تفسير ابن كثير - فرقان
﴿ٱلۡحَاۤقَّةُ ١ مَا ٱلۡحَاۤقَّةُ ٢ وَمَاۤ أَدۡرَىٰكَ مَا ٱلۡحَاۤقَّةُ ٣ كَذَّبَتۡ ثَمُودُ وَعَادُۢ بِٱلۡقَارِعَةِ ٤ فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهۡلِكُوا۟ بِٱلطَّاغِیَةِ ٥ وَأَمَّا عَادࣱ فَأُهۡلِكُوا۟ بِرِیحࣲ صَرۡصَرٍ عَاتِیَةࣲ ٦ سَخَّرَهَا عَلَیۡهِمۡ سَبۡعَ لَیَالࣲ وَثَمَـٰنِیَةَ أَیَّامٍ حُسُومࣰاۖ فَتَرَى ٱلۡقَوۡمَ فِیهَا صَرۡعَىٰ كَأَنَّهُمۡ أَعۡجَازُ نَخۡلٍ خَاوِیَةࣲ ٧ فَهَلۡ تَرَىٰ لَهُم مِّنۢ بَاقِیَةࣲ ٨ وَجَاۤءَ فِرۡعَوۡنُ وَمَن قَبۡلَهُۥ وَٱلۡمُؤۡتَفِكَـٰتُ بِٱلۡخَاطِئَةِ ٩ فَعَصَوۡا۟ رَسُولَ رَبِّهِمۡ فَأَخَذَهُمۡ أَخۡذَةࣰ رَّابِیَةً ١٠ إِنَّا لَمَّا طَغَا ٱلۡمَاۤءُ حَمَلۡنَـٰكُمۡ فِی ٱلۡجَارِیَةِ ١١ لِنَجۡعَلَهَا لَكُمۡ تَذۡكِرَةࣰ وَتَعِیَهَاۤ أُذُنࣱ وَ ٰعِیَةࣱ ١٢﴾ [الحاقة ١-١٢]
تَفْسِيرُ سُورَةِ الْحَاقَّةِ
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * * *
الحاقةُ مِنْ أَسْمَاءِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ؛ لِأَنَّ فِيهَا يَتَحقَّقُ الوَعدُ والوَعيد؛ وَلِهَذَا عَظَّم تَعَالَى أمرَها فَقَالَ: ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ﴾ ؟
ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى إِهْلَاكَهُ الْأُمَمَ الْمُكَذِّبِينَ بِهَا فَقَالَ تَعَالَى: ﴿فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ﴾ وَهِيَ الصَّيْحَةُ الَّتِي أَسْكَتَتْهُمْ، وَالزَّلْزَلَةُ الَّتِي أَسْكَنَتْهُمْ. هَكَذَا قَالَ قَتَادَةُ: الطَّاغِيَةُ الصَّيْحَةُ. وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ(١) .
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الطَّاغِيَةُ الذُّنُوبُ. وَكَذَا قَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ، وَابْنُ زَيْدٍ: إِنَّهَا الطُّغْيَانُ، وَقَرَأَ ابْنُ زَيْدٍ: ﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا﴾ [الشَّمْسِ: ١١] .
وَقَالَ السُّدِّي: ﴿فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ﴾ قَالَ: يَعْنِي: عَاقِرَ النَّاقَةِ.
﴿وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ﴾ أَيْ: بَارِدَةٍ. قَالَ قَتَادَةُ، وَالرَّبِيعُ، وَالسُّدِّيُّ، وَالثَّوْرِيُّ: ﴿عَاتِيَةٍ﴾ أَيْ: شَدِيدَةِ الْهُبُوبِ. قَالَ قَتَادَةُ: عَتَتْ عَلَيْهِمْ حَتَّى نَقَّبت عَنْ أَفْئِدَتِهِمْ.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: ﴿صَرْصَرٍ﴾ بَارِدَةٍ ﴿عَاتِيَةٍ﴾ عَتَتْ عَلَيْهِمْ بِغَيْرِ رَحْمَةٍ وَلَا بَرَكَةٍ. وَقَالَ عَلِيٌّ وَغَيْرُهُ: عَتَتْ عَلَى الْخَزَنَةِ فَخَرَجَتْ بِغَيْرِ حِسَابٍ.
﴿سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ﴾ أَيْ: سَلَّطَهَا عَلَيْهِمْ ﴿سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا﴾ أي: كوامل متتابعات مشائيم.
قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَالثَّوْرِيُّ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ ﴿حُسُومًا﴾ مُتَتَابِعَاتٍ.
وَعَنْ عِكْرِمَةَ وَالرَّبِيعِ: مَشَائِيمَ عَلَيْهِمْ، كَقَوْلِهِ: ﴿فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ﴾ [فُصِّلَتْ: ١٦] قَالَ الرَّبِيعُ: وَكَانَ أَوَّلُهَا الْجُمْعَةَ. وَقَالَ غَيْرُهُ الْأَرْبِعَاءَ. وَيُقَالُ: إِنَّهَا الَّتِي تُسَمِّيهَا النَّاسُ الْأَعْجَازَ؛ وَكَأَنَّ النَّاسَ أَخَذُوا ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ﴾ وَقِيلَ: لِأَنَّهَا تَكُونُ فِي عَجُزِ الشِّتَاءِ، وَيُقَالُ: أَيَّامُ الْعَجُوزِ؛ لِأَنَّ عَجُوزًا مِنْ قَوْمِ عَادٍ دَخَلَتْ سَرَبا فَقَتَلَهَا الرِّيحُ فِي الْيَوْمِ الثَّامِنِ. حَكَاهُ الْبَغْوَيُّ(٢) وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ﴿خَاوِيَةٍ﴾ خَرِبَةٍ. وَقَالَ غَيْرُهُ: بَالِيَةٍ، أَيْ: جَعَلَتِ الرِّيحُ تَضْرِبُ بِأَحَدِهِمُ الْأَرْضَ فَيَخِرُّ مَيِّتًا عَلَى أُمِّ رَأْسِهِ، فَيَنْشَدِخُ رَأْسُهُ وَتَبْقَى جُثَّتُهُ هَامِدَةً كَأَنَّهَا قَائِمَةُ النَّخْلَةِ إِذَا خَرَّتْ بِلَا أَغْصَانٍ.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم أنه قَالَ: "نُصِرْتُ بالصَّبا، وأهلكَت عادٌ بالدَّبور"(٣) .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ الضِّريس الْعَبْدِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيل، عَنْ مُسْلِمٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "مَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَى عَادٍ مِنَ الرِّيحِ الَّتِي أُهْلِكُوا فِيهَا إِلَّا مِثْلَ مَوْضِعِ الْخَاتَمِ، فَمرّت بِأَهْلِ الْبَادِيَةِ فَحَمْلَتْهُمْ وَمَوَاشِيَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ، فَجَعَلَتْهُمْ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ. فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ أَهْلُ الْحَاضِرَةِ الرِّيحَ(٤) وَمَا فِيهَا قَالُوا: هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا. فَأَلْقَتْ أَهْلَ الْبَادِيَةِ وَمَوَاشِيَهُمْ عَلَى أَهْلِ الْحَاضِرَةِ"(٥) .
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: الرِّيحُ لَهَا جَنَاحَانِ وَذَنَبٌ.
﴿فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ﴾ ؟ أَيْ: هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَقَايَاهُمْ أَنَّهُ(٦) مِمَّنْ يَنْتَسِبُ إِلَيْهِمْ؟ بَلْ بَادُوا عَنْ آخِرِهِمْ وَلَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُمْ خَلفَا.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ﴿وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ﴾ قُرئ بِكَسْرِ الْقَافِ، أَيْ: وَمِنْ عِنْدِهِ فِي زَمَانِهِ مِنْ أَتْبَاعِهِ مِنْ كُفَّارِ الْقِبْطِ. وَقَرَأَ آخَرُونَ بِفَتْحِهَا، أَيْ: وَمَنْ قَبْلَهُ مِنَ الْأُمَمِ الْمُشْبِهِينَ لَهُ. * * *
وَقَوْلُهُ: ﴿وَالْمُؤْتَفِكَاتُ﴾ وَهُمُ الْمُكَذِّبُونَ بِالرُّسُلِ. ﴿بِالْخَاطِئَةِ﴾ أَيْ بِالْفِعْلَةِ الْخَاطِئَةِ، وَهِيَ التَّكْذِيبُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ.
قَالَ الرَّبِيعُ: ﴿بِالْخَاطِئَةِ﴾ أَيْ: بِالْمَعْصِيَةِ وَقَالَ مُجَاهِدٌ: بِالْخَطَايَا.
وَلِهَذَا قَالَ: تَعَالَى ﴿فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ﴾ وَهَذَا جِنْسٌ، أَيْ: كُلّ كذّبَ رَسُولَ اللَّهِ إِلَيْهِمْ. كَمَا قَالَ: ﴿كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ﴾ [ق: ١٤] .(٧) وَمَنْ كَذَّبَ رَسُولَ اللَّهِ فَقَدْ كَذَّبَ بِالْجَمِيعِ، كَمَا قَالَ: ﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ﴾ [الشُّعَرَاءِ: ١٠٥] ، ﴿كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ﴾ [الشُّعَرَاءِ: ١٢٣] . ﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ﴾ [الشُّعَرَاءِ: ١٤١] وَإِنَّمَا جَاءَ إِلَى كُلِّ أُمَّةٍ رسول واحد؛ ولهذا قال هاهنا: ﴿فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً﴾ أَيْ: عَظِيمَةً شَدِيدَةً أَلِيمَةً.
قَالَ مُجَاهِدٌ: ﴿رَابِيَةً﴾ شَدِيدَةً. وَقَالَ السُّدِّيُّ: مُهْلِكَةً.
ثُمَّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ﴾ أَيْ: زَادَ عَلَى الْحَدِّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَارْتَفَعَ عَلَى الْوُجُودِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: ﴿طَغَى الْمَاءُ﴾ كَثُرَ -وَذَلِكَ بِسَبَبِ دَعْوَةِ نُوحٍ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، عَلَى قَوْمِهِ حِينَ كَذَّبُوهُ وَخَالَفُوهُ، فَعَبَدُوا غَيْرَ اللَّهِ فَاسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ وعَمّ أَهْلَ الْأَرْضَ بِالطُّوفَانِ إِلَّا مَنْ كَانَ مَعَ نُوحٍ فِي السَّفِينَةِ، فَالنَّاسُ كُلُّهُمْ مِنْ سُلَالَةِ نُوحٍ وَذُرِّيَّتِهِ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا مِهْرَان، عَنْ أَبِي سِنَانٍ سَعِيدُ بْنُ سِنَانٍ، عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: لَمْ تَنْزِلْ قَطْرَةٌ مِنْ مَاءٍ إِلَّا بِكَيْلٍ عَلَى يَدَيْ مَلَكٍ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ نُوحٍ أُذِنَ لِلْمَاءِ دُونَ الْخَزَّانِ، فَطَغَى الْمَاءُ عَلَى الْخَزَّانِ فَخَرَجَ، فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ: ﴿إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ﴾ وَلَمْ يَنْزِلْ شَيْءٌ مِنَ الرِّيحِ إِلَّا بِكَيْلٍ عَلَى يَدَيْ مَلَكٍ، إِلَّا يَوْمَ عَادٍ، فَإِنَّهُ أُذِنَ لَهَا دُونَ الْخَزَّانِ فَخَرَجَتْ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ﴾ عَتَتْ عَلَى الْخَزَّانِ(٨) .
وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى مُمْتَنًّا عَلَى النَّاسِ: ﴿إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ﴾ وَهِيَ السَّفِينَةُ الْجَارِيَةُ عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ، ﴿لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً﴾ عَادَ الضَّمِيرُ عَلَى الْجِنْسِ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ، أَيْ: وَأَبْقَيْنَا لَكُمْ مِنْ جِنْسِهَا مَا تَرْكَبُونَ عَلَى تَيَّارِ الْمَاءِ فِي الْبِحَارِ، كَمَا قَالَ: ﴿وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالأنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْه﴾ [الزُّخْرُفِ: ١٢، ١٣] ، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ﴾ [يس: ٤١، ٤٢] .
وَقَالَ قَتَادَةُ: أَبْقَى اللَّهُ السَّفِينَةَ حَتَّى أَدْرَكَهَا أَوَائِلُ هَذِهِ الْأُمَّةِ. وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ﴾ أَيْ: وَتَفْهَمَ هَذِهِ النِّعْمَةَ، وَتَذْكُرَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: حَافِظَةٌ سَامِعَةٌ(٩) وَقَالَ قَتَادَةُ: ﴿أُذُنٌ وَاعِيَةٌ﴾ عَقَلَتْ(١٠) عَنِ اللَّهِ فَانْتَفَعَتْ بِمَا سَمِعَتْ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: ﴿وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ﴾ سَمِعَتْهَا أُذُنٌ وَوَعَتْ. أَيْ: مَنْ لَهُ سَمْعٌ صَحِيحٌ وَعَقْلٌ رَجِيحٌ. وَهَذَا عام فيمن فهم، ووعى.
وَقَدْ قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعة الدِّمَشْقِيُّ، حَدَّثَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ صُبْحٍ الدِّمَشْقِيُّ، حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حَوْشَبٍ، سَمِعْتُ مَكْحُولًا يَقُولُ: لَمَّا نَزَلَ(١١) عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ: ﴿وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ﴾ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ "سَأَلْتُ رَبِّي أَنْ يَجْعَلَهَا أذُنَ عَلِيّ". [قَالَ مَكْحُولٌ](١٢) فَكَانَ عَلِيّ يَقُولُ: مَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ شَيْئًا قَطُّ فَنَسِيتُهُ.
وَهَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ سَهْلٍ، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ حَوْشَبٍ، عَنْ مَكْحُولٍ(١٣) بِهِ. وَهُوَ حَدِيثٌ مُرْسَلٌ.
وَقَدْ قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ أَيْضًا: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَامِرٍ، حَدَّثَنَا بِشْرُ(١٤) بْنُ آدَمَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ أَبُو مُحَمَّدٍ -يَعْنِي وَالِدَ أَبِي أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيِّ-حَدَّثَنِي صَالِحُ بْنُ الْهَيْثَمِ، سَمِعْتُ بُرَيْدَةَ الْأَسْلَمِيَّ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لَعَلِيٍّ: "إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أُدْنِيَكَ وَلَا أُقْصِيَكَ، وَأَنْ أُعْلِمَكَ وَأَنْ تَعِيَ، وحُقّ لَكَ أَنْ تَعِيَ". قَالَ: فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ ﴿وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ﴾
وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ خَلَفٍ، عَنْ بِشْرِ بْنِ آدَمَ، بِهِ(١٥) ثُمَّ رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ عَنْ دَاوُدَ الْأَعْمَى، عَنْ بُرَيدة، بِهِ. وَلَا يَصِحُّ أَيْضًا.
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * * *
الحاقةُ مِنْ أَسْمَاءِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ؛ لِأَنَّ فِيهَا يَتَحقَّقُ الوَعدُ والوَعيد؛ وَلِهَذَا عَظَّم تَعَالَى أمرَها فَقَالَ: ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ﴾ ؟
ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى إِهْلَاكَهُ الْأُمَمَ الْمُكَذِّبِينَ بِهَا فَقَالَ تَعَالَى: ﴿فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ﴾ وَهِيَ الصَّيْحَةُ الَّتِي أَسْكَتَتْهُمْ، وَالزَّلْزَلَةُ الَّتِي أَسْكَنَتْهُمْ. هَكَذَا قَالَ قَتَادَةُ: الطَّاغِيَةُ الصَّيْحَةُ. وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ(١) .
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الطَّاغِيَةُ الذُّنُوبُ. وَكَذَا قَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ، وَابْنُ زَيْدٍ: إِنَّهَا الطُّغْيَانُ، وَقَرَأَ ابْنُ زَيْدٍ: ﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا﴾ [الشَّمْسِ: ١١] .
وَقَالَ السُّدِّي: ﴿فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ﴾ قَالَ: يَعْنِي: عَاقِرَ النَّاقَةِ.
﴿وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ﴾ أَيْ: بَارِدَةٍ. قَالَ قَتَادَةُ، وَالرَّبِيعُ، وَالسُّدِّيُّ، وَالثَّوْرِيُّ: ﴿عَاتِيَةٍ﴾ أَيْ: شَدِيدَةِ الْهُبُوبِ. قَالَ قَتَادَةُ: عَتَتْ عَلَيْهِمْ حَتَّى نَقَّبت عَنْ أَفْئِدَتِهِمْ.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: ﴿صَرْصَرٍ﴾ بَارِدَةٍ ﴿عَاتِيَةٍ﴾ عَتَتْ عَلَيْهِمْ بِغَيْرِ رَحْمَةٍ وَلَا بَرَكَةٍ. وَقَالَ عَلِيٌّ وَغَيْرُهُ: عَتَتْ عَلَى الْخَزَنَةِ فَخَرَجَتْ بِغَيْرِ حِسَابٍ.
﴿سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ﴾ أَيْ: سَلَّطَهَا عَلَيْهِمْ ﴿سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا﴾ أي: كوامل متتابعات مشائيم.
قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَالثَّوْرِيُّ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ ﴿حُسُومًا﴾ مُتَتَابِعَاتٍ.
وَعَنْ عِكْرِمَةَ وَالرَّبِيعِ: مَشَائِيمَ عَلَيْهِمْ، كَقَوْلِهِ: ﴿فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ﴾ [فُصِّلَتْ: ١٦] قَالَ الرَّبِيعُ: وَكَانَ أَوَّلُهَا الْجُمْعَةَ. وَقَالَ غَيْرُهُ الْأَرْبِعَاءَ. وَيُقَالُ: إِنَّهَا الَّتِي تُسَمِّيهَا النَّاسُ الْأَعْجَازَ؛ وَكَأَنَّ النَّاسَ أَخَذُوا ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ﴾ وَقِيلَ: لِأَنَّهَا تَكُونُ فِي عَجُزِ الشِّتَاءِ، وَيُقَالُ: أَيَّامُ الْعَجُوزِ؛ لِأَنَّ عَجُوزًا مِنْ قَوْمِ عَادٍ دَخَلَتْ سَرَبا فَقَتَلَهَا الرِّيحُ فِي الْيَوْمِ الثَّامِنِ. حَكَاهُ الْبَغْوَيُّ(٢) وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ﴿خَاوِيَةٍ﴾ خَرِبَةٍ. وَقَالَ غَيْرُهُ: بَالِيَةٍ، أَيْ: جَعَلَتِ الرِّيحُ تَضْرِبُ بِأَحَدِهِمُ الْأَرْضَ فَيَخِرُّ مَيِّتًا عَلَى أُمِّ رَأْسِهِ، فَيَنْشَدِخُ رَأْسُهُ وَتَبْقَى جُثَّتُهُ هَامِدَةً كَأَنَّهَا قَائِمَةُ النَّخْلَةِ إِذَا خَرَّتْ بِلَا أَغْصَانٍ.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم أنه قَالَ: "نُصِرْتُ بالصَّبا، وأهلكَت عادٌ بالدَّبور"(٣) .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ الضِّريس الْعَبْدِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيل، عَنْ مُسْلِمٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "مَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَى عَادٍ مِنَ الرِّيحِ الَّتِي أُهْلِكُوا فِيهَا إِلَّا مِثْلَ مَوْضِعِ الْخَاتَمِ، فَمرّت بِأَهْلِ الْبَادِيَةِ فَحَمْلَتْهُمْ وَمَوَاشِيَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ، فَجَعَلَتْهُمْ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ. فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ أَهْلُ الْحَاضِرَةِ الرِّيحَ(٤) وَمَا فِيهَا قَالُوا: هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا. فَأَلْقَتْ أَهْلَ الْبَادِيَةِ وَمَوَاشِيَهُمْ عَلَى أَهْلِ الْحَاضِرَةِ"(٥) .
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: الرِّيحُ لَهَا جَنَاحَانِ وَذَنَبٌ.
﴿فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ﴾ ؟ أَيْ: هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَقَايَاهُمْ أَنَّهُ(٦) مِمَّنْ يَنْتَسِبُ إِلَيْهِمْ؟ بَلْ بَادُوا عَنْ آخِرِهِمْ وَلَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُمْ خَلفَا.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ﴿وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ﴾ قُرئ بِكَسْرِ الْقَافِ، أَيْ: وَمِنْ عِنْدِهِ فِي زَمَانِهِ مِنْ أَتْبَاعِهِ مِنْ كُفَّارِ الْقِبْطِ. وَقَرَأَ آخَرُونَ بِفَتْحِهَا، أَيْ: وَمَنْ قَبْلَهُ مِنَ الْأُمَمِ الْمُشْبِهِينَ لَهُ. * * *
وَقَوْلُهُ: ﴿وَالْمُؤْتَفِكَاتُ﴾ وَهُمُ الْمُكَذِّبُونَ بِالرُّسُلِ. ﴿بِالْخَاطِئَةِ﴾ أَيْ بِالْفِعْلَةِ الْخَاطِئَةِ، وَهِيَ التَّكْذِيبُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ.
قَالَ الرَّبِيعُ: ﴿بِالْخَاطِئَةِ﴾ أَيْ: بِالْمَعْصِيَةِ وَقَالَ مُجَاهِدٌ: بِالْخَطَايَا.
وَلِهَذَا قَالَ: تَعَالَى ﴿فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ﴾ وَهَذَا جِنْسٌ، أَيْ: كُلّ كذّبَ رَسُولَ اللَّهِ إِلَيْهِمْ. كَمَا قَالَ: ﴿كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ﴾ [ق: ١٤] .(٧) وَمَنْ كَذَّبَ رَسُولَ اللَّهِ فَقَدْ كَذَّبَ بِالْجَمِيعِ، كَمَا قَالَ: ﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ﴾ [الشُّعَرَاءِ: ١٠٥] ، ﴿كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ﴾ [الشُّعَرَاءِ: ١٢٣] . ﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ﴾ [الشُّعَرَاءِ: ١٤١] وَإِنَّمَا جَاءَ إِلَى كُلِّ أُمَّةٍ رسول واحد؛ ولهذا قال هاهنا: ﴿فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً﴾ أَيْ: عَظِيمَةً شَدِيدَةً أَلِيمَةً.
قَالَ مُجَاهِدٌ: ﴿رَابِيَةً﴾ شَدِيدَةً. وَقَالَ السُّدِّيُّ: مُهْلِكَةً.
ثُمَّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ﴾ أَيْ: زَادَ عَلَى الْحَدِّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَارْتَفَعَ عَلَى الْوُجُودِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: ﴿طَغَى الْمَاءُ﴾ كَثُرَ -وَذَلِكَ بِسَبَبِ دَعْوَةِ نُوحٍ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، عَلَى قَوْمِهِ حِينَ كَذَّبُوهُ وَخَالَفُوهُ، فَعَبَدُوا غَيْرَ اللَّهِ فَاسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ وعَمّ أَهْلَ الْأَرْضَ بِالطُّوفَانِ إِلَّا مَنْ كَانَ مَعَ نُوحٍ فِي السَّفِينَةِ، فَالنَّاسُ كُلُّهُمْ مِنْ سُلَالَةِ نُوحٍ وَذُرِّيَّتِهِ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا مِهْرَان، عَنْ أَبِي سِنَانٍ سَعِيدُ بْنُ سِنَانٍ، عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: لَمْ تَنْزِلْ قَطْرَةٌ مِنْ مَاءٍ إِلَّا بِكَيْلٍ عَلَى يَدَيْ مَلَكٍ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ نُوحٍ أُذِنَ لِلْمَاءِ دُونَ الْخَزَّانِ، فَطَغَى الْمَاءُ عَلَى الْخَزَّانِ فَخَرَجَ، فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ: ﴿إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ﴾ وَلَمْ يَنْزِلْ شَيْءٌ مِنَ الرِّيحِ إِلَّا بِكَيْلٍ عَلَى يَدَيْ مَلَكٍ، إِلَّا يَوْمَ عَادٍ، فَإِنَّهُ أُذِنَ لَهَا دُونَ الْخَزَّانِ فَخَرَجَتْ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ﴾ عَتَتْ عَلَى الْخَزَّانِ(٨) .
وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى مُمْتَنًّا عَلَى النَّاسِ: ﴿إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ﴾ وَهِيَ السَّفِينَةُ الْجَارِيَةُ عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ، ﴿لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً﴾ عَادَ الضَّمِيرُ عَلَى الْجِنْسِ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ، أَيْ: وَأَبْقَيْنَا لَكُمْ مِنْ جِنْسِهَا مَا تَرْكَبُونَ عَلَى تَيَّارِ الْمَاءِ فِي الْبِحَارِ، كَمَا قَالَ: ﴿وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالأنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْه﴾ [الزُّخْرُفِ: ١٢، ١٣] ، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ﴾ [يس: ٤١، ٤٢] .
وَقَالَ قَتَادَةُ: أَبْقَى اللَّهُ السَّفِينَةَ حَتَّى أَدْرَكَهَا أَوَائِلُ هَذِهِ الْأُمَّةِ. وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ﴾ أَيْ: وَتَفْهَمَ هَذِهِ النِّعْمَةَ، وَتَذْكُرَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: حَافِظَةٌ سَامِعَةٌ(٩) وَقَالَ قَتَادَةُ: ﴿أُذُنٌ وَاعِيَةٌ﴾ عَقَلَتْ(١٠) عَنِ اللَّهِ فَانْتَفَعَتْ بِمَا سَمِعَتْ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: ﴿وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ﴾ سَمِعَتْهَا أُذُنٌ وَوَعَتْ. أَيْ: مَنْ لَهُ سَمْعٌ صَحِيحٌ وَعَقْلٌ رَجِيحٌ. وَهَذَا عام فيمن فهم، ووعى.
وَقَدْ قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعة الدِّمَشْقِيُّ، حَدَّثَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ صُبْحٍ الدِّمَشْقِيُّ، حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حَوْشَبٍ، سَمِعْتُ مَكْحُولًا يَقُولُ: لَمَّا نَزَلَ(١١) عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ: ﴿وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ﴾ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ "سَأَلْتُ رَبِّي أَنْ يَجْعَلَهَا أذُنَ عَلِيّ". [قَالَ مَكْحُولٌ](١٢) فَكَانَ عَلِيّ يَقُولُ: مَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ شَيْئًا قَطُّ فَنَسِيتُهُ.
وَهَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ سَهْلٍ، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ حَوْشَبٍ، عَنْ مَكْحُولٍ(١٣) بِهِ. وَهُوَ حَدِيثٌ مُرْسَلٌ.
وَقَدْ قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ أَيْضًا: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَامِرٍ، حَدَّثَنَا بِشْرُ(١٤) بْنُ آدَمَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ أَبُو مُحَمَّدٍ -يَعْنِي وَالِدَ أَبِي أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيِّ-حَدَّثَنِي صَالِحُ بْنُ الْهَيْثَمِ، سَمِعْتُ بُرَيْدَةَ الْأَسْلَمِيَّ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لَعَلِيٍّ: "إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أُدْنِيَكَ وَلَا أُقْصِيَكَ، وَأَنْ أُعْلِمَكَ وَأَنْ تَعِيَ، وحُقّ لَكَ أَنْ تَعِيَ". قَالَ: فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ ﴿وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ﴾
وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ خَلَفٍ، عَنْ بِشْرِ بْنِ آدَمَ، بِهِ(١٥) ثُمَّ رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ عَنْ دَاوُدَ الْأَعْمَى، عَنْ بُرَيدة، بِهِ. وَلَا يَصِحُّ أَيْضًا.
(١) تفسير الطبري (٢٩/٣١) .
(٢) معالم التنزيل للبغوي (٢٠٨) .
(٣) صحيح البخاري برقم (١٠٣٥) وصحيح مسلم برقم (٩٠٠) .
(٤) في م: "فلما رأى أهل الحاضر من عاد الريح".
(٥) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (١٢/٤٢١) وأبو الشيخ في العظمة برقم (٨٠٦) من طريق محمد بن فضيل عن مسلم، به. وقال الهيثمي في المجمع (٧/١١٣) : "فيه مسلم الملائي وهو ضعيف".
(٦) في م: "أو".
(٧) في م، أ، هـ: "إن كل إلا".
(٨) تفسير الطبري (٢٩/٣٢) .
(٩) في م: "سامعة حافظة".
(١٠) في م: "تحفظت"، وفي أ: "حفظت".
(١١) في م، أ: "لما نزلت".
(١٢) زيادة من م، أ.
(١٣) تفسير الطبري (٢٩/٣٥) .
(١٤) في أ: "حدثنا بشير".
(١٥) تفسير الطبري (٢٩/٣٦) ورواه ابن عساكر في تاريخ دمشق كما في الكنز برقم (٣٦٤٢٦) وقال ابن عساكر: "هذا إسناد لا يعرف والحديث شاذ".
Comments
Post a Comment