث أن مثل ذلك يقصد به التأكيد لا التعظيم وانما وقع النهي عما يقصد به التعظيم قلت وهذا افسد من الذي قبله وكأن من قال ذلك لم يتصور ما قال فهل يراد بالحلف إلا تأكيد المحلوف عليه بذكر من يعظمه الحالف والمحلوف له فتأكيد المحلوف عليه بذكر المحلوف به مستلزم لتعظيمه وايضا فالأحاديث مطلقة ليس فيها تفريق وأيضا فهذا يحتاج الى نقل أن ذلك جائز للتأكيد دون التعظيم وذلك معدوم الرابع أن هذا كان في أول الأمر ثم نسخ فما جاء من الأحاديث فيه ذكر شيء من الحلف بغير الله فهو قبل النسخ ثم نسخ ذلك ونهي عن الحلف بغير الله وهذا الجواب ذكره الماوردي قال السهيلي أكثر الشراح عليه حتى قال ابن العربي روي أنه صلى الله عليه وسلم كان يحلف بأبيه حتى نهي عن ذلك قال السهيلي ولا يصح ذلك وكذلك قال غيرهم وهذا الجواب هو الحق يؤيده أن ذلك كان مستعملا شائعا حتى ورد النهي عن ذلك كما في حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم أدرك عمر بن الخطاب يسير في ركب يحلف بأبيه فقال ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت رواه البخاري ومسلم وعنه أيضا قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من كان حالفا فلا يحلف الا بالله وكانت قريش تحلف بآبائها فقال ولا تحلفوا بآبائكم رواه مسلم وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال حلفت مرة باللات والعزى فقال النبي صلى الله عليه وسلم قل لا إله إلا الله وحده لا شريك له ثم انفث عن يسارك ثلاثا وتعوذ ولا تعد رواه النسائي وابن ماجه وهذا لفظه وفي هذا المعنى أحاديث فما ورد

529

فيه ذكر الحلف بغير الله فهو جار على العادة قبل النهي لأن ذلك هو الأصل حتى ورد النهي عن ذلك وقوله فقد كفر أو أشرك أخذ به طائفة من العلماء فقالوا يكفر من حلف بغير الله كفر شرك قالوا ولهذا أمره النبي صلى الله عليه وسلم بتجديد إسلامه بقول لا إله إلا الله فلولا أنه كفر ينقل عن الملة لم يؤمر بذلك وقال الجمهور لا يكفر كفرا ينقله عن الملة لكنه من الشرك الأصغر كما نص على ذلك ابن عباس وغيره وأما كونه أمر من حلف باللات والعزى أن يقول لا إله إلا الله فلأن هذا كفارة له مع استغفاره كما قال في الحديث الصحيح من حلف فقال في حلفه واللات والعزى فليقل لا إله إلا الله وفي رواية فليستغفر فهذا كفارة له في كونه تعاطي صورة تعظيم الصنم حيث حلف به لاأنه لتجديد إسلامه ولو قدر ذلك فهو تجديد لإسلامه لنقصه بذلك لا لكفره لكن الذي يفعله عباد القبور إذا طلبت من أحدهم اليمين بالله أعطاك ما شئت من الإيمان صادقا أو كاذبا فإذا طلبت منه اليمين بالشيخ أرتربته أو حياته ونحو ذلك لم يقدم على اليمين به إن كان كاذبا فهذا شرك أكبر بلا ريب لأن المحلوف به عنده أخوف وأجل وأعظم من الله وهذا ما بلغ اليه شرك عباد الأصنام لأن جهد اليمين عندهم هو الحلف بالله كما قال تعالى وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت فمن كان جهد يمينه الحلف بالشيخ أو بحياته أو تربته فهو أكبر شركا منهم فهذا هو تفصيل القول في هذه المسألة والحديث دليل على أنه لا تجب الكفارة بالحلف بغير الله مطلقا لأنه لم يذكر فيه كفارة للحلف بغير الله

530

ولا في غيره من الأحاديث فليس فيه كفارة إلا النطق بكلمة التوحيد والاستغفار وقال بعض المتأخرين تجب الكفارة بالحلف برسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة وهذا قول باطل ما أنزل الله به من سلطان فلا يلتفت اليه وجوابه المنع قال المصنف وقال ابن مسعود لأن أحلف بالله كاذبا أحب إلي من أن أحلف بغيره صادقا ش هكذا ذكر المصنف هذا الأثر عن ابن مسعود ولم يعزه وقد ذكره ابن جرير غير مسند أيضا قال وقد جاء عن ابن عباس وابن عمر نحوه ورواه الطبراني باسناد موقوفا هكذا قال المنذري ورواته رواة الصحيح قوله لأن أحلف بالله إلى آخره أن هي المصدرية والفعل بعدها منصوب في تأويل مصدر مرفوع على الابتداء وأحب خبره ومعناه ظاهر وانما رجح ابن مسعود رضي الله عنه الحلف بالله كاذبا على الحلف بغيره صادقا لأن الحلف بالله توحيد والحلف بغيره شرك وإن قدر الصدق في الحلف بغير الله فحسنة التوحيد أعظم من حسنة الصدق وسيئة الكذب اسهل من سيئة الشرك ذكره شيخ الاسلام وفيه دليل على أن الحلف بغير الله صادقا أعظم من اليمين الغموس وفيه دليل على أن الشرك الأصغر اكبر من الكبائر وفيه شاهد للقاعدة المشهورة وهي ارتكاب أقل الشرين ضررا إذا كان لا بد من أحدهما قال وعن حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا تقولوا ما شاء الله وشاء فلان ولكن قولوا ما شاء الله ثم شاء فلان رواه أبو داود بسند صحيح ش هذا الحديث رواه ابو داود كما قال المصنف ورواه أحمد وابن أبي

531

شيبة والنسائي وابن ماجه والبيهقي وله علة وله شواهد وهو صحيح المعنى بلا ريب وسيأتي الكلام على معناه في باب ما شاء الله وشئت إن شاء الله قال وجاء عن إبراهيم النخعي أنه يكره أن يقول الرجل أعوذ بالله وبك ويجوز أن يقول بالله ثم بك قال ويقول لولا الله ثم فلان ولا تقولوا لولا الله وفلان هذا الأثر رواه المصنف غير معزو وقد رواه عبدالرزاق وابن أبي الدنيا في كتاب الصمت عن مغيرة قال كان ابراهيم يكره أن يقول الرجل أعوذ بالله وبك ويرخص أن يقول أعوذ بالله ثم بك ويكره أن يقول لولا الله وفلان ويرخص أن يقول لولا الله ثم فلان لفظ ابن أبي الدنيا وذلك والله أعلم لأن الواو تقتضي مطلق الجمع فمنع منها للجمع لئلا توهم الجمع بين الله وبين غيره كما منع من جمع اسم الله واسم رسوله في ضمير واحد وثم إنما تقتضي الترتيب فقط فجاز ذلك لعدم المانع ومطابقة الحديثين والأثرين للترجمة ظاهرة على ما فسر به ابن عباس رضي الله عنه الآية باب ما جاء فيمن لم يقنع بالحلف بالله أي من الوعيد لأن ذلك يدل على قلة تعظيمه لجناب الربوبية إذ القلب الممتلىء بمعرفة عظمة الله وجلاله وعزته وكبريائه لا يفعل ذلك

532

قال عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا تحلفوا بآبائكم من حلف بالله فليصدق ومن حلف له بالله فليرض ومن لم يرض فليس من الله رواه ابن ماجه بسند حسن ش هذا الحديث رواه ابن ماجه في سننه وترجم عليه من حلف له بالله فليرض حدثنا محمد بن اسماعيل بن سمرة ثنا أسباط بن محمد عن محمد بن عجلان عن نافع عن ابن عمر قال سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلا يحلف بأبيه فقال لا تحلفوا بآبائكم الحديث وهذا إسناد جيد على شرط مسلم عند الحاكم وغيره فإنه متصل ورواته ثقات بل قد روى مسلم عن ابن عجلان عن نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأتي قباء راكبا وماشيا وأصل هذا الحديث في الصحيحين عن ابن عمر بلفظ لا تحلفوا بآبائكم من كان حالفا فليحلف بالله وليصمت وليس فيه هذه الزيادة قوله لا تحلفوا بآبائكم تقدم ما يتعلق به في الباب قبله قوله من حلف بالله فليصدق أي وجوبا لأن الصدق واجب ولو لم يحلف بالله فكيف اذا حلف به وأيضا فالكذب حرام لو لم يؤكد الخبر باسم الله فكيف إذا أكده باسم الله قوله ومن حلف له بالله فليرض أي وجوبا كما يدل عليه قوله ومن لم يرض فليس من الله ولفظ ابن ماجه ومن لم يرض بالله فليس من الله وهذا وعيد كقوله تعالى ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء قال ابن كثير اي فقد برىء من الله وهذا عام في

533

الدعاوى وغيرها ما لم يفض إلى إلغاء حكم شرعي كمن تشهد عليه البينة الشرعية فيحلف على تكذيبها فلا يقبل حلفه ولهذا لما رأى عيسى عليه السلام رجلا يسرق فقال له سرقت قال كلا والله الذي لا إله إلا هو فقال عيسى آمنت بالله وكذبت عيني رواه البخاري وفيه وجهان أحدهما قال القرطبي ظاهر قول عيسى عليه السلام للرجل سرقت أنه خبر جازم لكونه أخذ مالا من حرز في خفية وقول الرجل كلا نفي لذلك ثم أكده باليمين وقول عيسى آمنت بالله وكذبت عيني أي صدقت من حلف بالله وكذبت ما ظهر لي من كون الأخذ سرقة فإنه يحتمل أن يكون الرجل أخذ ماله فيه حق أو ما أذن له صاحبه في أخذه أو أخذه ليقلبه وينظر فيه ولم يقصد الغصب والاستيلاء قلت وهذا فيه نظر وصدق الحديث يرده وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم رأى عيسى رجلا يسرق فأثبت صلى الله عليه وسلم سرقته الثاني ما قاله ابن القيم إن الله تعالى كان في قلبه أجل من أن يحلف به أحد كاذبا فدار الأمر بين تهمة الحالف وتهمة بصره فرد التهمة الى بصره كما ظن آدم عليه السلام صدق ابليس لما حلف له أنه ناصح قلت هذا القول أحسن من الأول وهو الصواب إن شاء الله تعالى وحدثت عن المصنف أنه حمل حديث الباب على اليمين في الدعاوى كمن يتحاكم عند الحاكم فيحكم على خصمه باليمين فيحلف فيجيب عليه أن يرضى

534

باب قول ما شاء الله وشئت أي ما حكم التكلم بذلك هل يجوز أم لا وإذا قلنا لا يجوز فهل هو من الشرك أم لا قال عن قتيلة أن يهوديا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إنكم تشركون تقولون ما شاء الله وشئت وتقولون والكعبة فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا ورب الكعبة وأن يقولوا ما شاء الله ثم شئت رواه النسائي وصححه ش هذا الحديث رواه النسائي في السنن واليوم والليلة وهذا لفظه في اليوم والليلة أخبرنا يوسف بن عيسى قال ثنا الفضل بن موسى قال أنا مسعر عن معبد بن خالد عن عبدالله بن يسار عن قتيلة امرأة من جهينة أن يهوديا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إنكم تنددون وتشركون تقولون ما شاء الله وشئت وتقولون والكعبة فأمرهم النبي عليه السلام إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا ورب الكعبة وقول أحدكم ما شاء الله ثم شئت رواه عن أحمد بن حفص حدثني أبي حدثني ابراهيم بن طهمان عن مغيرة عن معبد بن خالد عن قتيلة امراة من جهينة قالت دخلت يهودية على عائشة فقالت إنكم تشركون وساق الحديث ولم يذكر عبدالله بن يسار والمشهور ذكره وقد رواه ابن سعد والطبراني وابن منده وأشار ابن سعد الى انها ليس لها غيره قوله عن قتيلة هو بضم القاف وفتح التاء بعدها مثناة تحتية مصغرا

535

بنت صيفي الجهنية أو الأنصارية صحابية قوله إنكم تشركون تقولون ما شاء الله وشئت هذا نص في أن هذا اللفظ من الشرك لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقر اليهودي على تسمية هذا اللفظ تنديدا أو شركا ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك وأرشد إلى استعمال اللفظ البعيد من الشرك وقول ما شاء الله ثم شئت وإن كان الأولى قول ما شاء وحده كما يدل عليه حديث ابن عباس وغيره وعلى النهي عن قول ما شاء الله وشئت جمهور العلماء إلا أنه حكي عن أبي جعفر الداودي ما يقتضي جواز ذلك احتجاجا لقوله تعالى وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله وقوله وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه ونحو ذلك والصواب القول الاول فان النبي صلى الله عليه وسلم أنكر ذلك وقال لمن قال له ذلك أجعلتني لله ندا وأقرن من أسمائه تنديدا وشركا على تسميته ومن المحال ان يكون هذا أمرا جائزا وأما ما احتج من القرآن فقد ذكروا عن ذلك جوابين أحدهما ان ذلك لله وحده لا شريك له كما انه تعالى يقسم بما شاء من مخلوقاته فكذلك هذا الثاني أن قوله ما شاء الله وشئت تشريك في مشيئة الله وأما الآية فإنما إخبر بها عن فعلين متغايرين فأخبر تعالى أنه أغناهم وأن رسوله أغناهم وهو من الله حقيقة لانه الذي قدر ذلك ومن الرسول صلى الله عليه وسلم حقيقة باعتبار تعاطي الفعل وكذا الإنعام أنعم الله على زيد بالإسلام والنبي صلى الله عليه و سلم أنعم عليه بالعتق وهذا بخلاف المشاركة في الفعل الواحد فالكلام إنما هو فيه والمنع

536

انما هو منه فإن قلت قد ذكر النحاة أن ثم تقتضي اشتراك المعطوف والمعطوف عليه في الحكم كالواو فلم جاز ذلك بثم ومنع منه الواو وغاية ما يقال إن ثم تقتضي الترتيب بخلاف الواو فإنها تقتضي مطلق الجمع وهذا لا يغير صورة الاشتراك قبل النهي عن ذلك إنما هو إذا أتى بصورة التشريك جميعا وهذا لا يحصل إلا بالواو بخلاف ثم فإنها لا تقتضي الجمع إنما تقتضي الترتيب فإذا أتى بها زالت صورة التشريك والجمع في اللفظ وأما المعنى فلله تعالى ما يختص به من المشيئة وللمخلوق ما يختص به فلو أتى بثم وأراد أنه شريك لله تعالى في المشيئة كلولا الله ثم فلان مثلا لم يوجد ذلك فالنهي باق بحاله بل يكون في هذه الصورة أشد ممن أتى بالواو مع عدم هذا الاعتقاد ويشبه ذلك الجمع بين اسم الله واسم غيره في ضمير واحد ولهذا أنكره النبي صلى الله عليه وسلم على الخطيب قال ومن يعصهما فقد غوى فقال له بئس الخطيب أنت قوله فامرهم النبي صلى الله عليه وسلم اذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا ورب الكعبة تقدم ما يتعلق بالحلف بغير الله قريبا وفي الحديث من الفوائد معرفة اليهود بالشرك الأصغر وكثير ممن يدعي الاسلام لا يعرف الشرك الاكبر بل يصرف خالص العبادات من الدعاء والذبح والنذر لغير الله ويظن أن ذلك من دين الاسلام فعلمت أن اليهود في ذلك الوقت أحسن حالا ومعرفة منهم وفيه فهم الانسان إذا كان له هوى كما نبه عليه المصنف وأن المعرفة بالحق لا تستلزم الإيمان ولا العمل وقبول الحق ممن جاء به وإن كان عدوا مخالفا في الدين وإن الحلف بغير الله من الشرك وأن الشرك الأصغر لا يمرق به الانسان من الاسلام قال وله ايضا عن ابن عباس أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم ما شاء الله

537

وشئت قال أجعلتني لله ندا ما شاء الله وحده ش هذا الحديث رواه النسائي كما قال المصنف لكن في اليوم والليلة وهذا لفظه أخبرنا علي بن خشرم عن عيسى عن الأجلح عن يزيد بن الأصم عن ابن عباس أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فكلمه في بعض الأمر فقال ما شاء الله وشئت فقال النبي صلى الله عليه وسلم أجعلتني لله عدلا قل ما شاء الله وحده ورواه ابن ماجه في الكفارات من السنن عن هشام بن عمار عن عيسى نحوه ولفظه إذا حلف أحدكم فلا يقل ما شاء الله وشئت الحديث وقد تابع عيسى على هذا الحديث سفيان الثوري وعبدالرحمن المجازلي وجعفر بن عون عن الأجلح وكلهم ثقات وخالفهم القاسم بن مالك وهو ثقة فرواه عن الأجلح عن أبي الزبير عن جابر والأول أرجح ويحتمل أن يكون عند الأجلح عنهما جميعا قوله أجعلتني لله ندا هذه رواية ابن مردويه والرواية عند النسائي وابن ماجه أجعلتني لله عدلا والمعنى واحد قال ابن القيم ومن ذلك أي من الشرك بالله في الألفاظ قول القائل للمخلوق ما شاء الله وشئت كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال له رجل ما شاء الله وشئت وذكر الحديث المشروح ثم قال هذا مع أن الله قد اثبت للعبد مشيئة لقوله لمن شاء منكم أن يستقيم فكيف بمن يقول أنا متوكل على الله وعليك وأنا في حسب الله وحسبك وما لي إلا الله وأنت وهذا من الله ومنك وهذا من بركات الله وبركاتك والله لي في السماء وأنت لي في الأرض والله وحياة فلان أو يقول نذرا لله ولفلان وأنا تائب لله ولفلان وأرجو الله وفلانا فوازن بين هذه الألفاظ وبين قول

538

القائل ما شاء الله وشئت ثم انظر أيهما أفحش يتبين لك أن قائلها أولى بجواب النبي صلى الله عليه وسلم القائل تلك الكلمة وأنه إذا كان قد جعله ندا بها فهذا قد جعل من لا يداني رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء من الأشياء بل لعله أن يكون من أعدائه ندا لرب العالمين فالسجود والعبادة والتوكل والانابة والتقوى والخشية والتوبة والنذر والحلف والتسبيح والتكبير والتهليل والتحميد والاستغفار وحلق الرأس خضوعا وتعبدا والطواف بالبيت والدعاء كل ذلك محض حق الله الذي لا يصلح ولا ينبغي لسواه من ملك مقرب ولا نبي مرسل وفي مسند الإمام أحمد أن رجلا أتي به الى النبي صلى الله عليه وسلم قد أذنب فلما وقف بين يديه قال اللهم إني أتوب اليك ولا أتوب الى محمد فقال عرف الحق لأهله قلت إذا كان هذا كلامه صلى الله عليه وسلم لمن قال له ما شاء الله وشئت فكيف بمن يقول فيه فإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم ويقول في همزيته هذه علتي وأنت طبيبي ليس يخفى عليك في القلب داء وأشباه هذا من الكفر الصريح قال ولابن ماجه عن الطفيل أخي عائشة لأمها قال رأيت كاني أتيت على نفر من اليهود قلت إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون عزير ابن الله قالوا وإنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون ما شاء

539

الله وشاء محمد ثم مررت بنفر من النصارى فقلت إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون المسيح ابن الله قالوا وإنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون ما شاء الله وشاء محمد فلما أصبحت أخبرت بها من أخبرت ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته قال هل أخبرت بها أحدا قلت نعم قال فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أما بعد فإن طفيلا رأى رؤيا أخبر بها من أخبر منكم وإنكم قلتم كلمة كان يمنعني كذا وكذا أن أنهاكم عنها فلا تقولوا ما شاء الله وشاء محمد ولكن قولوا ما شاء الله وحده ش هذا الحديث لم يروه ابن ماجه بهذا اللفظ عن الطفيل إنما رواه عن حذيفة ولفظه حدثنا هشام بن عمار ثنا سفيان بن عيينة عن عبدالملك ابن عمير عن ربعي بن حراش عن حذيفة بن اليمان ان رجلا من المسلمين رأى في النوم أنه لقي رجلا من أهل الكتاب فقال نعم القوم أنتم لولا أنكم تشركون تقولون ما شاء الله وشاء محمد وذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال أما والله إن كنت لأعرفها لكم قولوا ما شاء الله ثم شاء محمد ورواه أحمد والنسائي بنحوه وفي رواية للنسائي أن الراوي لذلك هو حذيفة نفسه هذه رواية ابن عيينة ثم ذكر ابن ماجة حديث الطفيل هذا فساق اسناده ولم يذكر اللفظ فقال حدثنا ابن أبي الشوارب ثنا ابن عوانة عن عبد الملك عن ربعي بن حراش عن الطفيل بن سخبرة اخي عائشة لأمها عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه هذا لفظ ابن ماجة وهكذا رواه حماد بن سلمة وشعبة وابن إدريس عن عبدالملك فقالوا عن الطفيل وهو الذي رجحه الحفاظ وقالوا ابن عيينة وهم في قوله عن حذيفة فقد تبين أن هذا الحديث المذكور لم يروه ابن ماجة بهذا اللفظ لكن رواه أحمد والطبراني بنحو مما ذكره المصنف

540

قوله عن الطفيل هو ابن سخبرة وفي حديثه هذا أنه أخو عائشة لأمها وكذا قال الحربي وقال الذي عندي ان الحارث بن سخبرة قدم مكة فخالف أبا بكر فمات فخلف أبو بكر على أم رومان فولدت له عبدالرحمن وعائشة وكان لها من الحارث الطفيل بن الحارث فهو أخو عائشة لأمها وقيل غير ذلك وهو صحابي ليس له إلا هذا الحديث قال البغوي لا أعلم له غيره قوله رأيت فيما يرى النائم كما روى أحمد والطبراني قوله على نفر من اليهود وفي رواية أحمد والطبراني كأني مررت برهط من اليهود فقلت من أنتم فقالوا نحن اليهود والنفر رهط الانسان وعشيرته وهواسم جمع يقع على جماعة من الرجال خاصة ما بين الثلاثة إلى العشرة ولا واحد له من لفظه قال أبو السعادات قوله فقلت إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون عزير ابن الله أي نعم القوم أنتم لولا ما أنتم عليه من الشرك والمسبة لله بنسبة الولد إليه وهذا لفظ الطبراني ولفظ أحمد قال أنتم القوم قوله قالوا وأنت لأنتم القوم لولا أنكم تقولون ما شاء الله وشاء محمد عارضوه بذكر شيء مما في المسلمين من الشرك الأصغر فقالوا له هذا الكلام أي نعم القوم أنتم لولا ما فيكم من الشرك وكذلك جرى له مع النصارى قوله فلما أصبحت أخبرت بها من أخبرت وفي رواية أحمد فلما أصبح أخبر بها من أخبر وفي رواية الطبراني فما أصبحت أخبرت بها أناسا قوله ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته فيه حسن خلقه صلى الله عليه وسلم وعدم

541

احتجابه عن الناس كالملوك بحيث اذا أراد أحد الوصول إليه أمكنه ذلك بلا كلفة ولا مشقه بل يصلون إليه ويقضي حاجتهم ويخبرونه بما يحتاجون إليه من أمر دينهم ودنياهم ويقصون عليه ما يرونه في المنام بل كان صلى الله عليه وسلم يعتي بالرؤيا لأنها من أقسام الوحي وكان إذا صلى الصبح كثيرا ما يقول هل رأى أحد منكم رؤيا قوله فحمد الله وأثنى عليه وفي رواية أحمد فلما أصبحوا خطبهم فحمد الله وأثنى عليه وفي رواية الطبراني فما صلى الظهر قام خطيبا ففيه مشروعية حمد الله والثناء عليه في الخطب وفيه الخطبة في الأمور المهمة وأما معنى الحمد فقد تقدم في باب قول الله تعالى أيشركون ما لا يخلق شيئا وأما الثناء فقال ابن القيم هو تكرار المحامد قوله ثم قال اما بعد في رواية احمد والطبراني ثم قال إن طفيلا رأى رؤيا ولم يذكر أما بعد وفي رواية للطبراني فقام نبي الله على المنبر فقال إن أخاكم رأى رؤيا قد حدثكم بما رأى فيه مشروعيه اما بعد في الخطب في هذ الحديث وإلا فلا يضر فإنها ثابتة في خطبه عليه السلام وفي غيره قوله وإنكم قلتم كلمة كان يمنعني كذا وكذا أن أنهاكم عنها وفي رواية أحمد والطبراني وانكم كنتم تقولون كلمة كان يمنعني الحياء منكم أن أنهاكم عنها وهذا الحياء منهم ليس على سبيل الحياء من الإنكار عليهم بل كان صلى الله عليه وسلم يكرهها ويستحيي أن يذكرها لأنه لم يأمر بإنكارها فلما جاء الامر الإلهي بالرؤيا الصالحة أنكرها ولم يستحي في ذلك

542

وفيه دليل على أنها من الشرك الأصغر إذ لو كانت من الأكبر لأنكرها من اول مرة قالوها وفيه ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من الحياء وأنه من الأخلاق المحمودة قوله فلا تقولوا ما شاء الله وشاء محمد ولكن قولوا ما شاء الله وحده هذا على سبيل الاستحباب وإلا فيجوز أن يقول ما شاء الله ثم شاء فلان كما تقدم وفيه أن الرؤيا قد تكون سببا لشرع بعض الأحكام كما في هذا الحديث وحديث الأذان وحديث الذكر بعد الصلوات باب من سب الدهر فقد آذى الله ش مناسبة هذا الباب لكتاب التوحيد ظاهرة لأن سب الدهر يتضمن الشرك كما سيأتي بيانه ولفظ الأذى في اللغة هو لما خف أمره وضعف أثره من الشرك والمكروه ذكره الخطابي قال شيخ الاسلام وهو كما قال وهذا بخلاف الضرر فقد أخبر سبحانه أن العباد لا يضرونه كما قال تعالى ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر إنهم لن يضروا الله شيئا فبين سبحانه أن الخلق لا يضرونه لكن يؤذونه اذا سبوا مقلب الأمور وقال وقول الله تعالى وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا الا الدهر الآية

543

ش قال ابن كثير يخبر تعالى عن قول الدهرية من الكفار ومن وافقهم من مشركي العرب في إنكار المعاد وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا قال ابن جرير أي ما حياة إلا حياتنا التي نحن فيها لا حياة سواها تكذيبا منهم بالبعث بعد الموت نموت ونحيا قال ابن كثير أي يموت قوم ويعيش آخرون وما ثم معاد ولا قيامة وهذا يقوله مشركو العرب المنكرون للمعاد وتقوله الفلاسفة الإلهيون منهم وهم ينكرون البدأة والرجعة وتقوله الفلاسفة الدورية المنكرون للصانع المعتقدون في كل ستة وثلاثين ألف سنة يعود كل شيء الى ما كان عليه فزعموا أن هذا قد تكرر مرات لا تتناهي فكابروا العقول وكذبوا المنقول ولهذا قالوا وما يهلكنا إلا الدهر قال ابن جرير أي ما يهلكنا فيفنينا الا مر الليالي والايام وطول العمر إنكارا منهم أن يكون لهم رب يفنيهم ويهلكهم ثم روى باسناد على شرط الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال كان أهل الجاهلية يقولون إنما يهلكنا الليل والنهار وهو الذي يهلكنا ويميتنا ويحيينا فقال الله في كتابه وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا قال فيسبون الدهر فقال الله تبارك وتعالى يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر أقلب الليل والنهار قوله وما لهم بذلك من علم قال ابن جرير يعني من يقين علم إن هم إلا يظنون قال ابن كثير يتوهمون ويتخيلون فإن قلت فأين مطابقة الآية للترجمة إذا كانت خبرا عن الدهرية المشركين

544

قيل المطابقة ظاهرة لأن من سب الدهر فقد شاركهم في سبه وإن لم يشاركهم في الاعتقاد قال في الصحيح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال قال الله تعالى يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وانا الدهر اقلب الليل والنهار وفي رواية لا تسبوا الدهر فان الدهر هو الله ش قوله في الصحيح أي صحيح البخاري ورواه احمد بهذا اللفظ وأخرجه مسلم بلفظ آخر قوله يؤذيني ابن آدم يسب الدهر فيه ان سب الدهر يؤذي الله تبارك وتعالى قال الشافعي في تأويله والله أعلم إن العرب كان من شأنها أن تذم الدهر وتسبه عند المصائب التي تنزل بهم من موت أو هرم أو تلف أو غير ذلك فيقولون إنما يهلكنا الدهر وهو الليل والنهار ويقولون أصابتهم قوارع الدهر وأبادهم الدهر فيجعلون الليل والنهار يفعلان الاشياء فيذمون الدهر بأنه الذي يفنيهم ويفعل بهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تسبوا الدهر على أنه الذي يفنيكم والذي يفعل بكم هذه الاشياء فإنكم إذا سببتم فاعل هذه الاشياء فإنما تسبون الله تبارك وتعالى فإنه فاعل هذه الاشياء انتهى قلت والظاهر أن المشركين نوعان أحدهما من يعتقد أن الدهر هو الفاعل فيسبه لذلك فهؤلاء هم الدهرية الثاني من يعتقد أن المدبر للامور هو الله وحده لا شريك له ولكن

545

يسبون الدهر لما يجري عليهم فيه من المصائب والحوادث فيضيفون ذلك اليه من إضافة الشيء الى محله لا لأنه عندهم فاعل لذلك والحديث صريح في النهي عن سب الدهر مطلقا سواء اعتقد أنه فاعل أو لم يعتقد ذلك كما يقع كثيرا ممن يعتقد الإسلام كقول ابن المعتز يا دهر ويحك ما أبقيت لي أحدا وانت والد سوء تأكل الولدا وقول أبي الطيب قبحا لوجهك يا زمان كأنه وجه له من كل قبح برقع وقول الطرفي إن تبتلى بلئام الناس يرفعهم عليك دهر لأهل الفضل قد خانا وقول الحريري ولا تأمن من الدهر الخؤون ومكره فكم خامل أخنى عليه ونابه ونحو ذلك كثير وكل هذا داخل في الحديث قال ابن القيم وفي هذا ثلاث مفاسد عظيمة أحدها سبه من ليس أهلا للسب فإن الدهر خلق مسخر من خلق الله منقاد لأمره متذلل لتسخيره فسابه أولى بالذم والسب منه والثانية أن سبه متضمن للشرك فإنه إنما سبه لظنه أنه يضر وينفع وأنه مع ذلك ظالم قد ضر من لا يستحق العطاء ورفع من لا يستحق الرفعة وحرم من لا يستحق الحرمان وهو عند شاتميه من أظلم

546

الظلمة وأشعار هؤلاء الظلمة الخونة في سبه كثيرة جدا وكثير من الجهال يصرح بلعنه وتقبيحه الثالثة أن السب منهم إنما يقع على من فعل هذه الأفعال التي لو اتبع الحق فيها أهواءهم لفسدت السموات والارض وإذا وافقت أهواءهم حمدوا الدهر وأثنوا عليه وفي حقيقة الأمر فرب الدهر هو المعطي المانع الخافض الرافع المعز المذل والدهر ليس له من الأمر شيء فمسبتهم الدهر مسبة لله عز وجل ولهذا كانت مؤذية للرب تعالى فساب الدهر دائر بين امرين لا بد له من أحدهما إما مسبة الله أوالشرك به فإنه إن اعتقد ان الدهر فاعل مع الله فهو مشرك وإن اعتقد أن الله وحده هو الذي فعل ذلك وهو يسب من فعله فهو يسب الله تعالى انتهى وأشار ابن أبي حمزة إلى ان النهي عن سب الدهر تنبيه بالأعلى على الادنى وأن فيه إشارة إلى ترك سب كل شيء مطلق إلا ما أذن الشرع فيه لأن العلة واحدة قوله وأنا الدهر قال الخطابي معناه أنا صاحب الدهر ومدبر الأمور التي ينسبونها إلى الدهر فمن سب الدهر من أجل أنه فاعل هذه الأمور عاد سبه إلى ربه الذي هو فاعلها وإنما الدهر زمان جعل ظرفا لمواقع الأمور قلت ولهذا قال في الحديث وأنا الدهر بيدي الأمر أقلب الليل والنهار وفي رواية لأحمد بيدي الليل والنهار أجده وأبليه وأذهب بالملوك وفي رواية لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر الأيام والليالي أجددها وأبليها وآتي بملوك بعد ملوك قال الحافظ وسنده صحيح فقد تبين بهذا

547

خطا ابن حزم في عده الدهر من أسماء الله الحسنى وهذا غلط فاحش ولو كان كذلك لكان الذين قالوا وما يهلكنا إلا الدهر مصيبين قوله وفي رواية هذه الرواية رواها مسلم وغيره قال المصنف وفيه أنه قد يكون سبا ولو لم يقصده بقلبه باب التسمي بقاضي القضاة ونحوه كأقضى القضاة وحاكم الحكام أو سيد الناس ونحو ذلك أي ما حكم التسمي بذلك هل يجوز أم لا قال في الصحيح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن أخنع اسم عند الله رجل يسمى ملك الأملاك لا مالك إلا الله قال سفيان مثل شاهان شاه وفي رواية اغيظ رجل على الله وأخبثه قوله أخنع يعني أوضع ش قوله في الصحيح أي الصحيحين قوله إن أخنع ذكر المصنف أن معناه أوضع وهذا التفسير رواه مسلم عن الامام أحمد عن أبي عمرو الشيباني قال عياض معناه أنه أشد الاسماء صغارا وبنحو ذلك فسره أبو عبيد والخانع الذليل وخنع الرجل ذل قال ابن بطال وإذا كان الاسم أذل الأسماء كان من تسمى به أشد ذلا وقد فسر الخليل أخنع أفجر فقال الخنع الفجور وفي رواية أخنى

548

الأسماء من الخنا بفتح المعجمة وتخفيف النون مقصور وهوالفحش في القول وفي رواية اشتد غضب الله على من زعم أنه ملك الاملاك رواه الطبراني قوله رجل يسمى بصيغة المجهول من التسمية أي يدعى بذلك ويرضى به وفي بعض الروايات تسمى بفتح الفوقانية وتشديد الميم ماض معلوم من التسمي اي سمى نفسه قوله ملك الأملاك هو بكسر اللام من ملك والأملاك جمع ملك ثم أكد النبي صلى الله عليه وسلم التشديد في تحريم التسمي بذلك بقوله لا مالك إلا الله فالذي تسمى بهذا الاسم قد كذب وفجر وارتقى الى ما ليس له بأهل بل هو حقيق برب العالمين فإنه الملك في الحقيقة فلهذا كان أذل الناس عند الله يوم القيامة والفرق بين الملك والمالك أن المالك هو المتصرف بفعله وأمره ذكره ابن القيم فالذي تسمى ملك الأملاك أو ملك الملوك قد بلغ الغاية في الكفر والكذب ولقد كان بعض السلاطين المساكين يفتخر بهذا الاسم فأذله الله قوله قال سفيان هو ابن عيينة تقدمت ترجمته قوله مثل شاهان شاه هو بكسر النون والهاء في آخره وقد تنون وليس هاء تأنيث فلا يقال بالمثناة أصلا وإنما مثل سفيان بشاهان شاه لأنه قد كثرت التسمية به في ذلك العصر فنبه سفيان بأن الاسم الذي ورد الخبر بذمه لا ينحصر في ملك الأملاك بل كل ما أدى معناه بأي لسان كان فهو مراد بالذم ذكره الحافظ والحديث صريح في تحريم التسمي بملك الأملاك

549

ونحوه كملك الملوك وسلطان السلاطين قال ابن القيم لما كان الملك لله وحده لا ملك على الحقيقة سواه كان أخنع اسم وأوضعه عنده وأبغضه له اسم شاهان شاه أي ملك الملوك وسلطان السلاطين فإن ذلك ليس لأحد غير الله فتسمية غيره بهذا من أبطل الباطل والله لا يحب الباطل وقد ألحق أهل العلم بهذا قاضي القضاة وقالوا ليس قاضي القضاة إلا من يقضي الحق وهو خير الفاصلين الذي إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون ويلي هذا الاسم في القبح والكراهة والكذب سيد الناس وسيد الكل وليس ذلك إلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة كما قال أنا سيد ولد آدم فلا يجوز لأحد قط أن يقول عن غيره هو سيد الناس كما لا يجوز له أن يقول أنا سيد ولد آدم عليه السلام وقال ابن ابي جمرة يلتحق بملك الأملاك قاضي القضاة وإن كان قد اشتهر في بلاد الشرق من قديم الزمان إطلاق ذلك على كبير القضاة وقد سلم أهل المغرب من هذا فاسم كبير القضاة عندهم قاضي الجماعة وقد زعم بعض المتأخرين أن التسمي بقاضي القضاة ونحوها جائز واستدل له بحديث أقضاكم علي قال فيستفاد منه أن لا حرج على من أطلق على قاض أن يكون أعدل القضاة وأعلمهم في زمانه أقضى القضاة أو يريد إقليمه أو بلده وتعقبه العالم العراقي فصوب المنع ورد ما احتج به بأن التفضيل في ذلك وقع في حق من خوطب به ومن يلتحق بهم فليس مساويا لإطلاق التفضيل بالألف واللام قال ولا يخفى ما في ذلك من الجرأة وسوء الأدب ولا عبرة بقول من ولى القضاة فنعت بذلك فلذ في سمعه واحتال في الجواز فإن الحق أحق أن يتبع قلت وقد تبين بهذا مطابقة الحديث للترجمة

550

قوله وفي رواية أغيظ رجل على الله يوم القيامة وأخبثه هذه الرواية رواها مسلم في صحيحه قال ابن أبي جمرة وفي الحديث مشروعية الأدب في كل شيء لأن الزجر عن ملك الأملاك والوعيد عليه يقتضي المنع منه مطلقا سواء أراد من تسمى بذلك أنه ملك على ملوك الأرض أم على بعضها وسواء كان محقا في ذلك أم مبطلا مع أنه لا يخفى الفرق بين من قصد ذلك وكان فيه صادقا ومن قصده وكان فيه كاذبا قلت يعني أن الثاني أشد إثما من الأول باب احترام أسماء الله تعالى وتغيير الاسم لأجل ذلك ش أي لأجل احترامها وهو تعظيمها وذلك من تحقيق التوحيد ويستفاد منه المنع من التسمي بهذا ابتداء من باب الأولى لكن في الأسماء المختصة بالله تعالى قال عن أبي شريح أنه كان يسمى أبا الحكم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم إن الله هو الحكم وإليه الحكم فقال إن قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني فحكمت بينهم فرضي كلا الفريقين فقال ما أحسن هذا فما لك من الولد فقلت شريح ومسلم وعبدالله قال فمن أكبرهم قلت شريح قال أنت أبو شريح رواه أبو داود وغيره ش هذا الحديث رواه أبو داود كما قال المصنف ورواه النسائي ولفظ أبي داود من طريق يزيد بن المقدام بن شريح عن أبيه عن جده عن

551

أبيه هانىء وهو أبو شريح أنه لما وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم مع قومه سمعهم يكنونه بأبي الحكم فدعاه رسول الله صلىالله عليه وسلم فقال إن الله هو الحكم واليه الحكم فلم تكنى أبا الحكم فقال إن قومي إذا اختلفوا في شيء الحديث قال ابن مفلح واسناده جيد ورواه الحاكم وزاد فدعا له ولولده قوله عن أبي شريح هو بضم المعجمة وفتح الراء وآخره مهملة مصغر واسمه هانىء بن يزيد الكندي قال الحافظ وقيل الحارثي الضبابي قاله المزي وقيل المذحجي وقيل غير ذلك صحابي نزل الكوفة ولا عبرة بقبول من قال إنه الخزاعي ولا من ظن أنه النخعي والد شريح القاضي فإن ذلك خطأ فاحش قوله إنه كان يكنى ابا الحكم قال بعضهم الكنية قد تكون بالأوصاف كأبي الفضائل وأبي المعالي وأبي الخير وأبي الحكم وقد تكون بالنسبة الى الأولاد كأبي سلمة وأبي شريح الى ما يلابسه كأبي هريرة فإنه عليه السلام رآه ومعه هرة فكناه بأبي هريرة وقد تكون للعلمية الصرفة كأبي بكر قوله إن الله هو الحكم وإليه الحكم أما الحكم فهو من أسماء الله تبارك وتعالى كما في هذا الحديث وقد ورد عدة في الأسماء الحسنى مقرونا بالعدل فسبحان الله ما أحسن اقتران هذين الاسمين قال في شرح السنة الحكم هو الحاكم الذي إذا حكم لا يرد حكمه وهذه الصفة لا تليق بغير الله تعالى كما قال تعالى والله يحكم لا معقب لحكمه وقال بعضهم عرف الخبر في الجملة الأولى وأتى بضمير الفصل فدل على الحصر وإن هذا

552

الوصف مختص به لا يتجاوز إلى غيره وأما قوله وإليه الحكم أي إليه الفصل بين العباد في الدنيا والآخرة كما قال تعالى له الحكم وإليه ترجعون وقال إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين وفيه الدليل على المنع من التسمي بأسماء الله المختصة به والمنع مما يوهم عدم الاحترام لها كالتكنى بأبي الحكم ونحوه قوله إن قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني فحكمت بينهم أي أنا لم أكن نفسي بهذه الكنية وإنما كنت أحكم بين قومي فكنوني بها وفيه جواز التحاكم إلى من يصلح للقضاء إن لم يكن قاضيا وأنه يلزم حكمه ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم ما أحسن هذا قال الخلخالي للتعجب أي الحكم بين الناس حسن ولكن هذه الكنية غير حسنة وقال غيره أي الذي ذكرته من الحكم بالعدل وقيل ما أحسن هذا اي ما ذكرت من وجه الكنية قال بعضهم وهو الأولى قلت فعلى هذا يكون حكمه لقومه قبل إسلامه إذ يبعد أن يكون قاضيا لهم قبل أن يلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتعلم منه لأن هذه القصة كانت بعد إسلامه بقليل لأنه كان مع وفد قومه حين أسلموا وقدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحسن أمر حكام الجاهلية قوله قال شريح ومسلم وعبدالله صريح في أن الواو لا تقتضي الترتيب وإنما تقتضي مطلق الجمع فلذا سأله رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الأكبر إذ لو كانت دالة على الترتيب لم يحتج إلى سؤال عن أكبرهم قوله فأنت أبو شريح أي رعاية للأكبر منا في التكريم والاجلال

553

فإن الكبير أولى بذلك قال في شرح السنة فيه أن يكنى الرجل بأكبر بنيه فإن لم يكن له ابن فبأكبر بناته وكذلك المرأة تكنى بأكبر بنيها فإن لم يكن لها ابن فبأكبر بناتها انتهى وفيه تقديم الأكبر وفيه أن استعمال اللفظ الشريف الحسن مكروه في حق من ليس كذلك ومنه أن يقول المملوك لسيده وغيره ربي نبه عليه ابن القيم باب من هزل بشيء فيه ذكر الله أو القرآن او الرسول ش أي إنه يكفر بذلك لاستخفافه بجناب الربوبية والرسالة وذلك مناف للتوحيد ولهذا أجمع العلماء على كفر من فعل شيئا من ذلك فمن استهزأ بالله أو بكتابه أو برسوله أو بدينه كفر ولو هازلا لم يقصد حقيقة الاستهزاء اجماعا قال وقول الله تعالى ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب الآية ش يقول تعالى مخاطبا لرسوله صلى الله عليه وسلم ولئن سألتهم أي سألت المنافقين الذين تكلموا بكلمة الكفر استهزاء ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب أي يعتذرون بأنهم لم يقصدوا الاستهزاء والتكذيب إنما قصدوا الخوض في الحديث واللعب قل أبالله ورسوله وآياته كنتم تستهزؤن لم يعبأ باعتذارهم

554

إما لأنهم كانوا كاذبين فيه وإما لأن الاستهزاء على وجه الخوض واللعب لا يكون صاحبه معذورا وعلى التقديرين فهذا عذر باطل فإنهم أخطؤوا موقع الاستهزاء وهل يجتمع الايمان بالله وكتابه ورسوله والاستهزاء بذلك في قلب بل ذلك عين الكفر لذلك كان الجواب مع ما قبله لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم قال شيخ الاسلام فقد أمره أن يقول كفرتم بعد إيمانكم وقول من يقول إنهم قد كفروا بعد إيمانهم بلسانهم مع كفرهم أولا بقلوبهم لا يصح لأن الإيمان باللسان مع كفر القلب قد قارنه الكفر فلا يقال قد كفرتم بعد إيمانكم فإنهم لم يزالوا كافرين في نفس الأمر وإن أريد إنكم أظهرتم الكفر بعد إظهاركم الإيمان فهم لم يظهروا ذلك إلا لخوضهم وهم مع خوضهم ما زالوا هكذا بل لما نافقوا وحذروا أن تنزل عليهم سورة تبين ما في قلوبهم من النفاق وتكلموا بالاستهزاء أي صاروا كافرين بعد إيمانهم ولا يدل اللفظ على أنهم ما زالوا منافقين إلى أن قال تعالى ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب فاعترفوا ولهذا قيل لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة فدل على أنهم لم يكونوا عند أنفسهم قد أتوا كفرا بل ظنوا أن ذلك ليس بكفر فتبين أن الاستهزاء بآيات الله ورسوله كفر يكفر به صاحبه بعد إيمانه فدل على أنه كان عندهم إيمان ضعيف ففعلوا هذا المحرم الذي عرفوا أنه محرم ولكن لم يظنوه كفرا وكان كفرا كفروا به فإنهم لم يعتقدوا جوازه وقوله إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة قال ابن كثير أي لا يعفى عن جميعكم ولا بد من عذاب بعضكم بأنهم كانوا مجرمين

555

بهذه المقالة الفاجرة قيل إن الطائفة مخشي بن حمير عفا الله عنه وتسمى عبد الرحمن وسأل الله أن يقتل شهيدا لا يعلم مقتله فقتل يوم اليمامة ولم يعلم مقتله ولا من قتله ولا يدرى له عين ولا أثر وقيل إن الطائفة زيد بن وديعة والأول أشهر ويحتمل أن الله عفا عنهما جميعا وفي الآية دليل على أن الرجل إذا فعل الكفر ولم يعلم أنه كفر لا يعذر بذلك بل يكفر وعلى أن الساب كافر بطريق الأولى نبه عليه شيخ الإسلام قال عن ابن عمر ومحمد بن كعب وزيد بن أسلم وقتادة دخل حديث بعضهم في بعض أنه قال رجل في غزوة تبوك ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطونا ولا أكذب ألسنا ولا أجبن عند اللقاء يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه القراء فقال له عوف بن مالك كذبت ولكنك منافق لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم فذهب عوف الى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخبره فوجد القرآن قد سبقه فجاء ذلك الرجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ارتحل وركب ناقته فقال يا رسول الله إنما كنا نخوض ونلعب ونتحدث حديث الركب نقطع به عنا الطريق قال ابن عمر كأني أنظر إليه متعلقا بنسعة ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن الحجارة لتنكب رجليه وهو يقول إنما كنا نخوض ونلعب فيقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزؤن ما يلتفت اليه وما يزيد عليه ش هذا الأثر ذكره المصنف مجموعا من رواية ابن عمر ومحمد بن كعب وزيد بن أسلم وقتادة وقد ذكره قبله كذلك شيخ الإسلام فأما أثر ابن عمر فرواه ابن جرير وابن أبي حاتم وغيرهما بنحو مما ذكره

556

المصنف وأما أثر محمد بن كعب وزيد بن أسلم وقتادة فهي معروفة لكن بغير هذا اللفظ قوله عن ابن عمر هو عبدالله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما ومحمد بن كعب هو محمد كعب بن سليم أبو حمزة القرظي المدني قال البخاري إن أباه كان ممن لم ينبت من بني قريظة وهو ثقة عالم مات سنة عشرين ومئة وزيد بن أسلم هو مولى عمر بن الخطاب والد عبدالرحمن وإخوته يكنى أبا عبدالله ثقة مشهور مات سنة ست وثلاثين ومئة وقتادة هو ابن دعامة وتقدم قوله دخل حديث بعضهم في بعض أي إن الحديث مجموع من رواياتهم فلذلك دخل بعضه في بعض قوله إنه قال رجل في غزوة تبوك لم أقف على تسمية القائل لذلك أبهم اسمه في جميع الروايات التي وقفت عليها ولكن قد ورد تسمية جماعة ممن نزلت فيهم الآية مع اختلاف الرواية فيما قالوه من الكلام ففي بعض الروايات أنهم قالوا ما ذكره المصنف وعن مجاهد في الآية قال رجل من المنافقين يحدثنا محمد أن ناقة فلان بواد كذا وكذا في يوم كذا وكذا وما يدريه بالغيب رواه ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وعن قتادة قال بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوته إلى تبوك وبين يديه أناس من المنافقين فقالوا يرجو هذا الرجل أن تفتح له قصور الشام وحصونها هيهات هيهات فأطلع الله نبيه على ذلك فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم احبسوا علي الركب فأتاهم فقال قلتم كذا وقلتم كذا قالوا يا نبي الله إنما كنا نخوض ونلعب فأنزل الله فيهم ما تسمعون رواه ابن المنذر وابن أبي حاتم

557

وفي رواية جابر بن عبدالله عند ابن مردويه كان فيمن تخلف من المنافقين بالمدينة وداعة بن ثابت أحد بني عمرو بن عوف فقيل له ما خلفك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال الخوض واللعب فأنزل الله فيه وفي أصحابه ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب إلى مجرمين وسمى ابن عباس في رواية عند ابن مرديه منهم وديعة بن ثابت ومخشي بن حمير وأنهم قالوا أتحسبون أن قتال بني الأصفر كقتال غيرهم والله لكأنكم غدا تفرون في الجبال القصة بكمالها فيحتمل أنهم قالوا ذلك كله فإن المنافقين إذا خلوا إلى شياطينهم أخذوا في الاستهزاء بالله وآياته ورسوله والمؤمنين فلا يبعد أنهم قالوا ذلك فكل ذكر بعض كلامهم والآية تعم ذلك وفي هذه الروايات ذكر أسماء القائلين لبعضهم ذلك منهم وديعة بن ثابت وقيل وداعة وزيد ابن وديعة ومخشي بن حمير الذي تاب الله عليه لكنه لم يقل ذلك إنما حضره وفي بعض الروايات أن عبدالله بن أبي هو الذي قال ذلك لكن رواه ابن القيم بأن ابن أبي تخلف عن غزوة تبوك وذكر ابن اسحاق أسماء الذين هموا بالفتك برسول الله صلى الله عليه وسلم فعد جماعة فيحتمل أنهم من المستهزئين ويحتمل أنهم غيرهم ولهذا قال تعالى في المستهزئين قد كفرتم بعد إيمانكم وفي الآخرين ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء القراء جمع قارىء وهم عند السلف الذين يقرؤون القرآن ويعرفون معانيه أما قراءته من غير فهم لمعناه فلا يوجد في ذلك العصر وإنما حدث بعد ذلك من جملة البدع قوله أرغب بطونا أي أوسع بطونا الرغب والرغيب الواسع يقال

558

جوف رغيب وواد رغيب يصفونهم بسعة البطون وكثرة الأكل كما روى ابو نعيم عن شريح بن عبيد أن رجلا قال لأبي الدرداء ما بالكم أجبن منا وأبخل إذا سئلتم وأعظم لقما إذا أكلتم فأعرض عنه أبو الدرداء ولم يرد عليه شيئا وأخبر بذلك عمر بن الخطاب فانطلق عمر إلى الرجل الذي قال ذلك فأخذه بثوبه وخنقه وقاده إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال الرجل إنما كنا نخوض ونلعب قوله فقال له عوف بن مالك كذبت ولكنك منافق فيه المبادرة في الإنكار والشدة على المنافقين وجواز وصف الرجل بالنفاق إذا قال أو فعل ما يدل عليه قوله لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه أن هذا وما أشبهه لا يكون غيبة ولا نميمة بل من النصح لله ورسوله فينبغي الفرق بين الغيبة والنميمة وبين النصيحة لله ورسوله فذكر أفعال المنافقين والفساق لولاة الأمور ليزجروهم ويقيموا عليهم أحكام الشريعة ليس من الغيبة والنميمة انتهى قوله فوجد القرآن قد سبقه أي جاءه الوحي من الله بما قالوه في هذه الآية ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب وفيه دلالة على علم الله سبحانه وعلى قدرته وإلهيته وعلى أن محمدا رسول الله قوله فجاء ذلك الرجل قد تقدم أنه ابن أبي كما رواه ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عمر لكن رواه ابن القيم بأن ابن أبي تخلف عن غزوة تبوك

559

وفي هذا الحديث من الفوائد أن الانسان قد يكفر بكلمة يتكلم بها أو عمل يعمل به وأشدها خطرا إرادات القلوب فهي كالبحر الذي لا ساحل له ويفيد الخوف من النفاق الأكبر فإن الله تعالى أثبت لهؤلاء ايمانا قبل أن يقولوا ما قالوه كما قال ابن أبي مليكة أدركت ثلاثين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه نسأل الله السلامة والعفو والعافية في الدنيا والآخرة باب قول الله تعالى ولئن أذقناه رحمة منا من بعد ضراء مسته ليقولن هذا لي وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربي إن لي عنده للحسنى فلننبئن الذين كفروا بما عملوا ولنذيقنهم من عذاب غليظ قال مجاهد هذا بعملي وأنا محقوق به وقال ابن عباس يريد من عندي وقوله قال إنما أوتيته على علم عندي قال قتادة على علم مني بوجوه المكاسب وقال آخرون على علم من الله أني له أهل وهذا معنى قول مجاهد أوتيته على شرف قوله باب قول الله تعالى ولئن أذقناه رحمة منا من بعد ضراء مسته الآية ذكر المصنف رحمه الله تعالى عن ابن عباس وغيره من المفسرين في معنى

560

هذه الآية وما بعدها ما يكفي في المعنى ويشفي قوله قال مجاهد هذا بعملي وأنا محقوق به وقال ابن عباس يريد من عندي وقوله قال إنما أوتيته على علم عندي قال قتادة على علم مني بوجوه المكاسب وقال آخرون على علم من الله أني له أهل وهذا معنى قول مجاهد أوتيته على شرف وليس فيما ذكروه اختلاف وإنما هي أفراد المعنى قال ابن كثير رحمه الله في معنى قوله تعالى وإذا خولناه نعمة قال إنما أوتيته على علم بل هي فتنة يخبر أن الانسان في حال الضر يضرع الى الله تعالى وينيب إليه ويدعوه ثم إذا خوله نعمة منا طغى وبغى وقال إنما أوتيته على علم أي لما يعلم من استحقاقي له ولولا أني عند الله حظيظ لما خولني هذا قال تعالى بل هي فتنة أي ليس الأمر كما زعمتم بل إنما أنعمنا عليه بهذه النعمة لنختبره فيما أنعمنا عليه أيطيع ام يعصي مع علمنا المتقدم بذلك بل هي فتنة أي اختبار ولكن أكثرهم لا يعلمون فلهذا يقولون ما يقولون ويدعون ما يدعون قد قالها الذين من قبلهم أي قد قال هذه المقالة وزعم هذا الزعم وادعى هذه الدعوى كثير ممن سلف من الامم فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون أي فما صح قولهم ولا نفعهم جمعهم وما كانوا يكسبون كما قال تعالى مخبرا عن قارون إذ قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس يصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين قال إنما أوتيته على علم عندي

561

أو لم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعا ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون وقال تعالى وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن ثلاثة من بني اسرائيل أبرص وأقرع وأعمى فأراد الله أن يبتليهم فبعث إليهم ملكا فأتى الأبرص قال أي شيء أحب اليك قال لون حسن وجلد حسن ويذهب عني الذي قد قذرني الناس به قال فمسحه فذهب عنه قذره فأعطي لونا حسنا وجلدا حسنا قال فأي المال أحب اليك قال الابل أو البقر شك إسحاق فأعطي ناقة عشراء وقال بارك الله لك فيها قال فأتى الأقرع فقال أي شيء أحب اليك قال شعر حسن ويذهب عني الذي قد قذرني الناس به فمسحه فذهب عنه وأعطي شعرا حسنا فقال أي المال أحب اليك قال البقر أو الابل فأعطي بقرة حاملا قال بارك الله له فيها فأتى الأعمى فقال أي شيء أحب اليك قال أن يرد الله إلي بصري فابصر به الناس فمسحه فرد الله اليه بصره قال فاي المال أحب اليك قال الغنم فأعطي شاة والدا فأنتج هذان وولد هذا فكان لهذا واد من الابل ولهذا واد من البقر ولهذا واد من الغنم قال ثم إنه أتى الأبرص في صورته وهيئته فقال رجل مسكين قد انقطعت به الجبال في سفري فلا بلاغ لي اليوم الا بالله ثم بك أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن والجلد الحسن والمال بعيرا أتبلغ به في سفري فقال الحقوق كثيرة فقال كأني أعرفك ألم تكن أبرص يقذرك الناس فقيرا

562

فأعطاك الله عز وجل المال فقال إنما ورثت هذا المال كابرا عن كابر فقال ان كنت كاذبا فصيرك الله الى ما كنت به وأتى الأقرع في صورته فقال له مثل ما قال لهذا ورد عليه مثل ما رد عليه هذا فقال إن كنت كاذبا فصيرك الله إلى ما كنت قال وأتى الأعمى في صورته فقال رجل مسكين وابن سبيل قد انقطعت بي الجبال في سفري فلا بلاغ لي اليوم الا بالله ثم بك أسألك بالذي رد عليك بصرك شاة أبتلغ بها في سفري فقال قد كنت أعمى فرد الله الي بصري فخذ ما شئت ودع ما شئت فوالله لا أجهدك اليوم بشيء أخذته لله فقال أمسك مالك فإنما ابتليتم فقد رضي الله عنك وسخط على صاحبيك أخرجاه قوله أخرجاه أي البخاري ومسلم والناقة العشراء بصم العين وفتح الشين وبالمد هي الحامل قوله أنتج وفي رواية فنتج معناه تولى نتاجها والناتج للناقة كالقابلة للمرأة قوله ولد هذا هو بتشديد اللام أي تولى ولادتها وهو بمعنى أنتج في الناقة فالمولد والناتج والقابلة بمعنى واحد لكن هذا للحيوان وذلك لغيره قوله انقطعت بي الجبال هو بالحاء المهملة والباء الموحدة هي الأسباب قوله لا أجهدك معناه لا أشق عليك في رد شيء تأخذه أو تطلبه من مالي ذكره النووي

563

وهذا حديث عظيم وفيه معتبر فان الاولين جحدا نعمة الله فما اقرا لله بنعمته ولا نسبا النعمة الى المنعم بها ولا أديا حق الله فحل عليهما السخط وأما الأعمى فاعترف بنعمة الله ونسبها الى من أنعم عليه بها وأدى حق الله فيها فاستحق الرضى من الله بقيامه بشكر النعمة لما أتى بأركان الشكر الثلاثة التي لا يقوم الشكر إلا بها وهي الاقرار بالنعمة ونسبتها الى المنعم وبذلها فيما يحب قال العلامة ابن القيم رحمه الله اصل الشكر هو الاعتراف بانعام المنعم على وجه الخضوع له والذل والمحبة فمن لم يعرف النعمة بل كان جاهلا بها لم يشكرها ومن عرفها ولم يعرف المنعم بها لم يشكرها أيضا ومن عرف النعمة والمنعم لكن جحدها كما يجحدها المنكر لنعمة المنعم عليه بها فقد كفرها ومن عرف النعمة والمنعم بها وأقر بها ولم يجحدها ولكن لم يخضع له ولم يحبه ولم يرض به وعنه لم يشكره أيضا ومن عرفها وعرف المنعم بها وأقر بها وخضع للمنعم بها وأحبه ورضي به وعنه واستعملها في محابه وطاعته فهذا هو الشاكر لها فلا بد في الشكر من علم القلب وعمل يتبع العلم وهو الميل الى المنعم ومحبته والخضوع له قوله قذرني الناس بكراهة رؤيته وقربه منهم باب قول الله تعالى فلما آتاهما صالحا جعلا له شركاء فيما آتاهما فتعالى

564

الله عما يشركون قال ابن حزم اتفقوا على تحريم كل اسم معبد لغير الله كعبد عمرو وعبدالكعبة وما أشبه ذلك حاشا عبدالمطلب وعن ابن عباس في الآية لما تغشاها آدم حملت فأتاهما إبليس فقال اني صاحبكما الذي أخرجتكما من الجنة لتطيعني أو لأجعلن له قرني أيل فيخرج من بطنك فيشقه ولأفعلن ولأفعلن يخوفهما سمياه عبدالحارث فأبيا أن يطيعاه فخرج ميتا ثم حملت فآتاهما فقال مثل قوله فأبيا أن يطيعاه فخرج ميتا ثم حملت فأتاهما فذكر لهما فأدركهما حب الولد فسمياه عبد الحارث فذلك قوله جعلا له شركاء فيما آتاهما رواه ابن أبي حاتم وله بسند صحيح عن قتادة قال شركاء في طاعته ولم يكن في عبادته وله بسند صحيح عن مجاهد في قوله لئن آتيتنا صالحا قال أشفقا ان لا يكون انسانا وذكر معناه عن الحسن وسعيد وغيرهما قوله باب قول الله تعالى فلما آتاهما صالحا جعلا له شركاء فيما آتاهما فتعالى الله عما يشركون قال الإمام أحمد رحمه الله في معنى هذه الآية حدثنا عبدالصمد حدثنا عمر بن ابراهيم حدثنا قتادة عن الحسن عن سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لما ولدت حواء طاف بها ابليس وكان لا يعيش لها ولد فقال سميه عبدالحارث فإنه يعيش فسمته عبدالحارث فعاش فكان ذلك من وحي الشيطان وأمره رواه احمد والترمذي وحسنه وابن جرير والحاكم وصححه

565

ولهذا ذكر الضمير في آخرها بصيغة الجمع استطرادا من ذكر الشخص الى الجنس ومعنى الآية انه تعالى يخبر عن مبدأ الجنس الانساني وما فيه لله من عجائب القدرة فأوجد هذا الجنس على كثرته واختلاف انواعه من نفس واحدة وهو آدم عليه السلام وجعل منها زوجها ليسكن إليها فلما تغشاها أي وطئها حملت حملا خفيفا وذلك الحمل لا تجد المرأة له ألما إنما هي النطفة ثم العلقة ثم المضغة وقوله فمرت به قال مجاهد استمرت عليه وقال مهران استخفته وقال ابن جرير استمرت بالماء وقامت به وقعدت فلما اثقلت أي صارت ذات ثقل بحملها قال السدي كبر في بطنها دعوا الله ربهما اي ان آدم وحواء عليهما السلام دعوا الله لئن آتيتنا صالحا بشرا سويا قال ابن عباس أشفقا ان يكون بهيمة لنكونن من الشاكرين اي لنشكرنك على ذلك انتهى ملخصا من ابن كثر وفيه زيادة وقوله فما آتاهما صالحا جعلا له شركاء أي لله شركاء فيما آتاهما اي لم يقوما بشكر ذلك على الوجه المرضي كما وعدا بذلك بل جعلا لي فيه شركاء فيما أعطيتهما من الولد الصالح والبشر السوي بأن سمياه عبدالحارث فإن من تمام الشكر أن لا يعبد الاسم إلا لله وإذا تأملت سياق الكلام من أوله إلى آخره مع ما فسره به السلف تبين قطعا أن ذلك في آدم وحواء عليهما السلام فإن فيه غير موضع يدل على ذلك والعجب ممن يكذب بهذه القصة

566

وينسى ما جرى أول مرة ويكابر بالتفاسير المبتدعة ويترك تفاسير السلف وأقوالهم وليس المحذور في هذه القصة بأعظم من المحذور في المرة الأولى وقوله تعالى عما يشركون هذا والله أعلم عائد إلى المشركين من القدرية فاستطرد من ذلك الشخص إلى الجنس وله نظائر في القرآن قوله قال ابن حزم هو ابو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الظاهري المشهور صاحب كتاب الاجماع والايصال والمحلى وغيرهما من المصنفات قوله اتفقوا الظاهر أن المراد أجمعوا فمقصوده حكاية الاجماع لا حكاية الاتفاق على طريقة المتأخرين قوله حاشا عبد المطلب قال ابن القيم لا تحل التسمية بعبد علي وعبدالحسين ولا عبد الكعبة وقد روى ابن أبي شيبة عن هانىء بن شريح قال وفد على النبي صلى الله عليه وسلم قوم فسمعهم يسمون رجلا عبد الحجر فقال له ما اسمك قال عبد الحجر فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما أنت عبدالله فقيل كيف يتفقون على تحريم الاسم المعبد لغير الله وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم تعس عبد الدينار الحديث وصح عنه أنه قال أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب فالجواب أما قوله تعس عبد الدينار فلم يرد الاسم وإنما أراد به الوصف والدعاء على من يعبد قلبه للدينار والدرهم فرضي بعبوديتهما عن عبودية الله تبارك وتعالى وأما قوله أنا ابن عبد المطلب فهذا لبس من باب إنشاء التسمية بذلك وإنما هو من باب الاخبار بالاسم الذي عرف به المسمى دون غيره والاخبار بمثل ذلك على وجه تعريف المسمى لا يحرم ولا وجه

567

لتخصيص أبي محمد ذلك بعبد المطلب خاصة فقد كان أصحابه يسمون بعبد شمس وبني عبد الدار بأسمائهم ولا ينكر عليهم النبي صلى الله عليه وسلم ذلك فباب الأخبار أوسع من الإنشاء فيجوز فيه مالا يجوز في الإنشاء انتهى ملخصا وهو حسن ولكن بقي إشكال وهو أن في الصحابة من اسمه المطلب بن ربيعة ابن الحارث بن عبد المطلب فالجواب أما من اسمه عبد شمس فغيره النبي صلى الله عليه وسلم إلى عبدالله كما ذكروا ذلك في تراجمهم وأما المطلب بن ربيعة فذكر ابن عبد البر أن اسمه عبد المطلب وقال كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يغير اسمه فيما علمت وقال الحافظ وفيما قاله نظر فإن الزبير أعلم من غيره بنسب قريش ولم يذكر أن اسمه إلا المطلب وقد ذكر العسكري أن أهل النسب إنما يسمونه المطلب وأما أهل الحديث فمنهم من يقول المطلب ومنهم من يقول عبد المطلب وأما عبد يزيد أبو ركانة فذكره الذهبي في التجريد وقال أبو ركانة طلق امرأته وهذا لا يصح والمعروف أن صاحب القصة دكانه وروى حديثه أبو داود وفي السنن عن ابن عباس قال طلق عبد يزيد أبو ركانة وأخوته أم ركانة وذكر الحديث ثم قال وحديث نافع بن عجير وعبدالله بن علي بن يزيد بن ركانة عن أبيه عن جده أن ركانة طلق امرأته البتة فجعلها النبي صلى الله عليه وسلم واحدة أصح لأنهم ولد الرجل وأهله وهم أعلم به فقد تبين أنه ليس في الصحابة من اولاء من تصح له صحبته فعلى هذا لا تجوز التسمية بعبد المطلب ولا غيره مما عبد لغير الله وكيف تجوز التسمية وقد أجمع العلماء على تحريم التسمية ب عبد النبي وعبد الرسول وعبد المسيح وعبد علي وعبد الحسين وعبد الكعبة وكل هذه

568

أولى بالجواز من عبد المطلب لو جازت التسمية به وأيضا فقد نص النبي صلى الله عليه وسلم على أن التسمية بعبد الحارث من وحي الشيطان وأمره بعبد المطلب كعبد الحارث لا فرق بينهما إلا أن أصدق الأسماء الحارث وهمام فلعله أولى بالجواز لا يقال إن الحارث اسم للشيطان لأنه وإن كان اسما له فلا فرق في ذلك بين جميع من اسمه الحارث فلا يجوز التسمية به وإن نوى عبد الحارث بن هشام أو غيره فإن قلت إذا كان ابن حزم قد حكى الاجماع على جواز التسمية بعبد المطلب فكيف يجوز خلافه قلت كلام ابن حزم ليس صريحا في حكاية الإجماع على جواز ذلك بعبد المطلب فإن لفظة اتفقوا على تحريم كل اسم معبد لغير الله كعبد العزى وعبد هبل وعبد عمرو وعبد الكعبة وما أشبه ذلك حاشا عبد المطلب واتفقوا على إباحة كل اسم بعد ما ذكرنا ما لم يكن اسم نبي أو اسم ملك إلى آخر كلامه فيحتمل أن مراده حكاية الخلاف فيه ويكون التقدير اتفقوا على تحريم كل اسم معبد لغير الله حاشا عبد المطلب أي فإنهم لم يتفقوا على تحريمه بل اختلفوا ويؤيده أنه قال بعده واتفقوا على إباحة كل اسم بعد ما ذكرنا إلى آخره ويكون المراد حاشا عبد المطلب فلا أحفظ ما قالوا فيه ويكون سكوتا منه عن حكاية اجماعا أو خلاف فيه وعلى تقدير أن مراده حكاية الإجماع من جواز ذلك فليس كل من حكى اجماعا يسلم له ولا كل إجماع يكون حجة أيضا فكيف والخلاف موجود والسنة فاصلة بين المتنازعين وغاية حجة من أجازه قوله عليه السلام أنا ابن عبد المطلب ونحوه أو أن بعض الصحابة اسمه عبد المطلب وقد تقدم الجواب عن ذلك وأيضا فلو كان قوله أنا ابن عبد المطلب حجة على جواز التسمية به لكان قوله إنما

569

بنو هاشم وبنو عبد مناف شيء واحد حجة على جواز التسمية بعبد مناف ولكن فرق بين إنشاء التسمية وبين الاخبار بذلك عمن هو اسمه قوله في الآية أي المترجم لها قوله تغشاها أي حواء أي وطئها عليهما السلام قوله او لأجعلن له أي لولدكما قوله قرني أيل هو بالتثنية أو الاضافة وأيل بفتح الهمزة وكسر المثناة التحتية المشددة ذكر الاوعال والمعنى انه يخوفهما بكونه يجل للولد قرني وعل فيخرج من بطنها فيشقه كما قال فيخرج من بطنك فيشقه قوله ولأفعلن ولأفعلن يخوفهما بغير ما ذكر ويزعم أنه يفعل بهما غير ذلك قوله سمياه عبد الحارث قال سعيد بن جبير كان اسمه في الملائكة الحارث وكان مراده ان سمياه بذلك ليكون قد وجد له صورة الاشراك به فإن هذا من باب كيد إبليس إذا عجز عن الآدمي أن يوقعه في المعصية الكبيرة قنع منه بالصغيرة وأيضا فإنه يحصل له منهما طاعته كما أطاعا أول مرة كما روى ابن جرير وابن أبي حاتم عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم خدعهما مرتين قال زيد خدعهما في الجنة وخدعهما في الأرض قوله فابيا أن يطيعاه فخرج ميتا الخ هذا والله أعلم من الامتحان فان الانسان لا عزم له وإن عاين ماذا عساه أن يعاين من الآيات إلا بتوفيق الله تعالى فإن الطبيعة البشرية تغلب عليه كما غلبت على الأبوين مرتين مع ما وقع لهما قبل

570

من التحذير والانذار عن كيد إبليس وعداوته لهما ومع ذلك ادركهما حب الولد فسمياه عبد الحارث وكان ذلك شركا في التسمية وإن لم يقصدا العبادة للشيطان بل قصدا به فيما ظنا إما دفع شره عن حواء وإما الخوف على الولد من الموت كما روى عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن أبي بن كعب قال لما حملت حواء أتاها الشيطان فقال اتطيعينني ويسلم ولدك سميه عبد الحارث فلم تفعل فولدت فمات ثم حملت فقال لها مثل ذلك فلم تفعل ثم حملت الثالثة فقال أتطيعيني يسلم لك ولدك والا فإنه يكون بهيمة فهيبها فأطاعاه رواه ابن أبي حاتم قلت وإسناده صحيح ورواه سعيد بن منصور وابن المنذر وعن ابن عباس قال كانت حواء تلد لآدم أولادا فتعبدهم لله وتسميه عبدالله وعبيد الله ونحو ذلك فيصيبهم الموت فأتاها إبليس وآدم فقال إنكما لو تمسيانه بغير ما تسميانه لعاش فولدت له رجلا فسمياه عبد الحارث ففيه انزل هو الذي خلقكم من نفس واحدة إلى آخر الآية رواه ابن مردويه قوله شركاء في طاعته ولم يكن في عبادته أي لكونهما أطاعاه في التسمية بعبد الحارث لا أنهما عبداه فهو دليل على الفرق بين شرك الطاعة وبين شرك العبادة قال بعضهم تفسير قتادة في هذه الآية بالطاعة لأن المراد بها على كلام كثير من المفسرين آدم وحواء عليهما السلام فناسب تفسيرها بالطاعة لأنهما أطاعا الشيطان في تسمية الولد بعبد الحارث وقد استشكله بعض المعاصرين بما حاصله أنهم قد فسروا العبادة بالطاعة فيلزم على قول قتادة أن يكون الشرك في العبادة والجواب ان تفسير العبادة بالطاعة من التفسير اللازم فإنه لازم العبادة

571

أن يكون العابد مطيعا لمن عبده بها فلذا فسرت بالطاعة أو يقال هو من التفسير بالملزوم وإرادة اللازم اي لما كانت الطاعة ملزوما للعبادة والعبادة لازمة لها فلا تحصل إلا بالطاعة جاز تفسيرها بذلك وهو أصح وبالجملة فلا إشكال في ذلك بحمد الله فإن قلت قد سمى النبي صلى الله عليه وسلم طاعة الأحبار والرهبان في معصية الله عبادة قلت راجع الكلام على حديث عدي يتضح الجواب قوله أشفقا أي خافا أي آدم وحواء أن لا يكون إنسانا قال أبو صالح أشفقا أن يكون بهيمة فقال لئن آتيتنا بشرا سويا رواه ابن أبي حاتم وفي هذا أن هبة الله للرجل البنت السوية من النعم ذكره المصنف وذلك أن الله سبحانه وتعالى قادر على أن يجعلها غير سوية وأن يجعلها من غير الجنس فلا ينبغي للرجل أن يسخط مما وهبه الله له كما يفعل أهل الجاهلية بل يحمد الله الذي جعلها بشرية سوية ولهذا كانت عائشة رضي الله عنها إذا بشرت بمولود لم تسأل إلا عن صورته لا عن ذكوريته وأنوثيته قوله وذكر اي ذكر ابن أبي حاتم فإنه روى ذلك عمن ذكر المصنف معناه عن الحسن هو البصري قوله وسعيد أي ابن جبير وغيره كالسدي وغيره باب قول الله تعالى ولله الاسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه الآية

572

يخبر تعالى أن له اسماء وصفها بكونها حسنى أي حسان وقد بلغت الغاية في الحسن فلا أحسن منها كما يدل عليه من صفات الكمال ونعوت الجلال فاسماؤه الدالة على صفاته هي أحسن الأسماء وأكملها فليس في الأسماء أحسن منها ولا يقوم غيرها مقامها وتفسير الاسم منها بغيره ليس تفسيرا بمراد محض بل هو على سبيل التقريب والتفهم فله من كل صفة كمال أحسن اسم وأكمله وأتمه معنى وأبعده وأنزهه عن شائبة نقص فله من صفة الإدراكات العليم الخبير دون العالم الفقيه والسميع البصير دون السامع والباصر ومن صفات الإحسان البر الرحيم الودود دون الرفيق والشفيق والمشوق وكذلك العلي العظيم دون الرفيع الشريف وكذلك الكريم دون السخي والخالق البارىء المصور دون الصانع الفاعل المشكل والعفو الغفور دون الصفوح الساتر وكذلك سائر أسماء الله تعالى يجري على نفسه أكملها وأحسنها ولا يقوم غيره مقامه فأسماؤه أحسن الأسماء كما أن صفاته أكمل الصفات فلا نعدل عما سمى به نفسه إلى غيره كما لا يتجاوز ما وصف به نفسه ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم إلى ما وصفه به المبطلون ومن هنا يتبين لك خطأ من أطلق عليه اسم الصانع والفاعل والمربي ونحوها لأن اللفظ الذي أطلقه سبحانه على نفسه واخبر به عنها أتم من هذا وأكمل وأجل شأنا فإنه يوصف من كل صفة كمال باكملها وأجلها وأعلاها فيوصف من الإرادة بأكملها وهو الحكمة وحصول كل ما يريد بارادته كما قال تعالى فعال لما يريد وبإرادة اليسر لا العسر كما قال تعالى يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر وبإرادة الاحسان وتمام النعمة على عباده كقوله تعالى والله

573

يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما فإرادة التوبة له وإرادة الميل لمبتغي الشهوات وقوله ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم وكذلك العليم الخبير أكمل من الفقيه العارف والكريم الجواد أكمل من السخي والرحيم أكمل من الشفيق والخالق البارىء المصور أكمل من الفاعل الصانع ولهذا لم تجىء هذه في أسمائه الحسنى فعليك بمراعاة ما أطلقه سبحانه على نفسه من الأسماء والصفات والوقوف معها وعدم إطلاق ما لم يطلقه على نفسه ما لم يكن مطابقا لمعنى أسمائه وصفاته وحينئذ فيطلق المعنى لمطابقته لها دون اللفظ ولا سيما إذا كان مجملا أو منقسما أو ما يمدح به وغيره فإنه لا يجوز إطلاقه الا مقيدا وهذا كلفظ الفاعل والصانع فإنه لا يطلق عليه في اسمائه الحسنى إلا إطلاقا مقيدا كما أطلقه على نفسه كقوله فعال لما يريد ويفعل الله ما يشاء وقوله صنع الله الذي أتقن كل شيء فإن اسم الفاعل والصانع منقسم المعنى إلى ما يمدح عليه ويذم فلهذا المعنى والله أعلم لم يجيء في الأسماء الحسنى المريد كما جاء فيها السميع البصير ولا المتكلم الآمر الناهي لانقسام مسمى هذه الأسماء بل وصف نفسه بكمالاتها وشرف انواعها ومن هنا يعلم غلط بعض المتأخرين وزلقه الفاحش في اشتقاقه له سبحانه من كل فعل أخبر به عن نفسه اسما مطلقا وأدخله في أسمائه الحسنى فاشتق منها اسم الماكر والمخادع والفاتن والمضل تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا انتهى ملخصا من كلام الإمام ابن القيم

574

وقيل فصل الخطاب في أسماء الله الحسنى هل هي توقيفية أم لا وحاصله أن ما يطلق عليه من باب الأسماء والصفات توقيفي وما يطلق من باب الأخبار لا يجب أن يكون توقيفيا كالقديم والشيء الموجود والقائم بنفسه والصانع ونحو ذلك فادعوه بها أي اسألوه وتوسلوا إليه بها كما تقول اغفر لي وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم فإن ذلك من أقرب الوسائل وأحبها إليه كما في المسند والترمذي ألظوا بياذ الجلال والاكرام والحديث الآخر سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلا يدعو وهو يقول اللهم اني اسألك بأني أشهد أنك أنت الله الذي لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد فقال والذي نفسي بيده لقد سأل الله باسمه الاعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى رواه الترمذي وغيره وقوله عليه السلام اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك وبعفوك من عقوبتك وبك ومنك لا نحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك حديث صحيح رواه مسلم وغيره ومنه اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنان بديع السموات والأرض ياذا الجلال والإكرام رواه الترمذي بنحوه واللفظ لغيره قال ابن القيم فهذا سؤال له وتوسل إليه بحمده وأنه لا إله إلا هو المنان فهو توسل إليه بأسمائه وصفاته وما أحق ذلك بالإجابة وأعظمه موقعا عند السؤال واعلم أن الدعاء بها أحد مراتب إحصائها الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم إن لله تسعة وتسعين اسما من أحصاها دخل الجنة رواه البخاري وغيره وهي ثلاث مراتب المرتبة الأولى إحصاء ألفاظها وأسمائها وعددها

575

المرتبة الثانية فهم معانيها ومدلولها المرتبة الثالثة دعاؤه بها كما في الآية وهو نوعان دعاء ثناء وعبادة ودعاء طلب ومسألة فلا يثني عليه إلا بأسمائه الحسنى وصفاته العلى وكذا لا يسأل إلا بها فلا يقال يا موجود ويا شيء ويا ذات اغفر لي بل يسأل في كل مطلوب باسم يكون مقتضيا لذلك المطلوب فيكون السائل متوسلا اليه بذلك الاسم ومن تأمل أدعية الرسل لاسيما خاتمهم عليه وعليهم السلام وجدها مطابقة لهذا كما نقول رب اغفر لي وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم ولا يحسن إنك أنت السميع العليم البصير ولكن أسماؤه تعالى منها ما يطلق عليه مفردا وهو غالب الأسماء كالقدير والسميع والبصير والحكيم فهذا يسوغ أن يدعى به مفردا ومقترنا بغيره فتقول يا عزيز يا حكيم يا قدير يا سميع يا بصير وإن انفرد كل اسم وكذلك في الثناء عليه والخبر عنه وبه يسوغ لك الإفراد والجمع ومنها ما يطلق عليه مفردا بل مقرونا بمقابلة كالمانع والضار والمنتقم والمذل فلا يجوز أن يفرد هذا عن مقابله فإنه مقرون بالمعطي والنافع والعفو والعزيز والمعز فهو المعطي المانع الضار النافع المنتقم العفو المعز المذل لان الكمال في اقتران كل اسم من هذا بمقابله لأنه يراد به أنه المتفرد بالبربوبية وتدبير الخلق والتصرف فيهم إعطاء ومنعا ونفعا وضرا وانتقاما وإعزازا وإذلالا فأما الثناء عليه بمجرد المنع والانتقام والاضرار فلا يسوغ فهذه الاسماء الممزوجة يجري الاسمان منها مجرى الاسم الواحد الذي يمتنع فصل بعض حروفه من بعض ولذلك لم تجىء مفردة ولم تطلق عليه إلا مقترنة فلو قلت يا ضار يا مانع يا مذل لم تكن مثنيا عليه ولا حامدا له حتى تذكر مقابلتها انتهى ملخصا من كلام ابن القيم وفيه بعض

576

زيادة وبه يظهر الجواب عما قد يرد على ما سبق ذكر الأسماء الحسنى التي ورد عددها في الحديث لما كان إحصاء الأسماء الحسنى والعمل بها أصلا للعلم بكل معلوم وكانت سعادة الدنيا والآخرة مرتبة عليها فما حصل من آثارها للعباد هو الذي أوجب لهم دخول الجنة ولهذا جاء الحديث الصحيح المتفق عليه أن من أحصاها دخل الجنة وذكرنا مراتب الاحصاء لأن العبد محتاج بل مضطر الى معرفتها فوق كل ضرورة وقد قيل إن الله ذكرها كلها في القرآن ولا ريب أن الله تعالى ذكر أكثرها بلفظها ولم يذكره بلفظه ففي القرآن ما يدل عليه قال شعيب بن أبي حمزة عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لله تسعة وتسعين اسما من أحصاها دخل الجنة هو الله الذي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر الخالق البارىء المصور الغفار القهار الوهاب الرزاق الفتاح العليم القابض الباسط الخافض الرافع المعز المذل السميع البصير الحكم العدل اللطيف الخبير الحليم العظيم الغفور الشكور العلي الكبير الحفيظ المقيت الحسيب الجليل الكريم الرقيب المجيب الواسع الحكيم الودود المجيد الباعث الشهيد الحق الوكيل القوي المتين الولي الحميد المحصي المبدىء المعيد المحيي المميت الحي القيوم الواجد الماجد الواحد الاحد الصمد القادر المقتدر المقدم المؤخر الاول الآخر الظاهر الباطن الولي المتعال البر التواب المنعم المنتقم العفو الرؤوف مالك الملك

577

ذو الجلال والاكرام المقسط الجامع الغني المغني المانع الضار النافع النور الهادي البديع الباقي الوارث الرشيد الصبور هذا حديث غريب جدا حدثنا به غير واحد عن صفوان بن صالح ولا نعرفه إلا من حديث صفوان بن صالح وهو ثقة عند أهل الحديث وقد روي هذا الحديث من غير وجه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم لا نعلم في كبير شيء من الروايات ذكر الأسماء الحسنى في هذا الحديث وقد روى آدم عن أبي إياس هذا الحديث باسناد غير هذا عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم وذكر فيه الأسماء وليس له إسناد صحيح قلت يشير إلى عدد الأسماء سردا وإلا فصدر الحديث متفق عليه وقد خرجه بالعدد المذكور ابن المنذر وابن خزيمة في صحيحه وابن حبان والطبراني والحاكم في المستدرك وغيرهم به ولم يذكروا فيه المعطي وإسناده صحيح ولكن المغترب منه ذكر العدد ورواه ابن ماجه من طريق عبد الملك بن الصنعاني عن زهير بن محمد التميمي عن موسى بن عقبة عن الأعرج وساق الأسماء وخالف سياق الترمذي والترتيب والزيادة والنقص فأما الزيادة فهي البارىء الراشد البرهان الشديد الواقي القائم الحافظ الناظر السامع المعطي الأبد المنير التام القديم الوتر وعبد الملك لين الحديث وزهير مختلف فيه وحديث الوليد أصح إسنادا وأحسن سياقا وأجدر أن يكون مرفوعا ولهذا قال النووي هو حديث حسن قال بعضهم والعلة في كونهما لم يخرجاه بذكر الأسامي تفرد الوليد بن مسلم عالم الشاميين ثقة وقد قيل إن العدد المذكور مدرج قال في الإرشاد ما معناه ذكر جماعة من الحفاظ المحققين المتقنين أن سرد الأسماء في حديث أبي هريرة مدرج فيه وأن جماعة من أهل العلم جمعوها من القرآن كما روي ذلك

578

عن جعفر بن محمد وسفيان بن عيينة وابي زيد اللغوي وقال البيهقي يحتمل أن يكون التفسير للأسماء وقع من بعض الرواة ولهذا الاحتمال ترك الشيخان إخراج حديث الوليد في الصحيح قال في البدر والدليل على ذلك وجهان أحدهما أن أصحاب الحديث لم يذكروها والثاني أن فيها تغييرا بريادة ونقصان وذلك لا يليق بالمرتبة العليا النبوية كذل قال وفيه نظر فإن الزيادة والنقصان قد تكون من الرواة وإن كان الحديث صحيحا كما في غير ذلك من الأحاديث وقد رواه الطبراني في الدعاء والحاكم وغيرهما فزادوا الرب الإله الحنان المنان البارىء وفي لفظ القائم الفرد وفي لفظ القادر بدل الفرد والمغيث الدائم الحميد وفي لفظ الجميل الصادق المولى النصير القديم الوتر الفاطر العلام المليك الأكرم المدبر المالك الشاكر الرفيع ذو الطول المعارج ذو الفضل الخلاق ولا أظنه يثبت وإن كان بعض العدد صحيحا وعد جعفر بن محمد منها المنعم المتفضل السريع وقال ابن حزم جاءت في إحصائها أحاديث مضطربة لا يصح منها شيء أصلا ونقل عنه أنه قال صح عندي قريبا من ثمانين اسما واشتمل عليها الكتاب والصحاح من الأخبار فليطلب الباقي بطريق الاجتهاد وقال القرطبي في شرح الأسماء الحسنى العجب من ابن حزم ذكر من الأسماء الحسنى نيفا وثمانين فقط والله يقول ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم ساق ما ذكره ابن حزم وفيه من الزيادة على ما تقدم الرب الإله الأعلى الأكبر الأعز السيد السبوح الوتر المحسن الجميل الرفيق الدهر وقد عدها الحافظ فزاد الخفي السريع الغالب العالم الحافظ المستعان وفي هذا نظر يفهم مما تقدم وإن كان قد ذكر بعضها فيما لا يثبت من الحديث فهذه خمسة وستون ومائة اسم أقربها من جهة الإسناد سياق الترمذي وما عدا

579

ذلك ففيه أسماء صحيحة ثابتة وفي بعضها توقف وبعضها خطأ محض كالأبد والناظر والسامع والقائم والسريع فهذه وإن ورد عدادها في بعض الأحاديث فلا يصح ذلك أصلا وكذلك الدهر والفعال والفالق والمخرج والعالم مع أن هذه لم ترد في شيء من الأحاديث إلا حديث لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر وقد مضى معناه وبينا خطأ ابن حزم في عده من الأسماء الحسنى هناك واعلم أن الأسماء الحسنى لا تدخل تحت حصر ولا تحد بعدد فإن لله تعالى أسماء وصفات استأثر بها في علم الغيب عنده ولا يعلمها ملك مقرب ولا نبي مرسل كما في الحديث الصحيح أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك رواه أحمد وابن حبان في صحيحه وغيرهما قال ابن القيم فجعل أسماءه ثلاثة أقسام قسم سمى به نفسه فأظهره لمن شاء من ملائكته أو غيرهم ولم ينزل به كتابه وقسم أنزل به كتابه وتعرف به إلى عباده وقسم استأثر به في علم غيبه فلم يطلع عليه أحدا من خلقه ولهذا قال استأثرت به أي انفردت بعلمه وليس المراد انفراده بالمسمى به لأن هذا الانفراد ثابت في الأسماء التي انزل بها كتابه ومن هذا قوله عليه السلام في حديث الشفاعة فيفتح علي من محامده بمالا أحسنه الآن وتلك المحامد هي بأسمائه وصفاته ومنه قوله لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك وأما قوله صلى الله عليه وسلم إن لله تسعة وتسعين اسما من أحصاها دخل الجنة فالكلام جملة واحدة وقوله من أحصاها دخل الجنة صفة لا خبر مستقبل والمعنى له أسماء متعددة من شأنها أن من أحصاها دخل الجنة وهذ كقولك لفلان ألف شاة أعدها للأضياف فلا يدل على أنه لا يملك غيرها وهذا لا خلاف بين العلماء فيه

580

وقوله تعالى وذروا الذين يلحدون في أسمائه أي اتركوهم وأعرضوا عن مجادلتهم قال ابن القيم والإلحاد في أسمائه هو العدول بها وبحقائقها ومعانيها عن الحق الثابت لها وهو مأخوذ من الميل كما يدل عيله مادة اللحد ومنه اللحد وهو الشق في جانب القبر الذي قد مال عن الوسط ومنه اللحد في الدين المائل عن الحق إلى الباطل إذا عرف هذا فالإلحاد في أسمائه أحدها أن يسمي الأصنام بها كتسميتهم اللات من الإله والعزى من العزيز وتسميتهم الصنم إلها وهذا إلحاد حقيقة فهم عدلوا بأسمائه الى أوثانهم وآلهتهم الباطلة الثاني تسميته بما لا يليق بجلاله كتسمية النصارى له أبا وتسمية الفلاسفة له موجبا بذاته أو علة فاعلة بالطبع ونحو ذلك وثالثها وصفه بما يتعالى عنه ويتقدس من النقائص كقول أخبث اليهود إنه فقير وقولهم إنه استراح بعد أن خلق خلقه وقولهم يد الله مغلولة وأمثال ذلك مما هو إلحاد في أسمائه وصفاته ورابعها تعطيل الأسماء الحسنى عن معانيها وجحد حقائقها كقول من يقول من الجهمية وأتباعهم إنها ألفاظ مجردة لا تتضمن صفات ولا معاني فيطلقون عليه اسم السميع والبصير والحي والرحيم والمتكلم ويقولون لا حياة له ولا سمع ولا بصر ولا كلام ولا إرادة تقوم به وهذا من أعظم الإلحاد فيها عقلا وشرعا ولغة وفطرة وهو يقابل إلحاد المشركين فإن أولئك أعطوا من أسمائه وصفاته لآلهتهم وهؤلاء سلبوا كماله وجحدوها وعطلوها وكلاهما ألحد في أسمائه ثم الجهمية وفروخهم متفاوتون في هذا الإلحاد فمنهم الغالي والمتوسط والمتلوث وكل من جحد شيئا مما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم فقد ألحد في ذلك فليقل أو ليستكثر وخامسها تشبيه صفاته بصفات خلقه تعالى الله عما يقول

581

المشبهون علوا كبيرا فهذا الإلحاد في مقابله إلحاد المعطلة فإن أولئك نفوا صفات كماله وجحدوها وهؤلاء شبهوها بصفات خلقه فجمعهم الإلحاد وتفرقت بهم طرقه وبرأ الله أتباع رسوله وورثته القائمين بسنته عن ذلك كله فلم يصفوه إلا بما وصف به نفسه ولم يجحدوا صفاته ولم يشبهوها بصفات خلقه ولم يعدلوا بها عما أنزلت عليه لفظا ولا معنى بل أثبتوا له الاسماء والصفات ونفوا عنه مشابهة المخلوقات فكان إثباتهم بريئا من التشبيه وتنزيههم خاليا من التعطيل لا كمن شبه كأنه يعبد صنما أو عطل حتى كأنه لا يعبد إلا عدما وأهل السنة وسط في النحل كما أن أهل الإسلام وسط في الملل توقد مصابيح معارفهم من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء سيجزون ما كانوا يعملون وعيد وتهديد قوله يلحدون في أسمائه يشركون أي يشركون غيره في أسمائه كتسميتهم الصنم إلها ويحتمل أن المراد الشرك في العبادة لأن أسماءه تعالى تدل على التوحيد فالإشراك بغيره إلحاد في معاني أسمائه سبحانه وتعالى لا سيما مع الإقرار بها كما كانوا يقرون بالله ويعبدون غيره فهذا الاسم وحده أعظم الأدلة على التوحيد فمن عبد غيره فقد ألحد في هذا الاسم وعلى هذا بقية الأسماء وهذا الاثر لم يروه ابن أبي حاتم عن ابن عباس إنما رواه عن قتادة فاعلم ذلك قوله وعنه سمو اللات من الإله والعزى من العزيز هذا الأثر معطوف على سابقه أي رواه ابن أبي حاتم عن ابن عباس وكذلك الأثر الثاني عن الأعمش معطوف على سابقه أي رواه ابن أبي حاتم عنه والأعمش اسمه

582

سليمان بن مهران أبو محمد الكوفي الفقيه ثقة حافظ ورع مات سنة وكان مولده أو سنة قوله يدخلون فيها ما ليس منها أي كتسمية النصارى له ابا ونحوه كما سبق باب لا يقال السلام على الله لما كان حقيقة لفظ الإسلام السلامة والبراءة والخلاص والنجاة من الشر والعيوب فإذا قال المسلم السلام عليكم فهو دعاء للمسلم عليه وطلب له أن يسلم من الشر كله والله هو المطلوب منه لا المطلوب له وهو المدعو لا المدعو له وهو الغني له ما في السموات وما في الأرض استحال ان يسلم عليه سبحانه وتعالى بل هو المسلم على عباده كما قال تعالى قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى وقال وسلام على المرسلين وقال تحيتهم يوم يلقونه سلام فهو السلام ومنه السلام لا إله غيره ولا رب سواه في الصحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه قال كنا إذا كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة قلنا السلام على الله من عباده السلام على فلان فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا تقولوا السلام على الله فإن الله هو السلام ش قوله في الصحيح أي الصحيحين

583

قوله قلنا السلام على الله أي يقولون ذلك في التشهد الأخير كما هو مصرح به في بعض ألفاظ الحديث كنا نقول قبل أن يفرض التشهد السلام على الله فقال النبي صلى الله عليه وسلم إن الله هو السلام ولكن قولوا التحيات لله قوله فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا تقولوا السلام على الله أي والله أعلم لما تقدم وكأن السلام اسمه كما يرشد اليه آخر الحديث قوله فإن الله هو السلام أنكر عليه السلام التسليم على الله وأخبر أن ذلك عكس ما يجب له سبحانه فإن كل سلام ورحمة له ومنه فهو مالكها ومعطيها وهو السلام قال ابن الانباري أمرهم أن يعرفوه إلى الخلق لحاجتهم إلى السلامة وقال غيره وهذا كله حماية منه صلى الله عليه وسلم لجناب التوحيد حتى يعرف الله تعالى ما يستحقه من الأسماء والصفات وأنواع العبادات قوله السلام على فلان وفلان اختلف العلماء في معنى السلام المطلوب عند التحية على قولين أحدهما أن المعنى اسم السلام عليكم والسلام هنا هو الله عز وجل ومعنى الكلام نزلت بركة اسم السلام عليكم وحملت عليكم فاختير في هذا المعنى من أسمائه اسم السلام دون غيره ويدل عليه قوله في آخر الحديث قوله فإن الله هو السلام فهذا صريح في كون السلام اسما من أسمائه فإذا قال المسلم السلام عليكم كان معناه اسم السلام عليكم يدل عليه ما رواه أبو داود عن ابن عمر أن رجلا سلم على النبي صلى الله عليه وسلم فسلم يرد عليه حتى استقبل الجدار ثم تيمم ورد عليه وقال إني كرهت أن أذكر الله إلا على طهر ففي هذا بيان أن السلام ذكر لله وإنما يكون ذكرا إذا تضمنت اسما من أسمائه

584

الثاني أن السلام مصدر بمعنى السلامة وهو المطلوب المدعو به عند التحية لأنه ينكر بلا ألف ولام فيجوز ان يقول المسلم سلام عليكم ولو كان اسما من أسمائه تعالى لم يستعمل كذلك بل كان يطلق عليه معزفا كما يطلق على سائر أسمائه الحسنى فيقال السلام المؤمن المهيمن فإن التنكير لا يصرف اللفظ إلى معين فضلا عن أن يصرفه إلى الله وحده بخلاف المعرف فإنه ينصرف إليه تعيينا إذا ذكرت أسماؤه الحسنى ويدل على ذلك عطف الرحمة والبركة عليه في قوله سلام عليكم ورحمة الله وبركاته ولأنه لو كان اسما من أسمائه تعالى لم يستقم الكلام بالإضمار وذلك خلاف الأصل ولا دليل عليه ولأنه ليس المقصود من السلام هذا المعنى وإنما المقصود منه الإيذان بالسلامة خبرا ودعاء قال ابن القيم والصواب في مجموعهما أي القولين وذلك أن من دعا الله بأسمائه الحسنى يسأل في كل مطلوب ويتوسل إليه بالاسم المقتضي لذلك المطلوب المناسب لحصوله حتى كأن الداعي مستشفع اليه متوسل به فإذا قال رب اغفر لي وتب علي إنك انت التواب الرحيم الغفور فقد سأله أمرين وتوسل اليه باسمين من أسمائه مقتضيين لحصول مطلوبه وهذا كثير جدا وإذا ثبت هذا المقام لما كان طلب السلامة التي هي أهم ما عند الرجل أتى بلفظها بصيغة اسم من أسمائه تعالى وهو السلام الذي تطلب منه السلامة فتضمن لفظ السلام معنيين أحدهما ذكر الله تعالى كما في حديث ابن عمر والثاني طلب السلامة وهو المقصود من المسلم فقد تضمن سلام عليكم اسما من أسماء الله وطلب السلامة منه انتهى ملخصا

585

باب قول اللهم أغفر لي إن شئت ش لما كان العبد لاغناء له عن رحمة الله ومغفرته طرفة عين بل فقير بالذات إلى الغني بالذات كما قال تعالى يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد نهى عن قول ذلك لما فيه من إيهام الاستغناء عن مغفرة الله ورحمته كما سيأتي وذلك مضاد للتوحيد في الصحيح عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا يقولن أحدكم اللهم اغفر لي إن شئت اللهم ارحمني إن شئت ليعزم المسألة فإن الله لا مكره له ولمسلم وليعظم الرغبة فإن الله لا يتعاظمه شيء أعطاه ش قوله في الصحيح أي الصحيحين قوله اللهم اغفر لي إن شئت قال القرطبي إنما نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن هذا القول لأنه يدل على فتور الرغبة وقلة الاهتمام بالمطلوب وكأن هذا القول يتضمن أن هذا المطلوب إن حصل والا استغنى عنه ومن كان هذا حاله لم يتحقق من حاله الافتقار والاضطرار الذي هو روح عبادة الدعاء وكان ذلك دليلا على قلة معرفته بذنوبه وبرحمة ربه وأيضا فإنه لا يكون موقنا بالإجابة وقد قال عليه السلام ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة واعلموا أن الله لا يستجيب دعاء من قلب غافل

586

قوله ليعزم المسألة قال القرطبي أي ليجزم في طلبته ويحقق رغبته ويتيقن الإجابة فإنه اذا فعل ذلك دل على علمه بعظيم ما يطلب من المغفرة والرحمة وعلى أنه مفتقر الى ما يطلب مضطر إليه وقد وعد الله المضطر بالإجابة بقوله أمن يجيب المضطر إذا دعاه قوله فإنه لا مكره له أي فإن الله لا مكره له هذا لفظ البخاري في الدعوات ولفظ مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقولن أحدكم اللهم اغفر لي إن شئت اللهم ارحمني إن شئت ليعزم على المسألة في الدعاء فإن الله صانع ما شاء لا مكره له قال القرطبي هذا إظهار لعدم فائدة تقبل الاستغفار والرحمة بالمشيئة كأن الله تعالى لا يضطره الى فعل شيء دعاء ولا غيره بل يفعل ما يريد ويحكم ما يشاء ولذلك قيد لله تعالى الإجابة بالمسألة في قوله فيكشف ما تدعون إليه إن شاء فلا معنى لاشتراط المشيئة بقيله قوله ولمسلم أي من وجه آخر قوله وليعظم الرغبة هو بالتشديد فإن الله لا يتعاظمه شيء أعطاه يقال تعاظم زيد هذا الأمر أي كبر عليه وعسر قال والرغبة يعني الطلبة والحاجة التي يريد وقيل السؤال والطلب تعظيم على هذا بالإلحاح والأول أظهر أي لسعة جوده وكرمه لا يعظم عليه إعطاء شيء بل جميع الموجودات في أمره يسير وهو أكبر من ذلك وهذا هو غاية المطالب فالاقتصار على الداني في المسألة إساءة ظن بجوده وكرمه

587

باب لا يقول عبدي وأمتي ش أي لما في ذلك من الإيهام من المشاركة في الربوبية فنهي عن ذلك أدبا مع جناب الربوبية وحماية لجناب التوحيد قال في الصحيح عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا يقل أحدكم أطعم ربك وضىء ربك وليقل سيدي ومولاي ولا يقل أحدكم عبدي وأمتي وليقل فتاي وفتاتي وغلامي ش قوله في الصحيح أي الصحيحين قوله لا يقل أحدكم هو بالجزم على النهي والمراد أن يقول ذلك لمملوكه أو مملوك غيره فالكل منهي عنه قوله أطعم ربك بفتح الهمزة من الإطعام قوله وضيء ربك أمر من الوضوء وفيهما في هذا الحديث زيادة اسق ربك و كأن المؤلف اقتصرها قال الخطابي وسبب المنع أن الانسان مربوب معبد باخلاص التوحيد لله تعالى وترك الإشراك به فترك المضاهاة بالاسم لئلا يدخل في معنى الشرك ولا فرق في ذلك بين الحر والعبد وأما من لا تعبد عليه من سائر الحيوانات والجمادات فلا يكره أن يطلق ذلك عليه عند الإضافة كقوله رب الدار والثوب قال ابن مفلح في الفروع وظاهر النهي التحريم وقد يحتمل أنه للكراهية وجزم به غير واحد من العلماء فإن قلت قد قال الله تعالى حكاية عن يوسف عليه السلام اذكرني عند ربك وقال النبي صلى الله عليه وسلم

588

في اشتراط الساعة أن تلد الأمة ربتها فهذا يدل على الجواز قيل فأما الآية ففيها جوابان أحدهما وهو الأظهر أن هذا جائز في شرع من قبلنا وقد ورد شرعنا بخلافه والثاني أنه ورد لبيان الجواز والنهي للأدب والتنزيه دون التحريم وأما الحديث فليس من هذا الباب للتأنيث والنهي عنه أن يقول ذلك للذكر لما فيه من ايهام المشاركة وهو معدوم في الأنثى أو يقال بحمله على الكراهة في الأنثى أيضا لورود الحديث بذلك دون الذكر لأنه لم يرد فيه الا النهي ويقال وهو أظهر إن هذا ليس فيه إلا وصفها بذلك لا دعاؤها به وتسميتها به وفرق بين الدعاء والتسمية وبين الوصف كما تقول زيد فاضل فتصفه بذلك ولا تسميه به ولا تدعوه به قوله وليقل سيدي قيل إن الفرق بين الرب والسيد لأن الرب من أسماء الله تعالى اتفاقا واختلف في السيد هل هو من أسماء الله تعالى ولم يأت في القرآن أنه من أسماء الله لكن في حديث عبدالله بن الشخير السيد الله وسيأتي فإن قلنا ليس من أسماء الله فالفرق واضح إذ لا التباس وإن قلنا إنه من أسماء الله فليس في الشهرة والاستعمال كلفظ الرب فيحصل الفرق وأما من حيث اللغة فالسيد من السؤدد وهو التقدم يقال ساد قومه إذا تقدمهم ولا شكر في تقديم السيد على غلامه فلما حصل الافتراق جاز الاطلاق قلت وحديث ابن الشخير لا ينفي إطلاق لفظ السيد على غير الله بل المراد أن الله هو الأحق بهذا الاسم بأنواع العبارات ما أن غيره لا يسمى به

589

ومولاي قال النووي المولى يطلق على ستة عشر معنى منها الناظر والمولى والمالك وحينئذ فلا بأس أن يقول مولاي قال في الفروع ولا يقل عبدي وأمتي كلكم عبيد الله وإماء الله ولا يقل العبد لسيده ربي وفي مسلم أيضا ولا مولاي فمولاكم الله وظاهر النهي للتحريم وقد يحتمل أنه للكراهة وجزم به غير واحد من العلماء كما في شرح مسلم انتهى كلامه قلت فظاهر رواية مسلم معارضة لحديث الباب وأجيب بأن مسلما قد بين الاختلاف فيه عن الأعمش وأن منهم من ذكر هذه الزيادة ومنهم من حذفها قال عياض وحذفها أصح فظهر أن اللفظ الأول أرجح وإنما صرنا للترجيح للتعارض بينهما والجمع متعذر والعلم بالتاريخ مفقود فلم يبق إلا الترجيح قلت الجمع ممكن بحمل النهي على الكراهة أو على خلاف الأولى قوله ولا يقل أحدكم عبدي وأمتي لأن حقيقة العبودية إنما يستحقها الله تعالى ولأن فيها تعظيما لا يليق بالمخلوق وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم العلة في ذلك كما رواه أبو داود باسناد صحيح عن أبي هريرة مرفوعا لا يقولن أحدكم عبدي وأمتي ولا يقولن المملوك ربي وربتي وليقل المالك فتاي وفتاتي وليقل المملوك سيدي وسيدتي فإنكم المملوكون والرب الله عز وجل ورواه أيضا بإسناد صحيح موقوفا فهذه علة له وفي رواية لمسلم لا يقولن أحدكم عبدي فإن كلكم عبيد الله قال في مصابيح الجامع النهي إنما جاء

590

متوجها إلى السيد إذ هو في مظنه الاستطالة وأما قول الغير هذا عبد زيد وهذه أمة خالد فجائز لأنه يقول إخبارا أو تعريفا وليس في مظنة الاستطالة قلت وهو حسن وقد رويت أحاديث تدل على ذلك وقال أبو جعفر النحاس لا نعلم بين العلماء خلافا أنه ينبغي لأحد أن يقول لأحد من المخلوقين مولاي ولا يقول عبدك وعبدي وإن كان مملوكا وقد حظر رسول الله صلى الله عليه وسلم على المملوكين فكيف للأحرار قوله وليقل فتاي وفتاتي وغلامي أي لأنها ليست دالة على الملك كدلالة عبدي وأمتي فأرشد عليه السلام إلى ما يؤدي المعنى من السلامة من الايهام والتعاظم مع أنها تطلق على الحر والمملوك لكن إضافته تدل على الإخلاص باب لا يرد من سئل بالله ش أي إعظاما وإجلالا لله تعالى أن يسأل به في شيء ولايجاب السائل إلى سؤاله ومطلوبه ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بابرار القسم وتنازعوا هل هو أمر استحباب أو إيجاب وظاهر كلام شيخ الاسلام التفريق بين أن يقصد إلزامه بالقسم فتجب إجابته أو يقصد إكرامه فلا تجب عليه ولهذا أوجب على المقسم في الأولى الكفارة إذا لم يفعل المحلوف عليه دون الثانية لأنه كالأمر ولا يجب إذا كان للاكرام لأمر النبي صلى الله عليه وسلم ابا بكر بوقوفه في

591

الصف ولم يقف ولأن أبا بكر اقسم على النبي صلى الله عليه وسلم ليخبرنه بالصواب والخطأ لما فسر الرؤيا فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا تقسم كما في الصحيحين قال لأنه علم أنه لم يقصد الإقسام عليه مع المصلحة المقتضية للكتم قال عن ابن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من استعاذ بالله فأعيذوه ومن سأل بالله فأعطوه ومن دعاكم فأجيبوه ومن صنع اليكم معروفا فكافئوه فإن لم تجدوا ما تكافئوه فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه رواه أبو داود والنسائي بسند صحيح ش قوله من استعاذ بالله فأعيذوه أي من سألكم أن تدفعوا عنه شركم أو شر غيركم بالله كقوله بالله عليك أن تدفع عني شر فلان أو شرك أعوذ بالله من شرك أو شر فلان ونحو ذلك فأعيذوه أي امنعوه مما استعاذ منه وكفوه عنه لتعظيم اسم الله تعالى ولهذا قالت الجونية للنبي صلى الله عليه وسلم أعوذ بالله منك قال لقد عذت بمعاذ الحقي بأهلك ولفظ أبي داود من استعاذكم بالله فأعيذوه ومن سألكم بالله فأعطوه قوله ومن سأل بالله فأعطوه وفي حديث ابن عباس عند أحمد وأبي داود ومن سألكم بوجه الله فأعطوه ومعناه ظاهر وهو يقول أسألك بالله أو بوجه الله ونحو ذلك أن تفعل أو تعطيني كذا ويدخل في ذلك القسم عليه بالله أن يفعل كذا وظاهر الحديث وجوب إعطائه ما سال ما لم يسأل إثما أو قطيعة رحم وقد جاء الوعيد على ذلك في عدة أحاديث منها حديث أبي موسى مرفوعا ملعون من سئل بوجه الله وملعون من يسأل بوجهه ثم منع سائله ما لم يسأل هجرا رواه الطبراني قال في تنبيه الغافلين ورجال إسناده رجال الصحيح إلا شيخه يحي بن عثمان بن صالح والاكثر

592

على توثيقه فان بلغ هذا الإسناد أو إسناد غيره مبلغا يحتج به كان ذلك من الكبائر وعن أبي عبيدة مولى رفاعة بن رافع مرفوعا ملعون من سأل بوجه الله وملعون من سئل بوجه الله فمنع سائله رواه الطبراني أيضا وعن ابن عباس مرفوعا ألا أخبركم بشر الناس رجل يسأل بالله ولا يعطي رواه الترمذي وحسنه وابن حبان في صحيحه وعن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا أخبركم بشر البرية قالوا بلى يا رسول الله قال الذي يسأل بالله ولا يعطي رواه أحمد إذا تبين هذا فهذه الأحاديث دالة على إجابة من سئل بالله أو أقسم به ولكن قال شيخ الاسلام انما تجب على معين فلا تجب على سائل يقسم على الناس وظاهر كلام الفقهاء أن ذلك مستحب كابرار القسم والاول اصح قوله ومن دعاكم فأجيبوه أي من دعاكم الى طعام فأجيبوه فإن كانت وليمة عرس وتوفرت الشروط المبينة في كتب الفقه وجبت الاجابة وإن كان لغيرها استحب إجابتها وتجب مطلقا وهو الصحيح لظاهر الاحاديث وهي لم تفرق بين وليمة العرس وغيرها وان كانت وليمة العرس آكد وأوجب قوله ومن صنع اليكم معروفا فكافئوه المعروف اسم جامع للخير وقوله فكافئوه أي على إحسانه بمثله أو خير منه وقد اشار شيخ الاسلام الى مشروعية المكافأة لأن القلوب جبلت على حب من أحسن اليها فهو اذا أحسن اليه ولم يكافئه يبقى في قبله نوع تأله لمن أحسن اليه فشرع قطع ذلك بالمكافأة فهذا معنى كلامه وقال غيره انما أمر بالمكافأة ليخلص القلب

593

من احسان الخلق ويتعلق بالحق ولفظ أبي داود من أتى اليكم معروفا قوله فان لم تجدوا ما تكافئوه هكذا ثبت بحذف النون في خط المصنف وهكذا هو في غيره من اصول الحديث قال الطيبي سقطت من غير ناصب ولا جازم إما تخفيفا أو سهوا من الناسخ قوله فادعوا له الى الخ يعني من أحسن اليكم أي إحسان فكافئوه بمثله فإن لم تقدروا فبالغوا في الدعاء له جهدكم حتى تحصل المسألة ووجه المبالغة أنه رأى في نفسه تقصيرا في المجازاة لعدم القدرة عليها فأحالها الى الله ونعم المجازي هو وهذا الحديث رواه أيضا أحمد باسناد صحيح وابن حبان والحاكم وصححه النووي وقد روى الترمذي وصححه النسائي وابن حبان عن أسامة بن زيد مرفوعا من صنع اليكم معروفا فقال الفاعل جزاك الله خيرا فقد أبلغ في الثناء باب لا يسأل بوجه الله الا الجنة أي إعظاما وإجلالا واكراما لوجه الله أن يسأل به الاغاية المطالب وهذا من معاني قوله تعالى ويبقى وجه ربك ذو الجلال والاكرام قال عن جابر بن عبدالله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يسأل بوجه الله الا الجنة رواه أبو داود أيضا

594

س قوله عن جابر هو جابر بن عبدالله قوله لا يسأل بوجه الله الا الجنة روي بالنفي والنهي وروي بالبناء للمجهول وهو الذي في الاصل وروي بالخطاب للمفرد وفيه اثبات الوجه خلافا للجهمية ونحوهم فانهم أولوا الوجه بالذات وهو باطل إذ لا يسمى ذات الشيء وحقيقته وجها فلا يسمى الانسان وجها ولا تسمى يده وجها ولا تسمى رجله وجها والقول في الوجه عند أهل السنة كالقول في بقية الصفات فيثبتونه لله على ما يليق بجلاله وكبريائه من غير كيف ولا تحديد إثبات بلا تمثيل وتنزيه بلا تعطيل قوله إلا الجنة كأن يقول اللهم إني أسألك بوجهك الكريم أن تدخلني الجنة وقيل المراد لا تسألوا من الناس شيئا بوجه الله كأن يقول أعطني شيئا بوجه الله فإن الله أعظم من أن يسأل به شيء من الحطام قلت والظاهر أن كلا المعنيين صحيح قال الحافظ العراقي وذكر الجنة إنما هو للتنبيه به على الأمور العظام لا للتخصيص فلا يسأل بوجهه في الأمور الدنيئة بخلاف الأمور العظام تحصيلا أو دفعا كما يشير اليه استعاذة النبي صلى الله عليه وسلم به قلت والظاهر أن المراد لا يسال بوجه الله إلا الجنة أو ما هو وسيلة اليها كالاستعاذة بوجه الله من غضبه ومن النار ونحو ذلك مما هو وارد في أدعيته صلى الله عليه وسلم وتعوذاته ولما نزل قوله تعالى قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم قال النبي صلى الله عليه وسلم أعوذ بوجهك أو من تحت

595

أرجلكم قال أعوذ بوجهك رواه البخاري وهذا الحديث رواه أيضا في المختارة أيضا ولكن في اسناده سليمان بن معاذ قال ابن معين ليس بشيء وضعفه عبد الحق وابن القطان باب ما جاء في اللو اعلم أن من كمال التوحيد الاستسلام للقضاء والقدر رضا بالله ربا فإن هذا من جنس المصائب والعبد مأمور عند المصائب بالصبر والارجاع والتوبة وقول لو لا يجدي عليه إلا الحزن والتحسر مع ما يخاف توحيده من نوع المعاندة للقدر الذي لا يكاد يسلم منها من وقع منه هذا الا ما شاء الله فهذا وجه ايراده هذا الباب في التوحيد قال وقول الله تعالى يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا الآية ش قال ابن كثير فسر ما أخفوه في أنفسهم بقوله يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا أي يسرون هذه المقالة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ابن اسحاق حدثني يحيى بن عبادة بن عبدالله بن الزبير عن أبيه عن عبدالله

596

بن الزبير قال لقد رأيتني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين اشتد الخوف علينا ارسل الله علينا النوم فما منا رجل إلا ذقنه في صدره فوالله إني لأسمع قول معتب بن قشير ما أسمعه إلا كالحلم لو كان لنا من الامر شيء ما قتلنا ههنا فحفظتها منه وفي ذلك أنزل الله عز وجل يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا لقول معتب رواه ابن أبي حاتم قال الله تعالى قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم أي هذا قدر مقدر من الله عز وجل وحكم حتم لازم لا محيد عنه ولا مناص منه قلت فتبين وجه ايراد المصنف الآية على الترجمة لأن قول لو في الأمور المقدرة من كلام المنافقين ولهذا رد الله عليهم ذلك بأن هذا قدر فمن كتب عليه شيء فلا بد ان يناله فماذا يغني عنكم قول لو وليت الا الحسرة والندامة فالواجب عليكم في هذه الحالة الإيمان بالله والتعزي بقدره مع ما ترجون من حسن ثوابه وفي ذلك عين الفلاح لكم في الدنيا والآخرة بل يصل الأمر الى ان تنقلب المخاوف أمانا والاحزان سرورا وفرحا كما قال عمر بن عبد العزيز أصحبت وما لي سرور إلا في مواقع القضاء والقدر قال وقوله تعالى الذين قالوا لاخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا الآية ش روى ابن جرير عن السدي قال خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد في ألف رجل وقد وعدهم الفتح إن صبروا فلما خرجوا رجع عبدالله بن أبي في ثلاثمائة فتبعهم ابو جابر السلمي يدعوهم فلما غلبوه وقالوا له ما نعلم

597

قتالا ولئن أطعتنا لترجعن معنا فنزل الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا الآية وعن ابن جريج في الآية قال هو عبدالله بن أبي الذين قعدوا وقالوا لإخوانهم الذين خرجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد رواه ابن جرير وابن أبي حاتم فعلى هذا إخوانهم هم المسلمون المجاهدون وسموا إخوانهم لموافقتهم في الظاهر وقيل إخوانهم في النسب لافي الدين لو أطاعونا ما قتلوا قال ابن كثير لو سمعوا مشورتنا عليهم في القعود وعدم الخروج ما قتلوا مع من قتل قال الله تعالى قل فادرؤوا عن أنفسكم الموت ان كنتم صادقين أي ان كان القعود يسلم به الشخص من القتل والموت فينبغي أنكم لا تموتون والموت لابد آت اليكم ولو كنتم في بروج مشيدة فادفعوا عن أنفسكم الموت ان كنتم صادقين قال مجاهد عن جابر بن عبدالله نزلت هذه الآية في عبدالله بن أبي قلت وكان أشار على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد بعدم الخروج فلما قدر الله الأمر قال ذلك تصويبا لرأيه ورفعا لشأنه فرد الله عليه وعلى أمثاله قل فادرؤوا عن أنفسكم الموت ان كنتم صادقين فلا تعذرون عن ذلك فعلم أن ذلك بقضاء الله وقدره أي يستوي الذي في وسط الصفوف والذي في البروج المشيدة في القتل والموت بل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل الى مضاجعهم فلا ينجي حذر عن قدر وفي ضمن ذلك قول لو ونحوه في مثل هذا المقام لأن ذلك لا يجدي شيئا اذ المقدر قد وقع فلا سبيل الى دفعه أبدا واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا

598

قال في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز وان أصابك شيء قلا تقل لو أني فعلت لكان كذا وكذا ولكن قل قدر الله وما شاء فعل فإن لو تفتح عمل الشيطان ش قوله في الصحيح أي صحيح مسلم قوله احرص على ما ينفعك الخ هذا الحديث اختصره المصنف رحمه الله ولفظه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال المؤمن القوي خير وأحب الى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير احرص على ما ينفعك الى آخره فقوله عليه السلام المؤمن القوي خير وأحب الى الله من المؤمن الضعيف فيه أن الله سبحانه موصوف بالمحبة وأنه يحب على الحقيقة كما قال يحبهم ويحبونه وفيه أنه سبحانه يحب مقتضى أسمائه وصفاته وما يوافقها فهو القوي ويحب المؤمن القوي وهو وتر يحب الوتر وجميل يحب الجمال وعليم يحب العلماء ومحسن يحب المحسنين وصبور يحب الصابرين وشكور يحب الشاكرين قلت الظاهر أن المراد القوة في أمر الله وتنفيذه والمسابقة بالخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصبر على ما يصيب في ذات الله ونحو ذلك لا قوة البدن ولهذا مدح الله الأنبياء بذلك في قوله واذكر عبادنا ابراهيم واسحق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار فالأيدي القوة والعزائم في تنفيذ أمر الله وقوله واذكر عبدنا داود ذا الأيد انه أواب

599

وقوله في كل خير أي كل من المؤمن القوي والمؤمن الضعيف على خير وعافية لاشتراكهما في الإيمان والعمل الصالح ولكن القوي في ايمانه ودينه أحب الى الله وفيه أن محبة المؤمنين تتفاضل فيحب بعضهم أكثر من بعض وقوله احرص على ما ينفعك هو بفتح الراء وكسرها قال ابن القيم سعادة الانسان في حرصه على ما ينفعه في معاشه ومعاده والحرص هو بذل الجهد واستفراغ الوسع فإذا صادف ما ينتفع به الحريص كان حرصه محمودا وكماله كله في مجموع هذين الأمرين أن يكون حريصا وأن يكون حرصه على ما ينتفع به فإن حرص على مالا ينفعه أو فعل ما ينفعه بغير حرص فإنه من الكمال بحسب ما فاته من ذلك فالخير كله في الحرص على ما ينفع قوله واستعن بالله قال ابن القيم لما كان حرص الانسان وفعله إنما هو بمعونة الله ومشيئتة وتوفيقه أمره أن يستعين به ليجتمع له مقام اياك نعبد واياك نستعين فإن حرصه على ما ينفعه عبادة لله ولاتتم الا بمعونته فأمره بأن يعبده ويستعين به وقال غيره استعن بالله أي اطلب الإعانة في جميع أمورك من الله لا من غيره كما قال تعالى اياك نعبد واياك نستعين فإن العبد عاجز لا يقدر على شيء إن لم يعنه الله عليه فلا معين له على مصالح دينه ودنياه الا الله عز وجل فمن اعانه الله فهو المعان ومن خذله فهو المخذول وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته ويعلم أصحابه أن يقولوا الحمد لله نستعينه ونستهديه ومن دعاء القنوت اللهم إنا نستعينك وأمر معاذ بن جبل أن لا يدع في دبر كل صلاة أن يقول اللهم

600

أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك وكان ذلك من دعائه صلى الله عليه وسلم ومنه أيضا اللهم أعني ولا تعن علي واذا حقق العبد مقام الاستعانة وعمل به كان مستعينا بالله عز وجل متوكلا عليه راغبا وراهبا إليه فيستحق له مقام التوحيد إن شاء الله تعالى قوله ولا تعجزن وهو بكسر الجيم وفتحها استعمل الحرص والاجتهاد وفي تحصيل ما ينفعك من أمر دينك ودنياك التي تستعين بها على صيانة دينك وصيانة عيالك ومكارم أخلاقك ولا تفرط في طلب ذلك ولا تتعاجز عنه متكلا على القدر أو متهاونا بالأمر فتنسب للتقصير وتلام على التفريط شرعا وعقلا مع انهاء الاجتهاد نهايته وبلاغ الحرص غايته فلا بد من الاستعانة بالله والتوكل عليه والالتجاء في كل الأمور اليه فمن ملك هذين الطريقين حصل على خير الدارين وقال ابن القيم العجز ينافي حرصه على ما ينفعه وينافي استعانته بالله فالحريص على ما ينفعه المستعين بالله ضد العاجر فهذا ارشاد له قبل رجوع المقدور الى ما هو من أعظم أسباب حصوله وهو الحريص عليه مع الاستعانة بمن أزمة الأمور بيده ومصدرها منه ومردها اليه قوله فإن أصابك شيء الى آخره العبد اذا فاته ما لم يقدر له فله حالتان حالة عجز وهي مفتاح عمل الشيطان فيلقيه العجز الى لو ولا فائدة في لو ههنا بل هي مفتاح اللوم والجزع والسخط والأسف والحزن وذلك كله من عمل الشيطان فنهاه صلى الله عليه وسلم عن افتاح عمله بهذا المفتاح وأمره بالحالة الثانية وهي النظر الى القدر وملاحظته وأنه لو قدر له لم يفته ولم يغلبه عليه أحد فلم يبق له ههنا أنفع من شهود القدر ومشيئة الرب

601

النافذة التي توجب وجود المقدور وإذا انتفت امتنع وجوده فلهذا قال وإن أصابك شيء أي غلبك الأمر ولم يحصل المقصود بعد بذل جهده والاستعانة بالله فلا تقل لو أني فعلت لكان كذا وكذا ولكن قل قدر الله وما شاء فعل فأرشده الى ما ينفعه في الحالتين حالة حصول مطلوبه وحالة فواته فلهذا كان هذا الحديث مما لا يستغني عنه العبد أبدا بل هو أشد شيء إليه ضرورة وهو يتضمن إثبات القدر والكسب والاختيار والقيام بالعبودية باطنا وظاهرا في حالتي حصول المطلوب وعدمه هذا معنى كلام ابن القيم وقال القاضي قال بعض العلماء هذا النهي إنما هو لمن قاله معتقدا ذلك حتما وانه لو فعل ذلك لم يصبه قطعا فأما من رد ذلك إلى مشيئة الله تعالى وأنه لن يصيبه إلا ما شاء الله فليس من هذا واستدل بقول ابي بكر الصديق في الغار لو أن أحدهم رفع رأسه لرآنا قال القاضي وهذا ما لاحجة فيه لانه اخبر عن مستقبل وليس فيه دعوى لرد القدر بعد وقوعه قال وكذا جميع ما ذكره البخاري فيما يجوز من الو كحديث لولا حدثان قومك بالكفر لأتممت البيت على قواعد إبراهيم ولو كنت راجما بغير بينة لرجمت هذه ولولا أن أشق على امتي لأمرتهم بالسواك وشبه ذلك وكله مستقبل لا اعتراض فيه على قدر ولا كراهة فيه لأنه إنما أخبر عن اعتقاده فيما كان يفعل لولا المانع وعما هو في قدرته فأما ما ذهب فليس في قدرته فإن قيل ما تصنعون بقوله صلى الله عليه وسلم لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولجعلتها عمرة قيل هذا كقوله لولا حدثان قومك بالكفر ونحوه مما هو خبر عن مستقبل لا اعتراض فيه على قدر بل هو اخبار لهم أنه لو استقبل الإحرام بالحج ما ساق الهدي ولا أحرم بالعمرة

602

بقوله لهم لما أمرهم بفسخ الحج إلى العمرة حثا لهم وتطييبا لقلوبهم لما رآهم توقفوا في أمره فليس من المنهي عنه بل هو إخبار لهم عما كان يفعل في المستقبل لو حصل ولا خلاف في جواز ذلك وإنما ينهى عن ذلك في معارضة القدر مع اعتقاد أن ذلك المانع لو يقع لوقع خلاف المقدور قوله فإن لو تفتح عمل الشيطان أي من الجزع والعجز واللوم والسخط من القضاء والقدر ونحو ذلك ولهذا من قالها على وجه النهي عنه فإن سلم من التكذيب بالقضاء والقدر لم يسلم من المعاندة له واعتقاد أنه لو فعل ما زعم لم يقع المقدور ونحو ذلك وهذا من عمل الشيطان فإن قيل ليس في هذا رد للقدر ولا تكذيب به إذ تلك الأسباب التي تمناها من القدر فهو يقول لو أني وقفت لهذا القدر لا ندفع به عني ذلك القدر فإن القدر يدفع بعضه ببعض قيل هذا حق ولكن ينفع قبل وقوع القدر المكروه فأما اذا ما وقع فلا سبيل إلى دفعه وإن كان له سبب إلى دفعه أو تخفيفه بقدر آخر فهو أولى به من قول لو كنت فعلت بل وحقيقته في هذا الحال أن يستقبل فعله الذي يدفع به المكروه ولا يتمنى مالامطمع في وقوعه فإنه عجز محض والله يلوم على العجز ويحب الكيس ويأمر به والكيس مباشرة الاسباب التي ربط الله بها بمسبباتها النافعة للعبد في معاشه ومعاده انتهى ملخصا من كلام ابن القيم باب النهي عن سب الريح ش أي لأنها مأمورة ولا تأثير لها في شيء الا بأمر الله فسبها كسب الدهر

603

وقد تقدم النهي عنه فكذلك الريح قال عن أبي بن كعب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا تسبوا الريح فإذا رأيتم ما تكرهون فقولوا اللهم إنا نسألك خير هذه الريح وخير ما فيها وخير ما أمرت به ونعوذ بك من شر هذه الريح وشر ما فيها وشر ما أمرت به صححه الترمذي ش قوله عن أبي بن كعب أي ابن قيس بن عبيد بن زيد ابن معاوية بن عمرو بن مالك بن النجار الأنصاري الخزرجي أبو المنذر صحابي بدري جليل وكان من قراء الصحابة وقضاتهم وعلمائهم وله مناقب مشهورة اختلف في سنة موته فقال الهيثم بن عدي مات سنة تسعة عشر وقال خليفة بن خياط سنة اثنين وثلاثين يقال فيها مات أبي بن كعب ويقال بل مات في خلافة عمر قلت وقيل غير ذلك قوله لا تسبوا الريح أي لا تشتموها ولا تلعنوها للحوق ضرر فيها فإنها مأمورة مقهورة فلا يجوز سبها بل تجب التوبة عند التضرر بها وهو تأديب من الله تعالى لعباده وتأديبه رحمة للعباد فلهذا جاء في حديث أبي هريرة مرفوعا الريح من روح الله تأتي بالرحمة وبالعذاب فلا تسبوها ولكن سلو الله من خيرها وتعوذوا بالله من شرها رواه أحمد وابو داود وابن ماجة وكونها قد تأتي بالعذاب لا ينافي كونها من رحمة الله وعن ابن عباس أن رجلا لعن الريح عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال لا تلعنوا الريح فإنها مأمورة وإنه من لعن شيئا ليس له بأهل رجعت اللعنة اليه رواه الترمذي وقال غريب قال الشافعي لا ينبغي شتم الريح فإنها خلق مطيع لله وجند من جنوده يجعلها الله رحمة إذا شاء ونقمة إذا شاء ثم روي بإسناده حديث

604

منقطع أن رجلا شكى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الفقر فقال له لعلك تسب الريح وقال مطرف لو حبست الريح عن الناس لأنتن ما بين السماء والأرض قوله فإذا رأيتم ما تكرهون أي من الريح إما شدة حرها أو بردها أو قوتها قوله فقولوا اللهم إنا نسألك من خير هذه الريح أمر صلى الله عليه وسلم بالرجوع إلى خالقها وأمرها الذي أزمة الأمور كلها بيده ومصدرها عن قضائه فما استجلبت نعمة بمثل طاعته وشكره ولا استدفعت نقمة بمثل الالتجاء اليه والتعوذ به والاضطرار إليه والاستنكانة له ودعائه والتوبة اليه والاستغفار من الذنوب قالت عائشة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عصفت الريح قال اللهم إني أسألك من خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسلت به وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها وشر ما أرسلت به وإذا تخيلت السماء تغير لونه وخرج ودخل وادبر وأقبل فإذا مطرت سري ذلك عنه فعرفت عائشة ذلك فسألته فقال لعله يا عائشة كما قال قوم عاد فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا رواه البخاري ومسلم فهذا ما أمر به صلى الله عليه وسلم وفعله عند الريح وغيرها من الشدائد المكروهات فأين هذا ممن يستغيث بغير الله من الطواغيت والأموات فيقولون يا فلان الزمها أو أزلها فالله المستعان

605

باب قول الله تعالى يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية يقولون هل لنا من الأمر شيء قل إن الأمر كله لله الآية ش أراد المصنف بهذه الترجمة التنبيه على وجوب حسن الظن بالله لأن ذلك من واجبات التوحيد ولذلك ذم الله من أساء الظن به لأن مبني حسن الظن على العلم برحمة الله وعزته وإحسانه وقدرته وعلمه وحسن اختياره وقوة المتوكل عليه فإذا تم العلم بذلك أثمر له حسن الظن بالله وقد ينشأ حسن الظن من مشاهدة بعض هذه الصفات وبالجملة فمن قام بقلبه حقائق معاني أسماء الله وصفاته قام به من حسن الظن ما يناسب كل اسم وصفة لأن كل صفة لها عبودية خاصة وحسن ظن خاص وقد جاء الحديث القدسي قال الله تعالى أنا عند ظن عبدي بي وانا معه حين يذكرني رواه البخاري ومسلم وعن جابر رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم قبل موته بثلاثة أيام يقول لا يموتن احدكم إلا وهو يحسن الظن بالله عز وجل رواه مسلم وابو داود وفي حديث عند أبي داود وابن حبان حسن الظن من حسن العبادة رواه الترمذي والحاكم ولفظهما حسن الظن بالله من حسن العبادة قوله يقولون هل لنا من الأمر شيء قال ابن القيم ثم أخبر عن الكلام الذي صدر عن ظنهم الباطل وهو قولهم هل لنا من الأمر من

606

شيء وقولهم لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا فليس مقصودهم بالكلمة الأولى والثانية إثبات القدر ورد الأمر كله لله ولو كان مقصودهم لما ذموا عليه ولما حسن الرد عليهم بقوله قل إن الأمر كله لله ولا كان مصدر هذا الكلام ظن الجاهلية ولهذا قال غير واحد من المفسرين إن ظنهم الباطل ههنا هو التكذيب بالقدر وظنهم أن الأمر لو كان إليهم لكان رسول الله صلى الله عليه وسلم واصحابه تبعا لهم يسمعون منهم لما أصابهم القتل ولكان التصرف والظفر لهم فكذبهم الله عز وجل في هذا الظن الباطل الذي هو ظن الجاهلية وهو الظن المنسوب إلى أهل الجهل الذين يزعمون بعد نفاذ القضاء والقدر الذي لم يكن بد من نفاذه انهم كانوا قادرين على دفعه وإن الأمر لو كان إليهم لما نفذ القضاء فأكذبهم الله بقوله قل إن الأمر كله لله فلا يكون إلا ما سبق به قضاؤه وقدره وجرى به قلمه وكتابه السابق وما شاء الله كان ولا بد شاء الناس أم أبوا وما لم يشاء لم يكن شاءه الناس أو لم يشاؤوه وما جرى عليكم من الهزيمة والقتل فبأمره الكوني الذي لا سبيل إلى دفعه سواء كان لكم من الأمر شي او لم يكن فإنكم لو كنتم في بيوتكم وقد كتب القتل على بعضكم لخرج من كتب عليه القتل من بيته الى مضجعه ولا بد سواء كان له من الأمر شيء أو لم يكن وهذا من اظهر الأشياء إبطالا لقول القدرية النفاة الذين يجوزون أن يقع ما لا يشاء الله وأن يشاء مالا يقع وقوله وليبتلي الله ما في صدوركم أي يختبر ما فيها من الإيمان والنفاق فالمؤمن لا يزداد بذلك إلا ايمانا وتسليما والمنافق ومن في قلبه مرض لا بد أن يظهر ما في قلبه على جوارحه ولسانه

607

قوله وليمحص ما في قلوبكم هذه حكمة أخرى وهي تمحيص ما في قلوب المؤمنين وهو تخليصه وتنقيته وتهذيبه فإن القلوب يخالطها تغليب الطباع وميل النفوس وحكم العادة وتزيين الشيطان واستيلاء الغفلة مما يضاد ما أودع فيها من الإيمان والاسلام والبر والتقوى فلو تركت في عافية دائمة مستمرة لم تتخلص من هذه المخاطر ولم تتمحص منه فاقتضت حكمة العزيز الرحيم ان قيض لها من المحن والبلايا ما يكون كالدواء الكريه لمن عرض له داء إن لم يتداركه طبيب بإزالته وتنقيته ممن هو في جسده وإلا خيف عليه من الفساد والهلاك فكانت نعمته سبحانه عليهم بهذه الكثرة والهزيمة وقتل من قتل منهم تعاد نعمته عليهم بنصره وتأييدهم وظفرهم بقدرتهم فله عليهم النعمة التامة في هذا وهذا قوله والله عليم بذات الصدور ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا يغشى طائفة منكم يعني أهل الإيمان واليقين والثبات والتوكل الصادق وهم الجازمون بأن الله عز وجل سينصر رسوله وينجز له مأموله ولهذا قال وطائفة قد أهمتهم انفسهم يعني لا يغشاهم النعاس من القلق يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية كما قال في الآية الاخرى بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى اهليهم أبدا وزين ذلك في قلوبكم الآية وهكذا هؤلاء اعتقدوا أن المشركين لما ظهروا تلك الساعة انها الفاصلة وأن الاسلام قد باء وأهله قال ابن القيم ظن الجاهلية هو المنسوب إلى أهل الجهل وظن غير الحق لأنه غير ما يليق بأسمائه الحسنى وصفاته العلى وذاته المبرأة من كل عيب

608

وسوء أو خلاف ما يليق بحكمته وحمده وتفرده بالربوبية والإلهية وما يليق بوعده الصادق الذي لا يخلفه وقد ذكر المؤلف تفسير ابن القيم لهذه الآية وهو أحسن ما قيل فيها وسيأتي ما يتعلق به إن شاء الله تعالى وقوله يقولون هل لنا من الأمر من شيء هذا أيضا من حكاية مقال المنافقين والظاهر أن المعنى إنا أخرجنا كرها ولو كان الأمر إلينا ما خرجنا كما أشار إليه ابن أبي بذلك ولفظه استفهام ومعناه النفي أي ما ان شيء من الأمر أي أمر الخروج وقيل غير ذلك فرد الله عليهم بقوله إن الامر كله لله أي ليس لكم من الأمر شيء ولا لغيركم بل الأمر كله لله فهو الذي إذا شاء فلا مرد له وقوله يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا تقدم الكلام عليها في باب ما جاء في اللو وقوله وليبتلي الله ما في صدوركم أي قدر الله هذه الهزيمة والقتل ليختبر الله ما في صدوركم بأعمالكم لأنه قد علمه غيبا فيعلمه شهادة لأن المجازاة إنما تقع على من يعلم مشاهدة لا على ما هو معلوم منهم غير مغمور وليمحص ما في قلوبكم اي يطهرها من الشدة والمرض بما يريكم من عجائب آياته وباهر قدرته وهذا خاص بالمؤمنين دون المنافقين والله عليم بذات الصدور قيل معناه إن الله لا يبتليكم ليعلم ما في صدوركم فإنه عليم بذلك وإنما ابتلاكم ليظهر أسراركم والله أعلم قال وقوله الظانين بالله ظن السوء عليهم دائرة السوء الآية ش قال ابن كثير يتهمون الله تعالى في حكمه ويظنون بالرسول صلى الله عليه وسلم واصحابه أن يقتلوا ويذهبوا بالكلية ولهذا قال عليهم دائرة السوء

609

وغضب الله عليهم ولعنهم أي أبعدهم من رحمته واعد لهم جهنم وساءت مصيرا قال ابن القيم في الآية الأولى فسر هذا الظن بأنه سبحانه لا ينصر رسوله وأن أمره سيضمحل وفسر أن ما أصابهم لم يكن بقدر الله وحكمته ففسر بانكار الحكمة وإنكار القدر وإنكار أن يتم أمر رسوله وأن يظهره على الدين كله وهذا هو ظن السوء الذي ظن المنافقون والمشركون في سورة الفتح وإنما كان هذا ظن السوء لأنه ظن غير ما يليق به سبحانه وما يليق بحكمته وحمده ووعده الصادق فمن ظن أنه يديل الباطل على الحق إدالة مستقرة يضمحل معها الحق أو أنكر أن يكون ما جرى بقضائه وقدره وأنكر أن يكون قدره لحكمة بالغة يستحق عليها الحمد بل زعم أن ذلك لمشيئة مجردة فذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار وأكثر الناس يظنون بالله ظن السوء فيما يختص بهم وفيما يفعله بغيرهم فقل من يسلم من ذلك إلا من عرف الله وأسماءه وصفاته وهو موجب حكمته وحمده فليعتن اللبيب الناصح لنفسه بهذا وليتب الى الله تعالى ويستغفره من ظنه بربه ظن السوء ولو فتشت من فتشت لرأيت عنده تعنتا على القدر وملامة له يقول إنه كان ينبغي أن يكون كذا وكذا فمستقل ومستكثر وفتش نفسك هل أنت سالم فإن تنج منها تنج من ذي عظيمة والافإني لا إخالك ناجيا ش قوله فسر هذا الظن بأنه سبحانه لاينصر رسوله إلى آخره هذا

610

تفسير غير واحد من المفسرين وهو مأخوذ من تفسير قتادة والسدي وذكر ذلك عنهما ابن جرير وغيره بالمعنى وقوله وإن أمره سيضمحل أي سيذهب جملة حتى لا يبقى له اثر والاضمحلال ذهاب الشيء جملة قوله وفسر أن ما أصابهم لم يكن بقدر الله وحكمته قال القرطبي وقال جويبر عن الضحاك عن ابن عباس في قوله يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية يعني التكذيب بالقدر وذلك أنهم تكلموا فيه فقال الله قل إن الامر كله لله يعني القدر خيره وشره من الله وأما تفسيره بإنكار الحكمة فلم أقف عليه عن السلف فهو تفسير صحيح فمن أنكر أن ذلك لم يكن لحكمة بالغة يستحق عليها الحمد والشكر فقد ظن بالله ظن السوء وقد اشار تعالى الى بعض الحكم والغايات المحمودة في ذلك في سورة آل عمران فذكر شيئا كثيرا منها في الآية المفسرة وليبتلي الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم والله عليم بذات الصدور فهذا بعض الحكمة في ذلك فمن أنكره فقد ظن ظن السوء بالله وحكمته وعلمه ورحمته لكمال علمه وقدرته ورحمته ولأن من اسمائه الحق وذلك هو موجب لهيبته وربوبيته قوله لأنه ظن غير ما يليق به سبحانه اي لأن الذي يليق به سبحانه أنه يظهر الحق على الباطل وينصره فلا يجوز في عقل ولا شرع أن يظهر الباطل على الحق قال تعالى بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق وقال تعالى وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا

611

قوله ولا يليق بحكمته وحمده أي ان الذي يليق بحكمته وحمده أن لا يكون في السموات ولا في الأرض حركة ولا سكون إلا وله في ذلك الحكمة البالغة والحمد الكامل التام عليها فكيف بمثل هذا الأمر العظيم الذي وقع على سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم وعلى سادات الأولياء رضي الله عنهم فله سبحانه وتعالى في ذلك الحكمة وله عليه الحمد بل والشكر ومن تأمل ما في سورة آل عمران في سياق القصة رأى من ذلك العجب فمن ظن بالله تعالى أنه لا يفعل ذلك بقدرة وحكمة يستحق عليها الحمد والشكر فقد ظن به ظن السوء قوله فمن ظن أنه يديل الباطل على الحق إدالة مستقرة يضمحل معها الحق فهذا ظن السوء لأنه نسبه أي سبحانه إلى ما لا يليق بجلاله وكماله ونعوته وصفاته فإن حمده وحكمته وعزته تأبى ذلك وتأبى أن يذل حزبه وجنده وأن تكون النصرة المستقرة والظفر الدائم لأعدائه المشركين المعاندين له فمن ظن به ذلك فما عرفه ولا عرف أسماءه وصفاته وكماله قوله أو أنكر أن يكون ما جرى بقضائه وقدره أي فذلك ظن السوء لأنه نسبة له إلى ما لا يليق بربوبيته وملكه وعظمته قوله أو أنكر أن يكون قدره لحكمة بالغة يستحق عليها الحمد بل زعم أن ذلك لمشيئة مجردة فذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار قال ابن القيم وكذلك من انكر أن يكون قدر ما قدره من ذلك وغيره لحكمة بالغة وغاية محمودة يستحق عليها الحمد وان ذلك انما صدر عن مشيئة

612

مجردة عن حكمة وغاية مطلوبة هو أحب إلي من قوتها وأن تلك الأسباب المكروهة المفضية إليها لا يخرج تقدرها عن الحكمة لانضمامها إلى ما يحب وإن كانت مكروهة له فما قدرها سدى ولا شاءها عبثا ولاخلقها باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار قوله ووعده الصادق لأن الله تعالى وعد رسوله صلى الله عليه وسلم أن يظهر أمره ودينه على الدين كله ولو كره المشركون فمن ظن به تعالى أن دين نبيه سيضمحل ويبطل ولا يظهر على الدين كله فقد ظن به ظن السوء لأنه ظن أنه يخلف الميعاد والله تعالى لا يخلف الميعاد قوله واكثر الناس يظنون بالله ظن السوء فيما يختص بهم وفيما يفعله بغيرهم قال ابن القيم فمن قنط من رحمته وأيس من روحه فقد ظن به ظن السوء ومن جوز عليه أن يعذب أولياءه مع إحسانهم وإخلاصهم ويسوي بينهم وبين أعدائه فقد ظن به ظن السوء ومن ظن أنه يترك خلقه سدى معطلين عن الأمر والنهي ولا يرسل اليهم رسله ولا ينزل إليهم كتبه فقد ظن به ظن السوء ومن ظن انه لن يجمعهم بعد موتهم للثواب والعقاب في دار يجازي فيها المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته ويبين لخلقه حقيقة ما اختلفوا فيه ويظهر للعالمين كلهم صدقه وصدق رسله وأن أعداءه كانوا هم الصادقين فقد ظن به ظن السوء ومن ظن أنه يضيع عليه عمله الصالح الذي عمله خالصا لوجهه على امتثال أمره ويبطله عليه بلا سبب من العبد أو أنه يعاقبه على فعله سبحانه به أو ظن به أنه يجوز عليه أن يؤيد أعداءه الكاذبين عليه بالمعجزات التي يؤيد بها أنبياءه ورسله وأنه يحسن منه

613

كل شيء حتى يعذب من أفنى عمره في طاعته اي كمحمد صلى الله عليه وسلم فيخلده في الجحيم أو في أسفل سافلين ومن استنفذ عمره في عداوته وعداوة رسله ودينه كأبي جهل فيرفعه الى أعلى عليين وكلا الأمرين في الحسن سواء عنده ولا يعرف امتناع أحدهما ووقوع الآخر إلا بخبر صادق وإلا فالعقل لا يقضي بقبح أحدهما وحسن الآخر فقد ظن به ظن السوء ومن ظن أنه أخبر عن نفسه وصفاته وأفعاله بما ظاهره باطل وتشبيه وتمثيل وترك الحق لم يخبر به وإنما رمز إليهم رموزا بعيدة وصرح دائما بالتشبيه والتمثيل والباطل وأراد من خلقه أن يتعبوا أذهانهم وقواهم وأفكارهم في تحريف كلامه عن مواضعه وتأويله على غير تأويله وإعانتهم في معرفة أسمائه وصفاته على عقولهم وآرائهم لا على كتابه مع قدرته على أن يصرح لهم بالحق الذي ينبغي التصريح به ويريحهم من الألفاظ التي توقعهم في اعتقاد الباطل فقد ظن به ظن السوء ومن ظن به أن يكون له في ملكه مالا يشاء ولا يقدر على إيجاده وتكوينه فقد ظن به ظن السوء ومن ظن أنه لا سمع له ولا بصر ولا علم ولا إرادة ولا كلام يقوم به وأنه لم يكلم أحدا من الخلق ولا يتكلم أبدا فقد ظن به ظن السوء ومن ظن أنه ليس فوق سمواته على عرشه بائنا من خلقه وأن نسبة ذاته تعالى إلى عرشه كنسبتها إلى أسفل سافلين وأنه أسفل كما أنه أعلى وأن من قال سبحان ربي الأسفل كمن قال سبحان ربي الأعلى فقد ظن به أقبح الظن ومن ظن أنه يحب الكفر والفسوق والعصيان والفساد ولا يحب الإيمان والبر والطاعة والصلاح فقد ظن به ظن السوء ومن ظن أنه لا يحب ولا يرضى ولا يغضب ولا يوالي ولا يعادي ولا يقرب من أحد من خلقه ولا يقرب عنده أحد وأن ذوات الشياطين في القرب منه كذوات الملائكة المقربين

614

فقد ظن به ظن السوء ومن ظن أنه يسوي بين المتضادين أو يفرق بين المتساويين في كل وجه أو يحبط طاعات العمر المديد الخالصة الصواب بكبيرة واحدة تكون بعدها فيخلده في الحجيم لتلك الكبيرة كما يخلد من لم يؤمن به طرفة عين واستنفد عمره في مساخطه ومعاداة رسله ودينه فقد ظن به ظن السوء وبالجملة فمن ظن به خلاف ما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله أو عطل حقائق ما وصف به نفسه ووصفه به رسله فقد ظن به ظن السوء ومن ظن أن له ولدا أو شريكا أو أن أحدا يشفع عنده بدون إذنه أو أن بينه وبين خلقه وسائط يرفعون حوائجهم إليه أو أنه نصب لعباده أولياء من دونه يتقربون بهم إليه ويجعلونهم وسائط بينه وبينهم فيدعونهم ويخافونهم ويرجونهم فقد ظن به أقبح الظن واسوءه ومن ظن به أنه ينال ما عنده بمعصيته ومخالفته كما ينال بطاعته والتقرب إليه فهو من ظن السوء ومن ظن أنه إذا ترك لأجله شيئا لم يعوضه خيرا منه أو من فعل شيئا لأجله لم يعطه أفضل منه فقد ظن به ظن السوء ومن ظن أنه يغضب على عبده ويعاقبه بغير جرم ولا سبب من العبد إلا بمجرد المشيئة فقد ظن به ظن السوء ومن ظن أنه إذا صدق في الرغبة والرهبة وتضرع إليه وسأل واستعان به وتوكل عليه أنه يخيبه فقد ظن به ظن السوء ومن ظن أنه يثيبه إذا عصاه كما يثيبه إذا أطاعه وسأله ذلك في دعائه فقد ظن به خلاف ما هو أهله وما لا يفعله ومن ظن أنه إذا أغضبه وأسخطه ووقع في معاصيه ثم اتخذ من دونه أولياء ودعا من دونه ملكا أو بشرا حيا أو ميتا يرجو بذلك أن ينفعه عند ربه ويخلصه من عذابه فقد ظن به

615

ظن السوء ومن ظن به أنه يسلط على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم أعداءه تسليطا مستقرا دائما في حياته ومماته وابتلاه بهم لا يفارقونه فلما مات استبدوا بالأمر دون وصيه وأهل بيته وسلبوهم حقهم واذلوهم من غير جرم ولا ذنب لأوليائه واهل الحق وهو يرى ذلك ويقدر على نصرة أوليائه وحزبه ولا ينصرهم ثم جعل المبدلين لدينه مضاجعيه في حفرته تسلم أمته عليه وعليهم كل وقت كما تظنه الرافضة فقد ظن به أقبح الظن انتهى اختصارا وهو ينبهك على إحسان الظن بالله في كل شيء فليعتن اللبيب اللب العقل واللبيب العاقل قوله ولو فتشت من فتشت لرأيت عنده تعنتا على القدر وملامة له وأنه كان ينبغي أن يكون كذا وكذا قلت بل يبوحون بذلك ويصرحون به جهارا في أشعارهم وكلامهم قال ابن عقيل في الفنون الواحد من العوام إذا رأى مراكب مقلدة بالذهب والفضة ودارا مشيدة مملوءة بالخدم والزينة قال انظر إلى إعطائهم مع سوء أفعالهم ولا يزال يلعنهم ويذم معطيهم حتى يقول فلان يصلي الجماعات والجمع ولا يؤذي الذر ولا يأخذ ما ليس له ويؤدي الزكاة اذا كان له مال ويحج ويجاهد ولا ينال خلة بقلبه ويظهر الإعجاب كأنه ينطق إنه لو كانت الشرائع حقا لكان الأمر بخلاف ما ترى وكان الصالح غنيا والفاسق فقيرا قال أبو الفرج ابن الجوزي وهذه حالة قد شملت خلقا كثيرا من العلماء والجهال أو لهم إبليس فإنه نظر بعقله فقال كيف يفضل الطين على جوهر النار وفي ضمن اعتراضه إن حكمتك قاصرة وأنا أجود واتبع إبليس في تفضيله واعتراضه خلق كثير مثل الراوندي

616

والمعري ومن قوله اذا كان لا يحظى برزقك عاقل وترزق مجنونا وترزق أحمقا ولا ذنب يا رب السماء على امرىء رأى منك مالا ينتهي فتزندقا وأمثال ذلك كثير في اولئك الذين ابتعدوا عن كتاب الله وسنة رسوله وانطلقوا الى أهوائهم واعتمدوا على عقولهم القاصرة التي جعلتهم يعترضون على الله جل وعلا وكان أبو طالب المكي يقول ليس على المخلوق أضر من الخالق قال ابن الجوزي ودخلت على صدقة بن الحسين الحداد وكان فقيها غير أنه كان كثير الاعتراض وكان عليه جرب فقال هذا ينبغي أن يكون عى حمد لاعلي وكان يتفقد بعض الأكابر أكول فيقول بعث لي هذا على الكبر وقت لا أقدر على أكله وكان رجل يصحبني قد قارب ثمانين سنة كثير الصلاة والصوم فمرض واشتد به المرض فقال إن كان يريد أن أموت فيميتني وأما هذا التعذيب فماله معنى والله لو أعطاني الفردوس كان مكفورا ورأيت آخر تزيا بالعلم اذا ضاق عليه رزقه يقول أيش هذا التدبير وعلى هذا كثير من العوام إذا ضاقت أرزاقهم اعترضوا وربما قالوا ما يريد يصلي واذا رأوا رجلا صالحا مؤذيا قالوا ما يستحق قدحا في القدر وكان قد جرى في زماننا تسلط من الظلمة وقال بعض من تزيا بالدين هذا حكم بارد وما فهم ذلك الأحمق فإن لله على الظالم أن يسلط عليه أظلم منه وفي الحمقى من

617

يقول أي فائدة في خلق الحيات والعقارب وما علم أن ذلك انموذج لعقوبة المخالف وهذا امر قد شاع ولهذا مددت النفس فيه واعلم أن المعترض قد ارتفع أن يكون شريكا وعلا الخالق بالحكم عليه وهؤلاء كلهم كفرة لأنهم رأوا حكمة الخالق قاصره وإذا كان قد توقف القلب عن الرضى بحكم الرسول صلى الله عليه وسلم يخرج عن الايمان قال فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم فكيف يصح الايمان مع الاعتراض على الله وكان في زمن ابن عقيل رجل رأى بهيمة على غاية من السقم فقال وراحمتي لك واقلة حيلتي في إقامة التأويل لمعذبك فقال له ابن عقيل ان لم تقلد على حمل هذا الأمر لأجل رقبتك الحيوانية ومناسبتك الجنسية فعندك عقل تعرف به حكم الصانع وحكمته يوجب عليك التأويل فان لم تجد استطرحت الفاطر العقل حيث خانك العقل عن معرفة الحكمة في ذلك انتهى قوله وفتش نفسك هل أنت سالم قال ابن القيم أكثر الخلق إلا من شاء الله يظنون بالله غير الحق وظن السوء فإن غالب بني آدم يعتقد أنه مبخوس الحق ناقص الحظ وأنه يستحق فوق ما أعطاه الله ولسان حاله يقول ظلمني ربي ومنعني ما أستحقه ونفسه تشهد عليه بذلك وهو بلسانه ينكره ولا يتجاسر على التصريح به ومن فتش نفسه وتغلغل في معرفة دفائنها وطواياها رأى ذلك فيها كامنا كمون النار في الزناد فاقرع زناد من شئت ينبئك شرارها عما في زناده فليعتن اللبيب الناصح لنفسه بهذا الموضع وليتب الى الله ويستغفره كل وقت من ظنه بربه ظن السوء وليظن السوء بنفسه التي هي مأوى كل سوء وصنيع كل شر المركبة على الجهل

618

والظلم فهو أولى بظن السوء من أحكم الحاكمين وأعدل العادلين وأرحم الراحمين الغني الحميد الذي له الغنى التام والحكمة التامة المنزه عن كل سوء في ذاته وصفاته وأفعاله واسمائه فذاته لها الكمال المطلق من كل وجه وصفاته كذلك وأفعاله كلها حكمة ومصلحة ورحمة وعدل وأسماؤه كلها حسنى فلا تظنن بربك ظن سوء فإن الله أولى بالجميل ولا تظنن بنفسك قط خيرا فكيف بظالم جان جهول وظن بنفسك السوأى تجدها كذاك وخيرها كالمستحيل ومابك من تقي فيها وخير فتلك مواهب الرب الجليل وليس لها ولا منها ولكن من الرحمن فاشكر للدليل قوله فإن تنج منها أي من هذه الخصلة العظيمة قوله من ذي عظيمة أي تنج من شر عظيم قوله وإني لا إخالك هو بكسر الهمزة أي أظنك والله اعلم باب ما جاء في منكري القدر ش أي من الوعيد والقدر بالفتح والسكون ما يقدره الله من القضاء ولما كان توحيد الربوبية لا يتم الا باثبات القدر قال القرطبي

619

القدر مصدر قدرت الشي بتخفيف الدال أقدره وأقدره قدرا وقدر إذا حصلت بمقداره ويقال فيه قدرت اقدر تقديرا مشدد الدال فاذا قلنا إن الله تعالى قدر الأشياء فمعناه إنه تعالى علم مقاديرها وأحوالها وأزمانها قبل إيجادها ثم أوجد منها ما سبق في علمه أنه يوجده على نحو ما سبق في علمه فلا محدث في العالم العلوي والسفلي إلا هو صادر عن علمه تعالى وقدرته وإرادته هذا هو المعلوم من دين السلف الماضين الذي دلت عليه البراهين ذكر المصنف ما جاء في الوعيد فيمن أنكره تنبيها على وجوب الايمان ولهذا عده النبي صلى الله عليه وسلم من اركان الايمان كما ثبت في حديث جبريل عليه السلام لما سئل عن الايمان فقال أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره قال صدقت وعن عبدالله بن عمرو بن العاص قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله تعالى كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والارض بخمسين الف سنة قال وعرشه على الماء وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كل شيء بقدر حتى العجز والكيس رواهما مسلم في صحيحه وعن علي رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يؤمن عبد حتى يؤمن بأربع يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله بعثني بالحق ويؤمن بالموت والبعث بعد الموت ويؤمن بالقدر رواه الترمذي وابن ماجه والحاكم في صحيحه والأحاديث في ذلك كثيرة جدا قد افردها العلماء بالتصنيف قال البغوي في شرح السنة الايمان بالقدر فرض لازم وهو أن يعتقد أن الله تعالى خالق أعمال العباد خيرها وشرها كتبها عليهم في اللوح المحفوظ قبل أن يخلقهم قال الله تعالى والله

620

خلقكم وما تعلمون فالإيمان والكفر فالطاعة ووعد عليها الثواب ولا يرضى الكفر والمعصية ووعد عليهما العقاب قال الله تعالى ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء قال والقدر سر من أسرار الله تعالى لم يطلع عليه ملكا مقربا ولا نبيا مرسلا لا يجوز الخوض فيه والبحث عنه بطريق العقل بل يعتقد أن الله تعالى خلق الخلق فجعلهم فريقين أهل يمين خلقهم للنعيم فضلا وأهل شمال خلقهم للجحيم عدلا قال الله تعالى ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والانس وقد سأل رجل علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال يا أمير المؤمنين أخبرني عن القدر قال طريق مظلم فلا تسلكه فأعاد السؤال فقال بحر عميق لا تلجه فأعاد السؤال فقال سر الله خفي عليك فلا تفشه وقال شيخ الاسلام مذهب أهل السنة في هذا الباب وغيره ما دل عليه الكتاب والسنة وكان عليه السابقون الاولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم باحسان وهو ان الله خالق كل شيء وربه ومليكه وقد دخل في ذلك جميع الاعيان القائمة بأنفسها وصفاتها القائمة بها من أفعال العباد وغير أفعال العباد وأنه سبحانه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن فلا يكون في الوجود شيء إلا بمشيئته وقدرته لا يمتنع عليه شيء شاءه بل هو قادر على كل شيء ولا يشاء شيئا الا وهو قادر عليه وأنه سبحانه يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف كان يكون فقد دخل في ذلك أفعال العباد وغيرها وقد قدر

621

مقادير الخلائق قبل أن يخلقهم قدر أرزاقهم وآجالهم وأعمالهم وكتب ذلك وكتب ما يصيرون اليه من سعادة وشقاوة فهم يؤمنون بخلقه لكل شيء وقدرته على كل شيء ومشيئته لكل ما كان وعلمه بالأشياء قبل أن تكون وتقديره لها وكتابته إياها قبل أن تكون وغلاة القدرية ينكرون علمه المتقدم وكتابته السابقة ويزعمون أنه أمر ونهي وهو لا يعلم من يطيعه ممن يعصيه بل الأمر أنف اي مستأنف وهذا القول أول ما حدث في الإسلام بعد انقراض عصر الخلفاء الراشدين وبعد إمارة معاوية بن أبي سفيان في زمن الفتنة التي كانت بين ابن الزبير وبني أمية في آخر عصر عبدالله بن عمر وعبدالله بن عباس وغيرهما من الصحابة وكان أول من ظهر ذلك عنه بالبصرة معبد الجهني فلما بلغ الصحابة قول هؤلاء تبرؤوا منهم وانكروا مقالتهم ثم لما كثر خوض الناس في القدر صار جمهورهم يقر بالعلم المتقدم والكتاب السابق ولكن ينكرون عموم مشيئة الله وعموم خلقه وقدرته ويظنون أنه لا معنى لمشيئته الا أمره فما شاء فقد أمر به وما لم يشأ لم يأمر به فلزمهم أنه قد يشاء مالا يكون ويكون ما لايشاء وأنكروا أن يكون الله خالقا لأفعال العباد أو قادرا عليها أو أن يخص بعض عباده من النعم مما يقتضي إيمانهم به وطاعتهم له وزعموا ان نعمته التي بما يمكن الايمان والعمل الصالح على الكفار كأبي جهل وابي لهب مثل نعمته بذلك على أبي بكر وعمر وعثمان وعلي بمنزلة رجل دفع إلى والديه بمال قسمه بينهم بالسوية لكن هؤلاء أحدثوا أعمالهم الصالحة وهؤلاء أحدثوا أعمالهم الفاسدة من غير نعمة خص الله بها المؤمنين وهذا قول باطل وقد قال الله تعالى يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي اسلامكم بل الله

622

يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين وقال ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره اليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون فضلا من الله ونعمة والله عليم حكيم وقال ابن القيم ما معناه مراتب القضاء والقدر أربع مراتب الاولى علم الرب سبحانه بالأشياء قبل كونها الثانية كتابة ذلك عنده في الأزل قبل خلق السموات والأرض الثالثة مشيئته المتناولة لكل موجود فلا خروج لكائن كما لا خروخ له عن علمه الرابعة خلقه لها وإيجاده وتكوينه فالله خالق كل شيء وما سواه مخلوق قال وقال ابن عمر والذي نفس ابن عمر بيده لو كان لأحدهم مثل أحد ذهبا ثم أنفقه في سبيل الله ما قبله الله منه حتى يؤمن بالقدر ثم استدل بقول النبي صلى الله عليه وسلم الايمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره رواه مسلم ش قوله وقال ابن عمر هو عبدالله بن عمر بن الخطاب قوله لو كان لأحدهم مثل أحد ذهبا ثم أنفقه في سبيل الله ما قبله الله منه الخ هذا قول ابن عمر لغلاة القدرية الذين أنكروا أن يكون الله تعالى عالم بشيء من أعمال العباد قبل وقوعها منها وإنما يعلمها بعد كونها منهم كما تقدم

623

عنهم قال القرطبي ولا شك في تكفير من يذهب إلى ذلك فإنه جحد معلوم من الشرع بالضرورة لذلك تبرأ منهم ابن عمر وأفتى بأنهم لا تقبل منهم أعمالهم ولا نفقاتهم وأنهم كمن قال الله فيهم وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله وهذا المذهب قد ترك اليوم فلا يعرف من ينسب اليه من المتأخرين من اهل البدع المشهورين فقال شيخ الاسلام لما ذكر كلام ابن عمر هذا وكذلك كلام ابن عباس وجابر بن عبدالله وواثلة بن الأسقع وغيرهم من الصحابة والتابعين لهم باحسان إلى يوم الدين وسائر أئمة المسلمين فيهم كثير حتى قال فيهم الأئمة كمالك والشافعي واحمد بن حنبل وغيرهم إن المنكرين لعلم الله المتقدم ينكرون القدر وقوله ثم استدل بقول النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره فجعل النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث كأنه لما سئل عن الاسلام ذكر أركان الاسلام الخمسة لأنها أصل الاسلام ولما سئل عن الايمان أجاب بقوله أن تؤمن بالله إلى آخره فيكون المراد حينئذ بالايمان جنس تصديق القلب وبالاسلام جنس العمل والقرآن والسنة مملوءان بإطلاق الايمان على الأعمال كما هما مملوءان باطلاق الاسلام على الايمان الباطن مع ظهور دلالتهما ايضا على الفرق بينهما ولكن حيث أفرد أحمد الاسمين دخل فيه الآخر وإنما يفرق بينهما حيث فرق بين الاسمين ومن أراد تحقيق ما أشرنا اليه فليراجع

624

كتاب الايمان الكبير لشيخ الاسلام اذا تبين هذا فوجه استدلال ابن عمر بالحديث من جهة أن النبي صلى الله عليه وسلم عد الايمان بالقدر من أركان الايمان فمن أنكره فلم يكن مؤمنا إذ الكافر بالبعض كافر بالكل فلا يكون مؤمنا متقيا والله لا يقبل إلا من المتقين وهذا قطعة من حديث جبريل عليه السلام وقد أخرجه مسلم بطوله أول كتاب الايمان في صحيحه من حديث يحيى بن معمر عن ابن عمر ولفظه عن يحيى بن يعمر قال كان أول من قال في القدر بالبصرة معبد الجهني فانطلقت أنا وحميد بن عبدالرحمن الحميري حاجين أو معتمرين فقلنا لو لقينا أحدا من اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألناه عما يقول هؤلاء في القدر فوفق لنا عبدالله بن عمر بن الخطاب داخلا المسجد فأكتنفته أنا وصاحبي أحدنا عن يمينه والآخر عن شماله فظننت أن صاحبي سيكل الكلام إلى فقت يا أبا عبد الرحمن إنه قد ظهر قبلنا أناس يقرؤون القرآن ويتقفرون العلم وذكر من شأنهم وأنهم يزعمون أن لا قدر وأن الامر أنف قال فإذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم وأنهم براء مني والذي يحلف به عبدالله بن عمر لو أن لأحدهم مثل أحد ذهبا فأنفقه ما قبله الله منه حتى يؤمن بالقدر ثم قال حدثني أبي عمر بن الخطاب قال بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواء الشعر لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسند ركبتيه الى ركبتيه ووضع كفيه على فخذيه فقال يا محمد أخبرني عن الاسلام وذكر الحديث وقوله خيره وشره أي خير القدر وشره أي انه تعالى قدر الخير والشر قبل خلق الخلق وإن جميع الكائنات بقضائه وقدره وإرادته لقوله تعالى وخلق كل شيء فقدره

625

تقديرا والله خلقكم وما تعلمون إنا كل شيء خلقناه بقدر وغير ذلك فإن قلت كيف قال وتؤمن بالقدر خيره وشره وقد قال في الحديث والشر ليس اليك قيل إثبات الشر في القضاء والقدر إنما هو بالاضافة إلى العبد والمفعول إن كان مقدرا عليه فهو بسبب جهله وظلمه وذنوبه لا إلى الخالق فله في ذلك من الحكم ما تقصر عنه أفهام البشر لأن الشر إنما هو بالذنوب وعقوباتها في الدنيا والآخرة فهو شر بالاضافة إلى العبد أما بالاضافة الى الرب سبحانه وتعالى فكله خير وحكمة فإنه صادر عن حكمه وعلمه وما كان كذلك فهو خير محض بالنسبة الى الرب سبحانه وتعالى إذ هو موجب أسمائه وصفاته ولهذا قال والشر ليس اليك أي تمتنع إضافته اليك بوجه من الوجوه فلا يضاف الشر الى ذاته وصفاته ولا أسمائه ولا أفعاله فإن ذاته منزهة عن كل شر وصفاته كذلك إذ كلها صفات كمال ونعوت جلال لا نقص فيها بوجه من الوجوه وأسماؤه كلها حسن ليس فيها اسم ذم ولا عيب وافعاله حكمة ورحمة ومصلحة وإحسان وعدل لا تخرج عن ذلك البتة وهو المحمود على ذلك كله فتستحيل إضافة الشر اليه فإنه ليس شر في الوجود إلا الذنوب وعقوبتها وكونها ذنوبا تأتي من نفس العبد فان سبب الذنب الظلم والجهل وهما في نفس العبد فإنه ذات مستلزمة للجهل والظلم وما فيه من العلم والعدل فإنما حصل له بفضل الله عليه وهو أمر خارج عن

626

نفسه فمن أراد الله به خيرا أعطاه الفضل فصدر منه الاحسان والبر والطاعة ومن أراد به شرا أمسكه عنه وخلاه ودواعي نفسه وطبعه وموجبها فصدر عنه موجب الجهل والظلم من كل شر وقبيح وليس منعه من ذلك شرا ولله في ذلك الحكمة التامة والحجة البالغة فهذا عدله وذلك فضله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم وهوالعلي الحكيم هذا معنى كلام ابن القيم وهو الحق وحاصله أن الشر راجع الى مفعولاته لا إلى ذاته وصفاته ويتبين ذلك بمثال ولله المثل الأعلى لو أن ملكا من ملوك العدل كان معروفا بقمع المخالفين وأهل الفساد مقيما للحدود والتعزيرات الشرعية على أرباب اصحابها لعدوا ذلك خيرا يحمده عليه الملوك ويمدحه الناس ويشكرونه على ذلك فهو خير بالنسبة الى الملوك يمدح ويثنى به ويشكر عليه وإن كان شرا بالنسبة إلى من أقيم عليه فرب العالمين أولى بذلك لأن له الكمال المطلق من جميع الوجوه لإعتبارات وأيضا فلولا الشر هل كان يعرف الخير فإن الضد لا يعرف إلا بضده فإن لم تحط به خبرا فاذكر كلام ابن عقيل في الباب الذي قبل هذا وأسلم تسلم والله اعلم قال وعن عباد بن الصامت أنه قال لابنه يا بني إنك لن تجد طعم الايمان حتى تعلم ان ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن أول ما خلق الله القلم فقال اكتب قال رب وماذا أكتب قال اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة يا بني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من مات على غير هذا فليس مني ش قوله يا بني إنك لن تجد طعم الإيمان إلى آخره ابنه هذا

627

هو الوليد بن عبادة كما صرح به الترمذي في روايته وفيه أن للايمان طعما وهو كذلك فإن له حلاوة وطعما من ذاقه تسلى به عن الدنيا وما عليها وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان الحديث وانما يكون العبد كذلك إذا كان مؤمنا بالقدر إذ يمتنع أن توجد الثلاث فيه وهو لا يؤمن بالقدر بل يكذب به ويرد على الله كلامه وعلى الرسول صلى الله عليه وسلم مقالته فإن المحبة التامة تقتضي المتابعة التامة فمن لم يؤمن بالقدر لم يكن الله ورسوله أحب اليه مما سواهما فلا يجد حلاوة الإيمان ولا طعمه بل إن كان منكرا للعلم القديم فهو كافر كما تقدم ولهذا روي عن بعض الأئمة القدرية الكبار باسناد صحيح أنه قال لما ذكر حديث ابن مسعود رضي الله عنه حدثني الصادق المصدوق الحديث ولو سمعت الأعمش يقول هذا لكذبته ولو سمعت زيد بن وهب يقول هذا لأجبته ولو سمعت عبدالله بن مسعود يقول هذا ما قبلته ولو سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هذا لرددته وذكر كلمة بعدها فهذا كفر صريح نعوذ بالله من موجبات غضبه وأليم عقابه وقد بين في الحديث كيفية الإيمان بالقدر أن يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه وهذا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جابر رضي الله عنه لا يؤمن عبد حتى يؤمن بالقدر خيره وشره حتى أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه رواه الترمذي والمعنى ان العبد لا يؤمن حتى يعلم أن ما يصيبه إنما أصابه في القدر أي قدر عليه من الخير والشر لم يكن ليخطئه أي يجاوزه فلا يصيبه وإنما أخطأه من الخير والشر في القدر أي لم يقدر عليه ما لم يكن ليصيبه كما قال تعالى ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم الا في كتاب

628

من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير وقال تعالى قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون قوله إن أول ما خلق الله القلم قال شيخ الإسلام قد ذكرنا أن للسلف في العرضشوالقلم أيهما خلق قبل الآخر قولين كما ذكر ذلك الحافظ أبو العلي الهمداني وغيره أحدهما أن القلم خلق أولا كما أطلق ذلك غير واحد وهذا هو الذي يفهم في ظاهر كتب المصنف في الأوائل للحافظ أبو عروبة الحراني ولد القاسم الطبراني للحديث الذي رواه أبو داود في سننه عن عبادة ابن الصامت وذكر الحديث المشروح والثاني أن العرش خلق أولا قال الإمام عثمان بن سعيد الدارمي في تصنيفه قي الرد على الجهمية حدثنا محمد بن كثير العبدي أنبأنا سفيان الثوري ثنا أبو هاشم عن مجاهد عن ابن عباس قال إن الله كان على عرشه قبل أن يخلق شيئا فكان أول ما خلق الله القلم فأمره أن يكتب ما هو كائن وأن ما يجري على الناس على أمر قد فرغ منه وكذلك ذكر الحافظ أبو بكر البيهقي في كتاب الأسماء والصفات لما ذكر بدء الخلق ثم ذكر حديث الأعمش عن المنهال بن عمرو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه سئل عن قول الله تعالى وكان عرشه على الماء على أي شيء قال على متن الريح وروى حديث القاسم بن مرة

629

عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه كان يحدث أن رسول الله صلىالله عليه وسلم قال أول شيء خلقه الله القلم وأمره فكتب كل شيء يكون قال البيهقي وإنما أراد والله أعلم أول شيء خلقه بعد خلق الماء والريح والعرش وذلك في حديث عمران بن حصين الذي اشار إليه وهو ما رواه البخاري من غير وجه مرفوعا عنه كان الله ولم يكن شيء قبله وكان عرشه على الماء ثم خلق السموات والأرض وكتب في الذكر كل شيء ورواه البيهقي كما رواه محمد هارون الروياني في مسنده وعثمان بن سعيد الدارمي وغيرهما من حديث الثقات المتفق على ثقتهم عن أبي اسحق عن الأعمش عن جامع بن شداد عن صفوان بن محرز عن عمران بن حصين عن النبي صلىالله عليه وسلم قال كان الله ولم يكن شيء غيره وكان عرشه على الماء ثم كتب في الذكر كل شيء ثم خلق السموات وذكر أحاديث وآثارا ثم قال ما معناه فثبت في النصوص الصحيحة أن العرش خلق أولا وقال ابن كثير قال قائلون خلق القلم أولا وهذا اختيار ابن جرير وابن الجوزي وغيرهما قال ابن جرير وبعد القلم السحاب الرقيق وبعده العرش واحتجوا بحديث عبادة والذي عليه الجمهور أن العرش مخلقوق قبل ذلك كما دل على ذلك الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه يعني حديث عبدالله بن عمرو بن العاص الذي تقدم قالوا وهذا التقدير هو كتابته بالقلم المقادير وقد دل الحديث أن ذلك بعد خلق العرش فثبت تقديم العرش على القلم الذي كتب به المقادير كما ذهب إلى ذلك الجماهير ويحمل حديث القلم على أنه أول المخلوقات من هذا العالم انتهى بمعناه قوله اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة قال شيخ الإسلام

630

وكذلك في حديث ابن عباس وغيره وهذا يبين أنه إنما أمره حينئذ أن يكتب مقدار هذا الخلق إلى قيام الساعة لم يكن حينئذ ما يكون بعد ذلك قوله من مات على غير هذا لم يكن مني أي لأنه إذا كان جاحدا للعلم القديم فهو كافر كما قال كثير من أئمة السلف ناظروا القدرية بالعلم فإن أقروا به خصموا وإن جحدوا كفروا يريدون أن من أنكر العلم القديم السابق بأفعال العباد وأن الله قسمهم قبل خلقهم الى شقي وسعيد وكتب ذلك عنده في كتاب حفيظ فقد كذب القرآن فيكفر بذلك كما نص عليه الشافعي وأحمد وغيرهما وإن أقروا بذلك وأنكروا أن الله خلق أفعال العباد وشاءها وأرادها بينهم إرادة كونية قدرية فقد خصموا لأن ما أقروا به حجة عليهم فيما أنكروه وفي تكفير هؤلاء نزاع مشهور وبالجملة فهم أهل بدعة شنيعة والرسول صلى الله عليه وسلم بريء منهم كما هو بريء من الأولين وقد بيض المصنف آخر هذا الحديث ليعزوه وقد رواه أبو داود وهذا لفظه ورواه أحمد والترمذي وغيرهما قال وفي رواية لابن وهب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن لم يؤمن بالقدر خيره وشره أحرقه الله بالنار ش قوله وفي رواية لابن وهب هو الإمام الحافظ عبدالله بن وهب بن مسلم القرشي مولاهم المصري الفقيه ثقة إمام مشهور عابد له مصنفات منها الجامع وغيره مات سنة سبع وتسعين ومائة وله اثنان وسبعون سنة قوله أحرقه الله بالنار أي لكفره أو بدعته إن كان ممن يقر بالعلم السابق وينكر خلق أفعال العباد فإن صاحب البدعة متعرض للوعيد كأصحاب الكبائر بل أعظم

631

قال وفي المسند والسنن عن أبي الديلمي قال أتيت أبي ابن كعب فقلت في نفسي شيء من القدر فحدثني بشيء لعل الله يذهبه من قلبي فقال لو أنفقت مثل أحد ذهبا ما قبله الله منك حتى تؤمن بالقدر وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك ولو مت على غير هذا لكنت من أهل النار قال فأتيت عبدالله بن مسعود وحذيفة بن اليمان وزيد ثابت كلهم حدثني بمثل ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث صحيح رواه الحاكم في صحيحه ش قوله وفي المسند أي مسند الإمام أحمد والسنن أي سنن أبي داود وابن ماجه فقط بمعنى ما ذكر المصنف وفيه زيادة اختصرها المصنف ولفظ ابن ماجه حدثنا علي بن محمد حدثنا اسحق بن سليمان قال سمعت أبا سنان عن وهب بن خالد الحمصي عن أبي الديلمي قال وقع في نفسي شيء من هذا القدر خشيت أن يفسد علي ديني وأمري فأتيت أبي بن كعب فقلت يا أبا المنذر إنه قد وقع في قلبي شيء من هذا القدر فخشيت على ديني وأمري فحدثني من ذلك بشيء لعل الله أن ينفعني فقال لو أن الله عذب أهل سمواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم ولو رحمهم لكانت رحمته خيرا لهم من أعمالهم ولو كان لك مثل أحد ذهبا أو مثل جبل أحد تنفقة في سبيل الله ما قبل منك حتى تؤمن بالقدر فتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك وإنك إن مت على غير هذا دخلت النار ولا عليك أن تأتي يا أخي عبدالله بن مسعود فتسأل فأتيت عبدالله فسألته فذكر مثل ما قال أبي وقال لي لا عليك أن تأتي حذيفة فأتيت حذيفة فسألته فقال مثل ما قال أئت زيد بن ثابت فاسأله فأتيت

632

زيد بن ثابت فسألته فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لو أن الله عذب أهل سمواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم ولو رحمهم لكانت رحمته خيرا لهم من أعمالهم ولو كان مثل أحد أو مثل جبل أحد ذهبا تنفقه في سبيل الله ما قبله الله منك حتى تؤمن بالقدر كله فتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك وإنك إن مت على غير هذا دخلت النار هذا حديث ابن ماجه ولفظ أبي داود كما ذكره المصنف إلا أنه قال ثم أتيت عبدالله بن مسعود فقال مثل ذلك ثم أتيت حذيفة بن اليمان فقال مثل ذلك ثم أتيت زيد بن ثابت فحدثني عن النبي صلىالله عليه وسلم بمثل ذلك قوله عن أبي الديلمي هو عبدالله بن فيروز الديلمي وفيروز قاتل الأسود العنسي الكذاب وعبد الله هذا ثقة من كبار التابعين بل ذكره بعضهم في الصحابة والديلمي نسبة إلى جبل الديلم وهو من أبناء الفرس الذين بعثهم كسرى إلى اليمن قوله وقع في نفسي شيء من القدر أي شك أو اضطراب يؤدي إلى شك فيه أو جحد له قوله لو أنفقت مثل أحد ذهبا ما قبله الله منك هذا تمثيل على سبيل الفرض لا تحديد إذ لو فرض إنفاق ملء السموات والأرض كان ذلك قوله حتى تؤمن بالقدر أي بأن جميع الأمور الكائنة خيرها وشرها وحلوها ومرها ونفعها وضرها وقليلها وكثيرها وكبيرها وصغيرها بقضائه وقدره وإرادته ومشيئته وأمره كما ذكر عن علي رضي الله عنه

633

باب ما جاء في المصورين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي فليخلقوا ذرة أو ليخلقوا حبة أو ليخلقوا شعيرة اخرجاه ولهما عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أشد الناس عذابا يوم القيامة الذين يضاهؤون بخلق الله ولهما عن ابن عباس سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول كل مصور في النار يجعل له بكل صورة صورها نفس يعذب بها في جهنم ولهما عنه مرفوعا من صور صورة في الدنيا كلف أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ ولمسلم عن أبي الهياج قال قال لي علي ألا ابعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا تدع صورة الا طمستها ولا قبرا مشرفا الا سويته فيه مسائل الأولى التغليظ الشديد في المصورين الثانية التنبيه على العلة وهو ترك الأدب مع الله لقوله ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي الثالثة التنبيه على قدرته وعجزهم لقوله فليخلقوا ذرة أو حبة أو شعيرة

634

الرابعة التصريح بأنهم أشد الناس عذابا الخامسة أن الله يخلق بعدد كل صورة نفسا يعذب بها المصور في جهنم السادسة أنه يكلف أن ينفخ فيها الروح السابعة الأمر بطمسها اذا وجدت قوله باب ما جاء في المصورين أي من عظيم عقوبة الله لهم وعذابه وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم العلة وهي المضاهاة بخلق الله لأن الله تعالى له الخلق والأمر فهو رب كل شيء ومليكه وهو خالق كل شيء وهو الذي صور جميع المخلوقات وجعل فيها الأرواح التي تحصل بها الحياة كما قال الله تعالى الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين ثم سواه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون فالمصور لما صور الصورة على شكلك ما خلقه الله تعالى من إنسان وبهيمة صار مضاهيا لخلق الله فصار ما صور عذابا له يوم القيامة وكلف أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ فكان أشد الناس عذابا لأن ذنبه من أكبر الذنوب فإذا كان هذا فيمن صور صورة على مثال ما خلقه الله تعالى من الحيوان فكيف بحال من سوى المخلوق برب العالمين وشبهه بخلقه وصرف له شيئا من العبادة التي ما خلق الله الخلق إلا ليعبدوه وحده بما لا يستحقه غيره من كل

635

عمل يحبه الله من العبد ويرضاه فتسوية المخلوق بالخالق بصرف حقه لمن لا يستحقه من خلقه وجعله شريكا له فيما اختص به تعالى وتقدس هو أعظم ذنب عصي الله تعالى به ولهذا أرسل رسله وأنزل كتبه لبيان هذا الشرك والنهي عنه وإخلاص العبادة بجميع أنواعها لله تعالى فنجى الله تعالى رسله ومن أطاعهم وأهلك من جحد التوحيد واستمر على الشرك والتنديد فما اعظمه من ذنب إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق قوله ولمسلم عن أبي الهياج الأسدي حيان بن حصين قال قال لي علي رضي الله عنه هو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه قوله ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا تدع صورة إلا طمستها ولا قبرا مشرفا إلا سويته فيه تصريح بأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث عليا لذلك أما الصور فلمضاهاتها لخلق الله وأما تسوية القبور فلما في تعليتها من الفتنة بأربابها وتعظيمها وهو من ذرائع الشرك ووسائله فصرف الهمم إلى هذا وأمثاله من مصالح الدين ومقاصده وواجباته ولما وقع التساهل في هذه الأمور وقع المحذور وعظمت الفتنة بأرباب القبور وصارت محطا لرحال العابدين المعظيمن لها فصرفوا لها جل العبادة من الدعاء والاستعانة والاستغاثة والتضرع لها والذبح لها والنذور وغير ذلك من كل شرك محظور قال العلامة ابن القيم رحمه الله ومن جمع بين سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في القبور

636

وما أمر به ونهى عنه وما كان عليه أصحابه وبين ما عليه أكثر الناس اليوم رأى أحدهما مضادا للآخر مناقضا له بحيث لا يجتمعان أبدا فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة إلى القبور وهؤلاء يصلون عندها وإليها ونهى عن اتخاذها مساجد وهؤلاء يبنون عليها المساجد ويسمونها مشاهد مضاهاة لبيوت الله ونهى عن إيقاد السرج عليها وهؤلاء يوقفون الوقوف على إيقاد القناديل عليها ونهى عن أن تتخذ عيدا وهؤلاء يتخذونها أعيادا ومناسك ويجتمعون لها كاجتماعهم للعيد أو أكثر وأمر بتسويتها كما روى مسلم في صحيحه عن أبي الهياج الأسدي فذكر حديث الباب وحديث تمامة بن شفي وهو عند مسلم أيضا قال كنا مع فضالة بن عبيد بأرض الروم برودس فتوفي صاحب لنا فأمر فضالة بقبره فسوي ثم قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بتسويتها وهؤلاء يبالغون في مخالفة هذين الحديثين يرفعونها عن الأرض كالبيت ويعقدون عليها القباب ونهى عن تجصيص القبر والبناء عليه كما روى مسلم في صحيحه عن جابر رضي الله عنه قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تجصيص القبر وأن يقعد عليه وأن يبني عليه ونهى عن الكتابة عليها كا روى أبو داود في سننه عن جابر أن رسول الله صلىالله عليه وسلم نهى عن تجصيص القبور وأن يكتب عليها قال الترمذي حديث حسن صحيح وهؤلاء يتخذون عليها الألواح ويكتبون عليها القرآن وغيره ونهى أن يزاد عليها غير ترابها كما روى أبو دواد عن جابر أيضا أن رسول الله صلى الله عيله وسلم نهى أن يجصص القبر أو يكتب عليه أو يزاد عليه وهؤلاء يزيدون عليه الآجر والجص والاحجار قال إبراهيم النخعي كانوا يكرهون الآجر على قبورهم والمقصود أن هؤلاء المعظمين للقبور المتخذيها أعيادا الموقدين عليها

637

السرج الذين يبنون عليها المساجد والقباب مناقضون لما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم محادون لما جاء به وأعظم ذلك اتخاذها مساجد وإيقاد السرج عليها وهو من الكبائر وقد صرح الفقهاء من أصحاب احمد وغيرهم بتحريمه قال أبو محمد المقدسي ولو أبيح اتخاذ السرج عليها لم يلعن من فعله ولأن فيه تضييعا للمال في غير فائدة وإفراطا في تعظيم القبور اشبه تعظيم الأصنام قال ولا يجوز اتخاذ المساجد على القبور لهذا الخبر ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما صنعوا متفق عليه ولأن تجصيص القبور بالصلاة عندها يشبه تعظيم الأصنام بالسجود لها والتقرب إليها وقد روينا أن ابتداء عبادة الأصنام تعظيم الأموات باتخاذ صورهم والتمسح بها والصلاة عندها انتهى وقد آل الأمر بهؤلاء الضلال المشركين إلى أن شرعوا للقبور حجا ووضعوا لها مناسك حتى صنف بعض غلاتهم في ذلك كتابا سماه مناسك حج المشاهد مضاهاة منه القبور بالبيت الحرام ولا يخفى أن هذا مفارقة لدين الاسلام ودخول في دين عباد الأصنام فانظر إلى هذا التباين العظيم بين ما شرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقصده من النهي عما تقدم ذكره في القبور وبين ما شرعه هؤلاء وقصدوه ولا ريب أن في ذلك من المفاسد ما يعجر عن حصره فمنها تعظيم الموقع في الافتتان بها ومنها اتخاذها أعيادا ومنها السفر إليها ومنها مشابهة عباد الأصنام بما يفعل عندها من العكوف عليها والمجاورة عندها وتعليق الستور عليها وعبادها يرجحون المجاورة عندها على المجاورة عند المسجد الحرام ويرون سدانتها أفضل من خدمة المساجد والويل عندهم لقيمها ليلة يطفىء القنديل المعلق عليها ومنها النذر لها ولسدنتها ومنها اعتقاد المشركين فيها أن بها يكشف البلاء وينصر على الأعداء ويستنزل

638

غيث السماء وتفرج الكروب وتقضى الحوائج وينصر المظلوم ويجار الخائف إلى غير ذلك ومنها الدخول في لعنة الله ورسوله باتخاذ المساجد عليها وإيقاد السرج عليها ومنها الشرك الأكبر الذي يفعل عندها ومنها إيذاء أصحابها بما يفعله المشركون بقبورهم فإنهم يؤذيهم ما يفعل عند قبورهم ويكرهونه غاية الكراهية كما أن المسيح عليه السلام يكره ما يفعله النصارى عند قبره وكذلك غيره من الأنبياء والمشايخ يؤذيهم ما يفعله أشباه النصارى عند قبورهم ويوم القيامة يتبرؤون منهم كما قال تعالى ويوم يحشرهم وما يعبدون من دون الله فيقول أنتم أضللتم عبادي هؤلاء أم هم ضلوا السبيل قالوا سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء ولكن متعتهم وآباءهم حتى نسوا الذكر وكانوا قوما بورا قال الله تعالى للمشركين فقد كذبوكم بما تقولون وقال تعالى وإذ قال الله يا عيسى بن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق الآية وقال تعالى ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون ومنها إماتة السنن وإحياء البدع ومنها تفضيلها على خير البقاع وأحبها إلى الله فإن عباد القبور يقصدونها مع التعظيم والاحترام والخشوع ورقة القلب والعكوف بالهمة

639

على الموتى بما لا يفعلونه في المساجد ولا يحصل لهم فيها نظيره ولا قريبا منه ومنها أن الذي شرعه الرسول صلى الله عليه وسلم عند زيارة القبور إنما هو تذكر الآخرة والإحسان إلى المزور بالدعاء له والترحم عليه والاستغفار له وسؤال العافية له فيكون الزائر محسنا إلى نفسه وإلى الميت فقلب هؤلاء المشركون الأمر وعكسوا الدين وجعلوا المقصود بالزيارة الشرك بالميت ودعاءه والدعاء به وسؤاله حوائجهم واستنزال البركة منه ونصره لهم على الأعداء ونحو ذلك فصاروا مسيئين إلى انفسهم وإلى الميت وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نهى الرجال عن زيارة القبور سدا للذريعة فلما تمكن التوحيد في قلوبهم أذن لهم في زيارتها على الوجه الذي شرعه ونهاهم أن يقولوا هجرا ومن أعظم الهجر الشرك عندها قولا وفعلا وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم زوروا القبور فإنها تذكركم الموت وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقبور المدينة فأقبل عليهم بوجهه فقال السلام عليكم يا أهل القبور يغفر الله لنا ولكم أنتم سلفنا ونحن بالأثر رواه أحمد والترمذي وحسنه فهذه الزيارة التي شرعها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته وعلمهم إياها هل تجد فيها شيئا مما يعتمده أهل الشرك والبدع أم تجدها مضادة لما هم عليه من كل وجه وما أحسن ما قال مالك بن أنس رحمه الله لن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها ولكن كلما ضعف تمسك الأمم بعهود أنبيائهم ونقص إيمانهم أعرضوا عن ذلك بما أحدثوه من البدع والشرك ولقد جرد السلف الصالح التوحيد وحموا جانبه حتى كان أحدهم إذا سلم على

640

النبي صلى الله عليه وسلم ثم أراد الدعاء استقبل القبلة وجعل ظهره الى جدار القبر ثم دعا ونص على ذلك الأئمة الأربعة أنه يستقبل القبلة وقت الدعاء حتى لا يدعو عند القبر فإن الدعاء عبادة وفي الترمذي وغيره الدعاء هو العبادة فجرد السلف العبادة لله ولم يفعلوا عند القبور منها إلا ما أذن فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الدعاء لأصحابها والاستغفار لهم والترحم عليهم وأخرج أبو داود عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تجعلوا بيوتكم قبورا ولا تجعلوا قبري عيدا وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم وإسناده جيد ورواته ثقات مشاهير وقوله ولا تجعلوا بيوتكم قبورا أي لا تعطلوها عن الصلاة فيها والدعاء والقراءة فتكون بمنزلة القبور فأمر بتحري النافلة في البيوت ونهى عن تحري النافلة عند القبور وهذا ضد ما عليه المشركون من النصارى وأشباههم ثم إن في تعظيم القبور واتخاذها أعيادا من المفاسد العظيمة التي لا يعلمها إلا الله ما يغضب لأجله كل من في قلبه وقار لله وغيره على التوحيد وتهجين وتقبيح للشرك ولكن ما لجرح بميت إيلام فمن المفاسد اتخاذها أعيادا والصلاة إليها والطواف بها وتقبيلها واستلامها وتعفير الخدود على ترابها وعبادة أصحابها والاستغاثة بهم وسؤالهم النصر والرزق والعافية وقضاء الدين وتفريج الكربات وإغاثة اللهفات وغير ذلك من أنواع الطلبات التي كان عباد الأوثان يسألونها أوثانهم فلو رأيت غلاة المتخذين لها عيدا وقد نزلوا عن

641

الأكوار والدواب إذا رأوها من مكان بعيد فوضعوا لها الجباه وقبلوا الأرض وكشفوا الرؤوس وارتفعت أصواتهم بالضجيج وتباكوا حتى تسمع لهم النشيج ورأوا أنهم قد أربوا في الربح على الحجيج فاستغاثوا بمن لا يبدىء ولا يعيد ونادوا ولكن من مكان بعيد حتى اذا دنوا منها صلوا عند القبر ركعتين ورأوا أنهم قد أحرزوا من الأجر ما لم يحرزه من صلى إلى القبلتين فتراهم حول القبر ركعا سجدا يبتغون فضلا من الميت ورضوانا وقد ملؤوا أكفهم خيبة وخسرانا فلغير الله بل للشيطان ما يراق هناك من العبرات ويرتفع من الأصوات ويطلب من الميت من الحاجات ويسأل من تفريج الكربات وإغاثة اللهفات وإغناء ذوي الفاقات ومعافاة ذوي العاهات والبليات ثم انثنوا بعد ذلك حول القبر طائفين تشبيها له بالبيت الحرام الذي جعله الله مباركا وهدى للعالمين ثم أخذوا في التقبيل والاستلام أرأيت الجحر الأسود وما يفعل به وفد البيت الحرام ثم عفروا لديه تلك الجباه والخدود التي يعلم الله أنها لم تعفر كذلك بين يديه في السجود ثم كملوا مناسك حج القبر بالتقصير هناك والحلاق واستمتعوا بخلاقهم من ذلك الوثن إذ لم يكن لهم عند الله من خلاق وقد قربوا لذلك الوثن القرابين وكانت صلاتهم ونسكهم وقربانهم لغير الله رب العالمين فلو رأيتهم يهنىء بعضهم بعضا ويقول أجزل الله لنا ولكم أجرا وافرا وحظا فإذا رجعوا سألهم غلاة المتحلفين أن يبيع أحدهم ثواب حجة القبر بحجة المتخلف إلى البيت الحرام فيقول لا ولا بججك كل عام هذا ولم نتجاوز فيما حكيناه عنهم ولا استقصينا جميع بدعهم وضلالهم

642

إذ هي فوق ما يخطر بالبال ويدور في الخيال وهذا مبدأ عبادة الأصنام في قوم نوح كما تقدم وكل من شم أدنى رائحة من العلم والفقة يعلم أن من أهم الأمور سد الذريعة إلى هذا المحظور وأن صاحب الشرع أعلم بعاقبة ما نهى عنه وما يؤول إليه وأحكم في نهيه عنه وتوعده عليه وأن الخير والهدى في اتباعه وطاعته والشر والضلال في معصيته ومخالفته انتهى كلامه باب ما جاء في كثرة الحلف وقول الله تعالى واحفظوا أيمانكم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الحلف منفقة للسلعة ممحقة للكسب أخرجاه وعن سلمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ثلاثة لا يكلمهم الله ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم أشيمط زان وعائل مستكبر ورجل جعل الله بضاعته لا يشتري إلا بيمينه ولا يبيع الا بيمينه رواه الطبراني بسند صحيح وفي الصحيح عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر أمتي قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم قال عمران فلا أدري أذكر بعد قرنه مرتين أو ثلاثا ثم إن بعدكم قوم يشهدون ولا يستشهدون ويخونون ولا يؤتمنون وينذرون ولا يوفون ويظهر فيهم السمن

643

وفيه عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته وقال ابراهيم كانوا يضربوننا على الشهادة والعهد ونحن صغار فيه مسائل الأولى الوصية بحفظ الأيمان الثانية الإخبار بأن الحلف منفقة للسلعة ممحقة للبركة الثالثة الوعيد الشديد فيمن لا يبيع ولا يشتري إلا بيمينه الرابعة التنبيه على أن الذنب يعظم مع قلة الداعي الخامسة ذم الذين يحلفون ولا يستحلفون السادسة ثناؤه صلى الله عليه وسلم على القرون الثلاثة أو الأربعة وذكر ما يحدث السابعة ذم الذين يشهدون ولا يستشهدون الثامنة كون السلف يضربون الصغار على الشهادة والعهد قوله باب ما جاء في كثرة الحلف أي من النهي عنه والوعيد وقول الله تعالى واحفظوا أيمانكم قال ابن جرير لا تتركوها بغير تكفير وذكر غيره من المفسرين عن ابن عباس يريد لا تحلفوا وقال آخرون احفظوا أيمانكم عن الحنث فلا تحنثوا

644

والمصنف أراد من الآية المعنى الذي ذكره ابن عباس فإن القولين متلازمان فيلزم من كثرة الحلف كثرة الحنث مع ما يدل عليه من الاستخفاف وعدم التعظيم لله وغير ذلك مما ينافي كمال التوحيد الواجب أو عدمه قوله عن أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الحلف منفقة للسلع ممحقة للكسب أخرجاه أي البخاري ومسلم وأخرجه أبو داود والنسائي والمعنى أنه إذا حلف على سلعة أنه أعطى فيها كذا وكذا أو أنه اشتراها بكذا وكذا وقد يظنه المشتري صادقا فيما حلف عليه فيأخذها بزيادة على قيمتها والبائع كذاب وحلف طمعا في الزيادة فيكون قد عصى الله تعالى فيعاقب بمحق البركة فإذا ذهبت بركة كسبه دخل عليه من النقص أعظم من تلك الزيادة التي دخلت عليه بسبب حلفه وربما ذهب ثمن تلك السلعة رأسا وما عند الله لا ينال إلا بطاعته وإن تزخرفت الدنيا للعاصي فعاقبتها اضمحلال وذهاب وعقاب قوله وعن سلمان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ثلاثة لا يكلمهم الله ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم أشميط زان وعائل مستكبر ورجل جعل الله بضاعته لا يشتري إلا بيمينه ولا يبيع إلا بيمينه رواه الطراني بسند صحيح وسلمان لعله سلمان الفارسي أبو عبدالله أسلم مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وشهد الخندق روى عنه أبو عثمان النهدي وشرحبيل بن السمط وغيرهما قال النبي صلىالله عليه وسلم سلمان منا أهل البيت إن الله يحب من أصحابي أربعة عليا وأبا ذر وسلمان والمقداد أخرجه الترمذي وابن ماجه قال الحسن كان سلمان أميرا على ثلاثين ألفا يخطب بهم في عباءة يفترش نصفها

645

ويلبس نصفها توفي في خلافة عثمان رضي الله عنه قال أبو عبيدة سنة ست وثلاثين عن ثلاثمائة وخمسين سنة ويحتمل أنه سلمان بن عامر بن أوس الضبي قوله ثلاثة لا يكلمهم الله نفي كلام الرب تعالى وتقدس عن هؤلاء العصاة دليل على أنه يكلم من أطاعه وأن الكلام صفة من صفات كماله والأدلة على ذلك من الكتاب والسنة أظهر شيء وأبينه وهذا هو الذي عليه أهل السنة والجماعة من المحققين قيام الأفعال بالله سبحانه وأن الفعل يقع بمشيئته تعالى وقدرته شيئا فشيئا ولم يزل متصفا به فهو حادث الآحاد قديم النوع كما يقول ذلك أئمة أصحاب الحديث وغيرهم من أصحاب الشافعي وأحمد وسائر الطوائف كما قال تعالى إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون فأتى بالحروف الدالة على الحال والاستقبال أيضا وذلك في القرآن كثير قال شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله فإذا قالوا لنا يعني النفاة فهذا يلزمه أن تكون الحوادث قائمة به ومن أنكر هذا قبلكم من السلف والأئمة ونصوص القرآن والسنة تتضمن ذلك مع صريح العقل ولفظ الحوادث مجمل فقد يراد به الأعراض والنقائص والله تعالى منزه عن ذلك ولكن يقوم به ما يشاء من كلامه وأفعاله ونحو ذلك مما دل عليه الكتاب والسنة والقول الصحيح هو قول أهل العلم والحديث الذين يقولون لم يزل الله متكلما إذا شاء كما قال ابن المبارك وأحمد بن حنبل وغيرهما من أئمة السنة قلت ومعنى قيام الحوادث به تعالى قدرته عليها وإيجاده لها بمشيئته وأمره والله اعلم

646

قوله ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم لما عظم ذنبهم عظمت عقوبتهم فعوقبوا بهذه الثلاث التي هي أعظم العقوبات قوله أشيمط زان صغره تحقيرا له وذلك لأن داعي المعصية ضعف في حقه فدل على أن الحامل له على الزنا محبة المعصية والفجور وعدم خوفه من الله وضعف الداعي إلى المعصية مع فعلها يوجب تغليظ العقوبة عليه بخلاف الشاب فإن قوة داعي الشهوة منه قد تغلبه مع خوفه من الله وقد يرجع على نفسه بالندم ولومها على المعصية فينتهي ويرجع وكذا العائل المستكبر وليس له ما يدعوه إلى الكبر لأن الداعي إلى الكبر في الغالب كثرة المال والنعم والرياسة والعائل الفقير لا داعي له إلى أن يستكبر فاستكباره مع عدم الداعي إليه يدل على أن الكبر طبيعة له كامن في قلبه فعظمت عقوبته لعدم الداعي إلى هذا الخلق الذميم الذي هو من اكبر المعاصي قوله ورجل جعل الله بضاعته بنصب الاسم الشريف اي الحلف به جعله بضاعته لملازمته له وغلبته عليه وهذه أعمال تدل على أن صاحبها إن كان موحدا فتوحيده ضعيف وأعماله ضعيفة بحسب ما قام بقلبه وظهر على لسانه وعمله من تلك المعاصي العظيمة على قلة الداعي إليها نسأل الله السلامة والعافية ونعوذ بالله من كل عمل لا يحبه ربنا ولا يرضاه قوله وفي الصحيح أي صحيح مسلم وأخرجه أبو داود والترمذي ورواه البخاري بلفظ خيركم قوله عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم خير أمتي قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم قال عمران فلا أدري أذكر بعد قرنه

647

مرتين أو ثلاثا ثم إن بعدكم قوما يشهدون ولا يستشهدون ويخونون ولا يؤتمنون وينذرون ولا يوفون ويظهر فيهم السمن قوله خير أمتي فرني لفضيلة أهل ذلك القرن في العلم والإيمان والأعمال الصالحة التي يتنافس فيها المتنافسون ويتفاضل فيها العاملون فغلب الخير فيها وكثر أهله وقل الشر فيها وأهله واعتز فيها الاسلام والإيمان وكثر فيها العلم والعلماء ثم الذين يلونهم فضلوا على من بعدهم لظهور الإسلام فيهم وكثرة الداعي إليه والراغب فيه والقائم به وما ظهر فيه من البدع أنكر واستعظم وأزيل كبدعة الخوارج والقدرية والرافضة فهذه البدع وإن كانت قد ظهرت فأهلها في غاية الذل والمقت والهوان والقتل فيمن عاند منهم ولم يتب قوله فلا أدري أذكر بعد قرنه مرتين أو ثلاثا هذا شك من راوي الحديث عمران بن حصين رضي الله عنه والمشهور في الروايات أن القرون المفضلة ثلاثة الثالث دون الأولين في الفضل لكثرة البدع فيه لكن العلماء متوافرون والاسلام فيه ظاهر والجهاد فيه قائم ثم ذكر ما وقع بعد القرون الثلاثة من الجفاء في الدين وكثرة الأهواء فقال ثم إن بعدكم قوما يشهدون ولا يشتشهدون لاستخفافهم بأمر الشهادة وعدم تحريهم للصدق وذلك لقلة دينهم وضعف إسلامهم قوله ويخونون ولا يؤتمنون يدل على أن الخيانة قد غلبت على كثير منهم أو أكثرهم قوله وينذرون ولا يوفون اي لا يؤدون ما وجب عليهم فظهور هذه الأعمال الذميمة يدل على ضعف إسلامهم وعدم إيمانهم

648

قوله ويظهر فيهم السمن لرغبتهم في الدنيا ونيل شهواتهم والتنعم بها وغفلتهم عن الدار الآخرة والعمل لها وفي حديث أنس لا يأتي على الناس زمان إلا والذي بعده شر منه حتى تلقوا ربكم قال أنس سمعته من نبيكم صلى الله عليه وسلم فما زال الشر يزيد في الأمة حتى ظهر الشرك والبدع في كثير منهم حتى فيمن ينتسب إلى العلم ويتصدر للتعليم والتصنيف قلت بل قد دعوا إلى الشرك والضلال والبدع وصنفوا في ذلك نظما ونثرا فنعوذ بالله من موجبات غضبه قوله وفيه عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته قلت وهذه حال من صرف رغبته إلى الدنيا ونسي المعاد فخف أمر الشهادة واليمين عنده تحملا وأداء لقلة خوفه من الله وعدم مبالاته بذلك وهذا هو الغالب على الأكثر والله المستعان فإذا كان هذا قد وقع في صدر الإسلام الأول فما بعده أكثر بأضعاف فكن من الناس على حذر قوله قال إبراهيم هو النخعي كانوا يضربوننا على الشهادة والعهد ونحن صغار وذلك لكثرة علم التابعين وقوة إيمانهم ومعرفتهم بربهم وقيامهم بوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأنه من أفضل الجهاد ولا يقوم الدين إلا به وفي هذا الرغبة في تمرين الصغار على طاعة ربهم ونهيهم عما يضرهم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم

649

باب ما جاء في ذمة الله وذمة نبيه وقوله وأفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا وعن بريدة قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميرا على جيش أو سرية أوصاه بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرا فقال اغزوا بسم الله في سبيل الله قاتلوا من كفر بالله اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدا وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم الى ثلاث خصال أو خلال فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ثم ادعهم الى الإسلام فإن أجابوك فاقبل منهم ثم ادعهم الى التحول من دارهم الى دار المهاجرين وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين فإن أبوا ان يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله تعالى ولا يكون لهم في الغيمة والفيء شيء إلا أن يجاهدوا مع المسلمين فإن هم أبوا فاسألهم الجزية فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه فلا

650

تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه ولكن اجعل لهما ذمتك وذمة أصحابك فإنكم إن تخفروا ذممكم وذمة أصحابكم أهون من أن نخفروا ذمة الله وذمة نبيه وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم ولكن أنزلهم على حكمك فإنك لا تدري أتصيب فيهم حكم الله أم لا رواه مسلم فيه مسائل الأولى الفرق بين ذمة الله وذمة نبيه وذمة المسلمين الثانية الإرشاد إلى أقل الأمرين خطرا الثالثة قوله اغزوا بسم الله في سبيل الله الرابعة قوله قاتلوا من كفر بالله الخامسة قوله استعن بالله وقاتلهم السادسة الفرق بين حكم الله وحكم العلماء السابعة في كون الصحابي يحكم عند الحاجة بحكم لا يدري أيوافق حكم الله أم لا قوله باب ما جاء في ذمة الله وذمة رسوله وقول الله تعالى وأفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد وكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا الآية قال العماد بن كثير وهذا مما يأمر الله تعالى به وهو الوفاء بالعهود

651

والمواثيق والمحافظة على الأيمان المؤكدة ولهذا قال ولا تنقضوا الإيمان بعد توكيدها ولا تعارض بين هذا وقوله ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم وبين قوله ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم واحفظوا أيمانكم أي لا تتركوها بلا تكفير وبين قوله صلى الله عليه وسلم في الصحيحين إني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها الا أتيت الذي هو خير منها وتحللتها وفي رواية وكفرت عن يميني لا تعارض بين هذا كله وبين الآية المذكورة هنا وهي ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها لأن هذه الأيمان المراد بها الداخلة في العهود والمواثيق لا الأيمان الواردة على حث أو منع ولهذا قال مجاهد في الآية يعني الحلف أي حلف الجاهلية ويؤيده ما رواه الإمام أحمد عن جبير بن مطعم قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا حلف في الإسلام وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام الا شدة وكذا رواه مسلم ومعناه أن الإسلام لا يحتاج معه الى الحلف الذي كان أهل الجاهلية يفعلونه فإن في التمسك بالإسلام كفاية عما كانوا فيه وقوله تعالى إن الله يعلم ما تفعلون تهديد ووعيد لمن نقض الأيمان بعد توكيدها قوله عن بريدة هو ابن الحصيب الأسلمي وهذا الحديث من رواية ابنه سليمان عنه قاله في المفهم قوله قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميرا على جيش او سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله تعالى فيه من الفقه تأمير الأمراء ووصيتهم قال الحربي السرية الخيل تبلغ أربعمائة ونحوها والجيش ما كان أكثر من ذلك وتقوى الله التحرز بطاعته من عقوبته

652

قلت وذلك بالعمل بما أمر الله به والانتهاء عما نهى عنه قوله ومن معه من المسلمين خيرا أي ووصاه بمن معه أن يفعل معهم خيرا من الرفق بهم والإحسان إليهم وخفض الجناح لهم وترك التعاظم عليهم قوله اغزوا باسم الله هذا أي اشرعوا في فعل الغزو مستعينين بالله مخلصين له قلت فتكون الباء في بسم الله هنا للاستعانة والتوكل على الله قوله قاتوا من كفر بالله هذا العموم يشمل جميع أهل الكفر المحاربين وغيرهم وقد خصص منهم من له عهد والرهبان والنسوان ومن لم يبلغ الحلم وقد قال متصلا به ولا تقتلوا وليدا وإنما نهى عن قتل الرهبان والنسوان لأنه لا يكون منها قتال غالبا وإن كان منهم قتال أو تدبير قتلوا قلت وكذلك الذراري والأولاد قوله ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا الغلول الأخذ من الغنيمة من غير قسمتها والغدر نقض العهد والتمثيل هنا التشويه بالقبيل كقطع أنفه وأذنه والعبث به ولا خلاف في تحريم الغلول والغدر وفي كراهية المثلة قوله وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خلال أو خصال الرواية بالشك وهو من بعض الرواة ومعنى الخلال والخصال واحد قوله فأيتهن ما اجابوك فاقبل منهم وكف عنهم قيدناه عمن يوثق بعلمه وتقييده بنصب أيتهن على أن يعمل فيها أجابوك لا على إسقاط حرف الجر وما زائدة ويكون تقدير الكلام فإلى أيتهن أجابوك

653

فاقبل منهم كما تقول جئتك إلى كذا وفي كذا فيعدى إلى الثاني بحرف الجر قلت فيكون في ناصب أيتهن وجهان ذكرهما الشارح الأول منصوب على الاشتغال والثاني على نزع الخافض قوله ثم ادعهم إلى الإسلام كذا وقعت الرواية في جميع نسخ كتاب مسلم ثم ادعهم بزيادة ثم والصواب إسقاطها كما روي في غير كتاب مسلم كمصنف أبي داود وكتاب الأموال لأبي عبيد لأن ذلك هو ابتداء تفسير الثلاث الخصال وقوله ثم ادعهم الى التحول من دارهم الى دار المهاجرين يعني المدينة وكان في أول الأمر وجوب الهجرة الى المدينة على كل من دخل في الإسلام وهذا يدل على أن الهجرة واجبة على كل من آمن من أهل مكة وغيرهم قوله فإن أبوا أن يتحولوا يعني أن من أسلم ولم يهاجر ولم يجاهد لا يعطى من الخمس ولا من الفيء شيئا وقد أخذ الشافعي رحمه الله بالحديث في الأعراب فلم ير لهم من الفيء شيئا وإنما لهم الصدقة المأخوذة من أغنيائهم فترد على فقرائهم كما أن أهل الجهاد وأجناد المسلمين لا حق لهم في الصدقة عنده ومصرف كل مال في أهله وسوى مالك رحمه الله وأبو حنيفة رحمه الله بين المالين وجوزا صرفهما للضعيف قوله فإن هم أبوا فاسألهم الجزية فيه حجة لمالك وأصحابه والأوزاعي في أخذ الجزية من كل كافر عربيا كان أو غيره كتابيا كان أو غيره وذهب أبو حنيفة رحمه الله إلى أنها تؤخذ من الجميع إلا من مشركي العرب ومجوسهم وقال الشافعي لا تؤخذ إلى من أهل الكتاب عربا كانوا أو عجما وهو قول الإمام أحمد في ظاهر مذهبه وتؤخذ من المجوس

654

قلت لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخذها منهم وقال سنوا بهم سنة أهل الكتاب وقد اختلفوا في القدر المفروض من الجزية فقال مالك أربعة دنانير على أهل الذهب وأربعون درهما على أهل الورق وهل ينقص منها الضعيف أولا قولان وقال الشافعي فيه دينار على الغني والفقير وقال ابو حنيفة رحمه الله والكوفيون على الغني ثمانية وأربعون درهما والوسط أربعة وعشرون درهما والفقير اثنا عشر درهما وهو قول أحمد بن حنبل رحمه الله قال يحيى بن يوسف الصرصري الحنبلي رحمه الله وقاتل يهودا والنصارى وعصبة ال مجوس فإن هم سلموا الجزية اصدد على الأدون اثني عشر درهما افرضن وأربعة من بعد عشرين زد لأوسطهم حالا ومن كان موسرا ثمانية مع اربعين لتنقد وتسقط عن صبيانهم ونسائهم وشيخ لهم فإن وأعمى ومقعد وذي الفقر والمجنون أو عبد مسلم ومن وجبت منهم عليه فيهتدي وعند مالك وكافة العلماء على الرجال الأحرار البالغين العقلاء دون غيرهم وإنما تؤخذ ممن كان تحت قهر المسلمين لاممن نأى بداره ويجب تحويلهم إلى بلاد المسلمين أو حربهم قوله وإذا حاصرت أهل حصن الكلام إلى آخره فيه حجة لمن يقول من الفقهاء وأهل الأصول إن المصيب في مسائل الاجتهاد واحد وهو المعروف من مذهب مالك وغيره ووجه الاستدلال به أنه صلى الله عليه وسلم قد نص على أن الله تعالى قد حكم حكما معينا في المجتهدات فمن وافقه فهو

655

المصيب ومن لم يوافقه فهو المخطىء قوله وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك ان تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه الحديث الذمة العهد وتخفر تنقص يقال أخفرت الرجل إذا نقضت عهده وخفرته اجرته ومعناه أنه خاف من نقض من لم يعرف حق الوفاء للعهد كجملة الأعراب فكأنه يقول إن وقع نقض من متعد معتد كان نقض عهد الخلق أهون من نقض عهد الله تعالى والله أعلم قوله وقول نافع وقد سئل عن الدعوة قبل القتال ذكر فيه أن مذهب مالك يجمع بين الأحاديث في الدعوة قبل القتال قال وهو أن مالكا قال لا يقاتل الكفار قبل ان يدعوا ولا تلتمس غرتهم إلا يكونوا قد بلغتهم الدعوة فيجوز أن تلتمس غرتهم وهذا الذي صار إليه مالك هو الصحيح لأن فائدة الدعوة أن يعرف العدو أن المسلمين لا يقاتلون للدنيا ولا للعصبية وإنما يقاتلون للدين فإذا علموا بذلك أمكن أن يكون ذلك سببا مميلا لهم إلى الانقياد إلى الحق بخلاف ما إذا جهلوا مقصود المسلمين فقد يظنون أنهم يقاتلون للملك وللدنيا فيزيدون عتوا وبغضا والله أعلم باب ما جاء في الإقسام على الله عن جندب بن عبدالله رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال رجل والله لا يغفر الله لفلان فقال الله عز وجل من ذا الذي يتألى علي أن لا أغفر لفلان إني قد غفرت له وأحبطت عملك رواه مسلم

656

وفي حديث أبي هريرة أن القائل رجل عابد قال أبو هريرة تكلم بكلمة أو بقت دنياه وآخرته فيه مسائل الأولى التحذير من التألي على الله الثانية كون النار أقرب إلى أحدنا من شراك نعله الثالثة أن الجنة مثل ذلك الرابعة فيه شاهد لقوله إن الرجل ليتكلم بالكلمة الخ الخامسة أن الرجل قد يغفر له بسبب هو من أكره الأمور إليه قوله باب ما جاء في الإقسام على الله ذكر المصنف فيه حديث جندب بن عبدالله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال رجل والله لا يغفر الله لفلان قال الله عز وجل من ذا الذي يتألى علي أن لا أغفر لفلان إني قد غفرت له وأحبطت عملك رواه مسلم قوله يتألى أي يحلف والألية بالتشديد الحلف وصح من حديث أبي هريرة قال البغوي في شرح السنة وساق بالسند إلى عكرمة ابن عمار قال دخلت مسجد المدينة فناداني شيخ قال يا يمامي تعال وما أعرفه قال لا تقولن لرجل والله لا يغفر الله لك أبدا ولا يدخلك الجنة قلت ومن أنت يرحمك الله قال أبو هريرة فقلت إن هذه كلمة يقولها أحدنا لبعض أهله إذا غضب أو لزوجته أو لخادمه قال فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن رجلين كانا في بني إسرائيل متحابين أحدهما مجتهد في

657

العبادة والآخر كأنه يقول مذنب فجعل يقول أقصر عما أنت فيه قال فيقول خلني وربي قال فوجده يوما على ذنب استعظمه فقال أقصر فقال خلني وربي أبعثت علي رقيبا فقال والله لا يغفر الله لك ولا يدخلك الجنة أبدا قال فبعث الله إليهما ملكا فقبض أرواحهما فاجتمعا عنده فقال للمذنب ادخل الجنة برحمتي وقال للآخر اتستطيع أن تحظر على عبدي رحمتي قال لا يا رب قال اذهبوا به الى النار قال أبو هريرة والذي نفسي بيده تكلم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته رواه أبو داود في سننه وهذا لفظه عن أبي هريرة رضي الله عنه يقول كان رجلان في بني إسرائيل متآخين فكان أحدهما يذنب والآخر مجتهد في العبادة فكان لا يزال المجتهد يرى الآخر على الذنب فيقول اقصر فوجده يوما على ذنب فقال له أقصر فقال خلني وربي أبعثت علي رقيبا قال والله لا يغفر الله لك ولا يدخلك الجنة فقبضت أرواحهما فاجتمعا عند رب العالمين فقال لهذا المجتهد أكنت بي عالما أو كنت على ما في يدي قادرا فقال للمذنب اذهب فادخل الجنة وقال للآخر اذهبوا به الى النار قوله وفي حديث أبي هريرة أن القائل رجل عابد يشير إلى قوله في هذا الحديث أحدهما مجتهد في العبادة وفي هذه الاحاديث بيان خطر اللسان وذلك يفيد التحرز من الكلام كما في حديث معاذ قلت يا رسول الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به قال ثكلتك أمك يا معاذ وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو قال على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم والله أعلم

658

باب لا يستشفع بالله على خلقه عن جبير بن مطعم رضي الله عنه قال جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله نهكت الأنفس وجاع العيال وهلكت الأموال فاستسق لنا ربك فإنا نستشفع بالله عليك وبك على الله فقال النبي صلى الله عليه وسلم سبحان الله سحبان الله فما زال يسبح حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه ثم قال ويحك أتدري ما الله إن شأن الله أعظم من ذلك إنه لا يستشفع بالله على أحد وذكر الحديث رواه أبو داود فيه مسائل الأولى إنكاره على من قال نستشفع بالله عليك الثانية تغيره تغيرا عرف في وجوه أصحابه من هذه الكلمة الثالثة أنه لم ينكر عليه قوله نستشفع بك على الله الرابعة التنبيه على تفسير سبحان الله الخامسة أن المسلمين يسألونه صلى الله عليه وسلم الاستسقاء قوله باب لا يستشفع بالله على خلقه وذكر الحديث وسياق أبي داود في سننه أتم مما ذكره المصنف رحمه الله ولفظه عن جبير بن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه عن جده قال أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أعرابي فقال يا رسول الله جهدت الأنفس وضاعت العيال

659

ونهكت الأموال وهلكت الأنعام فاستسق الله لنا فإنا نستشفع بك على الله ونستشفع بالله عليك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحك أتدري ما تقول وسبح رسول الله صلى الله عليه وسلم فما زال يسبح حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه ثم قال ويحك إنه لا يستشفع بالله على أحد من خلقه شأن الله أعظم من ذلك ويحك أتدري ما الله إن عرشه على سمواته لهكذا وقال بأصابعه مثل القبة عليه وإنه ليئط به أطيط الرجل بالراكب قال ابن بشار في حديثه إن الله فوق عرشه وعرشه فوق سمواته قال الحافظ الذهبي رواه أبو داود بإسناد حسن عنده في الرد على الجهمية من حديث محمد بن إسحاق بن يسار قوله ويحك إنه لا يستشفع بالله على أحد من خلقه فإنه تعالى رب كل شيء ومليكه والخير كله بيده لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع ولا راد لما قضى وما كان الله ليعجزه من شيء في السموات ولا في الأرض إنه كان عليما قديرا إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون والخلق وما في أيديهم ملكه يتصرف فيهم كيف يشاء وهو الذي يشفع الشافع إليه ولهذا أنكر على الأعرابي قوله وسبح الله كثيرا وعظمه لأن هذا القول لا يليق بالخالق سبحانه وبحمده وإن شأن الله أعظم من ذلك وفي هذا الحديث إثبات علو الله على خلقه وأن عرشه فوق سمواته وفيه تفسير الاستواء بالعلو كما فسره الصحابة والتابعون والأئمة خلافا للمعطلة والجهمية والمعتزلة ومن أخذ عنهم كالأشاعرة ونحوهم ممن ألحد في أسماء الله وصفاته وصرفها عن المعنى الذي وضعت له ودلت عليه من إثبات صفات الله تعالى التي دلت على كماله جل وعلا كما عليه السلف الصالح والأئمة

660

ومن تبعهم ممن تمسك بالسنة فإنهم أثبتوا ما أثبته الله لنفسه وأثبته له رسوله من صفات كماله على ما يليق بجلاله وعظمته إثباتا بلا تمثيل وتنزيها بلا تعطيل قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى في مفتاح دار السعادة بعد كلام سبق فيما يعرف العبد بنفسه وبربه من عجائب مخلوقاته قال بعد ذلك والثاني أن يتجاوز هذا إلى النظر بالبصيرة الباطنة فتفتح له أبواب السماء فيجول في أقطارها وملكوتها وبين ملائكتها ثم يفتح له باب بعد باب حتى ينتهي به سير القلب الى عرش الرحمن فينظر سعته وعظمته وجلاله ومجده ورفعته ويرى السموات السبع والأرضين السبع بالنسبة اليه كحلقة ملقاة بأرض فلاة ويرى الملائكة حافين من حول العرش لهم زجل بالتسبيح والتحميد والتقديس والتكبير والأمر ينزل من فوقه بتدبير الممالك والجنود التي لا يعلمها الا ربها ومليكها فينزل الأمر بإحياء قوم وإماته آخرين واعزاز قوم وإذلال آخرين وإنشاء ملك وسلب ملك وتحويل نعمة من محل إلى محل وقضاء الحاجات على اختلافها وتبيانها وكثرتها من جبر كسير وإغناء فقير وشفاء مريض وتفريج كرب ومغفرة ذنب وكشف ضر ونصر مظلوم وهداية حيران وتعليم جاهل ورد آبق وأمان خائف وإجارة مستجير ومدد لضعيف وإغاثة لملهوف وإعانة لعاجز وانتقام من ظالم وكف لعدوان فهي مراسيم دائرة بين العدل والفضل والحكمة والرحمة تنفد في أقطار العوالم لا يشغله سمع شيء منها عن سمع غيره ولا تغلطه كثرة المسائل والحوائج على اختلاف لغاتها وتبيانها واتحاد وقتها ولا يتبرم بإلحاح الملحين ولا تنقص ذرة من خزائنه لا إله إلا هو العزيز الحكيم فحينئذ يقوم القلب بين يدي الرحمن مطرقا لهيبته خاشعا لعظمته عاليا لعزته فيسجد بين يدي

661

الملك الحق المبين سجدة لا يرفع رأسه منها الى يوم المزيد فهذا سفر القلب وهو في وطنه وداره ومحل ملكه وهذا من أعظم ثمرته وربحه وأجل منفعته وأحسن عاقبته سفر هو حياة الأرواح ومفتاح السعادة وغنيمة العقول والألباب لا كالسفر الذي هو قطعة من العذاب اه كلامه رحمه الله وأما الاستشفاع بالرسول صلى الله عليه وسلم في حياته فالمراد به استجلاب دعائه وليس خاصا به صلى الله عليه وسلم بل كل حي صالح يرجى أن يستجاب له فلا بأس أن يطلب منه أن يدعو للسائل بالمطالب الخاصة والعامة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر لما أراد أن يعتمر من المدينة لا تنسنا يا أخي من صالح دعائك وأما الميت فإنما يشرع في حقه الدعاء له على جنازته وعلى قبره وفي غير ذلك وهذا هو الذي يشرع في حق الميت وأما دعاؤه فلم يشرع بل قد دل الكتاب والسنة على النهي عنه والوعيد عليه كما قال تعالى والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم فبين الله تعالى أن دعاء من لا يسمع ولا يستجيب شرك يكفر به المدعو يوم القيامة اي ينكره ويعادي من فعله كما في آية الأحقاف وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين فكل ميت أو غائب لا يسمع ولا يستجيب ولا ينفع ولا يضر والصحابة رضي الله عنهم لا سيما أهل السوابق منهم كالخلفاء الراشدين لم ينقل عن أحد منهم ولا عن غيرهم أنهم أنزلوا حاجاتهم بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته حتى في أوقات الجدب كما وقع لعمر رضي الله عنه لما خرج

662

ليستسقي بالناس خرج بالعباس عم النبي صلى الله عليه وسلم فأمره أن يستسقي لأنه حي حاضر يدعو ربه فلو جاز أن يستسقي بأحد بعد وفاته لاستسقى عمر رضي الله عنه والسابقون الأولون بالنبي صلى الله عليه وسلم وبهذا يظهر الفرق بين الحي والميت لأن المقصود من الحي دعاؤه إذا كان حاضرا فإنهم في الحقيقة إنما توجهوا إلى الله بطلب دعاء من يدعوه ويتضرع إليه وهم كذلك يدعون ربهم فمن تعدى المشروع إلى مالا يشرع ضل واضل ولو كان دعاء الميت خيرا لكان الصحابة اليه أسبق وعليه أحرص وبهم أليق وبحقه أعلم وأقوم فمن تمسك بكتاب الله نجا ومن تركه واعتمد على عقله هلك وبالله التوفيق باب ما جاء في حماية النبي صلى الله عليه وسلم حمى التوحيد وسده طرق الشرك عن عبدالله بن الشخير رضي الله عنه قال انطلقت في وفد بني عامر الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا أنت سيدنا فقال السيد الله تبارك وتعالى قلنا وأفضلنا فضلا وأعظمنا طولا فقال قولوا بقولكم أو بعض قولكم ولا يستجرينكم الشيطان رواه أبو داود بسند جيد وعن أنس رضي الله عنه أن أناسا قالوا يا رسول الله ياخبرنا وابن خيرنا وسيدنا وابن سيدنا فقال يا ايها الناس قولوا بقولكم ولا يستهوينكم الشيطان أنا محمد عبد الله ورسوله ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عز وجل رواه النسائي بسند جيد

663

فيه مسائل الأولى تحذير الناس من الغلو الثانية ما ينبغي أن يقول من قيل له أنت سيدنا الثالثة قوله لا يستجرينكم الشيطان مع أنهم لم يقولوا إلا الحق الرابعة قول ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي قوله باب ما جاء في حماية المصطفى صلى الله عليه وسلم حمى التوحيد وسده طرق الشرك حمايته صلى الله عليه وسلم حمى التوحيد عما يشوبه من الأقوال والأعمال التي يضمحل معها التوحيد أو ينقص وهذا كثير في السنة الثابتة عنه صلى الله عليه وسلم كقوله لا تطروني كما اطرت النصارى ابن مريم إنما أنا عبد فقولوا عبدالله ورسوله وتقدم قوله إنه لا يستغاث بي وإنما يستغاث بالله عز وجل ونحو ذلك ونهى عن التمادح وشدد القول فيه كقوله لمن مدح انسانا ويلك قطعت عنق صاحبك الحديث أخرجه ابو داود عن عبدالرحمن بن أبي بكرة عن أبيه أن رجلا أثنى على رجل عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال له قطعت عنق صاحبك ثلاثا وقال إذا لقيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب أخرجه مسلم والترمذي وابن ماجه عن المقداد بن الأسود وفي هذ الحديث نهى عن أن يقولوا أنت سيدنا وقال السيد الله تبارك وتعالى ونهاهم أن يقولوا وأفضلنا فضلا وأعظمنا طولا وقال لا يستجرينكم الشيطان وكذلك قوله في حديث انس أن ناسا قالوا يا رسول الله يا خيرنا وابن خيرنا إلى الخ كره صلى الله عليه وسلم أن يواجهوه بالمدح فيفضي بهم الى الغلو وأخبر صلى الله عليه وسلم أن مواجهة المادح للممدوح بمدحه ولو بما هو فيه من عمل الشيطان لما

664

نقضي محبة المدح إليه من تعاظم الممدوح في نفسه وذلك ينافي كمال التوحيد فإن العبادة لا تقوم إلا بقطب رحاها الذي لا تدور إلا عليه وذلك غاية الذل في غاية المحبة وكمال الذل يقتضي الخضوع والخشية والاستكانة لله تعالى وأن لا يرى نفسه إلا في مقام الذم لها والمعاتبة لها في حق ربه وكذلك الحب لا تحصل غايته إلا اذا كان يحب ما يحبه الله ويكره ما يكرهه الله من الأقوال والأعمال والإدارات ومحبة المدح من العبد لنفسه تخالف ما يحبه الله منه والمادح يغره من نفسه فيكون آثما فمقام العبودية يقتضي كراهة المدح رأسا والنهي عنه صيانة لهذا المقام فمتى أخلص العبد الذل لله والمحبة له خلصت أعماله وصحت ومتى أدخل عليها ما يشوبها من هذه الشوائب دخل على مقام العبودية بالنقص أو الفساد وإذا أداه المدح الى التعاظم في نفسه والإعجاب بها وقع في أمر عظيم ينافي العبودية الخاصة كما في الحديث الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني شيئا منها عذبته وفي الحديث لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر وهذه الآفات قد تكون محبة المدح سببا لها وسلما إليها والعجب يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب وأما المادح فقد يفضي به المدح إلى أن ينزل الممدوح منزلة لا يستحقها كما يوجد كثيرا في أشعارهم من الغلو الذي نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم وحذر أمته أن يقع منهم فقد وقع الكثير منه حتى صرحوا فيه بالشرك في الربوبية والإلهية والملك كما تقدمت الإشارة الى شيء من ذلك والنبي صلى الله عليه وسلم لما أكمل الله له مقام العبودية صار يكره أن يمدح صيانة لهذا المقام وأرشد الى ترك ذلك نصحا لهم وحماية لمقام التوحيد عن أن يدخله ما يفسده أو يضعفه من الشرك ووسائله فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم

665

ورأوا أن فعل ما نهاهم صلى الله عليه وسلم عن فعله قربة من أفضل القربات وحسنة من اعظم الحسنات وأما تسمية العبد بالسيد فاختلف العلماء في ذلك قال العلامة ابن القيم في بدائع الفوائد اختلف الناس في جواز إطلاق السيد على البشر فمنعه قوم ونقل عن مالك واحتجوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم لما قيل له يا سيدنا قال السيد الله تبارك وتعالى وجوزه قوم واحتجوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار قوموا الى سيدكم وهذا أصح من الحديث الأول قال هؤلاء السيد أحد ما يضاف إليه فلا يقال للتميمي سيد كندة ولا يقال الملك سيد البشر قال وعلى هذا فلا يجوز أن يطلق على هذا الاسم وفي هذا نظر فإن السيد إذا أطلق عليه تعالى فهو في منزلة المالك والمولى والرب لا بمعنى الذي يطلق على المخلوق انتهى قلت فقد صح عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال في معنى قول الله تعالى قل أغير الله أبغي ربا أي إلها وسيدا وقال في قول الله تعالى الله الصمد إنه السيد الذي كمل في جميع أنواع السؤدد وقال أبو وائل هو السيد الذي انتهى سؤده وأما استدلالهم بقول النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار قوموا الى سيدكم فالظاهر أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يواجه سعدا به فيكون في هذا المقام تفصيل والله أعلم باب ما جاء في قول الله تعالى وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا

666

قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون عن ابن مسعود رضي الله عنه قال جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا محمد إنا نجد أن الله يجعل السموات على اصبع والأرضين على اصبع والشجر على اصبع والثرى على اصبع وسائر الخلق على اصبع فيقول أنا الملك فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه تصديقا لقول الحبر ثم قرأ وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة وفي رواية لمسلم والجبال والشجر على اصبع ثم يهزهن فيقول أنا الملك أنا الله وفي رواية للبخاري يجعل السموات على اصبع والماء والثرى على إصبع وسائر الخلق على إصبع آخرجاه ولمسلم عن ابن عمر مرفوعا يطوي الله السموات يوم القيامة ثم يأخذهن بيده اليمنى ثم يقول أنا الملك أين الجبارون اين المتكبرون ثم يطوي الأرضين السبع ثم يأخذهن بشماله ثم يقول أنا الملك أين الجبارون اين المتكبرون وروي عن ابن عباس قال ما السموات السبع والأرضون السبع في كف الرحمن الا كخردلة في يد أحدكم وقال ابن جرير حدثني يونس أخبرنا ابن وهب قال قال ابن زيد حدثني أبي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما السموات السبع في الكرسي إلا كدراهم سبعة ألقيت في ترس قال وقال أبو در رضي الله عنه سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول

667

ما الكرسي في العرش إلا كحلقة من حديد ألقيت بين ظهري فلاة من الأرض وعن ابن مسعود قال بين السماء الدنيا والتي تليها خمسمائة عام وبين كل سماء خمسمائة عام وبين السماء السابعة والكرسي خمسمائة عام وبين الكرسي والماء خمسمائة عام والعرش فوق الماء والله فوق العرضشلا يخفى عليه شيء من أعمالكم أخرجه ابن مهدي عن حماد بن سلمة عن عاصم عن زر عن عبدالله ورواه بنحوه المسعودي عن عاصم عن أبي وائل عن عبدالله قاله الحافظ الذهبي رحمه الله تعالى قال وله طرق وعن العباس بن عبدالمطلب رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم هل تدرون كم بين السماء والأرض قلنا الله ورسوله أعلم قال بينهما مسيرة خمسمائة سنة ومن كل سماء الى سماء مسيرة خمسمائة سنة وكثف كل سماء مسيرة خمسمائة سنة وبين السماء السابعة والعرش بحر بين أسفله وأعلاه كما بين السماء والأرض والله تعالى فوق ذلك وليس يخفى عليه شيء من أعمال بني آدم أخرجه أبو داود وغيره فيه مسائل الأولى تغسير قوله تعالى والأرض جميعا قبضته يوم القيامة الثانية أن هذه العلوم وأمثالها باقية عند اليهود الذين في زمنه صلى الله عليه وسلم لم ينكروها ولم يتأولوها الثالثة أن الحبر لما ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم صدقه ونزل القرآن بتقرير ذلك

668

الرابعة وقوع الضحك من رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ذكر الحبر هذا العلم العظيم الخامسة التصريح بذكر اليدين وأن السموات في اليد اليمنى والأرضين في الأخرى السادسة التصريح بتسميتها الشمال السابعة ذكر الجبارين والمتكبرين عند ذلك الثامنة قوله كخردلة في كف أحدكم التاسعة عظم الكرسي بالنسبة إلى السماء العاشرة عظم العرش بالنسبة إلى الكرسي الحادية عشرة أن العرض غير الكرسي والماء الثانية عشرة كم بين كل سماء إلى سماء الثالثة عشرة كم بين السماء السابعة والكرسي الرابعة عشرة كم بين الكرسي والماء الخامسة عشرة أن العرش فوق الماء السادسة عشرة أن الله فوق العرش السابعة عشرة كم بين السماء والأرض الثامنة عشرة كثف كل سماء مائة سنة التاسعة عشرة أن البحر الذي فوق السموات أسفله واعلاه خمسمائة سنة والله أعلم

669

قوله باب قول الله تعالى وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون أي من الأحاديث والآثار في معنى هذه الآية الكريمة قال العماد ابن كثير رحمه الله تعالى يقول تعالى ما قدر المشركون الله حق قدره حتى عبدوا معه غيره وهو العظيم الذي لا أعظم منه القادر على كل شيء المالك لكل شيء وكل شيء تحت قهره وقدرته قال مجاهد نزلت في قريش وقال السدي ما عظموه حق عظمته وقال محمد بن كعب لو قدروه حق قدره ما كذبوه وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس هم الكفار الذين لم يؤمنوا بقدرة الله عليهم فمن آمن أن الله على كل شيء قدير فقد قدر الله حق قدره ومن لم يؤمن بذلك فلم يقدر الله حق قدره وقد وردت أحاديث كثيرة متعلقة بهذه الآية الطريق فيها وفي أمثالها مذهب السلف وهو إمرارها كما جاءت من غير تكييف ولا تحريف وذكر حديث ابن مسعود كما ذكره المصنف رحمه الله في هذا الباب قال ورواه البخاري في غير موضع من صحيحه والأمام أحمد ومسلم والترمذي والنسائي كلهم من حديث سليمان بن مهران وهو الأعمش عن إبراهيم عن عبيدة عن ابن مسعود بنحوه

670

قال الإمام أحمد حدثنا معاوية حدثنا الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبدالله قال جاء رجل من أهل الكتاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا أبا القاسم أبلغك أن الله تعالى يجعل الخلائق على إصبع والسموات على إصبع والأرضين على إصبع والشجر على إصبع والثرى على إصبع وسائر الخلائق على إصبع فيقول أنا الملك فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه تصديقا لقول الحبر قال وأنزل الله وما قدروا الله حق قدره الآية وهكذا رواه البخاري ومسلم والنسائي من طرق عن الأعمش به وقال الإمام أحمد حدثنا الحسين بن حسن الأشقر حدثنا أبو كدينة عن عطاء عن أبي الضحى عن ابن عباس قال مر يهودي برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس فقال كيف تقول يا أبا القاسم يوم يجعل الله السموات على ذه واشار بالسبابة والأرض على ذه والجبال على ذه وسائر الخلق على ذه كل ذلك يشير بأصابعه فأنزل الله وما قدروا الله حق قدره وكذا رواه الترمذي في التفسير بسنده عن أبي الضحى مسلم بن صبيح به وقال حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه ثم قال البخاري حدثنا سعيد بن عفير حدثنا الليث حدثني عبدالرحمن بن خالد بن مسافر عن ابن شهاب عن أبي سلمة بن عبدالرحمن أن أبا هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يقبض الله الأرض ويطوي السماء بيمينه فيقول أنا الملك أين ملوك الأرض تفرد به من هذا الوجه ورواه مسلم من وجه آخر وقال البخاري في موضع آخر حدثنا مقدم بن محمد حدثنا عمي القاسم ابن يحيى عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن الله تعالى يقبض يوم القيامة الأرضين على إصبع وتكون

671

السماء بيمينه ثم يقول أنا الملك تفرد به أيضا من هذا الوجه ورواه مسلم من وجه آخر وقد رواه الإمام أحمد من طريق آخر بلفظ أبسط من هذا السياق وأطول فقال حدثنا عفان حدثنا حماد بن سلمة أنبأنا إسحاق بن عبدالله بن أبي طلحة عن عبيد الله بن مقسم عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية ذات يوم على المنبر وما قدروا الله حق قدره الأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هكذا بيده يحركها يقبل بها ويدبر يمجد الرب تعالى نفسه أنا الجبار المتكبر انا الملك أنا العزيز أنا الكريم فرجف برسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر حتى قلنا ليخزن به قوله ولمسلم عن ابن عمر الحديث كذا في رواية مسلم قال الحميدي وهي أتم وهي عند مسلم من حديث سالم عن أبيه وأخرجه البخاري من حديث عبيدالله عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال إن الله يقبض يوم القيامة الأرضين وتكون السماء بيمينه وأخرجه مسلم من حديث عبيدالله ابن مقسم قلت وهذه الأحاديث وما في معناها تدل على عظمة الله وعظيم قدرته وعظم مخلوقاته وقد تعرف سبحانه وتعالى إلى عباده بصفاته وعجائب مخلوقاته وكلها تدل على كماله وأنه هو المعبود وحده لا شريك له في ربوبيته وإلهيته وتدل على إثبات الصفات له على ما يليق بجلال الله وعظمته إثباتا بلا تمثيل وتنزيها بلا تعطيل وهذا هو الذي دلت عليه نصوص الكتاب والسنة وعليه سلف الأمة وأئمتها ومن تبعهم بإحسان واقتفى أثرهم على الإسلام والإيمان وتأمل ما في هذه الأحاديث الصحيحة من تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم ربه بذكر

672

صفات كماله على ما يليق بعظمته وجلاله وتصديقه اليهود فيما أخبروا به عن الله من الصفات التي تدل على عظمته وتأمل ما فيها من إثبات علو الله تعالى على عرشه ولم يقل النبي صلى الله عليه وسلم في شيء منها إن ظاهرها غير مراد وإنها تدل على تشبيه صفات الله بصفات خلقه فلو كان هذا حقا بلغه أمينه أمته فإن الله أكمل به الدين وأتم به النعمة فبلغ البلاغ المبين صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم إلى يوم الدين وتلقى الصحابة رضي الله عنهم عن نبيهم صلى الله عليه وسلم ما وصف به ربه من صفات كماله ونعوت جلاله فآمنوا به وآمنوا بكتاب الله وما تضمنه من صفات ربهم جل وعلا كما قال تعالى والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وكذلك التابعون لهم بإحسان وتابعوهم والأئمة من المحدثين والفقهاء كلهم وصف الله بما وصف به نفسه ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم ولم يجحدوا شيئا من الصفات ولا قال أحد منهم إن ظاهرها غير مراد ولا إنه يلزم من إثباتها التشبيه بل أنكروا على من قال ذلك غاية الإنكار فصنفوا في رد هذه الشبهات المصنفات الكبار المعروفة الموجودة بأيدي أهل السنة والجماعة قال شيخ الإسلام أحمد بن تميمية رحمه الله تعالى وهذا كتاب الله من أوله إلى آخره وسنة رسول الله صلىالله عليه وسلم وكلام الصحابة والتابعين وكلام سائر الأئمة مملوءة كلها بما هو نص أو ظاهر أن الله تعالى فوق كل شيء وأنه فوق العرش فوق السموات مستو على عرشه مثل قوله تعالى إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه وقوله تعالى يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي وقوله تعالى بل رفعه الله إليه وقوله تعالى ذي المعارج

673

تعرج الملائكة والروح إليه وقوله تعالى يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه وقوله تعالى يخافون ربهم من فوقهم وقوله تعالى هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سموات وقوله تعالى إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين وقوله تعالى ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يدبر الأمر ما من شفيع إلا من بعد إذنه الآية فذكر التوحيدين في هذه الآية وقوله تعالى الله الذي رفع السموات بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش وقوله تعالى تنزيلا ممن خلق الأرض والسموات العلى الرحمن على العرش استوى وقوله تعالى وتوكل على الحي الذي لا يموت وسبح بحمده وكفى به بذنوب عباده خبيرا الذي خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش الرحمن فاسأل به خبيرا وقوله تعالى الله الذي خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع أفلا تتذكرون يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان

674

مقداره ألف سنة مما تعدون وقوله تعالى هو الذي خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أينما كنتم والله بما تعملون بصير فذكر عموم علمه وعموم قدرته وعموم إحاطته وعموم رؤيته وقوله تعالى أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فغذا هي تمور أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبا فستعلمون كيف نذير وقوله تعالى تنزيل من حكيم حميد وقوله تعالى تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم وقوله تعالى وقال فرعون يا همان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب أسباب السموات فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبا انتهى كلامه رحمه الله قلت وقد ذكر الأئمة رحمهم الله تعالى فيما صنفوه في الرد على نفاة الصفات من الجهمية والمعتزلة والأشاعرة ونحوهم أقوال الصحابة والتابعين فمن ذلك ما رواه الحافظ الذهبي في كتاب العلو وغيره بالأسانيد الصحيحة عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت في قوله تعالى الرحمن على العرش استوى قالت الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول والإقرار به إيمان والجحود به كفر رواه ابن المنذر واللالكائي وغيرهما بأسانيد صحاح قال وثبت عن سفيان بن عيينة رحمه الله تعالى أنه قال لما سئل ربيعة بن أبي عبدالرحمن كيف الاستواء قال الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول ومن الله الرسالة وعلى الرسول البلاغ وعلينا التصديق وقال

675

ابن وهب كنا عند مالك فدخل رجل فقال يا أبا عبدالله الرحمن على العرش استوى كيف استوى فأطرق مالك رحمه الله وأخذته الرحضاء وقال الرحمن على العرش استوى كما وصف نفسه ولا يقال كيف وكيف عنه مرفوع وأنت صاحب بدعة أخرجوه رواه البيهقي بإسناد صحيح عن ابن وهب ورواه عن يحيى بن يحيى أيضا ولفظه قال الإستواء غير مجهول والكيف غير معقول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعه قال الذهبي فانظر إليهم كيف أثبتوا الاستواء لله وأخبروا أنه معلوم لا يحتاج لفظه إلى تفسير ونفوا عنه الكيفية قال البخاري في صحيحه قال مجاهد استوى علا على العرش وقال إسحاق بن راهويه سمعت غير واحد من المفسرين يقول الرحمن على العرش استوى أي ارتفع وقال محمد بن جرير الطبري في قوله تعالى الرحمن على العرش استوى أي علا وارتفع وشواهده في أقوال الصحابة والتابعين وأتباعهم فمن ذلك قول عبدالله ابن رواحة رضي الله عنه شهدت بأن وعد الله حق وأن النار مثوى الكافرينا وأن العرش فوق الماء طاف وفوق العرش رب العالمينا وتحمله ملائكة شداد ملائكة الإله مسومينا وروى الدارمي والحاكم والبيهقي بأصح إسناده إلى علي بن الحسين بن شقيق قال سمعت عبدالله بن المبارك يقول نعرف ربنا بأنه فوق سبع سمواته على العرش استوى بائن من خلقه ولا نقول كما قالت الجهمية قال الدارمي حدثنا حسن بن الصباح البزار حدثنا علي بن الحسين بن شقيق عن

676

ابن المبارك قيل له كيف نعرف ربنا قال بأنه فوق السماء السابعة على العرش بائن من خلقه وقد تقدم قول الأوزاعي كنا والتابعون متوافرون نقول إن الله تعالى ذكره بائن من خلقه ونؤمن بما وردت به السنة وقال أبو عمر الطلمنكي في كتاب الأصول أجمع المسلمون من أهل السنة على أن الله استوى على عرشه بذاته وقال في هذا الكتاب أيضا أجمع أهل السنة على أن الله تعالى استوى على عرشه على الحقيقة لا على المجاز ثم ساق بسنده عن مالك قوله الله السماء وعلمه في كل مكان ثم قال في هذا الكتاب أجمع المسلمون من أهل السنة أن معنى قوله وهو معكم أينما كنتم ونحو ذلك من القرآن أن ذلك علمه وأن الله فوق السموات بذاته مستو على عرشه كيف شاء وهذا لفظه في كتابه وهذا كثير في كلام الصحابة والتابعين والأئمة أثبتوا ما أثبته الله في كتابه على لسان رسوله على الحقيقة على ما يليق بجلال الله وعظمته ونفوا عنه مشابهة المخلوقين ولم يمثلوا ولم يكيفوا كما ذكرنا ذلك عنهم في هذا الباب وقال الحافظ الذهبي أول من أنكر أن الله فوق عرشه هو الجعد بن درهم وكذلك أنكر جميع الصفات وقتله خالد بن عبدالله القسري وقصته مشهورة فأخذ هذه المقالة عند الجهم بن صفوان إمام الجهمية فأظهرها واحتج لها بالشبهات وكان ذلك في آخر عصر التابعين فأنكر مقالته أئمة ذلك العصر مثل الأوزاعي وأبي حنيفة ومالك والليث بن سعد والثوري وحماد بن زيد وحماد بن سلمة وابن المبارك ومن بعدهم من أئمة الهدى فقال الأوزاعي إمام أهل الشام على رأس الخمسين ومائة عند ظهور هذه المقالة ما أخبرنا عبدالواسع الأبهري بسنده إلى أبي بكر البيهقي أنبأنا

677

أبو عبدالله الحافظ أخبرني محمد بن علي الجوهري ببغداد حدثنا ابراهيم بن الهيثم حدثنا محمد بن كثير المصيصي سمعت الأوزاعي يقول كنا والتابعون متوافرون نقول إن الله فوق عرشه ونؤمن بما وردت به السنة من صفاته أخرجه البيهقي في الصفات ورواته أئمة ثقات وقال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى لله أسماء وصفات لا يسع أحدا ردها ومن خالف بعد ثبوت الحجة عليه كفر وأما قبل قيام الحجة فإنه يعذر بالجهل ونثبت هذه الصفات وننفي عنه التشبيه كما نفى عن نفسه فقال ليس كمثله شيء وهو السميع البصير من فتح الباري قوله عن العباس بن عبد المطلب ساقه المصنف رحمه الله مختصرا والذي في سنن أبي داود عن العباس بن عبد المطلب قال كنت في البطحاء في عصابة فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فمرت بهم سحابة فنظر إليها فقال ما تسمون هذه قالوا السحاب قال والمزن قالوا المزن قال والعنان قالوا والعنان قال أبو داود لم أتقن العنان جيدا قال هل تدرون ما بين السماء والأرض قالوا لا ندري قال إن بعد ما بينهما إما واحدة أو اثنتان أو ثلاثة وسبعون سنة ثم السماء التي فوقها كذلك حتى عد سبع سموات ثم فوق السابعة بحر بين أسفله وأعلاه مثل ما بين سماء إلى سماء ثم فوق ذلك ثمانية أوعال بين أظلافهم وركبهم مثل ما بين سماء إلى سماء ثم على ظهورهم العرش بين أسفله وأعلاه كما بين سماء إلى سماء ثم الله تعالى فوق ذلك وأخرجه الترمذي وابن ماجه وقال الترمذي حسن غريب وقال الحافظ الذهبي رواه أبو داود بإسناد حسن وروى الترمذي نحوه من حديث أبي هريرة وفيه ما بين سماء إلى سماء خمسمائة عام ولا منافاة بينهما لأن تقدير ذلك بخمسمائة عام هو على سير القافلة مثلا ونيف وسبعون سنة على سير

678

البريد لأنه يصح أن يقال بينا وبين مصر عشرون يوما باعتبار سير العادة وثلاثة أيام باعتبار سير البريد وروى شريك بعض هذا الحديث عن سماك فوقفه هذا آخر كلامه قلت فيه التصريح بأن الله فوق عرشه كما تقدم في الآيات المحكمات والأحاديث الصحيحة وفي كلام السلف من الصحابة والتابعين وتابعيهم وهذا الحديث له شواهد في الصحيحين وغيرهما ولا عبرة بقول من ضعفه لكثرة شواهده التي يستحيل دفعها وصرفها عن ظواهرها وهذا الحديث كأمثاله يدل على عظمة الله وكماله وعظم مخلوقاته وأنه المتصف بصفات الكمال التي وصف بها نفسه في كتابه ووصفه بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ويدل على كمال قدرته وأنه هو المعبود وحده لا شريك له دون كل ما سواه وبالله التوفيق والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

 


Comments

Popular posts from this blog

Joker (2019 film) From Wikipedia, the free encyclopedia