0043 سورة آل عمران آية 43

ا   ب   ت   ث   ج   ح   خ   د   ذ   ر   ز   س   ش   ص   ض   ط   ظ   ع   غ   ف   ق   ك   ل   م   ن   و   ه   ي
A   B   C   D   E   F   G   H   I   J   K   L   M   N   O   P   Q   R   S   T   U   V   W   X   Y   Z
يَـٰمَرْيَمُ ٱقۡنُتِي لِرَبِّكِ وَٱسۡجُدِي وَٱرۡكَعِي مَعَ ٱلرَّٰكِعِينَ ﴿سورة آل عمران آية ٤٣.

Verse (3:43) - English Translation

Welcome to the Quranic Arabic Corpus, an annotated linguistic resource for the Holy Quran. This page shows seven parallel translations in English for the 43rd verse of chapter 3 (sūrat āl ʿim'rān). Click on the Arabic text to below to see word by word details of the verse's morphology.

 

Chapter (3) sūrat āl ʿim'rān (The Family of Imrān)

Sahih International: O Mary, be devoutly obedient to your Lord and prostrate and bow with those who bow [in prayer]."

Pickthall: O Mary! Be obedient to thy Lord, prostrate thyself and bow with those who bow (in worship).

Yusuf Ali: "O Mary! worship Thy Lord devoutly: Prostrate thyself, and bow down (in prayer) with those who bow down."

Shakir: O Marium! keep to obedience to your Lord and humble yourself, and bow down with those who bow.

Muhammad Sarwar: Mary, pray devotedly to your Lord, prostrate yourself before Him and bow down with those who bow down before Him."

Mohsin Khan: O Mary! "Submit yourself with obedience to your Lord (Allah, by worshipping none but Him Alone) and prostrate yourself, and Irka'i (bow down etc.) along with Ar-Raki'un (those who bow down etc.)."

Arberry: Mary; be obedient to thy Lord, prostrating and bowing before Him.'

See Also

[3:43] Basmeih
"Wahai Maryam! Taatlah kepada Tuhanmu, dan sujudlah serta rukuklah (mengerjakan sembahyang) bersama-sama orang-orang yang rukuk ".
[3:43] Tafsir Jalalayn
("Hai Maryam! Taatlah kepada Tuhanmu) artinya tunduklah (sujudlah dan rukuklah bersama orang-orang yang rukuk.") artinya salatlah bersama orang-orang yang salat.
[3:43] Quraish Shihab
Hal ini menuntutmu, Maryam, untuk bersyukur kepada Tuhan. Maka taatlah kepada-Nya, salatlah untuk- Nya dan bergabunglah bersama orang-orang yang beribadah dan mengerjakan salat untuk-Nya."
[3:43] Bahasa Indonesia
Hai Maryam, taatlah kepada Tuhanmu, sujud dan ruku'lah bersama orang-orang yang ruku'.
﴿یَـٰمَرۡیَمُ ٱقۡنُتِی لِرَبِّكِ وَٱسۡجُدِی وَٱرۡكَعِی مَعَ ٱلرَّ ٰ⁠كِعِینَ﴾ [آل عمران ٤٣]
﴿يا مريم اقنتي لربك﴾: يا حرف نداء، ومريم منادى مفرد علم، واقنتي فعل أمر مبني على حذف النون، والياء فاعل، والجار والمجرور متعلقان باقنتي.
﴿واسجدي واركعي مع الراكعين﴾: فعلا الأمر معطوفان على اقنتي، ومع ظرف مكان متعلق باركعي، والراكعين مضاف إليه.
﴿وَإِذۡ قَالَتِ ٱلۡمَلَـٰۤىِٕكَةُ یَـٰمَرۡیَمُ إِنَّ ٱللَّهَ ٱصۡطَفَىٰكِ وَطَهَّرَكِ وَٱصۡطَفَىٰكِ عَلَىٰ نِسَاۤءِ ٱلۡعَـٰلَمِینَ ۝٤٢ یَـٰمَرۡیَمُ ٱقۡنُتِی لِرَبِّكِ وَٱسۡجُدِی وَٱرۡكَعِی مَعَ ٱلرَّ ٰ⁠كِعِینَ ۝٤٣﴾ [آل عمران ٤٢-٤٣]
﴿وَإِذْ﴾ الواو عاطفة إذ ظرف متعلق بالفعل المحذوف اذكر ﴿قالَتِ الْمَلائِكَةُ﴾ فعل ماض وفاعل والجملة في محل جر بالإضافة ﴿يا مَرْيَمُ﴾ منادى مفرد علم مبني على الضم في محل نصب ﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ﴾ إن ولفظ الجلالة اسمها واصطفاك فعل ماض ومفعوله والجملة خبر إن. وجملة إن الله مقول القول ﴿وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ﴾ عطف على اصطفاك الأولى ﴿عَلى نِساءِ﴾ متعلقان باصطفاك ﴿الْعالَمِينَ﴾ مضاف إليه مجرور بالياء ﴿يا مَرْيَمُ﴾ الياء أداة نداء، نابت مناب أدعو، مريم منادى مفرد علم ﴿اقْنُتِي﴾ فعل أمر مبني على حذف النون وياء المخاطبة في محل رفع فاعل ﴿لِرَبِّكِ﴾ متعلقان باقنتي ﴿وَاسْجُدِي وَارْكَعِي﴾ عطف على اقنتي ﴿مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ مع ظرف مكان متعلق بالفعل اركعي والراكعين مضاف إليه مجرور بالياء لأنه جمع مذكر سالم.
﴿یَـٰمَرۡیَمُ ٱقۡنُتِی لِرَبِّكِ وَٱسۡجُدِی وَٱرۡكَعِی مَعَ ٱلرَّ ٰ⁠كِعِینَ﴾ [آل عمران ٤٣]
﴿يَٰ﴾ حرف نداء، ﴿مَرْيَمُ﴾ علم، مؤنث.
﴿ٱقْنُتِ﴾ فعل أمر من الثلاثي مجرد، من مادّة (قنت)، مخاطب، مؤنث، مفرد، ﴿ى﴾ ضمير، مخاطب، مؤنث، مفرد.
﴿لِ﴾ حرف جر، ﴿رَبِّ﴾ اسم، من مادّة (ربب)، مذكر، مجرور، ﴿كِ﴾ ضمير، مخاطب، مؤنث، مفرد.
﴿وَ﴾ حرف عطف، ﴿ٱسْجُدِ﴾ فعل أمر من الثلاثي مجرد، من مادّة (سجد)، مخاطب، مؤنث، مفرد، ﴿ى﴾ ضمير، مخاطب، مؤنث، مفرد.
﴿وَ﴾ حرف عطف، ﴿ٱرْكَعِ﴾ فعل أمر من الثلاثي مجرد، من مادّة (ركع)، مخاطب، مؤنث، مفرد، ﴿ى﴾ ضمير، مخاطب، مؤنث، مفرد.
﴿مَعَ﴾ ظرف مكان.
﴿ٱل﴾، ﴿رَّٰكِعِينَ﴾ اسم فاعل الثلاثي مجرد، من مادّة (ركع)، مذكر، جمع، مجرور.
﴿وَإِذۡ قَالَتِ ٱلۡمَلَـٰۤىِٕكَةُ یَـٰمَرۡیَمُ إِنَّ ٱللَّهَ ٱصۡطَفَىٰكِ وَطَهَّرَكِ وَٱصۡطَفَىٰكِ عَلَىٰ نِسَاۤءِ ٱلۡعَـٰلَمِینَ ۝٤٢ یَـٰمَرۡیَمُ ٱقۡنُتِی لِرَبِّكِ وَٱسۡجُدِی وَٱرۡكَعِی مَعَ ٱلرَّ ٰ⁠كِعِینَ ۝٤٣ ذَ ٰ⁠لِكَ مِنۡ أَنۢبَاۤءِ ٱلۡغَیۡبِ نُوحِیهِ إِلَیۡكَۚ وَمَا كُنتَ لَدَیۡهِمۡ إِذۡ یُلۡقُونَ أَقۡلَـٰمَهُمۡ أَیُّهُمۡ یَكۡفُلُ مَرۡیَمَ وَمَا كُنتَ لَدَیۡهِمۡ إِذۡ یَخۡتَصِمُونَ ۝٤٤ إِذۡ قَالَتِ ٱلۡمَلَـٰۤىِٕكَةُ یَـٰمَرۡیَمُ إِنَّ ٱللَّهَ یُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةࣲ مِّنۡهُ ٱسۡمُهُ ٱلۡمَسِیحُ عِیسَى ٱبۡنُ مَرۡیَمَ وَجِیهࣰا فِی ٱلدُّنۡیَا وَٱلۡـَٔاخِرَةِ وَمِنَ ٱلۡمُقَرَّبِینَ ۝٤٥ وَیُكَلِّمُ ٱلنَّاسَ فِی ٱلۡمَهۡدِ وَكَهۡلࣰا وَمِنَ ٱلصَّـٰلِحِینَ ۝٤٦ قَالَتۡ رَبِّ أَنَّىٰ یَكُونُ لِی وَلَدࣱ وَلَمۡ یَمۡسَسۡنِی بَشَرࣱۖ قَالَ كَذَ ٰ⁠لِكِ ٱللَّهُ یَخۡلُقُ مَا یَشَاۤءُۚ إِذَا قَضَىٰۤ أَمۡرࣰا فَإِنَّمَا یَقُولُ لَهُۥ كُن فَیَكُونُ ۝٤٧ وَیُعَلِّمُهُ ٱلۡكِتَـٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَٱلتَّوۡرَىٰةَ وَٱلۡإِنجِیلَ ۝٤٨ وَرَسُولًا إِلَىٰ بَنِیۤ إِسۡرَ ٰ⁠ۤءِیلَ أَنِّی قَدۡ جِئۡتُكُم بِـَٔایَةࣲ مِّن رَّبِّكُمۡ أَنِّیۤ أَخۡلُقُ لَكُم مِّنَ ٱلطِّینِ كَهَیۡـَٔةِ ٱلطَّیۡرِ فَأَنفُخُ فِیهِ فَیَكُونُ طَیۡرَۢا بِإِذۡنِ ٱللَّهِۖ وَأُبۡرِئُ ٱلۡأَكۡمَهَ وَٱلۡأَبۡرَصَ وَأُحۡیِ ٱلۡمَوۡتَىٰ بِإِذۡنِ ٱللَّهِۖ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأۡكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِی بُیُوتِكُمۡۚ إِنَّ فِی ذَ ٰ⁠لِكَ لَـَٔایَةࣰ لَّكُمۡ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِینَ ۝٤٩ وَمُصَدِّقࣰا لِّمَا بَیۡنَ یَدَیَّ مِنَ ٱلتَّوۡرَىٰةِ وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعۡضَ ٱلَّذِی حُرِّمَ عَلَیۡكُمۡۚ وَجِئۡتُكُم بِـَٔایَةࣲ مِّن رَّبِّكُمۡ فَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ وَأَطِیعُونِ ۝٥٠ إِنَّ ٱللَّهَ رَبِّی وَرَبُّكُمۡ فَٱعۡبُدُوهُۚ هَـٰذَا صِرَ ٰ⁠طࣱ مُّسۡتَقِیمࣱ ۝٥١﴾ [آل عمران ٤٢-٥١]
إن شئت جعلتَ «إذ» نسقاً على الظرف قبله - وهو قوله: ﴿إِذْ قَالَتِ امرأة عِمْرَانَ﴾ [آل عمران: 35] ، وإن شئت جعلته منصوباً بمقدّر، قاله أبو البقاء.
وقرأ ابنُ مسعودٍ وابن عمرَ: ﴿وَإِذْ قَالَتِ الملائكة﴾ ، - دون تاء تأنيث، وتقدم توجيهه في «فناداه الملائكة» - ومعمول القول الجملة المؤكدة ب «إنَّ» - من قوله: ﴿إِنَّ الله اصطفاك﴾ - وكرر الاصطفاء؛ رَفْعاً من شأنها.
قال الزمخشريُّ: «اصطفاك أولاً حين تَقَبَّلَكِ مِنْ أمِّكِ، وربَّاكِ، واختصك بالكرامة السنية، واصطفاك آخراً على نساء العالمين، بأن وَهَبَ لكِ عيسى من غير أبٍ، ولم يكن ذلك لأحد من النساء» .
واصطفى: «افتعل» من الصفوة أبدلت التاء طاءً؛ لأجل حرف الإطباق كما تقدم تقريره في البقرة، وتقدم سبب تعديه ب «على» وإن كان أصل تعديته بمن.
وقال أبو البقاء: «وكرر اصطفى إما توكيداً وإما لتبيين من اصطفاها عليهم» .
وقال الواحديُّ: «وكرَّر الاصطفاء؛ لأنّ كلا الاصطفاءين يختلف معناهما، فالاصطفاء الأول عموم يدخل فيه صوالح النساءِ، والثاني: اصطفاءٌ بما اختصت به من خصائصها» .
فصل
المراد بالملائكة - هنا جبريل وحده كقوله: ﴿يُنَزِّلُ الملاائكة بالروح مِنْ أَمْرِهِ1764;اْ﴾ [النحل: 2] يعني: جبريل وإنما عدلنا عن الظاهر؛ لأن سورةَ مريمَ دلت على أن المتكلمَ مع مريم عليه السلام هو جبريلُ؛ لقوله تعالى: ﴿فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَآ رُوحَنَا﴾ [مريم: 17] .
فصل
اعلم أن مريمَ - عليها السلامُ - ما كانت من الأنبياء، لقوله تعالى ﴿وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نوحي إِلَيْهِمْ﴾ [الأنبياء: 7] ، وهذا الاستدلالُ فيه نظرٌ؛ لأن الإرسالَ ليس هو المدَّعَى، وإنما المدَّعَى هو النبوة، فإنَّ كلَّ رسول نبيٌّ، وليس كلُّ نبيٍّ رسولاً، وإذا كان كذلك كان إرسالُ جبريلَ إليها إمَّا يكون كرامةً لها - وهو مذهب مَنْ يُجوز كرامات الأولياء - وإرهاصاً لعيسى، والإرهاص: هو مقدمة تأسيسِ النبوةِ، وإما أن يكون معجزةً لزكريا عليه السلام وهو قول جمهور المعتزلة.
وقال بعضهم: إن ذلك كان على سبيل النفث في الرَّوع، والإلهام، والإلقاء في القلب، كما كان في حقِّ أم موسى - عليه السلام - في قوله: ﴿وَأَوْحَيْنَآ إلى أُمِّ موسى﴾ [القصص: 7] .
فصل
قيل: المرادُ بالاصطفاء الأول أمور: أحدها: أنه - تعالى - قبل تحريرها - مع كونها أنثى - ولم يحصل هذا لغيرها.
وثانيها: قال الحسنُ: إن أمَّها لما وضعتها ما غذَّتها طرفة عين، بل ألقتها إلى زكريا، فكان رزقُها يأتيها من الجَنَّةِ.
وثالثها: أنّه - تعالى - فرَّغها لعبادته، وكفاها أمر رِزقها.
ورابعها: أنه - تعالى - أَسْمَعَها كلام الملائكة شِفَاهاً، ولم يتَّفِق ذلك لأُنْثَى غيرها.
فصل
وفي التطهير أيضاً وجوه:
أحدها: أنه - تعالى - طهرها عن الكفر والمعصية، كقوله تعالى في أزواج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:
﴿وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾ [الأحزاب: 33] .
وثانيها: طهرها عن مسيس الرجال.
وثالثها: طهرها عن الحيض والنفاس.
ورابعها: طهرها عن الأفعال الخسيسة.
وخامسها: طهرها عن مقال اليهود وكذبهم وافترائهم. وأما الاصطفاء الثاني، فالمراد منه أنه - تعالى - وَهَبَ لها عيسى عليه السلام من غير أب، وأَنْطَق عيسى حين انفصاله منها وحين شَهِد لها ببراءتها من التهمة، وجعلها وابنها ىية للعالمين. وقال علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - سمعت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: «خَيْرُ نِسَائِهَا مَرْيَمُ ابْنَةُ عِمْرَان، وخَيْرُ نِسَائِهَا خَدِيجَةُ» رواه وكيع وأشار وكيع إلى السماء والأرض.
وعن أبي موسى الأشعريّ قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «كَمُلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ، وَلَمْ يَكْمُلْ مِنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَرْيَمُ ابْنَة عمران، وآسِية امْرَأةُ فِرْعَوْنَ، وَإِنَّ فَضْلَ عَائِشَة عَلَى سائِر النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيد عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ» .
وعن أنس أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «حَسْبُك مِنْ نِسَاء العَالَمِين أَرْبَعٌ: مَرْيم بِنْتُ عِمْرانَ، وَخَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِد، وَفَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ، وَآسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ» .
وقيل: دلَّ هذا الحديثُ على أن هؤلاء الأربع أفضلُ من سائر النساء، وهذه الآية دلت على أنَّ مريم عليها السلام أفضل من الكُلِّ. وقَول مَنْ قال: «المراد أنها مُصْطَفَاةٌ على عالمي زمانها، فهذا تَركٌ للظاهر. وروى موسى بن عقبة عن كُريب عن ابن عباسٍ قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -:» سَيِّدَةُ نساءِ العَالَمِينَ مَرْيَمُ ثُمَّ فَاطِمَة، ثُمَّ خَدِيْجَةُ، ثُمَّ آسيَةُ «حديث حسن.
قال القرطبي: خصَّ الله مريَم بما لم يؤتهِ أحداً من النساء؛ وذلك أن رُوحَ القدس كلَّمها، وظهر لها ونفخ في دِرْعها، ودنا منها للنفخة، وليس هذا لأحد من النساء، وصدَّقت بكلمات ربِّها، لم تَسأَلْ آيةً عندما بُشرَت - كما سأل زكريا - من الآية، ولذلك سمَّاها الله - تعالى - في تنزيله: صِدِّيقةً، قال»
وأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ «وقال: ﴿وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبَّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ القانتين﴾ [التحريم: 12] فشهد لها بالصديقية وشهد لها بالتصديق بكلمات البشرى، وشهد لها بالقنوت؛ ولما بُشِّرَ زكريا بالغلام لحظ إلى كِبَر سِنِّه، وعقم رحم امرأته فقال: ﴿قَالَ رَبِّ أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِي الكبر وامرأتي عَاقِرٌ﴾ [آل عمران: 40] ، فسأل آية. وبشرت مريم بالغلام فلحظت أنها بكر، ولم يَمْسَسْها بَشَر، فقيل لها كذلك قال رَبُّكِ فاقتصرت على ذلك، وصدَّقت بكلمات ربها، ولم تسأل آية، فمن يَعْلم كُنه هذا الأمر، ومن لامرأة في جميع نساء العالمين من بنات آدمَ ما لها من هذه المناقب؟
قوله: ﴿يا مريم اقنتي لِرَبِّكِ واسجدي واركعي مَعَ الراكعين﴾ تقدم الكلام في القنوت عند قوله تعالى:
﴿وَقُومُواْ للَّهِ قَانِتِينَ﴾ [البقرة: 238] . وأنه طول القيام.
فإن قيل: لِمَ قدم ذكر السجود على الركوع؟
فالجواب من وجوهٍ:
أحدها: أن الواو تفيد التشريك لا الترتيبَ.
الثاني: أن غاية قُرْب العبد من ربه إذا كان ساجداً، فلما اختص السجود بهذه الفضيلة قُدِّم على بَاقِي الطَّاعَاتِ.
الثالث: قال ابنُ الأنباري:» قوله تعالى: ﴿اقنتي لِرَبِّكِ﴾ أمر بالعبادة على العموم، وقوله بَعْدَ ذلك: ﴿واسجدي واركعي﴾ يعني استعملي السجود في وقته اللائق به، وليس المراد أن تجمع بينهم، ثم تقدم السجود على الركوعِ» .
الرابع: أن الصلاة تسمى سجوداً - كما قيل في قوله: ﴿وَأَدْبَارَ السجود﴾ [ق: 40] وفي الحديث: «إذا دخل أحدكم المسجد فليسجد سجدتين» .
وأيضاً قال: فالسجود أفضل أجزاء الصلاة، وتسمية الشيء باسم أشرف أجزائه مجاز مشهور.
وإذا ثبت ذلك فقوله: ﴿يامريم اقنتي﴾ معناه: قومي، وقوله: ﴿واسجدي﴾ أمر ظاهر بالصلاة حال الانفراد، وقوله: ﴿واركعي مَعَ الراكعين﴾ أمر بالخضوع، والخشوع بالقلب.
الخامس: لعلّ السجود في ذلك الدين كان متقدّماً على الركوع. فإن قيل: لِمَ لَمْ يقل: واركعي مع الراكعات؟
فالجواب: لأن الاقتداء بالرجل - حال الاختفاء من الرجال - أفضل من الاقتداء بالنساء.
وقيل: لأنه أعم وأشمل.
قال المفسّرون: لما ذكرت الملائكة هذه الكلمات - شفاهاً - لمريم قامت في الصّلاة، حتى تورمت قدماها، وسالت دماً وقَيْحاً.
وقوله: ﴿واركعي مَعَ الراكعين﴾ قيل: معناه: افعلي كفعلهم.
وقيل: المراد به الصلاة الجامعة.
قوله: ﴿ذلك مِنْ أَنَبَآءِ الغيب نُوحِيهِ﴾ يجوز فيه أوجه:
أحدها: أن يكون «ذَلِكَ» خبرَ مبتدأ محذوفٍ، وتقديره: الأمر ذلك. و ﴿ذلك مِنْ أَنَبَآءِ الغيب﴾ متعلقاً بما بعدَه، وتكون الجملة من «نُوحِيهِ» - إذ ذاك - إما مُبَيِّنَة وشارحة للجملة قبلها، وإما حالاً.
الثاني: أن يكون «ذَلِكَ» مبتدأ، و ﴿مِنْ أَنَبَآءِ الغيب﴾ خبره، والجملة من «نُوحِيهِ» مستأنفة، والضميرُ من «نوحِيهِ» عائد على الغيب، أي: الأمر والشأن أنا نوحي إليك الغيب ونعلمك به ونُظهرك على قصص مَنْ تقدمك مع عدم مدارستك لأهل العلم والأخبار، ولذلك أتى بالمضارع في «نُوحِيهِ» . وهذا أحسن من عَوْده على «ذَلِكَ» ؛ لأن عَوده على الغيب يشمل ما تقدم من القصص، وما لم يتقدم منها، ولو أعدته على «ذَلِكَ» اختص بما مَضَى وتقدم.
الثالث: أن يكون «نُوحِيهِ» هو الخبر و ﴿مِنْ أَنَبَآءِ الغيب﴾ على وجهَيْه المتقدمَيْن من كونه حالاً من ذلك، أو متعلقاً ب «نُوحِيه» .
ويجوز فيه وجه ثالثٌ - على هذا - وهو أن يُجْعَل حالاً من مفعول «نُوحِيهِ» أي: نوحيه حال كونه بعض أنباءِ الغيبِ.
فصل
الإنباء هو الإخبارُ عما غاب عنك - والإيحاء، ورد بإزاء معانٍ مختلفةٍ، وأصله إعلام في خفاء يكون بالرمز والإشارة ويتضمن السرعة.
كما في قوله: [الطويل]
1456 - ... ... ... ... ... ... . ... فَأَوْحَتْ إلَيْنَا وَالأنَامِلُ رُسْلُهَا
وقال تعالى: ﴿فأوحى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُواْ بُكْرَةً وَعَشِيّاً﴾ [مريم: 11] . ويكون بالكتابة، قال زهير: [الطويل]
1457 - أتَى الْعُجْمَ وَالآفاقَ مِنْهُ قَصَائِدٌ ... بَقِينَ بَقَاءَ الْوَحْي فِي الْحَجَرِ الأصَمْ
ويطلق الوحي على الشيء المكتوب، قال: [الكامل]
1458 - فَمَدَافِعُ الرَّيانِ عُرِّيَ رَسْمُهَا ... خَلَقاً كَمَا ضَمِنَ الوُحِيَّ سِلاَمُهَا
قيل: الوُحِيّ: جمع وَحْي - كفلس وفلوس - كُسِرَت الحاءُ إتباعاً.
قال القرطبيُّ: «وأصل الوحي في اللغة: إعلام في خفاءٍ» .
وتعريفُ الوحي بأمر خفي من غشارة، أو كتابة، أو غيرها، وبهذا التفسير يُعَدُّ الإلهامُ وَحياً، كقوله تعالى: ﴿وأوحى رَبُّكَ إلى النحل﴾ [النحل: 68] وقال - في الشياطين -: ﴿لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَآئِهِمْ﴾ [الأنعام: 121] وقال: ﴿فأوحى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُواْ بُكْرَةً وَعَشِيّاً﴾ [مريم: 11] ، فلما ألقى الله - تعالى - هذه الأنباء إلى الرسول عليه السلام - بواسطة جبريل عليه السلام - بحيث يخفى ذلك على غيره - سمَّاه وحياً.
قوله تعالى: ﴿إِذْ يُلْقُونَ﴾ فيه وجهان:
أظهرهما: أنه منصوب بالاستقرار العامل في الظرف الواقع خبراً.
والثاني - وإليه ذهب الفارسي -: أنه منصوب ب «كُنْتَ» . وهو منه عجيب؛ لأنه يزعم أنها مسلوبة الدلالة على الحدثِ، فكيف يعمل في الظرف، والظرف وعاء للأحداث؟
والذي يظهر أن الفارسيَّ إنما جوَّز ذلك بناء على ما يجوز أن يكون مراداً في الآية، وهو أن تكون «كان» تامة بمعنى: وما وُجدتَ في ذلك الوقت.
والضمير في «لَدَيْهِمْ» عائد على المتنازعين في مريم - وإن لم يَجْرِ لهم ذِكْرٌ -؛ لأن السياقَ قد دلّ عليهم.
فإن قيل: لم نُفِيَت المشاهدةُ - وانتفاؤها معلوم بالضرورة - وتُرِك نفي استماع هذه الأنباء من حُفَّاظِها، وهو أمر مجوز؟ فالجواب: أن هذا الكلامَ ونحوه، كقوله: ﴿وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطور﴾ [القصص: 46] وقوله: ﴿وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أجمعوا أَمْرَهُمْ﴾ [يوسف: 102] وقوله: ﴿مَا كُنتَ تَعْلَمُهَآ أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هذا﴾ [هود: 49]- وإن كان انتفاؤه معلوماً بالضرورة - جار مَجْرَى التهكُّم بمُنْكِري الوحي، يعني أنه إذا عُلِمَ أنك لم تُعَاصِر أولئك، ولم تُدارِس أحداً في العلم، فلم يبق اطلاعك عليه إلا من جهة الوَحْي.
ومعنى الآية: ذلك - الذي ذكرناه - من حديث زكريا ويحيى ومريم - عليهم السلام - من أخبار الغيب نوحيه إليك، وذلك دليلٌ على نبوة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لأنه أخبر عن قصصهم - ولم يكن قرأ الكتب - وصدَّقه أهل الكتاب بذلك. ثم قال: ﴿وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ﴾ أي: وما كنت يا محمد بحضرتهم ﴿إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ﴾ .
أقلام: جمع قَلَم، وهو فَعَل بمعنى مفعول، أي: مَقْلُوم.
والقَلْمُ: القَطْع، ومثله: القبض بمعنى المقبوض، والنقض بمعنى المنقوض، وجمع القلم على أقلام - وهو جمع قِلَّة - وحكى ابنُ سيدَه أنه يُجْمَع على قلام - بوزن رِماح - في الكثرة.
وقيل له: قَلَم؛ لأنه يُقْلَم، ومنه قلمت ظفري - أي: قطعته وسويته.
قال زهير: [الطويل]
1459 - لَدَى أسَدٍ شَاكِي السلاحِ مُقَذَّفٍ ... لَهُ لِبَدٌ أظْفَارُهُ لَمْ تُقَلَّمِ
وقيل: سمي القَلَمُ قَلَماً، تشبيهاً بالقُلامةِ - وهو نَبْتٌ ضعيفٌ - وذلك لأنه يُرقق فيَضْعف.
فصل
في المراد بالأقلام - هنا - وجوهٌ:
أحدها: التي يُكْتَب بها، وكان اقتراعهم أن مَنْ جرى قلمُه عكس جَرْي الماء، فالحقُّ معه، فلما فعلوا ذلك صار قلم زكريا كذلك، فسلموا الأمر له، وهذا قول الأكثرين.
الثاني: قال الربيع: ألْْقَوا عِصِيَّهم في الماء.
الثالث: قال ابو مسلم: هي السهام التي كانت الأمم يفعلونها عند المساهمة، يكتبون عليها أسماءَهُمْ، فمَنْ خرج له السهم سُلِّم إليه الأمر، قال تعالى: ﴿فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ المدحضين﴾ [الصافات: 141] . وإنما سميت هذه السهامُ أقْلاَماً؛ لأنها تُقْلَم وتُبْرَى، وكلما قَطَعْتَ شيئاً بعد شيء فقد قلمته، ولهذا يُسَمَّى ما يُكْتَب به قَلَماً.
واختلفوا فيهم، فقيل: هم سَدَنَةُ البيت، وقيل: هم العلماء والحبار وكُتَّاب الوَحْي.
قوله: ﴿أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ﴾ هذه الجملة منصوبة المحل؛ لأنها مُعَلقة لفعل محذوف، ذلك الفعل في محل نصب على الحال، تقديره: يُلْقُون أقلامَهم ينظرون - أو يعلمون - أيهم يكفل مريم.
وجوز الزمخشريُّ: أن يقدَّر ب «يقولون» فيكون مَحْكيًّا به، ودل [على ذلك] قوله، يُلْقُون.
وقوله: ﴿وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ﴾ كقوله: ﴿وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون﴾ .
فصل
اختلفوا في السبب، الذي لأجله رغبوا في كفالتها، حتى تنازعوا فيها:
قيل: لن أباها عمرانَ كان رئيساً لهم، ومتقدِّماً فيهم، فلأجل حَقِّ أبيها رغبوا في كفالتها.
وقيل: لأن أمَّها حرَّرَتْها لعبادة الله - تعالى - ولخدمة بيته، فلأجْل ذلك حرصوا على التكفُّل بها. وقيل: لأنهم وجدوا أمرها وأمر عيسى مبيَّناً في الكتب الإلهيةِ، فلهذا السببِ اختصموا في كفالتها.
فصل
دلت هذه الآية على إثبات القُرْعة، وهي أصل في شَرْعِنا لكل من أراد العدل في القسمة.
قال القرطبيُّ: وهي سنة عند جمهور الفقهاء في المستوين في الحجة؛ ليعدل بينهم وتطمئن قلوبهم، وترتفع الظِّنَّةُ عمن يتولى قسمتهم، ولا يفضل أحدٌ منهم على صاحبه، وقد ورد الكتاب والسنة بالقرعة، وقال أبو حنيفة وأصحابه؛: لا معنى لها، وزعموا أنها تُشْبِه الأزلام التي نَهَى اللهُ عنها.
قال أبو عبيد: «وقد عمل بالقرعة ثلاثة من الأنبياء: يونس وزكريا ومحمد صلّى الله عليهم وسلّم» .
قال ابنُ المُنْذِرِ: «واستعمال القرعة كالإجماع من أهل العلم فيما يقسم بين الشركاء» .
فصل
قال القرطبيُّ: دلَّتْ هذه الآية على أن الخالةَ أحقُّ بالحضانةِ من سائر الْقَرَابَاتِ ما عدا الجَدَّة، وقد قضى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بابنة حمزة لجعفر - وكانت خالتها عنده - وقال:
«الخالة بِمَنْزِلَةِ الأمِّ» .
قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَتِ الملائكة﴾ في هذا الظرف أوجهٌ:
أحدها: أن يكون منتصباً ب «يَخْتَصِمُونَ» .
الثاني: أنه بدل من «إذْ يَخْتَصِمُونَ» وهو قول الزجاج.
وفي هذين الوجهين بُعْدٌ؛ حيث يلزم اتحاد زمان الاختصام، وزمانِ قَوْل الكلام، ولم يكن ذلك؛ لأن وقت الاختصام كان صغيراً جِدًّا، ووقت قولِ الملائكةِ بعد ذلك بأحْيَانٍ.
قال الحسنُ: إنها كانت عاقلة في حال الصِّغَرِ، وإن ذلك كان من كراماتها. فإن صحَّ ذلك صحَّ الاتحاد، وقد استشعر الزمخشريُّ هذا السؤال، فأجاب بأن الاختصام والبشارة وقَعَا في زمان واسعٍ، كما تقول: لقيته سنةَ كذا، يعني أن اللقاءَ إنما يقع في بعض السنة فكذا هذا.
الثالث: أن يكون بدلاً من ﴿وَإِذْ قَالَتِ الملائكة﴾ - أولاً - وبه بدأ الزمخشريُّ - كالمختار له - وفيه بعد لكثرة الفاصل بين البدلَ والمبدل منه.
الرابع: نصبه بإضمار فعل.
الخامس: قال أبو عبيدة: «إذْ - هنا - صلة زائدة» . والمراد بالملائكة هنا: جبريل عليه السلام لما قررناه وقد تقدم الكلام في البشارة.
فصل
قال القرطبيُّ: «قوله تعالى: ﴿إِنَّ الله يُبَشِّرُكِ﴾ دليل على نبوتها مع ما تقدم من كونها أفضل نساءِ العالمين، وأن الملائكة قد بلّغتها الوحي عن الله - عَزَّ وَجَلَّ - بالتكليف والإخبار والبشارة كما بلَّغت سائر الأنبياءِ، فهي إذاً نَبِيّة، والنبيُّ أفضل من الوليّ» . وقال ابنُ الخطيب: ذلك كرامة لها؛ إذ ليست نبية؛ لختصاص النبوةِ بالرجال، وقال جمهورُ المعتزلة؛ ذلك معجزة لعيسى - عليه السلام -.
قال ابنُ الْخَطِيبِ: وهو عندنا إرهاصٌ لعيسى، أو كرامة لمريم.
قوله: ﴿بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ﴾ في محل جر؛ صفة ل «كَلِمَةٍ» و «مِنْ» ليست للتبعيض؛ إذ لو كان كذلك، لكان الله - تعالى - مُتبعِّضاً مُتجزِّئاً - تعالى الله عن ذلك - بل لابتداء الغاية؛ لأن كلمة الله مبدأ لظهوره وحدوثه، والمراد بالكلمة - هنا - عيسى - لوجوده بها وهو قوله: كن فهو من باب إطلاق السبب على المُسَبّب.
فإن قيل: أليس كل مخلوق، فهو يخلق بهذه الكلمة؟ فالجوابُ: نَعَمْ، إلا أن ما هو السبب المتعارَف كان مفقوداً في حق عيسى - عليه السلام - فكان إضافة حدوثه إلى الكلمة أكمل وأتم، فجعل هذا التأويل كأنه نفس الكلمة، كمن غلب عليه الجود والكرم يُقال على سبيل المبالغة -: إنه نفس الجود ومَحْض الكرم، فكذا ها هنا.
وأيضاص فإن السلطان قد يُوصَف بأنه ظلُّ اللهِ، ونور اللهِ - إذا أظهر لهم ظل العدل، ونور الإحسانِ، فكذا عيسى - عليه السلام - لما كان سبباً لظهور كلام الله - تعالى - بكثرة بياناته، وإزالة الشبهاتِ والتحريفات عنه، فسُمِّيَ بكلمة الله على هذا التأويل.
فصل
حدوث الولد من غير نطفة الأب مُمكن، أما على اصول المسلمين، فظاهر؛ لأنّ الله تعالى قادرٌ على كل الممكنات، وإذا خلق آدمَ من غير أمٍّ ولا أبٍ، فخَلْقُه عيسى - عليه السلام - من غير أب أولى، وأما على أصول الفلاسفة فإنهم اتفقوا على أنه لا يمتنع حدوث الإنسان على سبيل التولُّد؛ لامتزاج العناصر الأربعة على القدر الذي يناسب بَدَنَ الإنسان، وعند امتزاجها يجب حدوث الكيفية المزاجية، وعند حصول الكيفية المزاجية، يجب تعلُّق النفس، فثبت أن حدوث الإنسان - على سبيل التولد - معقول ممكن، وأيضاً إنا نشاهد حدوث كثير من الحيوانات على سبيل التولد - كتولُّد الفأر عن المدر، والحيَّات عن الشعر، والعقارب عن الباذَروج - وإذا كان كذلك فتولُّد الولَدِ لا عَنِ أبٍ أوْلَى ألا يكون ممتنعاً. وأيضاً، فإن التخيُّلات الذهنية كثيراً ما تكون أسباباً لحدوث الحوادث الكثيرة كما أن تصور حدوث المنافي، يوجب حصول كيفية الغضب، ويوجب حصول السخونة الشديدة في البدن، وكما أن اللوح الطويل إذا كان موضوعاً على الأرض، قدر الإنسان على المشي عليه، ولو جعل كالقنطرة على وهدة لم يقدر على المشي عليه، بل كلما يمشي سقط، وما ذاك إلا لأن تصور السقوط يوجب حصول السقوط، وقد ذكر الفلاسفة أمثلة كثيرة لهذا الباب، فما المانع أن يقال: إنها لما تخيلت صورةَ جبريل عليه السلام [كفى ذلك في علوق] الولد في رحمها، وإذا كانت هذه الوجوهُ ممكنةٌ كان القول بحدوث عيسى - من غير أبٍ - غير ممتنع.
قوله: ﴿اسمه المسيح عِيسَى﴾ اسمه مبتدأ، والمسيح خبره، وعيسى بدل منه، أو عطف بيان.
قال أبو البقاء: «ولا يجوز أن يكون خبراً آخرَ؛ لأن تعدد الأخبار يوجب تعدد المبتدأ، والمبتدأ مفرد - وهو قوله: اسمه - ولو كان» عِيسَى «خبراً آخر لكان أسماؤه أو أسماؤها - على تأنيث الكلمة» وأما من يجيز ذلك فقد أعرب «عِيسَى» خبراً ثانياً، وأعربه بعضهم خبرَ مبتدأ محذوفٍ - اي: هو عيسى.
ويجوز على هذا الوجه وَجْهٌ رابعٌ، وهو النَّصْب بإضمار أعني؛ لأن كل ما جاز قطعه رفعاص جاز قطعه نصباً، والألف واللام في المسيح للغلبة كهي في الصعق والعيُّوق وفيه وجهان:
أحدهما: أنه فَعِيل بمعنى فاعل، فحُوِّلَ منه مبالغةً.
قيل: لأنه يمسح الأرض بالسياحة، أي: يقطعها ومنه: مسح القسام الأرض وعلى هذا المعنى يجوز أن يقالَ لعيسى: مِسِّيح - بالتشديد - على المبالغة، كما يقال: رجل شريب.
وقيل: لأنه يمسح ذا العاهةِ فَيَبْرَأُ - قاله ابن عباس.
وقيل: كان يمسح رأسَ اليتيم.
وقيل: يلبس المسح فسمي بما يئوب إليه.
وقيل: إنه فَعِيل بمعنى مفعول؛ لأنه مُسِحَ بالبركة.
وقيل لأنه مُسِح من الأوزار والآثام، أو لأنه مَشِيح القَدَم لا أخْمَصَ له.
قال الشاعر: [الرجز]
1460 - بَاتَ يُقَاسِيهَا غُلاَمٌ كَالزَّلَمْ ... مُدَمْلَجُ السَّاقَيْنِ مَمْسُوحُ الْقَدَمْ
أو لمسح وَجْههِ بالمَلاحة، قال: [الطويل]
1461 - عَلَى وَجْهِ مَيٍّ مِسْحَةٌ مِنْ مَلاَحَةٍ..... ... ... ... ... ... ... .
أو لأنه كان ممسوحاً بدُهْنٍ طاهرٍ مبارَكٍ، تُمْسَح به الأنبياء، ولا يُمْسَح به غيرُهم، قالوا: وهذا الدهن من مسح به وقتَ الولادة فإنه يكون نبيًّا، أو لأنه مَسَحَهُ جبريلُ بجَنَاحه وقت الولادة؛ صوناً له عن مَسِّ الشيطان. أو لأنه خرج من بطن أمه مَمْسُوحاً بالدُّهْن.
والثاني: أنّ وزنه مَفْعِل - من السياحة - وعلى هذا تكون الميمُ فيه زائدة، وعلى هذا كلِّه، فهو منقول من الصفة.
وق لأبو عمرو بن العلاء: المَسِيح: الملك.
وقال النَّخَعِيُّ: المسيح: الصديق. ويكون المسيح بمعنى: الكذَّاب، وبه سُمِّي الدجال، والحرف من الأضداد.
وسمي الدجَّال مَسِيحاً لوجهَيْن.
أحدهما: أنه ممسوح إحدى العينَيْن.
الثاني: أنه يَمْسَح الأرضَ - أي يقطعها - في المدةِ القليلةِ، قالوا: ولهذا قيل له: دَجَّال؛ لضَرْبه الأرضَ، وقَطْعِه أكثر نواحيها. يقال: قد دَجَل الرجلُ - إذا فعل ذلك.
وقيل: سُمِّي دَجَّالاً من دَجَّل الرجل إذا موَّه ولبَّس.
قال أبو عبيدٍ واللَّيْث: أصله - بالعبرانية - مَشِيحَا، فغُيِّر.
قال أبو حيان: «فعلى هذا يكون اسماً مرتجلاً، ليس مُشْتَقاً من المَسْح، ولا من السياحة» .
قال شهاب الدينِ: «قوله: ليس مشتقاً صحيح، ولكن لا يلزم من ذلك أن يكون مُرْتَجَلاً ولا بد، لاحتمال أن يكون في لغتهم مَنْقُولاً من شيء عندهم» .
وعيسى أصله: يسوع، كما قالوا في موسى: أصله موشى، أو ميشا - بالعبرانية.
فيكون من الاشتقاق الأوسط لأنه يُشْتَرط فيه وجود الحروف لا ترتيبها، والأكبر يُشترط فيه أن يكون في الفرع حرفان، والأصغر يُشْتَرط فيه أن يكون في الفرع حروف الأصل مرتَّبَةً.
وعيسى اسم أعجمي، فلذلك لم يَنْصَرف - في معرفة ولا نكرة - لأنَّ فيه ألفَ تأنيث، ويكون مُشْتَقاً من عاسه يعوسه، إذا سَاسَه وقام عليه.
وأتى الضمير مذكَّراً في قوله: «اسْمُهُ» وإن كان عائداً على الكلمة؛ مراعاةً للمعنى؛ إذ المراد بها مذكَّر.
وقيل - في الدَّجّال -: مِسِّيح - بكسر الميم وشد السين، وبعضهم يقوله كذا بالخاء المعجمة، وبعضهم يقوله بفتح الميم والخاء المعجمة - مُخَفَّفاً - والأول هو المشهور؛ لأنه يمسح الأرض - أي: يطوفها - ويدخل جميعَ بلدانِها إلا مكةَ والمدينةَ وبيتَ المقدسِ، فهو فعيل بمعنى فاعل. والدَّجَّال يمسح الأرضَ محنة وابنُ مريمَ يمسحها مِنْحَةً. وإن كان سُمِّي مسيحاً؛ لأنه ممسوح العين فهو فعيل بمعنى مفعول.
قال الشاعر: [الرجز]
1462 - ... ... ... ... ... ... ... . ... إذَا الْمَسِيحُ يَقْتُلُ الْمَسِيحَا
فصل
«ابنُ مريم» يجوز أن يكون صفة ل «عيسَى» قال ابن عطية: وعيسى خبر لمبتدأ محذوف، ويدعو إلى هذا كون قوله: «ابن مريم» صفة لعيسى؛ إذْ قد أجمع الناسُ على كَتْبِهِ دون ألفٍ. وأما على البدل، أو عطف البيان فلا يجوز أن يكون «ابْنُ مَريمَ» صفة ل «عِيسَى» لأن الاسم - هنا - لم يُرَدْ به الشخص. هذه النزعة لأبي علي. وفي صدر الكلام نظرٌ. انتهى.
قال شهابُ الدِّينِ: «فقد حَتَّم كونه صفة؛ لأجل كَتْبهِ بغير ألف، وأما على البدل، أو عطف البيان فلا يكون» ابْنُ مَرْيَمَ «صفة ل» عِيسَى «يعني: بدل عيسى من المسيح، فجعله غير صفة له مع وجود الدليل الذي ذكره، وهو كتبه بغير ألف» .
وقد منع أبو البقاء أن يكون «ابْنُ مَرْيَمَ» بدلاً أو صفة ل «عِيسَى» قال: «لأن» ابْن مَرْيَمَ «ليس بالاسم ألا ترى أنك لا تقول: اسم هذا الرجل ابن عمرو - إلا إذا كان قد عُلِّق عَلَماً عليه» .
قال شهاب الدينِ: «وهذا التعليل الذي ذكره إنما ينهض دليلاً في عدم كونه بدلاً، وأما كونه صفة، فلا يمنع ذلك، بل إذا كان اسماً امتنع كونه صفة؛ إذ يصير في حكم الأعلامِ، وهي لا يُوصف بها، ألا ترى أنك إذا سميت رجلاً ب» ابن عمرو «امتنع أن يقع» ابن عمرو «صفة والحالة هذه» .
قال الزمخشريُّ: «فإن قلتَ: لِمَ قِيلَ: ﴿اسمه المسيح عِيسَى ابن مَرْيَمَ﴾ وهذه ثلاثة أشياء، الاسم عِيسَى، وأما المسيح والابن فلَقَب، وصفة؟
قلت: الاسم للمسمَّى يُعْرَف بها، ويتميَّزُ من غيره، فكأنه قِيلَ: الذي يُعْرَف به ويتميز ممن سواه مجموع هذه الألفاظِ الثلاثةِ» .
فظهر من كلامه أن مجموع الألفاظِ الثلاثة أخبار عن اسمه، بمعنى أنَّ كُلاًّ منها ليس مُستَقِلاً بالخبريَّةِ، بل هو من باب: هذا حُلْوٌ حَامِضٌ [وهذا أعسر يسرا] .
ونظيره قول الشاعر: [الخفيف]
1463 - كَيْفَ أصْبَحْتَ كَيْفَ أمْسَيْتَ مِمَّا ... يَزْرَعُ الوُدَّ فِي فُؤادِ الْكَرِيمِ أي مجموع كيف أصبحت، وكيف أمسيت.
فكما جاز تعدُّد المبتدأ لفظاً - من غير عاطف - والمعنى على الْمَجْمُوعِ، فكذلك في الْخَبَرِ.
وقد أنشدوا عليه أبياتاً كقوله: [الرجز}
1464 - مَنْ يَكُ ذَا بَتٍّ فَهَذَا بَتِّي ... مُقَيِّظٌ، مُصَيِّفٌ، مَشَتِّي
وقد زعم بعضهم أن «المَسِيح» ليس باسم لَقَب له، بل هو صفة كالضّارِبِ والظريف، قال: وعلى هذا ففي الكلام تقديمٌ وتأخِيرٌ؛ إذ «الْمَسِيحُ» صفةٌ ل «عِيسَى» والتقدير: اسمه عيسى المسيح» . وهذا لا يجوز أعني: تقديم الصفة على الموصوف - لكنه يعني: أنه صفة له في الأصل، والعرب إذا قدِّمت ما هو صفة في الأصل جعلوه مبيناً على العامل قَبْلَهُ، وجعلوا الموصوف بدلاً من صفته في الأًل، نحو قوله: [الرجز]
1465 - وَبِالطَّوِيْلِ الْعُمْرِ عُمْراً حَيْدَرَا..... ... ... ... ... ...
الأصل: وبالعمر الطويل، هذا في المعارفِ، وأما في النِّكِرَاتِ، فينصبون الصفةَ حالاً.
وقال أبو حيَّان: «ولا يصح أن يكون» الْمَسِيحُ «- في هذا التَّركيبِ - صفة؛ لأن المُخْبَر به - على هذا لفظ» عِيسَى «والمسيح من صفة المدلول، لا من صفة الدَّالِّ؛ إذ لفظ» عِيسَى «ليس المسيح» .
ومن قال: إنهما اسمانِ، قال: تَقَدَّمَ المسيحُ على عيسى؛ لشهرته.
قال ابن الأنباريّ: وإنما بدأ بلقبه؛ لأن المسيح أشهرُ من عيسى؛ لأنه قَلَّ أن يقع على سَمِيِّ، فيشتبه به، وعيسى قد يقع على عدد كثيرٍ، فقدَّمه لشهرته، ألا ترى أن ألقاب الخلفاء أشهر من أسمائهم، فهذا يدل على أن المسيح عند ابن الأنباري لَقَبٌ، لا اسمٌ.
قال أبو إسحاق: «عيسى معرب من أيسوع، وإن جعلته عربياً لم ينصرفْ في معرفة ولا نكرة؛ لأن فيه ألفَ التأنيثِ، ويكون مشتقاً من عاسه يعوسه: إذا ساسه وقام عليه» .
قال الزمخشريُّ: «ومُشْتَقُّهُمَا - يعني المسيح وعيسَى - من المَسْح والعَيْس كالراقم على الماء» ، وقد تقدم الكلام على عيسى ومريم واشتقاقهما في سورة البقرة.
وقوله: ﴿وَجِيهًا﴾ حال، وكذلك قوله: ﴿وَمِنَ المُقَرَّبِينَ﴾ وقوله: ﴿وَيُكَلِّمُ﴾ وقوله: ﴿مِّنَ الصالحين﴾ هذه أربعة أحوالٍ انتصبت عن قوله: «بِكَلِمَةٍ» . وإنما ذَكَّر الحالَ؛ حملاً على المعنى؛ إذ المعنى المرادُ بها: الولد والمُكَوِّن، كما ذكَّر الضميرَ في «اسْمُهُ» .
فالحال الأولى جِيءَ بها على الأصل - اسماً صريحاً - والباقية في تأويله. والثانيةُ: جار ومجرور، وأتى بِهَا هكذا؛ لوقوعها فاصلةً في الكلام، ولو جِيءَ بها اسماً صريحاً، لفات مناسبة الفواصل. والثالثة جملة فعليَّة، وعطف الفعل على الاسم؛ لتأويلهِ به، وهو كقوله: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطير فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ﴾ [الملك: 19] ، أي: وقَابضات، ومثله في عطفِ الاسمِ على الفعل؛ لأنه في تأويله، قولُ النابغة: [الطويل]
1466 - فَأَلْفَيْتُهُ يَوْماً يُبِيْرُ عَدُوَّهُ ... وَمُجْرٍ عَطَاءً يَسْتَحِقُّ الْمَعَابِرَا
وقال الآخر: [الرجز]
1467 - بَاتَ يُغشِّيها بِغَضَبٍ بَاتِرِ ... يَقْصِدُ في أَسْوُقِهَا وَجَائِرِ
والمعنى: مُبِيراً عدوه، وقاصداً.
وجاء بالثالثة جملة فعلية؛ لأنها في رُتْبتها، إذ الحالُ وَصْفٌ في المعنى، وقد تقدم أنه إذا اجتمعَ صفات مختلفة في الصراحةِ والتأويل قُدِّم الاسمُ، ثمَّ الظرفُ - أو عديلهُ - ثم الجملةُ. فكذا فعل هنا، فقدم الاسم - وهو ﴿وَجِيهًا﴾ - ثم الجار والمجرور، ثم الفعل، وأتى به مضارعاً؛ لدلالته على التجدُّد وقتاً مؤقتاً، بخلاف الوجاهةِ، فإنَّ المرادَ ثبوتها واستقرارها، والاسمُ مُتَكَفِّلٌ بذلِك، والجار قريبٌ من المفرد، فلذلك ثَنَّى به، إذ المقصودُ ثبوتُ تَقْرِيبِهِ.
والتضعيف في «الْمُقَرَّبِينَ» للتعدية، لا للمبالغةِ؛ ملا تقدم من أن التضعِيفَ للمبالغة لا يُكْسِبُ الفعلَ مفعولاً، وهذا قد أكسبه مفعولاً - كما ترى - بخلاف: قَطَّعْتُ الأثوابَ، فإنَّ التعدي حاصل قبل ذلك.
وجيء بالرابعة - بقوله: ﴿مِّنَ الصالحين﴾ مراعاةً للفاصلةِ، كما تقدم في «الْمُقَرَّبِينَ» .
والمعنى: إنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بهذه الكلمةِ موصوفةً بهذه الصفاتِ الجميلةِ.
ومنع أبو البقاء أن تكونَ أحوالاً من «الْمَسِيحِ» أو من «عِيسَى» أو من «ابْن مرْيَمَ» قال: «لأنها أخبارٌ، والعاملُ فيها الابتداءُ، أو المبتدأ، أو هما، وليس شيءٌ من ذلك يعملُ في الحالِ» .
ومنع أيضاً - كونَهَا حالاً من الهاء في «اسْمُهُ» قال: «للفصل الواقعِ بينهما، ولعدمِ العاملِ في الحال» .
قال شهابُ الدينِ: «ومذهبهُ - أيضاً - أنَّ الحالَ لا يجيءُ مِنَ المُضَافِ إليهِ، وهو مرادُهُ بقولِهِ: ولعدم العامل. وجاءت الحالُ من النكرةِ؛ لتخصُّصِها بالصفة بعدها. وظاهرُ كلام الواحديِّ - فيما نقَلهُ عن الفرَّاء - أنَّها يجوز أن تكون أحوالاً من» عِيسَى «فإنَّه قال: والقرَّاء تسمِّي هذا قَطْعاً، كأنه قال: عيسى ابن مريم الوجيه، قطعَ منه التعريف. فظاهرُ هذا يُؤذِنُ بأنَّ ﴿وَجِيهًا﴾ من صفةِ» عِيسَى «في الأصلِ، فقطع عنه، والحالُ وصفٌ في المعنى» .
والوجيه: ذو الجاه، وهو القوةُ، والمنعةُ، والشرفُ.
وجمع «وَجيه» وُجَهاءُ، ووِجَاهٌ، يقال: وَجُهَ الرَّجُلُ يوجه وجاهة، فهو وجيه - إذا صارت له منزلةٌ رفيعةٌ عند الناسِ.
وقال بعضهم: الوجيهُ: الكريمُ.
و «كَهْلاً» من قولهم: اكتهلت الدوحة، إذا عَمَّها النُّوْرُ - والمرأة كهلة.
وقال الراغب: «والكهل: مَنْ وَخَطَه الشَّيْبُ، واكتهل النباتُ: إذا شارف اليُبُوسَةَ مشارفةَ الكهل الشَّيْبَ» .
وأنشد قولَ الأعشى - في وَصْف رَوْضَةٍ بأكمل أحوالها -: [البسيط]
1468 - يُضَاحِكُ الشَّمْسَ مِنْهَا كَوْكَبٌ شَرِقٌ ... مُؤزَّرٌ بِعَمِيمِ النَّبْتِ مُكْتَهِلُ
وقد تقدم الكلام في تنقُّل أحوالِ الولدِ من لدُنْ كونهِ في البطن إلى شيخوخته، عند ذِكْر «غلام» .
وقال بعضهم: «ما دامَ في بطن أمِّه، فهو جنين، فإذا وُلِدَ فوليد، فإذا لم يستتمّ الأسبوع فصديغٌ؛ وما دام يرضع فهو رضيع، ثم هو فَطِيمٌ - عند الفِطَام - وإذا لم يرضع؛ فجَحْوَش، فإذا دبَّ ونما: فدراج، فإذا سقطت رواضِعهُ فثَغور ومثغور، [فإذا نبتت أسنانهُ بعد السقوط بمُتَّغِر - بالتاء والثاء] ، فإذا جاوز العشر: فمترعرع، وناشئ. فإذا رَاهَق الحُلم: فيافع، ومُراهق. فإذا احتلم فحَزَوَّر. والغلام يُطْلَق عليه في جميع أحواله بعد الولادة، فإذا اخضر شارُبه، وسال عذاره: فباقِل، فإذا صار ذا لِحْيَةٍ: ففتًى وشارخ، فإذا اكتملت لحيته؛ فمُجْتَمِع، ثم هو من الثلاثين إلى الأربعين شابّ، ومن الأربعين إلى ستين كهل» ، ولأهل اللغة عبارات مختلفة في ذلك، وهذا أشهرها.
فإن قيل: المستغرب إنما هو كلام الطفل في المَهْد، وأما كلام الكهول فغير مُسْتَغْرَب.
فالجوابُ من وجوهٍ:
أحدها: قالوا: لم يتكلم صبيٌّ في المهد، وعاش، أو لم يتكلمْ أصلاً، بل يبقى أخرس أبداً، فبشَّر اللهُ مريم بأن هذا يتكلم طفلاً، ويعيش حتى يكلم الناس في كهولته، ففيه تَطْمِينٌ لخاطرِها.
وثانيها: قال الزَّمخْشَريُّ وأبو مسلم: «يكلم الناس طفلاً وكهلاً ومعناه يتكلم في هاتين الحالتين كلامَ الأنبياءِ، من غير تفاوت بين حال الطفولة وحال الكهولة» .
وثالثها: يكلم الناسَ مرةً واحدةً في المهدِ؛ لإظهار بَرَاءةِ أمِّه، ثم عند الكُهُولةِ يتكلم بالوحي والنبوة.
ورابعها: قال الأصَمُّ: المراد منه: بيان أنه يبلغ من [الصِّبَا، إلى] الكهولة.
وخامسها: أنّ المرادَ منه الرد على وَفْد نجرانَ في قولهم: إن عيسى كان إلهاً، فإنه منقلب في الأحوال من الصِّبَا إلى الكهولة، والتغيُّر على الإلهِ محال.
فإن قيل: قد نقل أن عُمْر عيسى - لما رُفِع - كان ثلاثاً وثلاثين سنةً وأشْهُراً، وعلى هذا التقدير، فلم يبلغْ سِنَّ الكهولةِ.
فالجوابُ: قد بيَّنَّا أن الكهلَ - في اللُّغةِ - عبارة عن الكامل التام، وأكمل أحوال الإنسان ما بين الثلاثين إلى الأربعين - فصَحَّ وصْفُه بكونه كَهْلاً.
وقال الحُسَيْن بنُ الفَضْل البَجَلِيُّ: «ويكون كهلاً بعد أن ينزل من السماء في آخر الزمان، ويكلم الناسَ، ويقتل الدَّجَّالَ، قال: وفي الآية نص على أنه - عليه السلامُ - سينزل إلى الأرض» .
و «وَجِيهاً» اشتقاقه من الوجه؛ لأنه أشرف الأعضاء. والجاه مقلوب منه، فوزنه «عَفل» .
قوله: ﴿فِي الدنيا﴾ متعلق ب «وَجِيهاً» ؛ لما فيه من معنى الْفِعْلِ، ومعنى كونه ﴿وَجِيهاً فِي الدنيا﴾ بسبب النبوة، و «في الآخرة» بسبب عُلُوِّ المنزلة.
وقوله: ﴿فِي الدنيا﴾ بأنه مُسْتَجَاب الدعاء، ويُحْيي الموتى، ويُبْرِئ الأكمه والأبْرَصَ بدعائه، وفي الآخرة بأنه يشفع في المُحِقِّين من أمته.
وقيل: في الدنيا؛ لأنه مبرأٌ من العيوب التي وَصَفَتْه اليهودُ بها، وفي الآخرة بكثرة ثوابه وعُلُوِّ درجته.
فإن قيل: كيف كان وجيهاً في الدنيا، واليهود عاملوه بما عاملوه؟
والجوابُ: أنه - تعالى - سمَّى موسى - عليه السلامُ - بالوجيه، مع أن اليهودَ طعنوا فيه، وآذَوْهُ إلى أن برأه اللهُ مما قالوا، ولم يقدح ذلك في وجاهته، فكذا هنا.
قوله: ﴿وَمِنَ المُقَرَّبِينَ﴾ قيل «كان هذا مَدْحاً عظيماً للملائكة؛ لأنه ألْحَقَه بمثل مَنْزِلَتِهِمْ، وهو دليل لمن جعل الملائكة أفضل.
وقيل: معناه: سيُرْفَع إلى السماء بمصاحبة الْمَلاَئِكَةِ.
وقيل: ليس كل وجيه في الآخرة يكون مُقَرَّباً؛ لأن أهل الجنة تتفاوت درجاتُهم.
وقوله: ﴿وَيُكَلِّمُ النَّاسَ﴾
الواو للعطف على قوله:» وَجِيهًا» ، والتقدير: وجيهاً ومُكَلَّماً.
قال ابن الخطيب: وهذا عندي ضعيفٌ؛ لأن عطف الجملة الفعلية على الاسمية غير جائز إلا لضرورة [أو لفائدة] ، والأوْلَى أن يُقال: تقدير الآيةِ: إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم، الوجيه في الدنيا والآخرة، المعدود من المقرَّبِينَ، وهذا المجموع جملة واحدة، ثم قال: ﴿وَيُكَلِّمُ النَّاسَ﴾ . فقوله: ﴿وَيُكَلِّمُ النَّاسَ﴾ عطف على قوله: ﴿إِنَّ الله يُبَشِّرُكِ﴾ .
وأجيب بأن هذا خطأ؛ لأنه إن أراد العطف على جملة ﴿إِنَّ الله يُبَشِّرُكِ﴾ فهي جملة اسمية فقد عطف الفعلية على الاسمية، فوقع فيما فَرَّ منه. وإن أراد العطفَ على «يُبَشِّرُكِ» فهو خطأ؛ لأن المعطوف على الخبر خبر - و «يُبَشِّرُكِ» خبر - فيصير التقدير: إن الله يكلم الناسَ في المهدِ، والصواب ما قالوه من كونه حالاً، وأن الجملة الحالية إذا كانت فعلاً فهي مقدرة بالاسم، فجاز العطف.
قوله: ﴿فِي المهد﴾ يجوز فيه وَجْهَان:
أظهرهما: أنه متعلق بمحذوف؛ على أنه حال من الضمير في ﴿وَيُكَلِّمُ﴾ أي: يكلمهم صَغِيراً، و «كَهْلاً» على هذا نسق على هذه الحال المؤوَّلة فعلى هذا تكون خمسة أحوال.
والثاني: أنه ظرف ل «يُكَلِّمُ» كسائر المنفصلات، و «كَهلاً» على هذا نَسَق على «وَجِيهاً» فعلى هذا يكون خَمْسَةَ أحْوَالٍ.
والكهل: هو مَنْ بلغ سِنَّ الكُهُولة، وأولها ثلاثون.
وقيل: اثنان وثلاثون.
وقيل: ثلاث وثلاثون.
وقيل: أربعون. وآخرها: خمسون.
وقيل: ستون. ثم يدخل في سن الشَّيْخُوخَةِ. واشتقاقه من: اكتهل النبات - إذا علا وارتفع - ومنه الكاهل.
وقال صاحبُ المُجْمَلِ: «أكهل الرجل: وَخَطَهُ الشَّيْبُ» .
فصل
كلامه - عليه السلام - في المَهْد هو قوله: ﴿إِنِّي عَبْدُ الله آتَانِيَ الكتاب وَجَعَلَنِي نَبِيّاً وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بالصلاة والزكاة مَا دُمْتُ حَيّاً وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً والسلام عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً﴾ [مريم: 30 - 33] .
وحكي عن مجاهدٍ قال: قالت مريم: كنت إذا خلوتُ أنا وعيسى حدَّثني وحدّثته، فإذا شغلني عنه إنسان كان يُسَبِّحُ في بطني وأنا أسمعُ.
فصل
ذكر القرطبيُّ في تفسيره عن ابن أبي شيبةَ بسنده، قال: «لم يتكلمْ في الْمَهْدِ إلا ثلاثة: عيسى ابن مريم، وصاحب يوسف، وصاحب جُرَيْج» . [وفي صحيح مسلم عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة عيسى ابن مريم، وصاحب جريج وصاحب الجبار» ] .
وقال الضَّحَّاكُ: «تكلم في المهد ستة شاهد يوسف، وصبيّ ماشطة امرأة فرعون، وعيسى، ويحيى، وصاحب جريج» ولم يذكر صاحب الأخدود، فأسقط صاحب الأخدود، وبه يكون المتكلمون سبعةً.
قال القرطبيُّ: «ولا معارضة بين هذا وبين قوله - عليه السلام -:» لَمْ يَتَكَلَّمْ في المَهْدِ إلاَّ ثَلاَثَةٌ» بالحصر - فإنه أخبر بما كان في علمه مما أوحِي إليه في تلك الحالِ، ثم بعد هذا أعلمه اله - تعالى - بما شاء من ذلك، فأخْبَرَ به.
والمهدُ: ما يُهُيَّأُ للصَّبِيِّ أن يربى فيه، من مَهَّدت له المكان - أي: وطَّأته وليَّنته له - وفيه احتمالانِ: أحدهما يُحتمل أن يكون أصله المصدر، فسُمِّي به المكانُ، ويحتمل أن يكون بنفسه اسم مَكان غير مصدر. وقد قرئ: مَهْداً ومِهَاداً في طه كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
قال ابن الخطيب [قوله: وكهلاً يدل على أنه يكلم الناس بعد الكهولة، وذلك بعد أن ينزل من السماء في آخر الزمان.
قال الحسين بن الفضل: في الآية نص على نزوله إلى الأرض وقد] أنكرت النصارَى كلامَ المسيح - عليه السلام - في المَهْد، واحتجوا - على صحة قولهم بأن كلامه من أعْجب الأمور وأغربها، ولا شك أن هذه الواقعةَ لو وقعت لوجب أن يكون وقوعُها في حضور الجَمْع العظيم الذي يحصل القطع واليقين بقولهم؛ لأن تخصيصَ مثل هذا المُعْجِز بالواحد والاثنين لا يجوز، ولو حدثت هذه الواقعة لتوفَّرَت الدواعي على نقلها، فيصير ذلك بالغاً حَد التواتُرِ، يمتنع إخفاؤه. وأيضاً فإن النصارَى بالَغُوا في المسيح، حتى ادَّعَوْا ألوهيته، ومن هذا شأنه في التعصُّب يمتنع أن تخفى مناقِبُه، فلما أنكروه - وهم أحق النّاسِ بإظهاره - علمنا أنه ما كان موجوداً.
وأجاب المتكلمون بأن كلامه - حينئذٍ - إظهار لبراءة أمِّه، والحاضرون قليلون يجوز تواطؤهم على الإخفاء، فنسبهم الناس إلى الكذب، أو خافوا من ذلك الأمر إلى أن أخبر به محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وذلك يدل على معجزته، وصدقه.
قوله: ﴿قَالَتْ رَبِّ أنى يَكُونُ لِي وَلَدٌ﴾ » يكون «يحتمل التمام والنقصان، وتقدم إعراب هذه الجمل في قصة زكريا إلا أنه قال هناك: ﴿يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ﴾ وقال هنا ﴿يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ﴾ قيل: لأن قِصَّتَها أغربُ من قضته؛ ذلك أنه لم يُعْهَد ولد من عذراءَ لم يَمْسَسْها بشرٌ ألبتة، بخلاف الولد بين الشيخ والعجوز، فإنه يستبعد، وقد يُعْهَد بمثله - وإن كان قليلاً - فلذلك أتى ب» يَخْلُقُ «المقتضي للإيجاد والاختراع من غير إحالة على سببٍ ظاهرٍ، وإن كانت الأشياء كلها بخَلقه وإيجاده - وإن كان لها أسبابٌ ظاهرة.
قوله: ﴿وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ﴾
هذه الجملة حَالٌ، والبشر - في الأصل - مصدر كالخَلق، ولذلك يُسَوَّى فيه بين المذكَّر ولمؤنَّث، والمفرد، والمثنى، والجمع، تقول: هذه بَشَرٌ، وهذا بَشَرٌ، وهؤلاء بَشَرَ. كقولك: هؤلاء خَلْق.
قيل: واشتقاقه من البشرة، وهي ظاهر الجلدِ؛ لأنه الذي شأنه أن يظهر الفرح والغم في بشرته، وتقدم اختلاف القرَّاء في ﴿فَيَكُونُ﴾ وما ذُكِر في توجيهه.
فصل
قال المفسّرون: إنما قالت ذلك؛ لأن البشريةَ تقتضي التعجُّبَ مما وقع على خلاف العادة؛ إذْ لم تَجْرِ عادة بأن يُولَدَ وَلَدٌ بلا أبٍ.
فصل
قال القرطبيُّ:» معنى قوله: ﴿قَالَتْ رَبِّ﴾ أي: يا سيدي، تخاطب جبريل - عليه السلامُ - لأنه لما تمثَّل لها، قال لها: ﴿قَالَ إِنَّمَآ أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ لاًّهَبَ لَكِ غُلاَماً زَكِيّاً﴾ [مريم: 19] فلما سمعت ذلك من قوله استفهمت عن طريق الولد، فقالت: ﴿أنى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ﴾ ؟ أي: بنكاح، وذلك: لأن العادة التي أجراها الله في خَلْقه أن الولد لا يكون إلا من نكاح، [أو سفاح] .
وقيل: إنها لم تستبعد من قدرة الله شيئاً، ولكن أرادت: كيف يكون هذا الولد؟ من قِبَلِ زَوْجٍ في المستقبل؟ أم يخْلُقُه الله ابتداءً.
قوله: ﴿إِذَا قضى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ . تقدم الكلام فيه.
قال ابنُ جُرَيْجٍ: نفخ جبريلُ في جيب درعها وكُمِّها، فحملت من ساعتها بعيسى.
وقيل: وقع نفخ جبريل - عليه السلام - في رَحِمِهَا، فعلقت بذلك.
وقال بعضهم: لا يجوز أن يكون الخَلْق من نفخ جبريل؛ لأن الولدَ يكون بعضُه من الملائكة وبعضه من الإنس؛ ولكن سبب ذلك، أن اللهَ تعالى لما خلق آدمَ وأخذ الميثاقَ من ذريته، فجعل بعضَ الماءِ في أصلاب الآباء، وبعضه في أرحام الأمَّهَاتِ، فإذا اجتمع الماءان صارَ ولداً، وإن اللهَ - تعالى - جعل الماءين جميعاً في مريمَ، بعضه في رحمها، وبعضه في صلبها، فنفخ جبريلُ، ليهيجَ شهوتَها، فإن المرأة ما لم تهج شهوتها لم تحبل فلما هاجت شهوتها بنفخ جبريل وقع الماء - الذي كان في صُلْبها - في رَحِمِهَا، فاختلط الماءان، فعلقت بذلك، فذلك قوله تعالى: ﴿إِذَا قضى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ .
قوله: ﴿وَيُعَلِّمُهُ الكتاب﴾ قرأ نافع وعاصم ويعقوب ﴿وَيُعَلِّمُهُ﴾ - بياء الغيبة - والباقون بنون المتكلم المعظم نفسه، وعلى كلتا القراتين ففي محل هذه الجملة أوجهٌ:
أحدها: أنها معطوفة على» يُبَشِّرُكِ «أي: أن الله يبشركِ بكلمةٍ ويعلم ذلك المولود المُعَبَّر عنه بالكلمة.
الثاني: أنها معطوفة على»
يَخْلُقُ «أي: كذلك الله يخلق ما يشاء ويعلمه. وإلى هذين الوجهين، ذهب جماعة منهم الزمخشريُّ وأبو علي الفارسيّ، وهذان الوجهان ظاهران على قراءة الياء، وأما قراءة النون، فلا يظهر هذان الوجهان عليها إلا بتأويل الالتفات من ضمير الغيبة إلى ضمير المتكلم، إيذاناً بالفخامة والتعظيم.
فأما عطفه على»
يُبَشِّرُكِ «فقد استبعده أبو حيَّانَ جِدًّا، قال:» لطول الفصل بين المعطوف، والمعطوف عليه «، وأما عطفه على» يَخْلُقُ «فقال:» هو معطوف عليه سواء كانت - يعني «يَخْلُقُ» خبراً عن الله أم تفسيراص لما قبلها، إذا أعربت لفظ «اللهُ» مبتدأ، وما قبله خبر» .
يعني أنه تقدم في إعراب ﴿كَذَلِكَ الله﴾ في قصة زكريا أوجهٍ:
أحدها ما ذكره - ف «يُعَلِّمُهُ» معطوف على «يخلُقُ» بالاعتبارين [المذكورين] ؛ إذْ لا مَانِعَ من ذلك، وعلى هذا الذي ذكره أبو حيّان وغيره، تكون الجملة الشرطية معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه، والجملة من «نُعَلِّمُهُ» - في الوجهين المتقدمين - مرفوعة المحل، لرفع محل ما عُطِفَتْ عليه.
الثالث: أن يعطف على «يُكَلِّمُ» فيكون منصوباً على الحال، والتقدير: يُبَشِّرُكَ بكلمة مُكَلِّماً ومُعلِّماً الكتاب، وهذا الوجه جوزه ابنُ عَطِيَّةَ وغيره.
الرابع: أن يكون معطوفاً على «وَجِيهاً» ؛ لأنه في تأويل اسم منصوبٍ على الحال، وهذا الوجه جوَّزه الزمخشريُّ.
واستبعد أبو حيّان هذين الوجهين الأخيرين - أعني الثالث والرابع - قال: «الطول الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه، ولا يقع مثلُه في لسان العرب» .
الخامس: أن يكون معطوفاً على الجملة المحكية بالقول: - وهي ﴿كَذَلِكَ الله يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ﴾ .
قال أبو حيّان: «وعلى كلتا القراءتين هي معطوفة على الجملة المقولة؛ وذلك أن الضمير في (قال كذلك) لله - تعالى - والجملة بعده هي المقولة، وسواء كان لفظ (الله) مبتدأ خبره ما قبله، أم مبتدأ، وخبره» يَخْلُقُ «- على ما مر إعرابه في ﴿قَالَ كَذَلِكَ الله يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ﴾ - فيكون هذا من القول لمريم على سبيل الاغتباط، والتبشير بهذا الولد، الذي أوجده اللهُ منها» .
السادس: أن يكون مستأنفاً، لا محلَّ له من الإعراب.
قال الزَّمَخْشريُّ - بعد أن ذكر فيه أنه يجوز أن يكون معطوفاً على «يُبَشِّرُكِ» أو يخلق أو «وَجِيهاً» -: «أو هو كلام مبتدأ» يعني مستأنفاً.
قال أبو حيّان: «فإن عنى أنه استئناف إخبار عن الله، أو من الله - على اختلاف القراءتين - فمن حيث ثبوت الواو لا بد أن يكون معطوفاً على شيء قبله، فلا يكون ابتداء كلام إلا أن يُدَّعَى زيادةُ الواو في وتعلمه، فحينئذٍ يَسِحُّ أن يكون ابتداءَ كلامٍ، وإن عنى أنه ليس معطوفاً على ما ذكر، فكان ينبغي أن يبين ما عطف عليه، وأن يكون الذي عُطِف عليه ابتداء كلام، حتى يكون المعطوف كذلك» .
قال شهاب الدين: «وهذا الاعتراض غير لازم؛ لأنه لا يلزم من جعله كلاماً مستأنفاً أن يُدَّعَى زيادة الواو، ولا أنه لا بد من معطوف عليه؛ لأن النحويين، وأهل البيان نَصُّوا على أن الواوَ تكون للاستئناف، بدليل أن الشعراء يأتُون بها في أوائل اشعارهم، من غير تقدُّم شيءٍ يكون ما بعدَها معطوفاً عليه، والأشعار مشحونة بذلك، ويُسمونها واوَ الاستئناف، ومَن منع ذلك قدَّر أنّ الشاعرَ عطف كلامه على شيء منويٍّ في نفسه، ولكن الأول أشهر القولين» .
وقال الطبريُّ: قراءة الياء عطف على قوله: ﴿يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ﴾ ، وقراءة النون، عطف على قوله: ﴿نُوحِيهِ إلَيْكَ﴾ .
قال ابن عطيةَ: «وهذا الذي قاله في الوجهين مفسد للمعنى» . ولم يبين أبو محمد وجه إفساد المعنى.
قال أبو حيّان: «أما قراءةُ النون، فظاهر فساد عطفه عفى» نُوحِيهِ «من حيث اللفظ ومن حيث المعنى، أما من حيث اللفظ فمثله لا يقع في لسان الْعَرَبِ؛ لبُعْدِ الفَصْل المُفْرِط، وتعقيد التركيب وتنافي الكلامِ، وأما من حيث المعنى فإنَّ المعطوف بالواو شريك المعطوف عليه في المعنى، فيصير المعنى بقوله: ﴿ذلك مِنْ أَنَبَآءِ الغيب﴾ ، أي: إخبارك يا محمد بقصة امرأة عمرانَ وولادتها لمريم، وَكَفَالَةِ زكريا، وقصته في ولادة يحيى، وتبشير الملائكة لمريمَ بالاصطفاء والتطهير كل ذلك من أخبار الغيب - نعلمه، أي: نعلم عيسى الكتاب، فهذا كلام لا ينتظم [معناه] مع معنى ما قبله.
أما قراءة الياء وعطف» وَيُعَلِّمُهُ «على» يَخْلُقُ «فليست مُفْسِدَةً للمعنى، بل هو أوْلَى وأصَحّ ما يحمل عطف» وَيُعَلِّمُهُ «لقُرب لفظه وصحة معناه - وقد ذكرنا جوازَه قبل - ويكون الله أخبر مريم بأنه - تعالى - يخلق الأشياءَ الغريبةَ التي لم تَجْرِ العادة بِمثلِهَا، مثلما خلق لك ولداً من غير أبٍ، وأنه - تعالى - يُعَلِّمُ هذا الولَد الذي يخلقه لك ما لم يُعَلِّمْه مَنْ قَبْلَه من الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل، فيكون في هذا الإخبار أعظم تبشيرٍ لها بهذا الولد، وإظهار بركته، وأنه ليس مشبهاً أولاد الناس - من بني إسرائيل - بل هو مخالف لهم في أصل النشأة، وفيما يعلمه - تعالى - من العلم، وهذا يظهر لي أنه أحسن ما يحمل عليه عطف وَيُعَلِّمُهُ» اه.
قال أبو البقاء: «يُقْرَأ - نعلمه - بالنون، حملاً على قوله: ﴿ذلك مِنْ أَنَبَآءِ الغيب نُوحِيهِ إِلَيْكَ﴾ ويقرأ بالياء؛ حملاً على» يُبَشِّرُكِ «وموضعه حال معطوفة على» وَجِيهاً» .
قال أبو حيّان: وقال بعضهم: «وَنُعَلِّمُهُ» - بالنون - حملاً على «نُوحِيهِ» - إن عني بالحمل العطف فلا شيء أبعد من هذا التقدير، وإن عني بالحمل أنه من باب الالتفات فهو صحيح» .
قال شهاب الدين: «يتعين أن يعني بقوله: حَمْلاً؛ الالتفات ليس إلا، ولا يجوز أن يعني به العطف لقوله: وموضعه حال معطوفة على» وَجِيهاً «وكيف يستقيم أن يُرِيدَ عطفه على» يُبَشِّرُكِ «أو على توجيهه مع حكمه عليه بأنه معطوف على» وَجِيهاً «؟ هذا ما لا يستقيم أبداً» . * فصل في المراد ب «الكتاب»
المرادُ من «الكِتَاب» : تعليم الخط والكتابة، ومن «الْحِكْمَة» تعليم العلوم، وتهذيب الأخلاق: ﴿والتوراة والإنجيل﴾ كتابان إلهيان، وذلك هو الغاية العُلْيا في العلم؛ لأنه يحيط بالأسرار العقلية والشرعية، ويطَّلع على الحِكَم العُلْوِيَّةِ والسُّفْلِيَّةِ.
قوله: ﴿وَرَسُولاً﴾ فيه وجهان:
أحدهما: أن صفة - بمعنى مُرْسَل - على «فَعُول» كالصَّبور والشَّكُور.
والثاني: أنه - في الأصل - مصدر، ومن مَجِيء «رسول» مصدراً قوله: [الطويل]
1469 - لَقَدْ كَذَبَ الْوَاشُونَ مَا بُحتُ عِنْدَهُمْ ... يِسِرِّ وَلاَ أرْسَلْتُهُمْ بِرَسُولِ
وقال آخر: [الوافر]
1470 - ألاَ أبْلِغْ أبَا عَمْرٍو رَسُولاً ... بِأنِّي عَنْ فُتَاحَتِكُمْ غَنِيُّ
أي أبلغه رسالة.
ومنه قوله تعالى: «إنَّا رسُولُ رَبِّ العالمين» - على أحد التأويلين - أي: إنا ذوا رسالةِ ربِّ العالمينَ. وعلى الوجهين يترتب الكلامُ في إعراب «رَسُولاً» ، فعلى الأول يكون في نصبه ستة أوجهٍ:
أحدها: أن يكون معطوفاً على «يُعَلِّمُهُ» - إذا أعربناه حالاً معطوفاً على «وَجِيهاً» - إذ التقدير وجيهاً ومُعَلَّماً ومُرْسَلاً.
قاله الزمخشريُّ وابنُ عطيةَ.
وقال أبو حيّان: «وقد بيَّنا ضَعْفَ إعرابِ مَنْ يقول: إن» وَيُعَلِّمُهُ «معطوف على» وَجِيهاً» ؛ للفصل المُفْرِط بين المتعاطفَيْن [وهو مبني على إعراب «ويعلمه» ] » .
الثاني: أن يكون نَسَقاً على «كَهْلاً» الذي هو حال من الضمير المستتر في «وَيُكَلِّمُ» ، أي: يكلم الناسَ طفلاً وكهلاً ومُرْسَلاً إلى بني إسرائيلَ، وقد جَوَّز ذلك ابنُ عطيةَ، واستبعده أبو حيّان؛ لطول الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه.
قال شهاب الدين: «ويظهر أن ذلك لا يجوز - من حيث المعنى - إذْ يصير التقدير: يكلم الناس في حال كونه رسولاً إليهم وهو إنما صار رسولاً بعد ذلك بأزمنةٍ» .
فإن قيل: هي حَالٌ مُقَدَّرة، كقولهم: مررت برجلٍ معه صقرٌ صائداً به غداً، وقوله: ﴿فادخلوها خَالِدِينَ﴾ [الزمر: 73] .
وقيل: الأصل في الحال أن تكون مقارنة، ولا تكون مقدّرة إلا حيث لا لَبْسَ.
الثالث: أن يكون منصوباً بفعل مُضْمَرٍ لائقٍ بالمعنى، تقديره: ويجعله رسولاً، لما رأوه لا يصح عطفه على مفاعيل التعليم أضمروا له عاملاً يناسب. وهذا كما قالوا في قوله: ﴿والذين تَبَوَّءُوا الدار والإيمان﴾ [الحشر: 9] وقوله: [مجزوء الكامل]
1471 - يَا لَيْتَ زَوْجَكِ قَدْ غَدَا ... مُتَقَلِّداً سيْفاً وَرُمْحَا
وقول الآخر: [الكامل]
1472 - فَعَلَفتُهَا تبْناً وَمَاءً بَارِداً..... ... ... ... ... ... ... ... .
وقول الآخر: [الوافر]
1473 - ... ... ... ... ... ... ... ... . ... وَزَجَّجْنَ الْحَوَاجِبَ وَالْعُيُونَا
أي: واعتقدوا الإيمانَ، وحاملاً رُمْحاً، وسيقتها ماءً بارداً، وكحَّلْنَ العيون.
وهذا على أحد التأويلين في هذه الأمثلة.
الرابع: أن يكون منصوباً بإضمار فعل من لفظ «رسول» ويكون ذلك الفعل معمولاً لقول مُضْمَرٍ - أيضاً - هو من قول عيسى.
الخامس: أن الرسول - فيه بمعنى النطق، فكأنه قيل: وناطقاً بأني قد جئتكم، ويوضِّحُ هذين الوجهين الأخيرين، ما قاله الزمخشريُّ: «فإن قلت: عَلاَم تَحْمِل» وَرَسُولاً «و» مُصَدِّقاً» من المنصوبات المتقدمة، وقوله: ﴿أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ﴾ و ﴿لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ يأبى حَمله عليها؟
قلت: هو من المضايق، وفيه وجهان:
أحدهما: أن يُضمر له «وأرسَلْت» - على إرادة القول - تقديره: ويعلمه الكتاب والحكمة، ويقول: أرسلت رسولاً بأني قد جئتكم، ومصدقاً لما بين يديَّ.
الثاني: أن الرسول والمصدِّق فيهما معنى النطق، فكأنه قيل: وناطقاً بأني قد جئتكم، ومصدقاً لما بين يدي» . اه.
إنما احتاج إلى إضمار ذلك كُلِّه تصحيحاً للمعنى واللفظ، وذلك أن ما قبله من المنصوبات، لا يصح عطفه عليه في الظاهر؛ لأن الضمائر المتقدمة غُيَّب، والضميرانِ المصاحبانِ لهذين المنصوبين في حُكْم المتكلم؛ فاحتاج إلى ذلك التقدير؛ ليناسب الضمائر.
وقال أبو حيان: «وهذا الوجه ضعيف؛ إذْ فيه إضمارُ الْقَوْلِ ومعموله - الذي هو أرسلت - والاستغناء عنهما باسمِ منصوبٍ على الحال المؤكِّدة، إذْ يُفْهَم من قوله: وأرسلت، أنه رسول، فهي - على هذا - حال مؤكِّدة» .
واختار أبو حيّان الوجه الثالث، قال: «إذْ ليس فيه إلا إضمار فعل يدل عليه المعنى - ويكون قوله: ﴿أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ﴾ معمولاً ل» رَسُولاً «أي: ناطقاً بأني قد جئتكم، على قراءة الجمهور» .
الثالث: أن يكون حالاً من مفعول «وَيًعَلِّمُهُ» وذلك على زيادة الواو - كأنه قيل: ويعلمه الكتاب، حال كونه رسولاً. قاله الأخفشُ، وهذا على أصل مذهبه من تجويزه زيادة الواو، وهو مذهب مَرْجُوحٌ.
وعلى الثاني وهو كون «الرسول» مصدراً كالرسالة في نصبه وجهان:
أحدهما: أنه مفعول به - عطفاً على المفعول الثاني لِ «يُعَلِّمُهُ» - أي: ويعلمه الكتاب والرسالة معاً، أي: يعلمه الرسالة أيضاً.
الثاني: أنه مصدر في موضع الحال، وفيه التأويلات المشهورة في: رَجُلٌ عَدْل.
وقرأ اليزيديُّ «وَرَسُولٍ» بالجر - وخرجها الزمخشريُّ على أنها منسوقة على قوله: «بِكَلِمَةٍ» أي: يبشرك بكلمة وبرسول.
وفيه بُعْدٌ لكثرة الفصل بين المتعاطفين، ولكن لا يظهر لهذه القراءة الشاذة غير هذا التخريج.
قوله: ﴿إلى بني إِسْرَائِيلَ﴾ فيه وَجْهَانِ:
أحدهما: أن يتعلق بنفس «رسول» إذْ فعله يتعدى ب «إِلَى» .
والثاني: أن يتعلق بمحذوفٍ على أنه صفة ل «رَسُولاً» فيكون منصوبَ المحلِّ في قراءة الجمهور، مجرورة في قراءة اليزيديِّ.
فصل
هذه الآية تدل على أنه - عليه السلامُ - كان رسولاً إلى كل بني إسرائيل، وقال بعض اليهودِ: إنه كان مبعوثاً إلى قوم مخصوصين.
قيل: إنما كان رسولاً بعد البلوغ، وكان أول أنبياء بني إسرائيل يوسف وآخرهم عيسى - عليهما السلام - وقال القرطبيُّ: وفي حديث أبي ذر الطويل: « ... وَأولُ أنْبِيَاءِ بَنِي إسْرَائِيلَ مُوْسَى، وآخرهُم عِيسَى» .
قوله: ﴿أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ﴾ قرأ العامَّةُ «أنِّي» بفتح الهمزة، وفيه ثلاثة أوجهٍ:
أحدها: أن موضعها جر - بعد إسقاط الخافض -، إذ الأصل: بأني، فيكون «بأنَّي» متعلِّقاً ب «رَسُولاً» وهذا مذهب الخليلِ والكسائي.
والثاني: أن موضعها نصب، وفيه ثلاثة أوجهٍ:
الأول: أنه نصب بعد إسقاط الخافض - وهو الباء - وهذا مذهبُ التلميذين: سيبويه والفرّاء.
الثاني: أنه منصوب بفعل مقدَّر، أي: يذكر، فيذكر صفة ل «رَسُولاً» حُذِفَت الصفة، وبقي معمولُها.
الثالث: أنه منصوب على البدل من «رَسُولاً» ، أي: إذا جعلته مصدراً مفعولاً به، تقديره: ويسلمه الكتاب ويعلمه أني قد جئتكم.
وقرأ بعضهم بكسر الهمزة، وفيها تأويلان:
أحدهما: أنها على إضمار القول، أي قائلاً: إني قد جئتكم، فحُذِفَ القولُ - الذي هو حالٌ في المعنى، وأبقي معموله.
والثاني: أن «رَسُولاً» بمعنى ناطق، فهو مُضَمَّن معنى القول، وما ك ان مُضَمَّناً معنى القول أعْطِيَ حكم القول. وهذا مذهب الكوفيين.
قوله: ﴿بِآيَةٍ﴾ يحتمل أن يكون متعلقاص بمحذوفٍ، على أنه حال من فاعل «جِئْتُكمُ» ، أي: جئتكم [ملتبساً بآية] . والثاني: أن يكون متعلقاً بنفس المجيء، أي: جاءتكم الآية. . والآية: العلامة.
فإن قيل: لم قال «بِآيَةٍ» وقد أتى بآياتٍ؟
فالجوابُ: أن المراد بالآية: الجنس.
وقيل: لأن الكل دل على شيء واحدٍ، وهو صدقه في الرسالة.
قوله: ﴿مِّن رَّبِّكُمْ﴾ صفة ل «آيَةٍ» فيتعلق بمحذوف، أي: بآية من عند ربكم، ف «مِنْ» للابتداء مجازاً، ويجوز أن يتعلق ﴿مِّن رَّبِّكُمْ﴾ بنفس المجيء - أيضاً.
وقدر أبو البقاء الحال - في قوله: «بِآيَةٍ» - بقوله: «محتجاً بآيةٍ، إن عنى من جهة المعنى صح، وإن عنى من جهة الصناعة لم يَصِحّ؛ إذْ لم يُضْمَرْ في هذه الأماكن، إلا الأكوان المُطْلَقَة» .
وقرأ الجمهور «بِآيةٍ» - بالإفراد - في الموضعين، وابن مسعود -: بآياتٍ - جمعاً - في الموضعين.
قوله: ﴿أني أَخْلُقُ﴾ قرأ نافع بكسر الهمزة، والباقون بفتحها، فالكسر من ثلاثة أوجهٍ:
أحدها: على إضمار القول، أي: فقلت: إني أخلق.
الثاني: أنه على الاستئناف.
والثالث: على التفسير، فسر بهذه الجملة قوله: «بِآيَةْ» ، كأن قائلاً قال: وما الآية؟ فقال هذا الكلام.
ونظيره قوله: ﴿إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ آدَمَ﴾ [آل عمران: 59] ثم قال: ﴿خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ﴾ [آل عمران: 59] ف «خَلَقَهُ» مفسرة للمثل؛ ونظيره - أيضاً قوله: ﴿وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات﴾ [المائدة: 9] ثم فسر الوعد ﴿لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ [المائدة: 9] . وهذا الوجه هو الصائر إلى الاستئناف؛ فإن المستأنَفَ يؤتى به تفسيراً به لمجرد الإخبار بما تضمنه، وفي الوجه الثالث نقول: إنه متعلِّق بما تقدمه، مفسِّر له.
وأما قراءة الجماعة ففيها أرْبَعَةُ أوْجُهٍ:
أحدها: أنها بدل من ﴿أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ﴾ فيجيء، فيها ما تقدم في تلك؛ لأن حكمها حكمها.
الثاني: أنها بدل من «بِآيَةٍ» فيكون محلُّها الجَرّ، أي: وجئتكم بأني أخلق لكم، وهذا نفسه آية من الآيات.
وهذا البدلُ يحتمل أن يكون كُلاًّ من كُلٍّ - إن أريد بالآية شيء خاصٌّ - وأن يكون بدل بعض من كل إن أريد بالآية الجنس.
الثالث: أنها خبر مبتدأ مُضْمَر، تقديره: هي أني أخلق، أي: الآية التي جئت بها أني أخلق وهذه الجملة - في الحقيقة - جوابٌ لسؤال مقدر، كأن قائلاً قال: وما الآية؟ فقال ذلك.
الرابع: أن تكون منصوبةً بإضمار فعل، وهو - أيضاً - جواب لذلك السؤال، كأنه قال: أعني أني أخلُقُ.
وهذان الوجهان يلاقيان - في المعنى - قراءة نافع - على بعض الوجوه - فإنهما استئناف.
قوله: ﴿أَخْلُقُ لَكُم﴾ [البقرة: 21] أن الخلق هو التقدير، ويدل عليه وُجُوهٌ:
أحدها: قوله: ﴿فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين﴾ [المؤمنون: 14] أي: المقدِّرين، وقد ثبت أن العبد لا يكون خالقاً بمعنى التكوين والإبداع، فوجب أن يكون بالتقدير والتسوية.
وثانيها: أن لفظ الخلق: يطلق على الكذب، قال تعالى: ﴿إِنْ هذا إِلاَّ خُلُقُ الأولين﴾ [الشعراء: 137] وقال: ﴿وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا﴾ [العنكبوت: 17] وقال: ﴿إِنْ هذا إِلاَّ اختلاق﴾ [ص: 7] . والكاذب إنما سُمِّي خالقاً، لأنه يقدِّر الكذب في خاطره ويُصَوره.
وثالثها: هذه الآية.
ورابعها: قوله تعالى: ﴿خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي الأرض﴾ [البقرة: 29] إشارة إلى الماضي، فلو حملنا قوله: «خلق» على الإيجاد والإبداع لكان المعنى: أن كل ما في الأرض الآن فهو - تعالى - كان قد أوجده في الزمان الماضي، وذلك بَاطِلٌ، فوجب حَمْل الخلق على التقدير - حتى يَصِحّ الكلام - وهو أنه - تعالى - قدَّر في الماضي كلَّ ما وُجِدَ الآن في الأرض.
وخامسها: قول الشاعر: [الكامل]
1474 - وَلأنْتَ تَفْرِي مَا خَلَقْتَ ... وَبَعْضُ الْقَوْمِ يَخْلُقُ ثُمَّ لاَ يَفْرِي
وقال الآخر: [البسيط] 1475 - وَلاَ يَئِطُّ بِأيْدِي الْخَالِقِينَ وَلاَ ... أيْدِي الْخَوَالِقِ إلاَّ جَيِّدُ الأدَمِ
وسادسها: أنه يقال: خلق الفعل إذا قدرها وسواها بالمقياس، والخَلاَق: المقدار من الخير، وفلان خليق بكذا، أي: له هذا المقدار من الاستحقاق، والصخرة الخَلْقاء: الملساء؛ لأن الملاسة استواء وفي الخشونة اختلاف، فثبت أن الخلق عبارةٌ عن التقدير والتسوية.
وقال أبو عبد الله البصريُّ: لا يجوز إطلاق «الخالق» على الله - تعالى - في الحقيقة؛ لأن التقدير والتسوية عبارة عن الظن والتخيُّل، وذلك على الله تعالى مُحَالٌ.
وأجيب بقوله تعالى: ﴿هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ الله﴾ [فاطر: 3] والتقدير والتسوية عبارة عن العلم والظن، لكن الظن كان محالاً في حق الله تعالى فالْعِلْمُ ثابتٌ.
إذا عرفت هذا فقوله: ﴿أني أَخْلُقُ﴾ معناه: أقَدِّر وأصَوِّر.
قوله: ﴿لَكُمْ﴾ متعلق ب «أخلُقُ» واللام للعلة، أي: لأجلكم - بمعنى لتحصيل إيمانكم، ودَفْع تكذيبكم إياي - وإلا فالذوات لا تكون عِلَلاً، بل أحداثها. و ﴿مِّنَ الطين﴾ متعلق به - أيضاً - و «مِنْ» لابتداء الغاية، وقول من قال: إنها للبيان تساهل؛ إذ لم يَسْبِق مُبْهَم تبينه.
قوله: ﴿كَهَيْئَةِ﴾ في موضع هذه الكاف ثلاثة أوجهٍ:
أحدها: أنها نَعْت لمفعولٍ محذوفٍ، تقديره: أني أخلق لكم هيئة مثلَ هيئة الطير. والهيئة إما أن تكونَ في الأصل مصدراً، ثم أطلِقَت على المفعول - أي: المُهَيَّأ - كالخلق بمعنى: المخلوق، وإما أن تكون اسماً لحال الشيء وليست مصدراً، والمصدر: التَّهْيِيء - والتَّهَيُّؤ - والتَّهْيِئَة.
ويقال: هاء الشيء يَهِيءُ هَيْئاً وهَيْئَةً - إذا ترتب واستقر على حال مخصوص - ويتعدى بالتضعيف، قال تعالى: ﴿وَيُهَيِّىءْ لَكُمْ مِّنْ أَمْرِكُمْ مِّرْفَقاً﴾ [الكهف: 16] ، والطين معروف، يقال: طَانَهُ الله على كذا وطَلَمَهُ - بإبدال النون ميماً - أي: جبله عليه، والنفخ مَعْرُوفٌ.
الثاني: أن الكاف مفعول به؛ لأنها اسم كسائر الأسماء - وهذا رأي الأخْفَشِ، حيث يجعل الكاف اسماً حيث وقعت وغيره من النحاة لا يقول بذلك إلا إذا اضطر إليه - كوقوعها مجرورة بحرف جر، أو إضافة، أو وقوعها فاعلةً أو مبتدأ. وقد تقدم ذلك.
الثالث: أنها نعت لمصدر محذوف، قاله الواحديُّ نقلاً عن أبي عليٍّ بعد كلامٍ طويلٍ: «ويكون الكاف موضع نصب على أنه صفة للمصدر المراد، تقديره: أنِّي أخلق لكم من الطّينِ خلقاً مثل هيئة الطَّيْرِ» .
وفيما قاله نظرٌ من حيث المعنى؛ لأن التحدِّي إنما يقع في أثر الخلق - وهو ما ينشأ عنه من المخلوقات - لا في نفس الخلق، اللهم إلا أن نقول: المراد بهذا المصدر المفعول به فيئول إلى ما تقدم.
قال الزمخشري: أي أقدِّر لكم شيئاً مثل هيئة الطّيرِ. وهذا تصريح منه بأنها صفة لمفعول محذوف وقوله: «أقدر» تفسير للخلق؛ لأن الخلق هنا - التقدير - كما تقدم - وليس المراد الاختراع، فإنه مختص بالباري - تعالى -.
وقرأ الزهريُّ: «كَهَيْئَةِ» - بنقل حركة الهمزة إلى الياء.
وقرأ أبو جعفر: «كَهَيْئَةِ الطَّائِرِ» .
قوله: ﴿فَأَنْفُخُ فِيهِ﴾ في هذا الضمير ستة أوجُهٍ:
أحدها: أنه عائد على الكاف؛ لأنها اسم - عند مَنْ يرى ذلك - أي: فأنفخ في مثل هيئة الطير.
الثاني: أنه عائد على «هَيْئَةِ» ، لأنها في معنى الشيء المُهَيَّأ، فلذلك عاد الضميرُ عليها مذكَّراً وإن كانت مؤنثةً - اعتباراً بمعناها دون لفظها، ونظيره قوله تعالى: ﴿وَإِذَا حَضَرَ القسمة﴾ [النساء: 8] ثم قال ﴿فارزقوهم مِّنْهُ﴾ [النساء: 8] فأعاد الضمير في ﴿مِنْهَا﴾ على ﴿القِسْمَةَ﴾ لما كانت بمعنى المقسوم.
الثالث: أنه عائد على ذلك المفعول المحذوف، أي: فأنفخ في ذلك الشيء المماثل لهيئة الطير.
الرابع: أنه عائد على ما وقعت عليه الدلالة في اللفظ. وهو أني أخلق. ويكون الخلق بمنزلة المخلوق.
الخامس: أنه عائد على ما دَلَّت عليه الكاف من معنى المثل؛ لأن المعنى: أخلق من الطِّينِ مثلَ هيئة الطَّير وتكون الكاف في موضع نصب على أنه صفة للمصدر المراد تقديره: أني أخلق لكم خلقاً مثل هيئة الطير. قاله الفارسي؛ وقد تقدم الكلام معه في ذلك.
السادس: أنه عائد على الطين، قاله أبو البقاء، وأفسده الواحديُّ، قال: «ولا يجوز أن تعود الكناية على» الطِّينِ «لأن النفخ إنما يكون في طين مخصوص وهو ما كان مهيَّئاً منه - والطين المتقدم ذكرُه عام فلا تعود إليه الكناية، ألا ترى أنه لا ينفخ في جميع الطين» .
وفي هذا الرَّد نَظَر؛ إذ لقائلٍ أن يقول: لا نُسَلِّم عمومَ الطين المتقدم، بل المراد بعضه. ولذلك أدخل عليه «مِنْ» التي تقتضي التبعيض، فإذا صار المعنى: أني أخلق بعض الطين، عاد الضَّمِيرُ عليه من غير إشكال، ولكنَّ الواحدي جعل «مِنْ» في الطين لابتداء الغاية، وهو الظَّاهِرُ.
قال أبو حيّان: «وقرأ بعض القُرَّاء» فأنْفَخَهَا «. أعَاد الضمير على الهيئة المحذوفة؛ إذ يكون التقدير: هيئة كهيئة الطير، أو على الكاف - على المعنى - إذ هي بمعنى مماثلة هيئة الطير، فيكون التأنيث هنا كما هو في آية المائدة: ﴿فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً﴾ [المائدة: 110] ويكون في هذه القراءة قد حذف حرف الجر، كما حذف في قوله: [البسيط]
1476 - مَا شُقَّ جَيْبٌ وَلاَ قَمَتْكَ نَائِحَةٌ ... وَلاَ بَكَتْكَ جِيَادٌ عِنْدَ أسْلاَبِ
وقول النابغة: [البسيط]
1477 - ... ... ... ... ... ..... كَالْهِبْرَقِيِّ تَنَحَّى يَنْفُخُ الْفَحْما
يريد ولا قامت عليك، وينفخ في الفَحْمِ. وهي قراءة شائة، نقلها الفرَّاء» .
قال شهابُ الدين: «وعجبت منه، كيف لم يَعْزُها، وقد عزاها صاحبُ الكشَّاف إلى عبد الله، قال: وقرأ:» أعبدُ الله «فأنفخها» .
قوله: ﴿فَيَكُونُ﴾ في «يكون» وجهان:
أحدهما: أنها تامة، أي: فيوجد، ويكون «طيراً» - على هذا - حالاً.
والثاني: أنها ناقصة، و «طَيْراً» - على هذا - حالاً.
والثاني: أنها ناقصة، و «طيراً» خبرها. وهذا هو الذي ينبغي أن يكون؛ لأن في وقوع اسم الجنس حالاً لا حاجة إلى تأويل، وإنما يظهر ذلك على قراءة نَافعٍ «طَائِراً» ؛ لأنه - حينئذٍ - اسم مشتق.
وإذا قيل بنقصانها، فيجوز أن تكون على بابها، ويجوز أن تكون بمعنى «صار» الناقصة، كقوله: [الطويل]
1478 - بِتَيْهَاءَ قَفْرٍ وَالْمَطِيُّ كَاَنَّهَا ... قَطَا الْحَزْنِ قَدْ كَانَتْ فِرَاخاً بُيُوضُهَا
أي صارت.
وقال أبو البقاء: «فيكون - أي فيصير - فيجوز أن يكون» كان «هنا - التامة؛ لأن معناها» صار «بمعنى: انتقل، ويجوز أن تكون الناقصة، و» طَائِراً «- على الأول - حالٌ، وعلى الثاني - خَبَرٌ» .
قال شِهَابُ الدِّينِ: «ولا حاجة إلى جعله إياها - في حال تمامها - بمعنى» صار «التامة التي معناها معنى» انتقل «بل النحويون إنما يقدرون التامة بمعنى حدث، ووجد، وحصل، وشبهها وإذا جعلوها بمعنى» صار «فإنما يعنون» صار «الناقصة» .
وقرأ نافع ويَعْقُوبُ فيكون طائِراً - هنا وفي المائدة - والباقون «طَيْراً» في الموضعين.
فأما قراءة نافع فوجَّهَهَا بعضُهم بأنَّ المعنى على التوحيد، والتقدير: فيكون ما أنفخ فيه طائراً ولا يعترض عليه بأن الرسمَ الكريمَ إنما هو «طَيْراً» - دون ألف - لأن الرسم يُجوِّز حذف مثل هذه الألف تخفيفاً ويدل على ذلك أنه رسم قوله تعالى: ﴿وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ﴾ [الأنعام: 38] ولا طير - دون ألف - ولم يقرأه أحد «طائر» - بالألف - فالرسم محمل، لا مُنَافٍ.
قال بعضهم كالشارح لما تقدم -: ذهب نافع إلى نوع واحد من الطير؛ لأنه لم يخلق غير الخفّاشِ، وزعم آخرون أن معنى قراءته: يكون كل واحد مما أنفخ فيه طائراً، قال: كقوله تعالى: ﴿فاجلدوهم ثَمَانِينَ جَلْدَةً﴾ [النور: 4] أي اجلدوا كل واحد منهم وهو كثير من كلامهم.
وأما قراءة الباقين فمعناها يحتمل أن يُرَاد به اسم الجنس - أي: جنس الطير - ويُحْتَمل أن يُرَاد به الواحد فما فوقه، ويحتمل أن يراد به الجمع، ولا سيما عند من يرى أن طيراً صيغة جمع نحو رَكْب وصَحْب وتَجْر؛ جمع راكب وصاحب وتاجر - وهو الأخفشُ - وأما عند سيبويه فهي عنده أسماء جموع، لا جموع صريحة وتقدم الكلام على ذلك في البقرة. وحسن قراءة الجماعة لموافقتها لما قبلها - في قوله: ﴿مِّنَ الطير﴾ - ولموافقة الرسم لفظاً ومعنى.
قوله: ﴿بِإِذْنِ الله﴾ يجوز أن يتعلق ب «طَيْراً» - على قراءة نَافِعٍ، وأما على قراءة غيره فلا يتعلق به؛ لأن «طَيْراً» اسم جِنْسٍ، فيتعلق بمحذوف على أن صفة لِ «طَيْراً» أي: طيراً ملتبساً بإذن الله - بتمكينه وإقداره.
قال أبو البقاء: متعلق ب «يكون» . وهذا إنما يظهر إذا جعل «كان» تامة، وأما إذا جعلها ناقصة ففي تعلُّق الظرف بها الخلاف المشهور.
فصل
روي أن عيسى - عليه السلام - لما ادَّعَى النبوةَ، وأظهر المعجزات، طالبوه بخَلْق خفاش فأخذ طيناً، فصوَّره، فنفخ فيه، فإذا هو يطير بين السماء والأرض.
قال وَهْبٌ: كان يطير ما دام الناسُ ينظرون إليه، فإذا غاب عن أعينهم سقط ميِّتاً، ليتميز فعلُ الخلْق من فعل الخالق.
قيل: خلق الخُفَّاش، لأنه أكمل الطير خَلْقاً، وأبلغ في القدرة؛ لأن لها ثَدْياً وأسْنَاناً وأذناً، وهي تحيض وتطهر وتَلِد.
وقيل: إنما طالبوه بخلق خُفَّاش؛ لأنه أعجب من سائر الخلق، ومن عجائبه أنه لحم ودم، يطير بغير ريش ويلد كما يَلِد الحيوان، ولا يبيض كما يبيض سائر الطُّيور، ويكون له الضرع يخرج منه اللبن، ولا يُبصر في ضوء النهار، ولا في ظلمة الليل، وإنما يرى في ساعتين: بعد غروب الشمس سَاعةً، وبعد طلوع الفجر سَاعةً - قبل أن يُسْفِر جِدًّا - ويضحك كما يضحك الإنسان، ويحيض كما تحيض المرأة. قال قوم إنه لم يخلق غير الخفاش. وقال آخرون: إنه خلق أنواعاً من الطّيْرِ.
فصل
قال بعض المتكلمين: دلت الآيةُ على أن الروح جسم رقيقٌ، كأنه الريح؛ لأنه وصفها بالنفخ، ثم هاهنا بحث، وهو أنه هل يجوز أن يقال: إنه - تعالى - أودع في نفس عيسى - عليه السلام - خاصية، بحيث إذا نفخ في شيء كانت نفخته فيه موجبة لصيرورة ذلك الشيء حَيًّا؟
ويقال: إن الله - تعالى - كان يخلق الحياة في ذلك الجسم بصورته، عند نفخ عيسى على سبيل إظهار المعجزات، وهذا الثاني هو الحق؛ لقوله تعالى: ﴿الذي خَلَقَ الموت والحياة﴾ [الملك: 2] وقال إبراهيمُ عليه السلام لمناظريه: ﴿رَبِّيَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾ [البقرة: 258] فلو حصل لغيره هذه الصفة لبطل ذلك الاستدلال. وقوله: ﴿بِإِذْنِ الله﴾ معناه: بتكوين الله وتخليقه؛ لقوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله﴾ [البقرة: 145] أي بأن يُوجَِ اللهُ الموتَ.
فصل
القرآن دل على أنه - عليه السلام - إنما تولد من نفخ جبريل - عليه السلام - في مريم وجبريل روح محض وروحاني محض، فكانت نفخة عيسى عليه السلام سبباً للحياة والروح.
قوله: «وأبرئ الأكمه» وأبرئ عطف على «أخْلُقُ» فهو داخل في خبر «أنِّي» . يقال: أبرأت زيد عن العاهة ومن الدِّيْن، وبَرَّأتك من الدين - بالتضعيف. وبَرَأت من المرض أبْرأ وبَرِئْتُ - أيضاً - وأما برئت من الدَّيْنِ ومن الذَّنْب، فبَرِئْتُ لا غَيْرُ.
وقال الأصمعيُّ: برئتُ من المرض لغةُ تَمِيم، وبَرَأتُ لغَةُ الحجازِ.
قال الراغبُ: «بَرَأتُ من المرض وَبَرئْتُ، وَبَرَأت من فلان» ، فالظاهرُ من هذا أنه لا يقال الوجهان - أعني فتح الراء وكسرها - إلا في البراءة من المرض ونحوه. وأما الدَّيْنُ والذَّنْبُ ونحوهما، فالفتح ليس إلا.
والبراءة: التخلص من الشيء المكروه مجاورته؛ وكذلك التَّبَري والبراء.
فصل
من وُلِدَ أعْمَى، يقال: كَمِه يَكْمَهُ فهو أكْمَه.
قال رؤبة: [الرجز]
1479 - فَارْتَدَّ عَنْهَا كَارْتِدَادِ الأكْمَهِ ... يقال: كمهتها، أي: أعميتها.
قال الزمخشريُّ والراغبُ وغيرُهما: «الأكمهُ: من وُلِدَ مطموس العينين» ، وهو قول ابنِ عباس وقتادة.
قال الزمخشري: «ولم يوجد في هذه الأمة أكمه غير قتادة صاحب التفسير» .
قال الراغب: «وقد يُقال لمن ذَهَبَتْ عينُه: أكمه» .
قال سُوَيد: [الرمل]
1480 - كَمِهَتْ عَيْنَاهُ حَتَّى ابْيَضّتَا..... ... ... ... ... ... ... . .
قال الحسنُ والسُّدِّيُّ: هو الأعمى.
وقال عكرمةُ: هو الأعمش.
وقال مجاهد: هو الذي يبصر بالنهار ولا يُبْصر بالليلز
والبرص: داء معروف، وهو بياضٌ يَعْتَري الإنسانَ، ولم تكن العربُ تنْفر من شيء نُفْرَتَها منه، ويُقال: برص يبرص بَرَصاً، أي: أصابه ذلك، ويقال له: الوَضَح، وفي الحديث: «وَكَانَ بِهَا وَضَحٌ» . والوضَّاح من ملوك العرب هابوا أن يقولوا له: الأبرص. ويقال للقمر: أبْرَص؛ لشدة بياضِه.
وقال الراغب «وللنكتة التي عليه» وليس بِظَاهِرٍ، فَإنَّ النُّكْتَةَ التي عليه سوداء، والوزغ سامٌّ أبرص، سُمِّيَ بذلك؛ تشبيهاً بالبرص، والبريص: الذي يَلْمَع لمعان البرص ويقارب البصيص.
فصل
إنما خَصَّ هذين المرضَيْن لأنهما أعْيا الأطباء، وكان الغالب في زمن عيسى - عليه السلام - الطبَّ، فأراهم الله المعجزة من جنس ذلك.
قال وَهَبٌ: رُبَّما اجتمع على عيسى عليه السلام من المرضى - في اليوم الواحد - خَمْسُونَ ألفاً، من أطاق منهم أن يبلغه بَلَغه، ومن لم يُطِقُ مَشَى إليه عيسى، وكان يداويهم بالدُّعاء - على شرط الإيمان - ويُحْيي الموتَى.
قال الكلبيُّ: كان عيسى يُحْيي الموتَى ب «يا حَيُّ يَا قَيُّومُ، أخي عَازَرَ» وكان صديقاً له، ودعا سام من نوح من قبره فخرج حَيًّا، ومرَّ على ابن عجوز ميت، فدعا الله عيسى، فنزل عن سريره حَيًّا، ورجع إلى أهله وبقي ووُلِدَ لَهُ، وبنت العاشر أحياها، وولدت بعد ذلك. وأما العازر فإنه كان تُوُفِّي قبل ذلك بأيام فدعا الله، فقام - بإذن الله - وَودَكُه يَقْطُر، وعاش، ووُلِدَ له. وأما ابنُ العجوزِ، فإنه مر به محمولاً على سريره، فدعا الله، فقام، ولبس ثيابه وحمل السرير على عنقه إلى أهله، وأما ابنة العاشر فكان أتى عليها ليلة، فدعا الله، فعاشت بعد ذلك، وولد لها. فلما رأوا ذلك قالوا: إنك تُحْيي من كان موتُه قريباً، ولعله لم يمت، بل أصابتهم سكتة فأَحْيِ لنا سام بن نوح، فقال: دلوني على قبره، فخرجوا وخرج معهم، حتى انتهى إلى قبره، فدعا الله، فخرج من قبره، قد شاب رأسُهُ، فقال له عيسى: كيف شاب رأسُك ولم يكن في زمانكم شَيْبٌ؟ فقال: يا رُوحَ اللهِ، إنك دعوتني، فسمعت صوتاً يقول: أجِبْ رُوحَ اللهِ، فظننت أن القيامة قد قامت، فمن هَوْل ذلك شاب رأسي.
فساله عن النزع، فقال: يا روح الله، إن مرارة النزع لم تَذْهَب من حنجرتي - وكان قد مر على وقت موته أكثر من أربعة آلاف سنةٍ - ثم قال للقوم: صَدِّقُوه؛ فإنه نبيٌّ، فآمن به بعضُهم، وكذَّبه بعضُهم، وقالوا: هذا سحرز
فصل
قَيَّد قوله: ﴿أني أَخْلُقُ﴾ بإذن الله؛ لأنه خارق عظيم، فأتَى به؛ دفعاً لتوهُّم الإلهية، ولم يأت فيه فيما عُطِف عليه في قوله: ﴿وَأُبْرِىءُ الأكمه والأبرص﴾ ثم قيَّد الخارقَ الثالث - أيضاً - بإذن الله؛ لأنه خارق عظيم أيضاً - وعطف عليه قوله: ﴿وَأُنَبِّئُكُم﴾ من غير تقييد له ونبهه على عِظم ما قبلَه، ودَفْعاً لوهم من يتوهم فيه الإلهيّة، أو يكون قد حذف القيد من المعطوفين؛ اكتفاء به في الأول والأول أحسن.
قوله: ﴿بِمَا تَأْكُلُونَ﴾ يجوز في «ما» أن تكون موصولةً - اسميَّة أو حرفيَّة - ونكرة موصوفة. فعلى الأول والثالث تحتاج إلى عامل بخلاف الثاني - عند الجمهور - وكذلك «ما» في قوله: ﴿وَمَا تَدَّخِرُونَ﴾ محتملة لما ذكر. وأتى بهذه الخوارق الأربع بلفظ المضارع؛ دلالةً على تجدُّد ذلك كلَّ وقتٍ طُلِبَ منه.
قوله: ﴿تَدَّخِرُونَ﴾ قراءة العامة بدال مشدَّدةٍ مهملةٍ، وأصله: تَذتَخِرُونَ - تفتعلون - من الذخر، وهو التخبية، يقال: ذَخَر الشيء يَذْخَرُه ذَخْراً، فهو ذاخرٌ ومذخورٌ - أي: خبَّأه.
قال الشاعر: [البسيط]
1481 - لَهَا أشَارِيرُ مِنْ لَحْمٍ تُتَمِّرُهُ ... مِنَ الثَّعَالِبِي وَذُخْرٌ مِنْ أرَانِيها
الذخر: فُعْل بمعنى المذخور، نحو الأكل بمعنى المأكول، وبعض النحويين يصَحِّفُ هذا البيتَ فيقول: وَوخْزٌ - بالواو والزاي - وقوله: من الثَّعَالِي، وأرانيها، يريد: الثعالب، وأرانبها، فأبدل الباء الموحدة باثنتين من تحتها.
ولما كان أصله: تَذْتَخِرون، اجتمعت الذال المعجمة مع تاء الافتعال، فأبدِلَتْ تاء الافتعال دالاً مهملةً، فالتقى بذلك متقاربان - الدال والذال - فأبدل الذال - المعجمة - دالاً، وأدغمها في الذال المعجمة - فصال اللفظ: تَدَّخرون.
وقد قرأ السوسيُّ - في رواية عن أبي عمرو - تَذْدَخِرُون بقلب تاء الافتعال دالاً مهملة من غير إدغام، وهذا وإن كان جائزاً إلا أن الإدْغامَ هو الفصيح.
وقرأ الزهري ومجاهد وأبو السّمّال وأيوب السختياني «تَذْخَرُونَ» - بسكون الذَّال المعجمة، وفَتح الخاء جاءوا به مجرداً على فَعَل، يقال: ذَخَرته - أي: خبَّأته.
ومن العرب من يقلب تاء الافتعال - في هذا النحو - ذالاً معجمة، فيقول: اذَّخَر يذخِر - بذال معجمة مشددة، ومثله اذَّكَر فهو مذّكر.
وسيأتي إن شاء الله تعالى.
قال أبو البقاء: والأصل في «تَدَّخِرُونَ» تَذتَخِرون، إلاَّ أنَّ الذالَ مجهورة، والتاء مهموسة، فلم يجتمعا، فأبدلت التاء دالاً؛ لأنها من مَخْرَجِها؛ لتقرب من الذال، ثم أبدِلت الذال دالاً، وأدغمت. و «في بيوتكم» متعلق ب «تَدَّخِرُونَ» .
فصل
في الآية قولان:
أحدهما: قال السُّديُّ: كان عيسى عليه السلام في الكتّاب يُحَدِّثُ الغِلْمَانَ بما يصنع آباؤهم، ويقول للغلام: انطلق فقد أكل أهلُك كذا وكذا، ورفعوا لك كذا وكذا، فينطلق الصبيُّ إلى أهله، ويبكي لهم، حتى يعطوه ذلك الشيءَ، فيقولون مَنْ أخبرَك بهذا؟ فيقول: عيسى، فحبسوا صبيانَهُمْ عنه، وقالوا: لا تلعبوا مع هذا الساحر، فجمعوهم في بيتٍ فجاء عيسى، وطلبهم، فقالوا: ليسوا هاهنا. فقال: ما في هذا البيت قالوا: خنازير، قال عيسى: كذلك يكونون، ففتحوا عليهم فإذا هم خنازير، ففشا ذلك في بني إسرائيل، فهمت به بنو إسرائيل، فلما خافت عليه أمُّه، حملته على حمارٍ لها، وخرجت هاربةً به إلى مصر.
قال قتادةُ: إنما كان هذا في المائدةِ، وكان خواناً ينزل عليهم أينما كانوا كالمَنِّ والسَّلْوَى وأمروا أن لا يخونوا ولا يخبئوا لغد، فخانوا وخبّأوا، فجعل عيسى يخبرهم بما أكلوا من المائدة وبما ادَّخروا، فمسخهم اللهُ خنازيرَ.
وقال القرطبيُّ: إنه لمَّا أحيا لهم الموتى طلبوا منه آيةً أخرى، وقالوا: أخبرنا بما نأكل في بيوتنا، وبما ندخر للغد، فأخبرهم، فقال: يا فلان، أكلتَ كذا وكذا، وادَّخرت كذا وكذا، وأنت يا فلان، أكلت كذا وكذا وادَّخرت كذا وكذا.
فصل
اعلم أن الإخبار عن الغيب على هذا الوجه معجزة؛ وذلك لن المنجِّمين الذين يدعون استخراج الجنيِّ لا يُمكنهم ذلك إلا عن تقدم سؤال يستعينون عند ذلك بآلة، ويتوصَّلون بها إلى معرفة أحوال الكواكبِ، ثم يعترفون بأنهم يغلطون كثيراً، فأما الإخبار عن الغيب من غير استعانة بآلة ولا تقدم مسألة فلا يكون إلا بوحي من الله تعالى.
قوله: ﴿إنَّ فِى ذَلِكَ﴾ إشارة غلى جميع ما تقدم من الخوارق، وأشِير إليها بلفظ الإفْرادِ - وإن كانت جمعاً في المعنى - بتأويل ما ذُكِر.
وقد تقدم أن مصحفَ عبدِ الله وقراءته «لآياتٍ» - بالجمع؛ مراعاةً لما ذكرنا من معنى الجمع، وهذه الجملة يُحْتَمَل أن تكون من كلام عيسى، وأن تكون من كلام الله تعالى.
قوله: ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ﴾ جوابه محذوف، أي: إن كنتم مؤمنين انتفعتم بهذه الآية، وتدبَّرتموها. وقدر بعضهم صفةً محذوفةً ل «آية» أي: لآية نافعة. قال ابو حيّان: «حتى يتَّجه التعلُّق بهذا الشرط» وفيه نظر؛ إذْ يَصِحّ التعلُّق بالشرط دون تقدير هذه الصفة.
قوله: ﴿مُصَدِّقًا﴾ نَسَقٌ على محل بآيةٍ، لأن محل «بآيَةٍ» في محل نصبٍ على الحالِ؛ إذ التقدير وجئتكم متلبساً بآيةٍ ومصدقاً.
وقال الفراء والزَّجَّاجُ: نصب «مُصَدِّقاً» على الحال، المعنى: وجئتكم مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ، وجاز إضمار «جئتكم» ، لدلالة أول الكلام عليه - وهو قوله: ﴿أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ﴾ - ومثله في الكلام: جئته بما يُحِبُّ ومُكْرِماً له.
قال الفراء: «ولا يجوز أن يكون» مُصَدِّقاً «معطوفاً على» وَجِيهاً «؛ لأنه لو كان كذلك لقال: أو مصدقاً لما بين يديه، يعني: أنه لو كان معطوفاً عليه؛ لأتى معه بضمير الغيبة، لا بضمير التكلُّم» . وذكر غير الفرّاء، ومنع - أيضاً - أن يكون منسوقاً على «رَسُولاً» قال: لأنه لو كان مردوداً عليه لقال: ومصدقاً لما بين يديك؛ لأنه خاطب بذلك مريم، أو قال: بين يديه.
يعني أنه لو كان معطوفاً على «رَسُولاً» لكان ينبغي أن يُؤتَى بضمير الخطاب؛ مراعاةً لمريم، أو بضمير الخطاب مراعاةً للاسم الظاهر.
قال أبو حيّان: وقد ذكرنا أنه يجوز في «رَسُولاً» أن يكون منصوباً بإضمار فعل - أي: وأرسلت رسولاً - فعلى هذا التقدير يكون «مُصَدِّقاً» معطوفاً على «رَسُولاً» .
قوله: ﴿مِنَ التوراة﴾ فيه وجهان:
أحدهما: أنه حال من «ما» الموصولة، أي: الذي بين يدي حال كونه من التوراةِ، فالعامل فيه مصدقاً لأنه عامل في صاحب الحالِ.
الثاني: أنه حال من الضمير المُسْتَتِر في الظرف الواقع صِلَةً. والعامل فيه الاستقرارُ المُضْمَرُ في الظرف أو نفس الظرف؛ لقيامه مقامَ الفعل.
فصل
اعلم أنه يجب على كل نبيٍّ أن يكون مُصَدِّقاً لجميع الأنبياء؛ لأن الطريق إلى ثبوت نبوتهم هو المعجزة، فكل مَنْ حصلت له المعجزةُ، وجب الاعترافُ بنبوته.
قوله: ﴿وَلأُحِلَّ﴾ فيه أوجُهٌ:
أحدها: أنه معطوف على معنى «مُصَدِّقاً» إذ المعنى: جئتكم لأصَدِّقَ ما بين يديَّ ولأحِلَّ لكم، ومثله من الكلام: جئته مُعْتَذِراً إليه ولأجْتَلِبَ رِضاهُ - أي: دئت لأعتذر ولأجتلب - كذا قال الواحديُّ، وفيه نظرٌ؛ لأن المعطوف عليه حال، وهذا تعليلٌ.
قال أبو حيّان: - بعد أن ذكر هذا الوَجْهَ -: «وهذا هو العطف على التوهُّم وليس هذا منه؛ لأن معقولية الحال مخالفة لمعقوليَّة التعليلِ، والعطف على التوهُّم لا بُدَّ أن يكون المعنى مُتَّحِداً في المعطوف والمعطوف عليه، ألا ترى إلى قوله تعالى: ﴿فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن﴾ [المنافقون: 10] كيف اتحد المعنى من حيث الصلاحية لجواب التحضيض.
وكذلك قول الشاعر: [الطويل]
1482 - تَقِيٌّ نَقِيٌّ، لَمْ يُكَثِّرْ غَنِيمَةً ... بِنَهْكَةِ ذِي قُرْبَى وَلاَ بِحَقَلَّدِ
كيف اتخذ معنى النفي في قوله: لم يُكَثِّرْ، وفي قوله: ولا بِحَقلَّدٍ، أي: ليس بمكثر ولا بحقلدٍ.
وكذلك ما جاء منه» .
قال شهابُ الدّينِ: «ويمكن أن يريد هذا القائلُ أنه معطوف على معنى» مُصَدِّقاً «أي: بسبب دلالته على علةٍ محذوفةٍ، هي موافقة له في اللفظ، فنسب العطف على معناه، باعتبار دلالته على العلة المحذوفة لأنها تشاركه في أصل معناه - أعني مدلول المادة - وإن كانت دلالة الحال غير دلالة العقل» .
الثاني: انه معطوف على عِلَّةٍ مقدرة، أي: جئتكم بآية، ولأوسِّعَ عليكم ولأحِلَّ، أو لأخفِّفَ عنكم ولأحِلَّ، ونحو ذلك.
الثالث: أنه معمول لفعلٍ مُضْمَرٍ؛ لدلالة ما تقدم عليه، أي: وجئتكم لأحِلَّ، فحذف العامل بعد الواو.
والرابع: أنه متعلق بقوله: ﴿وَأَطِيعُونِ﴾ والمعنى اتبعوني لأحِلَّ لكم. وهذا بَعِيدٌ جداً أو مُمتنع.
الخامس: أن يكون ﴿ولأُحِلَّ لَكُمْ﴾ رداً على قوله: «بِآيةٍ» . قال الزمخشريُّ: ﴿وَلأُحِلَّ﴾ رَدٌّ على قوله ﴿بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ﴾ أي: جئتكم بآية من ربكم ولأحلَّ.
قال أبو حيان: «ولا يستقيم أن يكون ﴿وَلأُحِلَّ لَكُم﴾ راَّا على» بآيَةٍ» ، لأن «بِآيَةٍ» في موضع حال و «لأحل» تعليل، ولا يَصِحُّ عطف التعليل على الحال؛ لأن العطف بالحرف المشرك في الحكم يوجب التشريك في جنس المعطوفِ عليه، فإن عطفت على مصدر، أو مفعولٍ به، أو ظرفٍ، أو حالٍ، أو تعليل وغير ذلك شارَكه في ذلك المعطوف «.
قال شهاب الدين: ويحتمل أن يكون جوابه ما تقدم من أنه أراد رداً على»
بآية «من حيث دلالتها على عمل مقدر.
قوله: ﴿بَعْضَ الذي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ﴾
المراد ب» بَعْض «مدلوله في الأصل.
قال أبو عبيدة: إنها - هنا - بمعنى»
كل «.
مستدلاًّ بقول لَبِيد: [الكامل]
1483 - تَرَّاكُ أمْكِنَةٍ إِذَا لَمْ أرْضَهَا ... أوْ يَعْتَلِقُ بَعْضَ النُّفُوسِ حِمَامُهَا
يعني كلّ النفوس.
وقد يرد الناسُ عليه بأنه كان يَلْزَمُ أن يُحِلَّ لهم الزنا، والسرقةَ، والقَتْلَ؛ لأنها كانت محرَّمةً عليهم، فلو كان المعنى: ولأحِلَّ لكم كُلَّ الذي حُرِّم عليكم لأحلَّ لهم ذلك كلَّه.
واستدل بعضهم على أن»
بَعْضاً «بمعنى» كُلّ «بقول الآخر: [الطويل]
1484 - أبَا مُنْذِرٍ أفْنَيْتَ فَاسْتَبْقِ بَعْضَنَا ... حَنَانَيْكَ بَعْضُ الشَّرِّ أهْوَنُ مِنْ بَعْضِ
أي: أهون من كل شر.
واستدل ىخرون بقول الشَّاعِر: [البسيط]
1485 - إنَّ الأمُورَ إذَا الأحْدَاثُ دَبَّرَهَا ... دُونَ الشُّيُوخِ تَرَى فِي بَعْضِهَا خَلَلاَ
أي: في كلها خللاً، ولا حاجة إلى إخراج اللفظ عن مدلوله مع إمكان صحة معناه؛ إذ مراد لبيد ب»
بَعْضَ النُّفُوسِ «نفسه هو والتبعيض في البيت الآخر واضح؛ فإن الشر بعضه أهون من بعضٍ آخر لا من كُلِّه، وكذلك ليس كل أمر دبره الأحداث كان خَلَلاً، بل قد يأتي تدبيره خيراً من تدبير الشيخ.
وقرأ العامة: «حُرِّمَ»
بالبناء للمفعول، والفاعل هو الله. وقرأ عكرمة «حَرَّمَ» مبنيًّا للفاعل وهو الله تعالى، أو الموصول في قوله: ﴿لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ ؛ لأنه كتاب مُنزَّل، أو موسى؛ لأنه هو صاحب التوراة، فأضمر بالدلالة عليه بذكر كتابه.
وقرأ إبراهيم النّخْعِيُّ: «حَرُمَ» - بوزن شَرُفَ وظَرُفَ - ونُسِب الفعل إليه مجازاً للعلم بأن المُحَرِّم هو الله.
فإن قيل: هذه الآية مناقضةٌ للآية التي قبلَها؛ لأنها صريحة في أنه جاء ليُحِلَّ لهم بعض الذي كان محرماً عليهم في التوراة، وهذا يقتضي أن يكون حكمُه بخلاف حكم التوراة، وهذا يناقض قوله: ﴿وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التوراة﴾ .
فالجوابُ: أنه لا مناقضة بين الكلام؛ لأن التصديق بالتوراة، لا معنى له إلاَّ اعتقاد أن كلَّ ما فيه فهو حق وصواب، فإذا لم يكن التأبيد مذكوراً في التوراة لم يكن حكمُ عيسَى بتحليل ما كان محرَّماً فيه مناقضاً لكونه مُصَدِّقاً بالتوراة، كما يَرِدُ النسخُ في الشريعةِ الواحدةِ.
فصل
قال وَهَبٌ: كان عيسى على شريعة موسى، يقرِّر السبتَ، ويستقبل بيتَ المَقدِس، ثم فَسَّرَ قوله: ﴿وَلأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الذي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ﴾ بأمرين:
أحدهما: أن الأحبار كانوا قد وضعوا من عند أنفسهم شرائعَ باطلةً، ونسبوها إلى موسى، فجاء عيسى ورفعها، وأبْطلها وأعاد الأمر إلى ما كان في زمن موسى - عليهما السلام -.
الثاني: أن الله - تعالى - كان قد حَرَّم عليهم بعضَ الأشياء؛ عقوبةً لهم على بعض ما صدر عنهم من الجنايات، كما قال: ﴿فَبِظُلْمٍ مِّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ﴾ [النساء: 160] ثم بَقِي ذلك التحريمُ مستمراً على اليهود، فجاء عيسى، ورفع عنهم تلك التشديداتِ.
وقال آخرون: إن عيسى رَفَعَ كثيراً من أحكام التوراةِ، ولم يقدَحْ ذلك في كونه مُصَدِّقاً بالتوراة؛ لِمَأ بينا أن الناسخَ والمنسوخَ كلاهما حَقٌّ وصِدْقٌ، فرفع السَّبْتَ، وأقام الأحدَ مُقَامَه.
قوله: ﴿وَجِئْتُكُمْ﴾ هذه الجملة يحتمل أن تكون تأكيداً للأولَى؛ لتقدُّم معناها ولفظها قبل ذلك.
قال أبو البقاء: «هذا تكرير للتوكيد؛ لأنه قد سبق هذا المعنى في الآية التي قبلها» .
ويحتمل أن تكون للتأسيس؛ لاختلاف متعلَّقها ومتعلَّق ما قبلها.
قال أبو حَيَّانَ: قوله: ﴿وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ﴾ للتأسيس، لا للتوكيد لاختلاف متعلقها لقوله: ﴿أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ﴾ وتكون هذه الآية هي ﴿إِنَّ الله رَبِّي وَرَبُّكُمْ فاعبدوه﴾ ، لأن هذا القولَ شاهدٌ على صحة رسالتِه؛ إذ جميعُ الرُّسُلِ كانوا عليه لم يختلفوا فيه، وجعل هذا القولَ آيةَ وعلامةً؛ لأنه رسول كسائر الرُّسُلِ؛ حيث هداه للنظر في أدلَّةِ العقل والاستدلال قاله الزمخشريُّ، [وهو صحيح] .
وقال: ﴿فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ﴾ لأن طاعة الرسولِ من لوازم تَقْوَى اللهِ.
وقوله: ﴿إِنَّ الله رَبِّي وَرَبُّكُمْ﴾ قراءة العامة بكسر همزة «إنّ» على الإخبار المستأنف؛ وهذا ظاهر على قولنا: إن ﴿جِئْتُكُمْ﴾ تأكيد.
أما إذا جعلناه تأسيساً، وجُعِلَت الآية هي قوله: ﴿إِنَّ الله رَبِّي وَرَبُّكُمْ﴾ - بالمعنى المذكور أولاً - فلا يصحُ الاستئناف، بل يكون الكسر على إضمار القول، وذلك القول بدلٌ من الآية، كأن التقدير: وجئتكم بآية من ربكم قَوْلي: ﴿إِنَّ الله رَبِّي وَرَبُّكُمْ﴾ ، ف «قَوْلِي» بدلٌ من آية، و «إنّ» وما في حَيِّزها معمول «قولي» ، ويكون قوله: ﴿فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ﴾ اعتراضاً بين البدل والمُبْدَل منه.
وقرئ بفتح الهمزة، وفيه أوجُهٌ:
أحدها: أنه بدل من «آية» ، كأن التقدير: وجئتكم بأن الله ربي وربكم، أي: جئتكم بالتوحيد.
وقوله: ﴿فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ﴾ اعتراضٌ أيضاً.
الثاني: أن ذلك على إضمار لام العلة، ولام العلةِ متعلقة بما بعدها من قوله ﴿فاعبدوه﴾ ، والتقدير: فاعبدوه لأن الله ربي وربكم كقوله: ﴿لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ﴾ [قريش: 1] إلى أن قال: ﴿فَلْيَعْبُدُواْ﴾ [قريش: 3] إذ التقدير فليعبدوا، لإيلاف قريش، وهذا عند سيبويه وأتباعه - ممنوع؛ لأنه متى كان المعمول أنّ وصلتها يمتنع تقديمها على عاملها لا يجيزون: أنَّ زيداً منطق عرفت - تريد عرفت أن زيداً منطلقٌ - للفتح اللفظي، إذْ تَصَدُّرُها - لفظاً يقتضي كسرها.
الثالث: أن يكون على إسقاط الْخَافِضِ - وهو على - و «على» يتعلق بآية بنفسها، والتقدير: وجئتكم بآية على أن الله، كأنه قيل: بعلامة ودلالة على توحيد الله - تعالى - قاله ابنُ عَطِيَّةَ، وعلى هذا فالجملتان الأمْرِيَّتان اعتراض - أيضاً - وفيه بُعْدٌ.
قوله: ﴿هذا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ﴾ «هذا» إشارة إلى التوحيد المدلول عليه بقوله ﴿إِنَّ الله رَبِّي وَرَبُّكُمْ﴾ أو إلى نفس ﴿إِنَّ الله﴾ باعتبار هذا اللفظ هو الصراط المستقيم.
as
(3:43:1)
yāmaryamu
"O Maryam!
VOC – prefixed vocative particle ya
PN – nominative feminine proper noun → Maryam
أداة نداء
اسم علم مرفوع
(3:43:2)
uq'nutī
Be obedient
V – 2nd person feminine singular imperative verb
PRON – subject pronoun
فعل أمر والياء ضمير متصل في محل رفع فاعل
(3:43:3)
lirabbiki
to your Lord
P – prefixed preposition lām
N – genitive masculine noun
PRON – 2nd person feminine singular possessive pronoun
جار ومجرور والكاف ضمير متصل في محل جر بالاضافة
(3:43:4)
wa-us'judī
and prostrate
CONJ – prefixed conjunction wa (and)
V – 2nd person feminine singular imperative verb
PRON – subject pronoun
الواو عاطفة
فعل أمر والياء ضمير متصل في محل رفع فاعل
(3:43:5)
wa-ir'kaʿī
and bow down
CONJ – prefixed conjunction wa (and)
V – 2nd person feminine singular imperative verb
PRON – subject pronoun
الواو عاطفة
فعل أمر والياء ضمير متصل في محل رفع فاعل
(3:43:6)
maʿa
with
LOC – accusative location adverb
ظرف مكان منصوب
(3:43:7)
l-rākiʿīna
those who bow down."
N – genitive masculine plural active participle
اسم مجرور
as
as
as
as
as
as
as
as
asas
as
  1. PERBINCANGAN ZAHIR PERKATAAN ""
  2. Di sini Allah Taala menyebut perkataan "".
  3. Perkataan "" ini susunannya di dalam Al Quran berada pada susunan yang ke ?? dan susunannya di dalam ayat ini berada pada susunan yang ke ??.
  4. Perkataan "" ini bermaksud 
as
as
as
as
  1. as
    1. potongan ayat ini terdiri daripada ??? perkataan dan ??? huruf iaitu perkataan dan perkataan dan perkataan .
  2. as
  1. 0001 سورة الفاتحة 👍👍
  2. 0002 سورة البقرة 👍
  3. 0003 سورة آل عمران 👍
  4. 0004 سورة النساء 👍
  5. 0005 سورة المائدة 👍
  6. 0006 سورة الأنعام 👍
  7. 0007 سورة الأعراف 👍
  8. 0008 سورة الأنفال 👍
  9. 0009 سورة التوبة 👍
  10. 0010 سورة يونس 👍
  11. 0011 سورة هود 👍
  12. 0012 سورة يوسف 👍
  13. 0013 سورة الرعد 👍
  14. 0014 سورة إبراهيم 👍
  15. 0015 سورة الحجر 👍
  16. 0016 سورة النحل 👍
  17. 0017 سورة الإسراء 👍
  18. 0018 سورة الكهف 👍
  19. 0019 سورة مريم 👍
  20. 0020 سورة طه 👍
  21. 0021 سورة الأنبياء 👍
  22. 0022 سورة الحج 👍
  23. 0023 سورة المؤمنون 👍
  24. 0024 سورة النور 👍
  25. 0025 سورة الفرقان 👍
  26. 0026 سورة الشعراء 👍
  27. 0027 سورة النمل 👍
  28. 0028 سورة القصص 👍
  29. 0029 سورة العنكبوت 👍
  30. 0030 سورة الروم 👍
  31. 0031 سورة لقمان 👍
  32. 0032 سورة السجدة 👍
  33. 0033 سورة الأحزاب 👍
  34. 0034 سورة سبإ 👍
  35. 0035 سورة فاطر 👍
  36. 0036 سورة يس 👍
  37. 0037 سورة الصافات 👍
  38. 0038 سورة ص 👍
  39. 0039 سورة الزمر 👍
  40. 0040 سورة غافر 👍
  41. 0041 سورة فصلت 👍
  42. 0042 سورة الشورى 👍
  43. 0043 سورة الزخرف 👍
  44. 0044 سورة الدخان 👍
  45. 0045 سورة الجاثية 👍
  46. 0046 سورة الأحقاف 👍
  47. 0047 سورة محمد 👍
  48. 0048 سورة الفتح 👍
  49. 0049 سورة الحجرات 👍
  50. 0050 سورة ق 👍
  51. 0051 سورة الذاريات 👍
  52. 0052 سورة الطور 👍
  53. 0053 سورة النجم 👍
  54. 0054 سورة القمر 👍
  55. 0055 سورة الرحمن 👍
  56. 0056 سورة الواقعة 👍
  57. 0057 سورة الحديد 👍
  58. 0058 سورة المجادلة 👍
  59. 0059 سورة الحشر 👍
  60. 0060 سورة الممتحنة 👍
  61. 0061 سورة الصف 👍
  62. 0062 سورة الجمعة 👍
  63. 0063 سورة المنافقون 👍
  64. 0064 سورة التغابن 👍
  65. 0065 سورة الطلاق 👍
  66. 0066 سورة التحريم 👍
  67. 0067 سورة الملك 👍
  68. 0068 سورة القلم 👍
  69. 0069 سورة الحاقة 👍
  70. 0070 سورة المعارج 👍
  71. 0071 سورة نوح 👍
  72. 0072 سورة الجن 👍
  73. 0073 سورة المزمل 👍
  74. 0074 سورة المدثر 👍
  75. 0075 سورة القيامة 👍
  76. 0076 سورة الإنسان 👍
  77. 0077 سورة المرسلات 👍
  78. 0078 سورة النبإ
  79. 0079 سورة النازعات 👍
  80. 0080 سورة عبس 👍
  81. 0081 سورة التكوير 👍
  82. 0082 سورة الإنفطار 👍
  83. 0083 سورة المطففين
  84. 0084 سورة الإنشقاق 👍
  85. 0085 سورة البروج 👍
  86. 0086 سورة الطارق 👍
  87. 0087 سورة الأعلى 👍
  88. 0088 سورة الغاشية 👍
  89. 0089 سورة الفجر 👍
  90. 0090 سورة البلد 👍
  91. 0091 سورة الشمس 👍
  92. 0092 سورة الليل 👍
  93. 0093 سورة الضحى 👍
  94. 0094 سورة الشرح 👍
  95. 0095 سورة التين 👍
  96. 0096 سورة العلق 👍
  97. 0097 سورة القدر 👍
  98. 0098 سورة البينة 👍
  99. 0099 سورة الزلزلة 👍
  100. 0100 سورة العاديات 👍
  101. 0101 سورة القارعة 👍
  102. 0102 سورة التكاثر 👍
  103. 0103 سورة العصر 👍
  104. 0104 سورة الهمزة 👍
  105. 0105 سورة الفيل 👍
  106. 0106 سورة قريش 👍
  107. 0107 سورة الماعون 👍
  108. 0108 سورة الكوثر 👍
  109. 0109 سورة الكافرون 👍
  110. 0110 سورة النصر 👍
  111. 0111 سورة المسد 👍
  112. 0112 سورة الإخلاص 👍
  113. 0113 سورة الفلق 👍
  114. 0114 سورة الناس 👍

Comments

Popular posts from this blog

Joker (2019 film) From Wikipedia, the free encyclopedia