0056 سورة النساء آية 56 - * تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق
إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا۟ بِـَٔايَـٰتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُم بَدَّلْنَـٰهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا۟ ٱلۡعَذَابَۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا ﴿سورة النساء آية ٥٦﴾.
* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق
as
قد تقدم معنى الإصلاء أوّل السورة. وقرأ حُميد بن قيس «نَصليهم» بفتح النون أي نشويهم. يقال: شاة مَصْلِية. ونصب «نَاراً» على هذه القراءة بنزع الخافض تقديره بنار. { كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ } يقال: نضِج الشيء نُضجاً ونَضْجاً، وفلان نضيج الرأي مُحْكمه. والمعنى في الآية: تبدّل الجلود جلوداً أُخر. فإن قال من يطعن في القرآن من الزنادقة: كيف جاز أن يعذّب جلداً لم يَعصِه؟ قيل له: ليس الجلد بمعذّب ولا معاقب، وإنما الألم واقع على النفوس لأنها هي التي تُحس وتعرف فتبديل الجلود زيادة في عذاب النفوس. يدل عليه قوله تعالى: { لِيَذُوقُواْ ٱلْعَذَابَ } وقوله تعالى:{ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً } [الإسراء: 97]. فالمقصود تعذيب الأبدان وإيلام الأرواح. ولو أراد الجلود لقال: ليذقنّ العذاب مقاتل: تأكله النار كل يوم سبع مرات. الحسن: سبعين ألف مرة كلما أكلتهم قيل لهم: عودوا فعادوا كما كانوا. ابن عمر: إذا احترقوا بدّلت لهم جلود بيض كالقراطيس. وقيل: عنى بالجلود السرابيل كما قال تعالى:{ وَتَرَى ٱلْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِي ٱلأَصْفَادِ } [إبراهيم:49]{ سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ } [إبراهيم: 50] سميت جلودا للزومها جلودهم على المجاورة كما يقال للشيء الخاص بالإنسان هو جِلدة ما بين عينْيه. وأنشد ابن عمر رضي الله عنه:
فكلما احترقت السرابيل أُعيدت. قال الشاعر:
فكنى عن الجلود بالسرابيل. وقيل: المعنى أعدنا الجلد الأوّل جديداً كما تقول للصائغ: صُغ لي من هذا الخاتَم خاتماً غيره فيكسره ويصوغ لك منه خاتماً. فالخاتم المصوغ هو الأوّل إلا أن الصياغة تغيرت والفضة واحدة. وهذا كالنفس إذا صارت ترابا وصارت لا شيء ثم أحياها الله تعالى: وكعهدك بأخ لك صحيح ثم تراه بعد ذلك سقيماً مُدْنِفاً فتقول له: كيف أنت؟ فيقول: أنا غير الذي عهدت. فهو هو، ولكن حاله تغيرت. فقول القائل: أنا غير الذي عهدت، وقوله تعالى: «غيرها» مجاز. ونظيره قوله تعالى:{ يَوْمَ تُبَدَّلُ ٱلأَرْضُ غَيْرَ ٱلأَرْضِ } [إبراهيم: 48] وهي تلك الأرض بعينها إلا أنها تغير آكامها وجبالها وأنهارها وأشجارها، ويزاد في سعتها ويسوّى ذلك منها على ما يأتي بيانه في سورة «إبراهيم» عليه السلام. ومن هذا المعنى قول الشاعر:
وقال الشَّعْبي: جاء رجل إلى ابن عباس فقال: ألا ترى ما صنعت عائشة! ذمّت دهرها، وأنشدت بيتَيْ لبيد:
فقالت: رحم الله لَبِيداً فكيف لو أدرك زماننا هذا! فقال ابن عباس: لئن ذمّت عائشة دهرها لقد ذمت «عاد» دهرها لأنه وُجِد في خِزانة «عاد» بعد ما هلكوا بزمن طويل سهم كأطول ما يكون من رماح ذلك الزمن عليه مكتوب:
يلومونني في سالمٍ وألومهم | وجِلدةُ بَيْنَ العيْن والأنف سالمُ |
كسا اللؤم تَيْماً خضرةً في جلودها | فويلٌ لتَيْم مِن سرابيلها الخُضْرِ |
فما الناسُ بالناس الذين عهدتهم | ولا الدار بالدار التي كنتُ أعرفُ |
ذهب الذين يُعاش في أكنافِهم | وبقِيتُ في خَلْفٍ كجلْدِ الأجربِ | |
يتَلذّذون مجانَة ومَذلّة | ويُعاب قائلهم وإن لم يَشْغَبِ |
بلاد بها كُنّا ونحن بأهلها | إذِ النّاسُ ناسٌ والبلادُ بِلادُ |
Comments
Post a Comment