0183 سورة البقرة آية 183 - * تفسير فتح القدير/ الشوكاني (ت 1250 هـ) مصنف و مدقق
يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴿سورة البقرة آية ١٨٣﴾.
* تفسير فتح القدير/ الشوكاني (ت 1250 هـ) مصنف و مدقق
يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴿سورة البقرة آية ١٨٣﴾. أَيَّامًا مَّعْدُودَٰتٍۚ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَۚ وَعَلَى ٱلَّذِينَ يُطِيقُونَهُۥ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍۖ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُۥۚ وَأَن تَصُومُوا۟ خَيْرٌ لَّكُمْۖ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴿سورة البقرة آية ١٨٤﴾.
قد تقدّم معنى { كتب } ولا خلاف بين المسلمين أجمعين أن صوم رمضان فريضة افترضها الله سبحانه على هذه الأمة. والصيام أصله في اللغة الإمساك، وترك التنقل من حال إلى حال، ويقال للصمت صوم لأنه إمساك، عن الكلام، ومنه{ إِنّى نَذَرْتُ لِلرَّحْمَـٰنِ صَوْماً } مريم 26 أي إمساكاً عن الكلام، ومنه قول النابغة
أي خيل ممسكة عن الجري، والحركة. وهو في الشرع الإمساك عن المفطرات مع اقتران النية به من طلوع الفجر إلى غروب الشمس. وقوله { كَمَا كُتِبَ } أي صوماً كما كتب على أن الكاف في موضع نصب على النعت، أو كتب عليكم الصيام مشبهاً ما كتب على أنه في محل نصب على الحال. وقال بعض النحاة إن الكاف في موضع رفع نعتاً للصيام، وهو ضعيف لأن الصيام معرّف باللام، والضمير المستتر في قوله { كَمَا كُتِبَ } راجع إلى " ما ". واختلف المفسرون في وجه التشبيه ما هو، فقيل هو قدر الصوم، ووقته، فإن الله كتب على اليهود، والنصارى صوم رمضان، فغيروا، وقيل هو الوجوب، فإن الله أوجب على الأمم الصيام. وقيل هو الصفة. أي ترك الأكل، والشرب، ونحوهما في وقت، فعلى الأوّل معناه أن الله كتب على هذه الأمة صوم رمضان كما كتبه على الذين من قبلهم، وعلى الثاني أن الله أوجب على هذه الأمة الصيام كما أوجبه على الذين من قبلهم، وعلى الثالث أن الله سبحانه أوجب على هذه الأمة الإمساك عن المفطرات كما أوجبه على الذين من قبلهم. وقوله تعالى { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } بالمحافظة عليها، وقيل تتقون المعاصي بسبب هذه العبادة لأنها تكسر الشهوة، وتضعف دواعي المعاصي، كما ورد في الحديث أنه " جُنَّة " ، وأنه و " جاء " وقوله { أَيَّامًا } منتصب على أنه مفعول ثان لقوله { كتب } قاله الفراء. وقيل إنه منتصب على أنه ظرف، أي كتب عليكم الصيام في أيام. وقوله { مَّعْدُودٰتٍ } أي معينات بعدد معلوم، ويحتمل أن يكون في هذا الجمع لكونه من جموع القلة إشارة إلى تقليل الأيام. وقوله { فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا } قيل للمريض حالتان إن كان لا يطيق الصوم كان الإفطار عزيمة، وإن كان يطيقه مع تضرّر، ومشقة كان رخصتة. وبهذا قال الجمهور. وقوله { عَلَىٰ سَفَرٍ } اختلف أهل العلم في السفر المبيح للإفطار، فقيل مسافة قصر الصلاة، والخلاف في قدرها معروف، وبه قال الجمهور. وقال غيرهم بمقادير لا دليل عليها. والحق أن ما صدق عليه مسمى السفر، فهو الذي يباح عنده الفطر، وهكذا ما صدق عليه مسمى المرض، فهو الذي يباح عنده الفطر.
خَيْلٌ صِيَامٌ وخَيْلٌ غَيْرٌ صَائِمَةٍ تَحْتَ العَجَاجِ وَخَيْلٌ تَعْلُكُ اللُّجمَا |
وقد وقع الإجماع على الفطر في سفر الطاعة. واختلفوا في الأسفار المباحة، والحق أن الرخصة ثابتة فيه، وكذا اختلفوا في سفر المعصية. وقوله { فَعِدَّةٌ } أي فعليه عدّة، أو فالحكم عدّة، أو فالواجب عدّة، والعدّة فعلة من العدد، وهو بمعنى. المعدود. وقوله { مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } قال سيبويه ولم ينصرف لأنه معدول به عن الآخر لأن سبيل هذا الباب أن يأتي بالألف واللام، وقال الكسائي هو معدول به عن آخر، وقيل إنه جمع أخرى، وليس في الآية ما يدل على وجوب التتابع في القضاء. قوله { وَعَلَى ٱلَّذِينَ يُطِيقُونَهُ } قراءة الجمهور بكسر الطاء، وسكون الياء، وأصله يطوقونه نقلت الكسرة إلى الطاء، وانقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها. وقرأ حميد على الأصل من غير إعلال، وقرأ ابن عباس بفتح الطاء مخففة، وتشديد الواو، أي يكلفونه، وروى ابن الأنباري، عن ابن عباس «يطيقونه» بفتح الياء، وتشديد الطاء، والياء مفتوحتين بمعنى يطيقونه. وروي عن عائشة، وابن عباس، وعمرو ابن دينار، وطاوس أنهم قرءوا «يطيقونه» بفتح الياء، وتشديد الطاء مفتوحة. وقرأ أهل المدينة، والشام " فِدْيَةٌ طَعَامُ " مضافاً. وقرءوا أيضاً { مَسَـٰكِينَ } وقرأ ابن عباس { طَعَامُ مَسَـٰكِينَ } وهي قراءة أبي عمرو، وعاصم، وحمزة، والكسائي. وقد اختلف أهل العلم في هذه الآية، هل هي محكمة، أم منسوخة؟ فقيل إنها منسوخة، وإنما كانت رخصة عند ابتداء فرض الصيام لأنه شقّ عليهم، فكان من أطعم كل يوم مسكيناً ترك الصوم، وهو يطيقه، ثم نسخ ذلك، وهذا قول الجمهور. وروي عن بعض أهل العلم، أنها لم تنسخ، وأنها رخصة للشيوخ، والعجائز خاصة إذا كانوا لا يطيقون الصيام إلا بمشقة، وهذا يناسب قراءة التشديد، أي يكلفونه كما مرّ. والناسخ لهذه الآية عند الجمهور قوله تعالى { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ }. وقد اختلفوا في مقدار الفدية فقيل كل يوم صاع من غير البرّ، ونصف صاع منه، وقيل مدّ فقط. وقوله { فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ } قال ابن شهاب معناه من أراد الإطعام مع الصوم. وقال مجاهد معناه من زاد في الإطعام على المدّ. وقيل من أطعم مع المسكين مسكيناً آخر. وقرأ عيسى بن عمر، ويحيى بن وثاب، وحمزة، والكسائي «يطوّع» مشدّداً مع جزم الفعل على معنى يتطوّع، وقرأ الباقون بتخفيف الطاء على أنه فعل ماض. وقوله { وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ } معناه أن الصيام خير لهم من الإفطار مع الفدية، وكان هذا قبل النسخ، وقيل معناه وأن تصوموا في السفر، والمرض غير الشاق. وقد أخرج أحمد وأبو داود وابن جرير وابن المنذر وابن حبان والحاكم وصححه، والبيهقي في سننه، عن معاذ بن جبل قال أحيلت الصلاة ثلاثة أحوال، وأحيل الصيام ثلاثة أحوال، فذكر أحوال الصلاة ثم قال وأما أحوال الصيام، فإن رسول الله قدم المدينة، فجعل يصوم من كل شهر ثلاثة أيام، وصام عاشوراء، ثم إن الله سبحانه فرض عليه الصيام، وأنزل عليه { يأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلصّيَامُ } إلى قوله { وَعَلَى ٱلَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } فكان من شاء صام، ومن شاء أطعم مسكيناً، فأجزأ ذلك عنه، ثم إن الله أنزل الآية الأخرى { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } فأثبت الله صيامه على الصحيح المقيم، ورخص فيه للمريض، والمسافر، وثبت الإطعام للكبير الذي لا يستطيع الصيام، ثم ذكر تمام الحديث.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله { كَمَا كُتِبَ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ } قال يعني بذلك أهل الكتاب. وأخرج البخاري في تاريخه، والطبراني، عن دغفل بن حنظلة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " كان على النصارى صوم شهر رمضان، فمرض ملكهم، فقالوا لئن شفاه الله لنزيدنّ عشراً، ثم كان آخر، فأكل لحماً، فأوجع فوه، فقال لئن شفاه الله ليزيدنّ سبعة، ثم كان عليهم ملك آخر، فقال ما ندع من هذه الثلاثة الأيام شيئاً أن نتمها، ونجعل صومنا في الربيع، ففعل، فصارت خمسين يوماً " وأخرج ابن جرير، عن السدي، في قوله { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } قال تتقون من الطعام، والشراب، والنساء مثل ما اتقوا. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس نحو ما سبق عن معاذ. وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عمر، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " صيام رمضان كتبه الله على الأمم قبلكم " وأخرج البخاري، ومسلم عن عائشة قالت كان عاشوراء صياماً، فلما أنزل رمضان كان من شاء صام، ومن شاء أفطر. وأخرج عبد بن حميد أن ابن عباس قال إن قوله تعالى { وَعَلَى ٱلَّذِينَ يُطِيقُونَهُ } قد نسخت. وأخرج ابن أبي حاتم، وابن مردويه عنه نحو ذلك، وزاد أن الناسخ لها قوله تعالى { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ } الآية. وأخرج نحو ذلك عنه أبو داود في ناسخه. وأخرج نحوه عنه أيضاً سعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وأبو داود، وابن جرير، وابن المنذر، وغيرهم. وأخرج البخاري، ومسلم، وغيرهما من حديث سلمة بن الأكوع قال لما نزلت هذه الآية { وَعَلَى ٱلَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } كان من شاء صام، ومن شاء أن يفطر ويفتدي فعل، حتى نزلت هذه الآية بعدها فنسختها { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ }. وأخرج البخاري، عن ابن أبي ليلى قال حدّثنا أصحاب محمد، فذكر نحوه. وأخرج ابن جرير، عن عليّ بن أبي طالب في قوله { وَعَلَى ٱلَّذِينَ يُطِيقُونَهُ } قال الشيخ الكبير الذي لا يستطيع الصوم فيفطر، ويطعم مكان كل يوم مسكيناً.
وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، والدارقطني، والبيهقي أن أنس بن مالك ضعف عن الصوم عاماً قبل موته، فصنع جَفْنة من ثريد ودعا ثلاثين مسكيناً، فأطعمهم. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير والدارقطني وصححه عن ابن عباس أنه قال لأم ولد له حامل، أو مرضعة أنت بمنزلة الذين لا يطيقون الصيام، عليك الطعام لا قضاء عليك. وأخرج عبد بن حميد، وابن أبي حاتم، والدارقطني، عن ابن عمر أن إحدى بناته أرسلت تسأله عن صوم رمضان، وهي حامل، قال تفطر، وتطعم كل يوم مسكيناً، وقد روى نحو هذا، عن جماعة من التابعين. وأخرج عبد بن حميد، عن عكرمة في قوله { فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا } قال أطعم مسكينين. وأخرج عبد بن حميد، عن طاوس في قوله { فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا } قال إطعام مساكين. وأخرج ابن جرير، عن ابن شهاب في قوله { وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ } أي أن الصوم خير لكم من الفدية. وقد ورد في فضل الصوم أحاديث كثيرة جدّاً.
Comments
Post a Comment