المطلب الأول: توحيد الربوبية والألوهية
المطلب الأول: توحيد الربوبية والألوهيةالتشكيل
ترى الماتريدية كما مر معنا أن معرفة الله لا تتم إلا بالمعرفة الضرورية الفطرية بل لا تكون إلا بالاكتساب العقلي فلذا كان من الأصول التي تنبني عليها عقيدتهم (وجوب معرفة الله بالعقل) ورتبوا على ذلك إيجاب النظر والاستدلال وجعلوه أول واجب على العبد (1) .
وهذا مما جعلهم يتعبون أنفسهم في إقامة الأدلة والمقاييس العقلية لإثبات هذا النوع من التوحيد الذي لم ينازع في أصله أحد من بني آدم (2) وجعلوه هو الغاية الكبرى والمقصد الأسنى وأن من أتى به كان مؤمنا موحدا.
وتقريرهم لتوحيد الربوبية يقوم على إثبات قضيتين:
الأولى: إثبات وجود الله .
الثانية: إثبات وحدانية الله في ربوبيته.
وفيما يلي تفصيل القول في كل قضية على حدة:
أولا: إثبات وجود الله:
تعتقد الماتريدية أن الله تعالى لا يعرف إلا من طريق العالم وفي هذا يقول الماتريدي: " والأصل أن الله تعالى إذ لا سبيل إلى العلم به إلا من طريق دلالة العالم عليه بانقطاع وجوه الوصول إلى معرفته من طريق الحواس عليه أو شهادة السمع..." (3) .
وهذه المعرفة تكون عندهم بإثبات حدوث العالم ثم الاستدلال بذلك على إثبات وجود محدثه تعالى.
والماتريدي استدل على إثبات وجود الله بعدة أدلة ولكنها في الحقيقة جميعا ترجع إلى دليل واحد وهو دليل الحدوث والماتريدي ألمح في عدة مواضع من كتاب (التوحيد) إلى أن إثبات الصانع ليس له دليل إلا دليل الحدوث (4) . كما أن النسفي أكد على أن العناية يجب أن تصرف لهذا الدليل، فلذا كان هو الدليل المعتمد عند الماتريدية حتى أنهم لا يلتفتون إلى غيره من الأدلة (5) ، وعامة المتكلمين استدلوا بدليل الحدوث وعولوا عليه في إثبات وجود الله وإن كانوا قد اختلفوا في بعض التفريعات فقط (6) .
ودليل الحدوث في الأصل مأخوذ في الأصل عن المعتزلة والجهمية الذين تأثروا بالفلاسفة وقد اعترف بهذا الأشعري رحمه الله في (رسالته إلى أهل الثغر) ونص على هذا أيضا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في عدة مواضع من كتابه (درء تعارض العقل والنقل) من ذلك قوله رحمه الله: " والمعتزلة هم الأصل في هذه الطريقة ( يعني دليل الحدوث ) وعنهم انتشرت وإليهم تضاف..." (7) .
ويعرف دليل الحدوث بدليل حدوث الجواهر والأعراض وبدليل حدوث الأجسام وبدليل حدوث الأعراض وذلك أنهم يقررون قبل إقامتهم لمقدمات الدليل أن العالم وهو كل ما سوى الله تعالى من الموجودات ينقسم إلى جواهر وأعراض والجوهر هو ما له قيام بذاته والعرض ما لا قيام له بذاته ثم يبنون الدليل على هذا التقسيم ويقيمونه على أربع مقدمات كبرى وهي :
الأولى : إثبات الأعراض .
الثانية : إثبات حدوث الأعراض .
الثالثة : إثبات عدم خلو الجواهر عن الأعراض .
الرابعة : إثبات عدم تقدم الجواهر على الأعراض .
والنتيجة أن العالم بجميع أجزائه حادث والحادث لابد له من من محدث وهو الله تعالى.
وفيما يلي تفصيل الدليل كما ذكره أبو المعين النسفي في (التمهيد) " دليل ثبوت الأعراض أن الجوهر قد يكون ساكنا ثم يتحرك وهكذا على القلب ولو لم تكن الحركة والسكون معنيين وراء ذات الجوهر بل لو كانا راجعين إلى ذاته لكان في الأحوال أجمع ساكنا متحركا لوجود ذاته الموجب لهما ولما اختص كل صفة بحالة على حدة ثبتت الأعراض ثم الأعراض كلها حادثة عرف حدوث بعضها بالحس والمشاهدة وبعضها بحدوث أضدادها المنعدمة عند حدوثها بالدليل فإنها لما قبلت العدم دل أنها كانت حادثة إذ المحدث هو الذي يكون وجوده وعدمه في حيز الجواز فأما القديم وهو واجب الوجود لذاته فيكون مستحيل العدم فيكون جواز العدم وتحققه دليل الحدوث.
وإذا كانت الأعراض كلها محدثة يستحيل خلو الجواهر عنها إذ وجود جوهرين غير متفرقين ولا مجتمعين وتوهم جسم في مكان واحد في حالة البقاء غير متحرك ولا ساكن محال وكذا خلو الجواهر عن الألوان كلها والطعوم والروائح مما يحيله العقل كما يحيل اجتماع المتضادات في محل واحد في وقت واحد وإذا استحال خلو الجواهر عنها استحال سبق الجواهر عليها لما أن في السبق الخلو والخلو محال فكان السبق محالا فإذن لم تسبق الجواهر الأعراض وما لا يسبق الحادث فهو حادث ضرورة لمشاركته المحدث فيما كان لأجله محدثا وهو أن لوجوده ابتداءً .
ودخل تحت هذه الدلالة جميع أجزاء العالم من السموات والأفلاك الدوارة والنجوم السيارة وغيرها والأرضين وما فيها من البحار والجبال والنبات والجماد وغير ذلك.
ثم لما ثبت أن العالم محدث والمحدث ما كان جائز الوجود وما كان جائز الوجود كان جائز العدم وما جاز عليه الوجود والعدم لم يكن وجوده من مقتضيات ذاته فلم يكن اختصاصه بالوجود دون العدم - خصوصا بعد ما كان عدما- إلا بتخصيص مخصص ولهذا لا يثبت البناء دون الباني فلا بد من محدث له أحدثه وخصه بالوجود" (8) .
وهذه الطريقة التي استدلت بها الماتريدية على إثبات وجود الله والتي أحدثها المعتزلة والجهمية وتبعهم عليها من وافقهم من الأشعرية وغيرهم قد طعن فيها السلف والأئمة وأتباعهم وجمهور العقلاء من الفلاسفة والمتكلمين وبينوا أن الطرق التي دل عليها القرآن أصح منها (9) .
قال الإمام أبو العباس بن سريج رحمه الله : " توحيد أهل العلم وجماعة المسلمين شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وتوحيد أهل الباطل الخوض في الأعراض والأجسام وإنما بعث النبي صلى الله عليه وسلم بإنكار ذلك " (10) .
وقال الإمام أبو سليمان الخطابي رحمه الله في الغنية: " إن الله سبحانه ... بعث رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم بشيرا ونذيرا وداعيا إلى الله وسراجا منيرا وقال له: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ [المائدة: 67] وقال صلى الله عليه وسلم في خطبة الوداع وفي مقامات شتى وبحضرته عامة أصحابه : ((ألا هل بلغت )) (11) وكان الذي أنزل عليه من الوحي وأمر بتبليغه وهو كمال الدين وتمامه لقوله تعالى: أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي [ المائدة:3] فلم يترك صلى الله عليه وسلم شيئا من أمور الدين قواعده وأصوله وشرائعه وفصوله إلا بينه وبلغه على كماله وتمامه ولم يؤخر بيانه عن وقت الحاجة إليه إذ لا خلاف بين فرق الأمة أن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز بحال ومعلوم أن أمر التوحيد وإثبات الصانع لا تزال الحاجة ماسة إليه أبدا في كل وقت وزمان ولو أخر عنه البيان لكان التكليف واقعا بما لا سبيل للناس إليه وذلك فاسد غير جائز وإذا كان الأمر على ما قلناه وقد علم يقينا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يدعهم في أمر التوحيد إلى الاستدلال بالأعراض وتعلقها بالجواهر وانقلابها فيها إذ لا يمكن واحدا من الناس أن يروي عنه ذلك ولا عن أحد من الصحابة من هذا النمط حرفا واحدا فما فوقه لا من طريق تواتر ولا آحاد علم أنهم قد ذهبوا خلاف مذهب هؤلاء وسلكوا غير طريقتهم ولو كان في الصحابة قوم يذهبون مذاهب هؤلاء في الكلام والجدل لعدوا من جملة المتكلمين ولنقل إلينا أسماء متكلميهم كما نقل إلينا أسماء فقهائهم وقرائهم وزهادهم فلما لم يظهر ذلك دل على أنه لم يكن عندهم أصل " (12) .
وقال: " إنا لا ننكر أدلة العقول والتوصل بها إلى المعارف ولكنا لا نذهب في استعمالها إلى الطريقة التي سلكتموها في الاستدلال بالأعراض وتعلقها بالجواهر وانقلابها فيها على حدوث العالم وإثبات الصانع ونرغب عنها إلى ما هو أوضح بيانا وأصح برهانا وإنما هو شيء أخذتموه عن الفلاسفة وتابعتموهم عليه.
وإنما سلكت الفلاسفة هذه الطريقة لأنهم لا يثبتون النبوات ولا يرون لها حقيقة فكان أقوى شيء عندهم في الدلالة على إثبات هذه الأمور ما تعلقوا به من الاستدلال بهذه الأشياء فأما مثبتو النبوات فقد أغناهم الله عز وجل عن ذلك وكفاهم كلفة المؤونة في ركوب هذه الطريقة المتعرجة التي لا يؤمن العنت على راكبها والإيداع والانقطاع على سالكها... " (13) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية بعد ذكره لكلام الإمام الخطابي : " وهذا الذي ذكره الخطابي يبين أن طريقة الإعراض من الكلام المذموم الذي ذمه السلف والأئمة وأعرضوا عنه كما ذكر ذلك الأشعري وغيره وأن الذين سلكوها سلكوها لكونهم لم يسلكوا الطريق النبوية الشرعية فمن لم يسلك الطرق الشرعية احتاج إلى الطرق البدعية بخلاف من أغناه الله بالكتاب والحكمة " (14) .
والأشعري بين فساد هذا الدليل في (رسالته إلى أهل الثغر) بقوله: " ما يستدل به من أخباره عليه الصلاة والسلام على ذلك ( أي على إثبات الصانع ) أوضح دلالة من دلالة الأعراض التي اعتمد على الاستدلال بها الفلاسفة ومن اتبعهم من القدرية وأهل البدع المنحرفين عن الرسل عليهم السلام من قبل أن الأعراض لا يصح الاستدلال بها إلا بعد رتب كثيرة يطول الخلاف فيها ويدق الكلام عليها ... وفي كل رتبة ... فرق تخالف فيها ويطول الكلام معهم عليها وليس يحتاج ... في الاستدلال بخبر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى مثل ذلك لأن آياته والأدلة على صدقه محسوسة مشاهدة قد أزعجت القلوب وبعثت الخواطر على النظر في صحة ما يدعو إليه .... وإذا كان ذلك ما وصفنا بان ... أن طرق الاستدلال بأخبارهم (أي الرسل) عليهم السلام ...أوضح من الاستدلال بالأعراض إذ كانت أقرب إلى البيان على حكم ما شوهد من أدلتهم المحسوسة مما اعتمدت عليه الفلاسفة ومن اتبعهم من أهل الأهواء واغتروا بها ...".
ثم قال: " فأخلد سلفنا رحمة الله عليهم ومن اتبعهم من الخلف الصالح بعد ما عرفوه من صدق النبي صلى الله عليه وسلم فيما دعاهم إليه من العلم بحدثهم ووجود المحدث لهم بما نبههم عليه من الأدلة إلى التمسك بالكتاب والسنة وطلب الحق في سائر ما دعوا إلى معرفته منها والعدول عن كل ما خالفها ... وأعرضوا عما صارت إليه الفلاسفة ومن اتبعهم من القدرية وغيرهم من أهل البدع من الاستدلال بذلك على ما كلفوا معرفته لاستغنائهم بالأدلة الواضحة في ذلك عنه وإنما صار من أثبت حدوث العالم والمحدث له من الفلاسفة إلى الاستدلال بالأعراض والجواهر لدفعهم الرسل وإنكارهم لجواز مجيئهم ..." (15) .
ومن الفلاسفة الذين بينوا فساد دليل الحدوث ابن رشد الحفيد في كتابه (مناهج الأدلة) حيث قال : " وأما الأشعرية فإنهم رأوا أن التصديق بوجود الله تبارك وتعالى لا يكون إلا بالعقل لكن سلكوا في ذلك طريقا ليست هي الطرق الشرعية التي نبه الله عليها ودعا الناس إلى الإيمان به من قبلها وذلك أن طريقتهم المشهورة انبنت على بيان أن العالم حادث، وانبنى عندهم حدوث العالم على القول بتركيب الأجسام من أجزاء لا تتجزأ وأن الجزء الذي لا يتجزأ محدث والأجسام محدثة بحدوثه ، وطريقتهم التي سلكوا في بيان حدوث الجزء الذي لا يتجزأ- وهو الذي يسمونه الجوهر الفرد- طريق معتاصة تذهب على كثير من أهل الرياضة في صناعة الجدل فضلا عن الجمهور ومع ذلك فهي طريقة غير برهانية ولا مفضية بيقين إلى وجود البارئ " (16) .
ثم ذكر بأن هذه الطريقة ليست نظرية يقينية ولا شرعية يقينية وقال: " وذلك ظاهر لمن تأمل أجناس الأدلة المنبهة في الكتاب العزيز على المعنى ، أعني بمعرفة وجود الصانع، وذلك أن الطرق الشرعية إذا تؤملت وجدت في الأكثر قد جمعت وصفين أحدهما أن تكون يقينية والثاني أن تكون بسيطة غير مركبة أعني قليلة المقدمات فتكون نتائجها قريبة من المقدمات الأول" (17) .
هذا كلام ابن رشد وهو من كبار الفلاسفة السائرين على طريقة أرسطو وأتباعه يبين "أن الأدلة العقلية الدالة على إثبات الصانع مستغنية عما أحدثه المعتزلة ومن وافقهم من الأشعرية وغيرهم من طريقة الأعراض ونحوها وأن الطرق الشرعية التي جاء بها القرآن هي طرق برهانية تفيد العلم للعامة والخاصة والخاصة عنده يدخل فيهم الفلاسفة والطرق التي لأولئك هي مع طولها وصعوبتها لا تفيد لا العامة ولا الخاصة هذا مع أنه لم يقدر القرآن قدره ..." (18) .
ومن الأئمة الذين بينوا فساد هذه الطريقة التي استدلت بها الماتريدية شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فقد نقد دليل الحدوث نقدا علميا موضوعيا في كثير من كتبه واستقصى جزئياته وبين تهافتها عقلا ونقلا وخاصة في كتابه العظيم (درء تعارض العقل والنقل).
فمن الوجوه التي ذكرها رحمه الله في بيان فساد هذا الدليل أن الاستدلال على وجود الله بهذا الدليل بدعة في الدين أحدثها المعتزلة والجهمية ولا يعرف عن أحد من الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين وأتباعهم أنه قال بهذا .
وأن هذا الدليل مبني على مقدمات طويلة غامضة مشكلة وينتهي إلى نتيجة هي أبين عند العقلاء من المقدمات فالطريقة لو قدر صحة مقدماتها فهي تطويل بلا فائدة واستدلال على الأظهر بالأخفى وعلى الأقوى بالأضعف كما لا يحد الشيء بما هو أخفى منه وإثبات الصانع لا يفتقر إلى حدوث الأجساد بل نفس ما يشهد حدوثه من الحوادث يغني عن ذلك والعلم بأن الحادث يفتقر إلى المحدث هو من أبين العلوم الضرورية والعقل يعلم ضرورة افتقار المحدَث إلى المحدِث الفاعل ويقطع به ويعلمه ضرورة.
والدليل مبني على استعمال ألفاظ مجملة ومعان مبهمة لم يعرفها العرب في تخاطبهم ولم يستعملوها فيما بينهم ....
واستعمال المتكلمين لهذا الدليل جعلهم يلتزمون لوازم فاسدة أوقعتهم في التناقض والاضطراب والحيرة والشك كنفي الصفات ونحوها .
وبين رحمه الله تعالى الطريقة الشرعية في الاستدلال المذكورة في القرآن وأكد على أن الإقرار بالصانع ضروري فطري وأنه لم ينازع في أصل هذه المسألة أحد من بني آدم وإنما نازعوا في تفاصيله وأن الإقرار بالصانع ثابت في الفطرة وهو أرسخ المعارف وأثبت العلوم وأصل الأصول (19)
قال رحمه الله: " الطريقة المذكورة في القرآن هي الاستدلال بحدوث الإنسان وغيره من المحدثات المعلوم حدوثها بالمشاهدة ونحوها على وجود الخالق سبحانه وتعالى فحدوث الإنسان يستدل به على المحدث لا يحتاج أن يستدل على حدوثه بمقارنة التغير أو الحوادث التي له ووجوب تناهي الحوادث .
والفرق بين الاستدلال بحدوثه والاستدلال على حدوثه بين والذي في القرآن هو الأول لا الثاني كما قال تعالى: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ [ الطور:35] فنفس حدوث الحيوان والنبات والمعدن والمطر والسحاب ونحو ذلك معلوم بالضرورة بل مشهود لا يحتاج إلى دليل وإنما يعلم بالدليل ما لم يعلم بالحس وبالضرورة .
والعلم بحدوث هذه المحدثات علم ضروري لا يحتاج إلى دليل وذلك معلوم بالحس أو بالضرورة...
وحدوث الإنسان من المني كحدوث الثمار من الأشجار وحدوث النبات من الأرض وأمثال ذلك ومن المعلوم بالحس أن نفس الثمرة حادثة كائنة بعد أن لم تكن وكذلك الإنسان وغيره كما قال تعالى: أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا [ مريم:67] وقال تعالى: قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا [ مريم:9] .
وإذا كان كذلك فالطريقة المذكورة في القرآن هي المعلومة بالحس والضرورة ولا يحتاج مع ذلك إلى إقامة دليل على حدوث ما يحدث من الأعيان بل يستدل بذلك على وجود المحدث تعالى" (20) .
وقال رحمه الله في موضع آخر موضحا أن الإقرار بوجود الله أمر فطري ضروري: " وأيضا فالحاجة التي يقترن مع العلم بها ذوق الحاجة هي أعظم وقعا في النفس من العلم الذي لا يقترن به ذوق ولهذا كانت معرفة النفوس بما تحبه وتكرهه وينفعها ويضرها هو أرسخ فيها من معرفتها بما لا تحتاج إليه ولا تكرهه ولا تحبه ...
ولهذا كان أكثر الناس على أن الإقرار بالصانع ضروري فطري وذلك أن اضطرار النفوس إلى ذلك أعظم من اضطرارها إلى ما لا تتعلق به حاجتها ...ولا شيء أحوج إلى شيء من المخلوق إلى خالقه فهم يحتاجون إليه من جهة ربوبيته إذ كان هو الذي خلقهم وهو الذي يأتيهم بالمنافع ويدفع عنهم المضار" وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ [النحل:53]
وكل ما يحصل من أحد فإنما هو بخلقه وتقديره وتسبيبه وتيسيره وهذه الحاجة التي توجب رجوعهم إليه بحال اضطرارهم وهذه الحاجة التي توجب رجوعهم إليه بحال اضطرارهم كما يخاطبهم بذلك في كتابه وهم محتاجون إليه من جهة ألوهيته فإنه لا صلاح لهم إلا بأن يكون هو معبودهم الذي يحبونه ويعظمونه ولا يجعلون له أندادا يحبونهم كحب الله بل يكون ما يحبونه سواه ... وإنما يحبونهم لأجله ...ومعلوم أن السؤال والحب والذل والخوف والرجاء والتعظيم والاعتراف بالحاجة والافتقار ونحو ذلك مشروط بالشعور بالمسئول المحبوب المرجو المخوف المعبود المعظم الذي تعترف النفوس بالحاجة إليه والافتقار...
فإذا كانت هذه الأمور مما تحتاج النفوس إليها ولا بد لها منها بل هي ضرورية فيها كان شرطها ولازمها وهو الاعتراف بالصانع والإقرار به أولى أن يكون ضروريا في النفوس .
وقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح ((كل مولود يولد على الفطرة)) (21) وقوله فيما يروي عن ربه: ((خلقت عبادي حنفاء)) (22) ونحو ذلك لا يتضمن مجرد الإقرار بالصانع فقط بل إقرارا يتبعه عبودية لله بالحب والتعظيم وإخلاص الدين له وهذا هو الحنيفية" (23) .
ثم قال: " والمقصود هنا أن كثيرا مما يجعلونه مقدمات في أدلة إثبات الصانع وإن كان حقا فإنه لا تحتاج إليه عامة الفطر السليمة ...." (24) .
" ومن أعظم المصائب أن يصاب الإنسان فيما لا سعادة له ولا نجاة له إلا به ويصاب في الطريق الذي يقول أنه به يعرف ربه ويرد عليه فيه إشكال لا ينحل... " (25) .
وقد اعترف حذاق الكلام بأن الإقرار بوجود الله أمر ضروري فطري إذ لا سبيل إلى إنكار ذلك ومن أنكره إنما هو مكابر معاند.
قال الشهرستاني في (نهاية الإقدام): " أما تعطيل العالم عن الصانع القادر الحكيم فلست أراها مقالة لأحد ولا أعرف عليه صاحب مقالة إلا ما نقل عن شرذمة قليلة من الدهرية ... فإن الفطر السليمة الإنسانية شهدت بضرورة فطرتها وبديهة فكرتها على صانع حكيم عالم قدير أَفِي اللّهِ شَكٌّ [إبراهيم:10] وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [ الزخرف:87] وإن هم غفلوا عن هذه الفطرة في حال السراء فلا شك أنهم يلوذون إليه في حال الضراء... لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18) سورة النجم في البحر ضل من تدعون إلا إياه وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ [الإسراء: 67] ولهذا لم يرد التكليف بمعرفة وجود الصانع وإنما ورد بمعرفة التوحيد ونفي الشريك : ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا)) (26) ولهذا جعل محل النزاع بين الرسل وبين الخلق في التوحيد ...." (27) .
وبهذا يتبين لنا فساد دليل الحدوث الذي جعلته الماتريدية طريقهم لمعرفة الله تعالى وأتعبوا أنفسهم في تقريره وكلفوا الناس أمرا لا يطيقونه ولم يشرعه الله تعالى ولا رسوله فابتعدوا عن المنهج القرآني فضلوا وأضلوا.
ثانيا: إثبات وحدانية الله تعالى في ربوبيته:
استدلت الماتريدية على إثبات وحدانية الله تعالى في ربوبيته بالدليل المشهور عند المتكلمين والمعروف بدليل التمانع (28) وهذا الدليل نجده بصورة مطردة عند جميع الماتريدية حتى أنهم في كثير من كتبهم لا يذكرون غيره (29) .
وقد استدل الماتريدي بأدلة أخرى كاستدلاله بتناهي العالم وآيات الأنبياء والرسل واتساق العالم ودقة صنعه وقد نص على هذا في كتاب (التوحيد) بقوله: " والدلالة أن محدث العالم واحد... اتفاق القول... على أن الواحد اسم لابتداء العدد واسم للعظمة والسلطان والرفعة والفضل كما يقال فلان واحد الزمان ومنقطع القرين في الرفعة والفضل والجلال وما جاوز ذلك لا يحتمل غير العدد فيجب أن يكون العالم غير متناه إذ لو كان منهم شيء واحد فيخرج الجملة عن التناهي بخروج المحدثين وذلك بعيد ثم ما من عدد يشار إليه إلا وأمكن من الدعوى أن يزاد عليه وينقص منه فلم يجب القول بشيء لما لا حقيقة لذلك بحق العدد لا يشارك فيه غيره لذلك بطل القول به " (30) .
وقال في استدلاله بآيات الأنبياء والرسل واتساق العالم : " إنه لم يذكر عن غير الإله الذي يعرفه أهل التوحيد دعوى الألوهية والإشارة إلى أثر فعل منه يدل على ربوبيته ولا وجد في شيء معنى أمكن إخراجه عن حمله ولا بعث رسلا بالآيات التي تقهر العقول ويبهر لها فتثبت أن القول بذلك خيال ووسواس.
و..... مجيء الرسل بالآيات التي يضطر من شهدها أنها فعل من لو كان معه شريك ليمنعهم عن إظهارها إذ بذلك إبطال ربوبيتهم وألوهيتهم فإذا لم يوجد ولا منعوا عن ذلك مع كثرة المكابرين لهم والمعاندين ممن لو أحبوا وجود الإبصار لهم في إظهار آياتهم لوجدوا فثبت أن ذلك إنما سلم للرسل لما لم يكن الإله الحق والخالق للخلق غير الواحد القهار الذي قهر كل متعنت مكابر عن التمويه فضلا عن التحقيق ...." (31) .
وقال : " وأما دلالة الاستدلال بالخلق فهو أنه لو كان أكثر من واحد لتقلب فيهم التدبير نحو أن تحول الأزمنة من الشتاء والصيف أو تحول خروج الإنزال وينعها أو تقدير السماء والأرض أو تسيير الشمس والقمر والنجوم أو أغذية الخلق أو تدبير معاش جواهر الحيوان فإذا دار كله على مسلك واحد ونوع من التدبير واتساق ذلك سنن واحد لا يتم إلا بمدبرين لذلك لزم القول بالواحد ..." (32) .
وهذه الأدلة عند الماتريدي أدلة سمعية حسية وأما الدليل العقلي عنده فهو دليل التمانع (33) .
لذلك احتل دليل التمانع عند الماتريدية الصدارة حتى أصبحوا لا يذكرون غيره وذلك لأن مصدر التلقي عندهم العقل كما تقدم.
وصورة دليل التمانع عندهم كما يعرضه أبو المعين النسفي في (التمهيد) هي : " إذا ثبت أن للعالم محدثا أحدثه وصانعا صنعه كان الصانع واحدا إذ لو كان له صانعان لثبت بينهما تمانع وذلك دليل حدوثهما أو حدوث أحدهما فإن أحدهما لو أراد أن يخلق في شخص حياة والآخر أراد أن يخلق فيه موتا وكذا هذا في جميع المتضادات كالحركة والسكون والاجتماع والافتراق والسواد والبياض وغير ذلك إما أن حصل مرادهما ووجد في المحل المتضادات وهو محال وإما أن تعطلت إرادتهما ولم تنفذ ولم يحصل في المحل لا هذا ولا ذاك وهو تعجيزهما وإما أن نفذت إرادة أحدهما دون الآخر وفيه تعجيز من لم تنفذ إرادته والعجز من أمارات الحدث فإذا لم يتصور إثبات صانعين قديمين للعالم فكان الصانع واحدا ضرورة " (34) .
وهذا الدليل لا ريب أنه دليل صحيح وبرهان تام على إثبات امتناع صدور العالم عن اثنين (35) .
ومن قال بعدم صحته فلا شك أنه قد أخطأ .
ولكن اعتقاد الماتريدية بأن هذا الدليل هو المقصود بقوله تعالى: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا [ الأنبياء:22]. اعتقاد باطل وفهم سقيم لكلام الله والذي جعلهم يقولون هذا هو اعتقادهم أن الإله بمعنى الآله- اسم فاعل- وأن الإلهية هي القدرة على الاختراع (36) . فالإله عندهم هو بمعنى الرب وأن الآية دلت على انتفاء ربيَّن فقط وذلك بتقدير امتناع الفعل من رَبَّين فالآية عندهم دلت على نفي الشرك في الربوبية فقط وهو مطلوب دليل التمانع بينما الآية قد " دلت على ما هو أكمل وأعظم من هذا وأن إثبات ربيَّن للعالم لم يذهب إليه أحد من بني آدم ... ولكن الإشراك الذي وقع في العالم إنما وقع بجعل بعض المخلوقات مخلوقة لغير الله و في الإلهية بعبادة غير الله تعالى واتخاذ الوسائط ودعائها والتقرب إليها ...فأما إثبات خالقين للعالم متماثلين فلم يذهب إليه أحد من الآدميين، وقد قال تعالى وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ
والرسل دعوا الخلق إلى توحيد الإلهية وذلك متضمن لتوحيد الربوبية كما قال كل منهم لقومه اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وإلا فمجرد توحيد الربوبية قد كان المشركون يقرون له وذلك وحده لا ينفع وهؤلاء الذين يريدون تقرير الربوبية يظنون أن هذا هو غاية التوحيد ... وهذا من أعظم ما وقع فيه هؤلاء ... من الجهل بالتوحيد الذي بعث الله به الرسل وأنزل به الكتب " (37) .
فأدلتهم "وإن كانت صحيحة فلم تنازع في هذا التوحيد أمة من الأمم وليست الطرق المذكورة في القرآن هي طرقهم كما أنه ليس مقصود القرآن هو مجرد ما عرفوه من التوحيد" (38) .
فعلى هذا هنالك فرق كبير بين مطلوب الآية ومطلوب دليل التمانع ، فمطلوب الآية هو إثبات توحيد الإلهية بفساد العالم لو وجد من يستحق العبادة مع الله أحد غير الله تعالى.
بينما مطلوب دليل التمانع هو إثبات توحيد الربوبية بفساد العالم لو وجد خالق آخر للعالم .
فالفرق بين المطلوبين فرق شاسع فكيف يصح القول بأن مطلوب الآية هو مطلوب دليل التمانع؟!
توحيد الإلهية:
لم تتعرض الماتريدية- كغيرها من الفرق الكلامية- لتوحيد الإلهية ولم يتنبه أحد منهم إليه مع أنه قطب رحى الدين وأول وآخر دعوة الأنبياء والمرسلين ولم يفرقوا بين توحيد الإلهية وتوحيد الربوبية بل خلطوا بين معنى الإلهية ومعنى الربوبية وظنوا أن معنى الإلهية هو القدرة على الاختراع فلذا اعتقدوا أن توحيد الربوبية هو المقصود في قوله تعالى: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا [ الأنبياء:22] ونحوها من الآيات وظنوا بأن المراد بالتوحيد- الذي هو حق الله على عباده- هو مجرد توحيد الربوبية وهو اعتقاد أن الله وحده خلق العالم وظنوا أنهم إذا أثبتوا ذلك بالدليل فقد أثبتوا غاية التوحيد وأن من جاء به فقد أخلص الدين كله لله وصار مؤمنا موحدا ..... وجهل الماتريدية بهذا النوع من التوحيد الذي هو أصل الأصول وأس الدين وأساسه يرجع لفساد أصل منهجهم في التلقي حيث إنهم تلقوا عقيدتهم من العقل بزعمهم ولم يتلقوها من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فضلوا وأضلوا (50)
إن المتكلمين من الماتريدية والأشعرية لا يوجد عندهم "توحيد الألوهية" فليس عندهم بعد توحيد الذات إلا نوعان من التوحيد:
الأول: توحيد الصفات.
الثاني: توحيد الأفعال.
أما توحيد الصفات فقد عرفت في الفصول السابقة أن توحيدهم هذا فيه تلحيد وإلحاد وتخريف وتعطيل وتحريف.
حيث أرادوا تحقيق التنزيه فوقعوا في أقبح التشبيه.
فشبهوا الله بالحيوانات العجماوات، والجمادات الصامتات، والمعدومات، اللاشيات، والممتنعات المستحيلات المحالات.
فنعوذ بالله من تفسيرهم الذي يورث التعطيل والتحريف والتشبيه كما قاله الإمام الأشعري رحمه الله.
أما توحيد الأفعال: فهو أشهر أنواع التوحيد عندهم، وهو توحيد الربوبية، والخالقية، بمعنى "أن الله خالق العالم وحده، ويظنون أن هذا هو التوحيد المطلوب، والغاية، وأنه معنى "لا إله إلا الله"؟
حيث إنهم فسروا "الألوهية بمعنى "القدرة على الاختراع" (39) .
فعطلوا صفة "ألوهية" الله تعالى، وحرفوها إلى صفة "الخالقية" و"القادرية". ولذلك نرى الماتريدية والأشعرية يعرّفون التوحيد بتعريفات مجملة ناقصة غير جامعة لأهم أنواع التوحيد ألا وهو "توحيد الألوهية" الغاية العظمى.
وقد سبق أن ذكرنا نصوصهم في تعريف التوحيد" (40) .
حتى أن الشيخ محمد عبده ماتريدي الأزهر (1323هـ) صرح بأن "توحيد الربوبية" هو الغاية حيث قال بعد تعريفه: "وهذا المطلب كان الغاية العظمى من بعثة النبي صلى الله عليه وسلم ...". (41) .
فأنت ترى أن هذه التعريفات التي ذكرنا عن الماتريدية تدور حول "توحيد الربوبية" وأنه هو الغاية، ولا تتناول "توحيد الألوهية"؛
مع أنه أهم أنواع التوحيد كلها، وهو الغاية العظمى والمقصد الأسنى الأسمى. وليس توحيدُ "الربوبية" "الخالقية" هو "الغاية العظمى".
وقد وصل بعض الكوثرية في الهذيان إلى حد قالوا:
إن تقسيم التوحيد إلى توحيد الربوبية، "والألوهية" من مخترعات ابن تيمية (42) .
مع أن تقسيم التوحيد إلى الربوبية والألوهية يوجد في كلام الإمام أبي حنيفة رحمه الله حيث قال في صدد إقامة الحجة العقلية على علو الله تعالى:
"والله يدعى من أعلى لا من أسفل لأن الأسفل ليس من وصف الربوبية والألوهية في شيء (43) .
وقد قال الإمام أبي جعفر الطحاوي رحمه الله تعالى (321هـ):
"نقول في توحيد الله معتقدين بتوفيق الله، إن الله واحد لا شريك له، ولا شيء مثله ولا شيء يعجزه، ولا إله غيره" (44) .
فقوله: "إن الله واحد" توحيد إجمالي يشمل الأقسام كلها، فهو "المقسم" "الكلي" وقوله: "ولا شيء مثله" توحيد الأسماء والصفات، وقوله: "ولا شيء يعجزه" توحيد الربوبية، وقوله: "ولا إله غيره" توحيد الألوهية.
وخرق بعضهم فارتكب حمقاً جلياً فقال:
إن القائل "ربي الله" معترف بتوحيد الربوبية والألوهية جميعاً (45) .
فجعل مشركي العرب موحدين معترفين مؤمنين بلا إله إلا الله!.
وكفى به ضلالاً مبيناً، ومن لوازمه: أن من قال: لا رب إلا الله فهو مسلم؛ لأن هذا القائل عند هذا الأخرق - كمن قال: لا إله إلا الله!!!.
وأشنع وأبشع من هذا كله ما ارتكب من يدعي "محمد بن علوي المالكي" من تزوير وتدليس وتحريف وتلبيس؛ حيث صرح دون حياءٍ؛ بأن أولئك المشركين ما كانوا جادين فيما يحكي ربنا عنهم:
من اعترافهم بأن الله هو الخالق الرازق الرب المدبر المحيي المميت، وقولهم: ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى، بل كانوا هازلين في جميع ما اعترفوا به (46) .
قلتُ: هذا تكذيب صريح لله تعالى وكتابه المهيمن وإفساد وإلحاد إلى الغاية. وهكذا تلعب البدع والخرافات بأهلها حتى أوصلتهم إلى هذا الحد.
وقد ذكرني هذا اللعاب الذي لعب بكتاب الله حتى ظن أنه هزل لا جد - ما هذى ابن سينا الحنفي القرمطي (428هـ) وكثير من كبار أئمة الكلام أمثال: الغزالي (505) والرازي (606هـ) من الأشعرية، والتفتازاني (792هـ) والبياضي (1098هـ) من الماتريدية، من أن الكتب السماوية وملل الأنبياء، إنما جاءت بما يوافق ظاهر اعتقاد الجمهور من أن الله تعالى فوق العالم استدراجاً لهم إلى الدين الحق لئلا يتنفروا عن قبول الدعوة ولا يتسارعوا إلى الإنكار والعناد.
وليس القصد بنصوص كون الله تعالى فوق العالم، أن الله فوق العالم حقيقة.
قلتُ: الإنسان إذا وصل إلى هذا الحد في الخرق والحمق والسفسطة والقرمطة - فهو ساقط عن مرتبة الخطاب إلى اصطبل الدواب.
الحاصل: أنه لا يوجد عند هؤلاء المتكلمين "توحيد الألوهية" بوجه أتم وأكمل مفسر ومفصل.
فإن قيل: إن "الألوهية" تدخل في الصفات.
قلنا: لا شك أن صفة "الألوهية" من أعظم صفات الله تعالى التي انفرد بها. ولكن الماتريدية والأشعرية لم يثبتوها "صفة" لله تعالى؟.
لأنهم حصروا صفات الثبوتية الذاتية - التي يسمونها - "صفات المعاني". في أربع على الاتفاق، وهي "الحياة" "والعلم" "والقدرة" "والإرادة" على تفلسف فيها واختلفوا في "السمع والبصر".
وزادت الماتريدية صفة "التكوين" خلافاً للأشعرية، ولكن الخلاف في الحقيقة راجع إلى اللفظ، وأن "التكوين" عبارة عن القدرة والإرادة.
أما صفة "الكلام" فقد عرفت أنهم عطلوها وحرفوا نصوصها إلى "الكلام النفسي" وقالوا جهاراً دون إسرار بلا حياء ولا تقى: بخلق القرآن، وبخلق أسماء الله تعالى الحسنى.
فأين في هذه الصفات المحصورة "صفة الألوهية" التي هي غاية خلق الجن والإنس ولتحقيقها أنزلت الكتب وأرسلت الرسل؟!
بل الماتريدية أرجعوا هذه الصفة العظيمة إلى صفة "التكوين" "والصنع" و"الاختراع" ويشهد لذلك وجوه ثلاثة:
الوجه الأول: أن العلامة الكشميري أحد كبار أئمة الماتريدية الديوبندية (1352هـ) قد قال: "الأسماء الحسنى عبارة عن الإضافات عند الأشاعرة، أما عند الماتريدية فكلها مندرجة في صفة التكوين" (47) .
قلتُ: من المعلوم أن في أسماء الله الحسنى "الاسم الأعظم" وهو "الله" كما أن فيها اسماً حسناً آخر لله وهو "الإله".
وهذان الاسمان الحسنان يدلان على صفة "الألوهية" لله تعالى أقطع دلالة فكيف تكون صفة "الألوهية" من صفات الأفعال التي مرجعها إلى صفة التكوين؟! مع أنها من أعظم صفات الله الثبوتية الذاتية.
الوجه الثاني: أن الماتريدية فسروا "الإله" بالصانع القادر المالك صرح بذلك خيالهم الذي غلب أفكاره خيالات كلامية (862هـ)،
وكستليهم (901هـ) وبهشتيهم (979هـ) وجنديهم (؟) وغيرهم من الماتريدية والرستمي من الفنجفيرية النقشبندية (48) .
الوجه الثالث: أن الإمام أبا منصور الماتريدي (333هـ) وكبار الماتريدية بعده يحتجون على إثبات توحيد الربوبية الخالقية وكون الله تعالى صانعاً وحده، للعالم ومحدثاً له.
بما يسمونه "برهان التمانع".
فقالوا: واللفظ للتفتازاني فيلسوف الماتريدية (792هـ):
"المحدث للعالم هو الله تعالى، أي الذات الواجب الوجوب...، الواحد، يعني: أن صانع العالم واحد...
والمشهور في ذلك بين المتكلمين "برهان التمانع" المشار إليه بقوله تعالى: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا [الأنبياء: 22]
وتقريره: أنه لو أمكن إلهان لأمكن بينهما تمانع،
بأن يريد أحدهما حركة زيد، والآخر سكونه...
وحينئذ إما أن يحصل الأمران - فيجتمع الضدان،
أولا - فيلزم عجز أحدهما..." (49) .
فأنت ترى أيها المسلم إلى هؤلاء الدهماء كيف قلبوا آية عظيمة جاءت لتقرير توحيد الألوهية "العبادة" إلى كونها برهان التمانع على إبطال صانعين ربين لهذا العالم؛ ففسروا الإله "بالرب الخالق".
وفسروا صفة "الألوهية" بالربوبية والخالقية والصانعية والمالكية.
فوقعوا في خرق وحمق، وخرجوا على لغة العرب، وعطلوا صفة "الألوهية"، وحرفوا نصوصها إلى صفة "الربوبية الخالقية الصانعية"؛ لأن تفسير صفة بأخرى - كتفسير "اليد" بالقدرة أو النعمة - تعطيل وإبطال لها. حتى بشهادة الإمام أبي حنيفة رحمه الله وشهادة ثمانية من كبار أئمة الماتريدية. (51)
Comments
Post a Comment