0001 سورة الضحى آية 1 - * تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق

ا   ب   ت   ث   ج   ح   خ   د   ذ   ر   ز   س   ش   ص   ض   ط   ظ   ع   غ   ف   ق   ك   ل   م   ن   و   ه   ي
A   B   C   D   E   F   G   H   I   J   K   L   M   N   O   P   Q   R   S   T   U   V   W   X   Y   Z

* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ وَٱلضُّحَىٰ } * { وَٱللَّيْلِ إِذَا سَجَىٰ } * { مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىٰ }

قوله تعالى: { وَٱلضُّحَىٰ * وَٱللَّيْلِ إِذَا سَجَىٰ } قد تقدّم القول في «الضحى»، والمراد به النهار لقوله { وَٱللَّيْلِ إِذَا سَجَىٰ } فقابله بالليل. وفي سورة الأعرافأَفَأَمِنَ أَهْلُ ٱلْقُرَىٰ أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَآئِمُونَ * أَوَ أَمِنَ أَهْلُ ٱلْقُرَىٰ أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ } [الأعراف: 97 ـ 98] أي نهاراً. وقال قتادة ومقاتل وجعفر الصادق: أقسم بالضحى الذي كلم الله فيه موسى، وبليلة المِعراج. وقيل: هي الساعة التي خرّ فيها السَّحَرة سجداً. بيانه قوله تعالى:وَأَن يُحْشَرَ ٱلنَّاسُ ضُحًى } [طه: 59]. وقال أهل المعاني فيه وفي أمثاله: فهي إضمار، مجازه ورب الضحى. و { سَجَىٰ } معناه: سكن قاله قتادة ومجاهد وابن زيد وعكرمة. يقال: ليلة ساجية أي ساكنة. ويقال للعين إذا سكن طرفها: ساجية. يقال: سجا الليل يسجو سَجْواً: إذا سكن. والبحر إذا سجا: سكن. قال الأعشى:
فما ذنبنا أن جاش بحر ابن عمكم   وبحرك ساجٍ ما يوارِي الدعامِصا
وقال الراجز:
يا حَبَّذَا القَمْراءُ والليلُ الساجْ   وطُرُق مِثلُ مِلاءِ النسّاجْ
وقال جرير:
ولقد رمينَك يوم رُحْن بأعينٍ   ينظرن من خِلَل الستور سواجي
وقال الضحاك: «سجا» غطَّى كل شيء. قال الأصمعيّ: سَجْو الليل: تغطيته النهار مثلما يُسَجَّى الرجل بالثوب. وقال الحسن: غشى بظلامه وقاله ابن عباس. وعنه: إذا ذهب. وعنه أيضاً: إذا أظلم. وقال سعيد بن جبير: أقبل وروي عن قتادة أيضاً. وروى ابن أبي نَجيح عن مجاهد: «سجا» استوى. والقول الأوّل أشهر في اللغة: «سجا» سكن أي سكن الناس فيه. كما يقال: نهار صائم، وليل قائم. وقيل: سكونه استقرار ظلامه واستواؤه. ويقال: «والضحى. والليلِ إذا سَجَا»: يعني عباده الذين يعبدونه في وقت الضحى، وعباده الذين يعبدونه بالليلِ إذا أظلم. ويقال: «الضحى»: يعني نور الجنة إذا تنوّر. «والليل إذا سجا»: يعني ظلمة الليل إذا أظلم. ويقال: «والضحى»: يعني النور الذي في قلوب العارفين كهيئة النهار. «والليلِ إذا سجا»: يعني السواد الذي في قلوب الكافرين كهيئة الليل فأقسم الله عز وجل بهذه الأشياء. { مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ }: هذا جواب القسم. وكان جبريل عليه السلام أبطأ على النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال المشركون: قلاه الله وودّعه فنزلت الآية. وقال ابن جريج: احتبس عنه الوحي اثني عشر يوماً. وقال ابن عباس: خمسة عشر يوماً. وقيل: خمسة وعشرين يوماً. وقال مقاتل: أربعين يوماً. فقال المشركون: إن محمداً ودّعه ربه وقلاه، ولو كان أمره من الله لتابع عليه، كما كان يفعل بمن كان قبله من الأنبياء. وفي البخاريّ عن جندب بن سفيان قال: اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يقُم ليلتين أو ثلاثاً فجاءت امرأة فقالت: يا محمد، إني لأرجو أن يكون شيطانك قد تركك، لم أره قرِبَك منذ ليلتين أو ثلاث فأنزل الله عز وجل: { وَٱلضُّحَىٰ * وَٱللَّيْلِ إِذَا سَجَىٰ * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىٰ }.
وفي الترمذيّ " عن جندب البجليّ قال: كنت مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في غار فدمِيت إصبعه، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «هَلْ أَنْتِ إِلاَّ إِصْبَعٌ دَمِيتِ، وفِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا لَقِيتِ» قال: وأبطأ عليه جبريل فقال المشركون: قد وُدِّعَ محمد فأنزل الله تبارك وتعالى: { مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىٰ } " هذا حديث حسن صحيح. لم يذكر الترمذي: " فلم يَقُم ليلتين أو ثلاثاً " أسقطه الترمذيّ. وذكره البخاري، وهو أصح ما قيل في ذلك. والله أعلم. وقد ذكره الثعلبي أيضاً عن جندب بن سفيان البجلي، قال: " رُمِي النبيّ صلى الله عليه وسلم في إصبعه بحجر، فدمِيت، فقال: «هل أنتِ إلاَّ إِصْبَعٌ دَمِيتِ، وفي سبيلِ اللَّهِ ما لَقِيتِ» فمكث ليلتين أو ثلاثاً لا يقوم الليل. فقالت له أم جميل امرأة أبي لهب: ما أرى شيطانك إلا قد تركك، لم أره قرِبك منذ ليلتين أو ثلاث فنزلت { وَٱلضُّحَىٰ } " وروى عن أبي عِمران الجَواني، قال: " أبطأ جبريل على النبيّ صلى الله عليه وسلم حتى شق عليه فجاء وهو واضع جبهته على الكعبة يدعو فنكت بين كتِفيه، وأنزل عليه: { مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىٰ }. وقالت خولة ـ وكانت تخدُم النبيّ صلى الله عليه وسلم ـ: إن جَرْواً دخل البيت، فدخل تحت السرير فمات، فمكث نبيّ الله صلى الله عليه وسلم أياماً لا ينزل عليه الوحي. فقال: «يا خولة، ما حدث في بيتي؟ ما لجبريل لا يأتيني» قالت خولة فقلت: لو هيأت البيت وكنسته فأهويت بالمِكنسة تحت السرير، فإذا جَرْوٌ ميت، فأخذته فألقيته خلف الجدار فجاء نبيّ الله ترعد لِحْيَاه ـ وكان إذا نزل عليه الوحي استقبلته الرِّعدة ـ فقال: «يا خولة دثرِيني» فأنزل الله هذه السورة. ولما نزل جبريل سأله النبيّ صلى الله عليه وسلم عن التأخر فقال: «أما علمت أنا لا ندخل بيتاً فيه كلب ولا صُورة» " وقيل: " لما سألته اليهود عن الروح وذي القرنين وأصحاب الكهف قال: «سأخبركم غداً» ولم يقل إن شاء الله. فاحتبس عنه الوحي، إلى أن نزل جبريل عليه بقوله: { وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذٰلِكَ غَداً إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ } [الكهف: 23 ـ 24] فأخبره بما سئل عنه " وفي هذه القصة نزلت { مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىٰ }. وقيل: " إن المسلمين قالوا: يا رسول الله، ما لك لا ينزل عليك الوحي؟ فقال: «وكيف ينزل عليّ وأنتم لا تنقون رواجِبكم ـ وفي رواية براجِمكم ـ ولا تقصون أظفاركم ولا تأخذون من شواربكم». فنزل جبريل بهذه السورة فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «ما جئت حتى اشتقت إليك» فقال جبريل: «وأنا كنت أشدّ إليك شوقاً، ولكني عبد مأمور» ثم أنزِل عليه { وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ } [مريم: 64] "
«ودّعك» بالتشديد: قراءة العامة، من التوديع، وذلك كتوديع المُفارق. وروي عن ابن عباس وابن الزبير أنهما قرأاهُ «وَدَعك» بالتخفيف، ومعناه: تركك. قال:
وثم وَدَعْنا آلَ عمرو وعامر   فرائسَ أطراف المثقفة السمْرِ
واستعماله قليل. يقال: هو يدع كذا، أي يتركه. قال المبرد محمد بن يزيد: لا يكادون يقولون وَدَعَ ولا وَذَرَ، لضعف الواو إذا قدمت، واستغنوا عنها بترك. قوله تعالى: { وَمَا قَلَىٰ } أي ما أبغضك ربك منذ أحبك. وترك الكاف، لأنه رأس آية. والقِلَى: البغض فإن فتحت القاف مددت تقول قلاه يقلِيه قِلًى وقَلاَء. كما تقول قريت الضيف أقرِيه قِرًى وقَرَاء. ويقلاه: لغة طيء. وأنشد ثعلب:
أيامَ أمِّ الغمْر لا نقْلاها   
أي لا نُبغضها. ونَقْلِي أي نُبغض. وقال:
أسِيئي بنا أو أحْسِنِي لا ملومةٌ   لدينا ولا مَقْلِيَّةٌ إنْ تَقَلَّتِ
وقال امرؤ القيس:
ولستُ بمقلِيّ الخِلال ولا قالِ   
وتأويل الآية: ما ودّعك ربك وما قلاك. فترك الكاف لأنه رأس آية كما قال عز وجل:وَٱلذَّاكِـرِينَ ٱللَّهَ كَثِيراً وَٱلذَّاكِرَاتِ } [الأحزاب: 35] أي والذاكراتِ الله.





Comments

Popular posts from this blog

Joker (2019 film) From Wikipedia, the free encyclopedia